[تنبه الأديب على ما في شعر أبي الطيب من الحسن والمعيب]
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين
مقدمة
حمدا لمن أرشدنا لحسن اتباع أديب نبيه: أحمد أبي الطيب ووفقنا لفهم كلماته التي كل بيت من
ديوان فصاحتها في سماء البلاغة مطنب. وفيأنا من مغانيها روضا قد تروى من غمام براعته الناقع
الصيب.
صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه صلاة لا يحصرها نثر الناثر المجيد، ولا نظم الشاعر
المتأدب ..... وبعد.
فالمجد لا يمد سرادقه إلا على من حلي بدرر الأدب جيد فضائله، ولا تمسي ألوية الفخر خافقة إلا
على من وشح بشذور ذهبه معاطف شمائله. ولا تصبح أعلام الثناء منصوبة ألا على من اطلع في
سماء الفصاحة من قريضة زهرا ولا تصير ألوية المحامد مضروبة إلا على من أنبت في روض
البلاغة من بيانه زهرا .....
وحسب الشعر والبيان شرفا وفخرا، قول من لا ينطبق عن الهوى: (أن من الشعر لحكمة، وأن من
البيان لسحرا).
رأيه في المتنبي:
مخ ۱
وكان ممن ألقت أليه الفصاحة أزمتها، وسلمته البلاغة أعنتها، وملكته البراعة رسن قيادها، ومكنته الآداب من أفلاذ أكبادها. أمام قبلة القريض، ومصلى حلبته، وفارس ميدانه، وملك أيلته ... من أطاعه
الشعر طاعة تبرأ بها من عقوقه، وجرت معانيه في طباعه جري الدم في عروقه.
جذيله المحكك وعذيقه المرجب، وطراز معطفه المنضد المذهب، أحمد أبو الطيب: المتنبي، السائر
ذكره في الشعر مسير الشمس والقمر، والطائر صيته في البر والحضر، فلقد منح في شعره فصاحة
كسي بها سبحان وائل برد باقل، ورزق فيه حظا نسيت به أشعار الأواخر والأوائل، حتى كان كما
قال: (من الطويل، قافية المتدارك):
ودع كل بعد صوتي فأنني...أنا الصائت المحكي والآخر الصدى
ولقد كانت الأيام تترنم بمعانيه وتتغنى بأناشيده وأغانيه، إلى أن صار كما قال:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي...إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرا...وغنى به من لا يغنى مغردا
مخ ۲
فليست مجالس الأنس أعمر بشعره من مجالس الدروس والمحافل، وليست ألسنة الخطباء في الوعظ به، أجري من أقلام الكتاب به في الخطب والرسائل، وليست لحون المغنين والقوالين أشغل به من
كتب المؤلفين والمصنفين، حتى لقد اعتنت العلماء بديوان شعره فشرحوه نحو أربعين شرحا، وكفى
له بذلك شرفا ومدحا.
ومع ذلك فلم يخل من مثن عليه وقال وهكذا شيم من ترقى هضب المعالي.
رأي الناس:
والناس فيه وفي أبي تمام على مذهبين: فمنهم من فضل أبا تمام عليه، وجعل شاهد دعواه ما نسب
من الهفوات والسقطات إليه. وقال، حين سئل عنهما، ومن الأفضل منهما -: (أنا لا أسمع عذلا في
حبيب. وقام عنده: أنه في ذلك مصيب. ومنهم من فضله على أبي تمام، وعذل من أحب حبيبا،
وأطال له العذل، وأوسع له الملام، وسدد لتعييب شعره من الطعن نبالا، ومن القدح سهاما.
سبب التأليف:
ولما صار لكل ذام ومادح، وشاكر وقادح، تفرقوا فرقا، فيما يزين أبا الطيب أو يشينه، وأكثروا
الفحص فيما يعزه أو يهينه، وأطالوا التعصب عليه وله، فيما يظهر موجب مدحه أو تنقيصه وألفوا
مخ ۳
الكتب في توضيح مشكل كلامه، وحل عويصه ولم يكن الإجماع عليه منعقدا، ولم أره سالما من طاعن أو معترض أو منتقد، أردت أن اخبر خبره، لا بالتقليد، بل بالاجتهاد!. وانظر: أحقا أم باطلا
قول الذين سلقوه بالسنة حداد. فشمرت - حينئذ - عن ساعدي الجد بنيل المطلوب وتحصيل المراد.
وتبعت جميع كلامه؛ لاطلع على ما فيه من المحاسن وما فيه من الانتقاد.
فألفيت أبكار معاني قريضه لم يطمثهن انس قبله (ولا جان). ولم يحلق طائر فكر على معاقل ألفاظه
الجزلة، ولم يحم سانح قريحة على مخدرات فكرته الولود، ولم يمد باعث خاطر ناظره إلى مصونات
قريحته القانصة لكل معنى شرود.
وتيقنت أن أبا الطيب ثبير القريض الذي لا يزحم، وبدره الذي ينجلي به ليله الأسحم، وغائص لجته
لا يرضيه من دررها لا كباره، وفارس ميدانه الذي في قصبات السبق لا يشق غباره، ولم اظفر في
نظمه بشيء مما يعاب به شعره، أو يبخس به سعره ، إلا بالقليل النزر، الذي هو بالنسبة إلى محاسنه،
كالقطرة في البحر ..
فعلمت أن الصارم قد ينبو، وأن الجواد قد يكبو، وان الزناد قد يخبو، وأن الكامل من عدت سقطاته،
وأن السعيد من حسبت هفواته (من الطويل - قافية المتدارك):
مخ ۴
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها...كفى المرء نبلا أن تعد معايبه.
ورأيت غالب ما في ديوانه من القصائد محاسن وغررا، وانما يعاب شعره في بعض القصائد،
تتفرق شذر مذر. لا يهتدي اليه ألا فكر كل ذكي ألمعي، ولا يميط عنه النقاب إلا فهم كل أريب
لوذعي: فعمدت إلى استخراج ما يعاب به شعره من زوايا أبيات قصائده، وميزت جزع لفظه المعيب
من بين در قلائده، وأدنيته من طرف ناظره؛ ليجتنيه من روض كلامه بأيسر قطف، وأرحته عن
إزاحة ما ذوي من كلماته الغضة من البحث والفحص والكشف. وجمعته احسن جمع ووضعته الطف
وضع، وذلك أن ما كان من قصائده سالما من الانتقاد، خاليا من الاعتراض والطعن والايراد، ضربت
عنه صفحا، وطويت عنه كشحا.
منهجه:
وما أعيب من شعره أو بخس من دره، رتبته على حروف المعجم؛ ليكون أتقن واحكم ... فأذكر في:
(ذلك الحرف): مطلع القصيدة المعيب، بعض أبياتها، المشوه ذلك العيب، حسن صفاتها، واذكر العيب
مخ ۵
ومحله منها، وسببه من تنافر أو غرابة أو تعقيد. ثم اذكر بعد ذلك العيب ما فيها من المحاسن؛ ليزول بنوره ظلام غيهب هاتيك القصيدة.
وكل قصيدة فيها عيب، كان روية على ذلك الحرف، ذكرتها فيه، وذكرت ما فيها من المحاسن أو
مما ينافيه، وكلما أوردت بيتا، أمطت عن وجه معانيه النقاب وذكرت معه ما يحتاج إليه من لغة
واعراب، وأجبت عن مشكلة بأوضح الأجوبة، وأرحت الواقف عليه من أن يكد فكره في فهمه أو
يتعبه ..
خلاصة رأيه:
وبالجملة فمعايب أبي الطيب تعد ومحاسنة لا تحصى ولا تحد، وهو، وإن كن بحرا لا يمتطى
ثبحبه، ولا تخاض لججه، فالبحر قد يغور، وإن كان قد طمي، والسهم قد يجوز الغرض وإن كان
مقوما، والماء العذب، ربما خالطه الكدر ، وغائص اللجة ربما أعياه إخراج الدرر، وكل يؤخذ من
كلامه ويرد عليه، وينسب له السقطات والهفوات وتضاف اليه، الا من جعله الله من أهل العصمة،
وحفظه من كل منقصة، ووصمة.
رجع إلى منهجه:
وعند انتهاء ما أوردناه من غرر المحاسن وعرر المعايب، واجتناب ما نبذ من الخبائث، واجتناء ما
مخ ۶
لذ من الأطايب، ذكرنا طرفا من سرقات الشعراء منه، وسرقاته من الشعراء، ونبذة من محاسنه، من ارسال المثل، وعقده حكم الحكماء، ما لم يسبق لحسنه إليه، ولم تحم سوانح القرائح عليه، ورتبته
على مقدمة، وبابين، وخاتمة.
أما (المقدمة):
ففي حد الفصاحة، وبيان معرفتها، وعظم شأنها، وعلو مرتبتها، وما يجب على الشاعر التنبيه له مما
يطيب ويستحسن، أو يخبث ويستهجن.
- وأما (الباب الأول): ففي ما وضع هذا المؤلف؛ لأجله من المحاسن المستملحة والمعايب
المستقبحة.
- وأما (الباب الثاني): ففي سرقاته من الشعراء، وسرقات الشعراء منه.
- وأما (الخاتمة): ففي محاسنه من: إرسال المثل، وعقد الحكم، وبها يتنجز الغرض، وتحصل سهام
مرامنا المرمى، وينال العرض ..
إهداؤه:
ولما تم قمر هلاله، وأضاء في أفق الفراغ بدر كماله، توجته بخدمة من نظم تاج شرفه بلآلئ عقود
الرسالة، وأفرغت عليه النبوة خلعا، تملأ العين مهابة وجلالة، وأدارت على محياه النبوي من ساطع
الأنوار أشرف هالة وغذته من أخلاقها الكريمة بما غدت به أهل بيت النبي وآله، وأنهلته من
مواردها الصافية عذب سلسبيلها وزلاله، وبوأته من سمائها منزل مجد أبدي له، الفخر منه هلاله.
مخ ۷
وفيأته من حدائقها روض سؤدد، ما أينع زهره وأورف ظلاله، وأورثته معالي آبائه الأكابر فحازها
بالفرض، لا عن كلالة ...
ملك تفرع من دوحة الحسنين غصن محتده الطاهر الزكي، ونفح من شذا الريحانتين مسك ثنائه
العطر الذكي، قد أحله الله - تعالى - محل الشمس والقمر، وأطاع له الماضيين: السيف والقدر،
وعقد له في الخافقين ألوية العز وبنود الظفر، وتشرفت به وباسمه هامات المنابر، وأسرة الملك،
ودارت الأملاك بمراده، وجرت به في بحر السعادة الفلك، وارتعدت من هيبته فرائص الصوارم،
واضطربت صدور الرماح، واستقادت لأمره الأيام والليالي، وغدت خافضة الجناح، وأصبح إنسانا
لعين الدهر ولأزمته مالك، وتحلت بدر مفاخر لبات الدول وترائب الممالك، وأضاءت به مسالك
المعالي، بعد أن كانت مظلمة حوالك، وأصحت به شموس المكارم في الآفاق مشرقة، وحدائق المحامد
مورقة، وسحائبها مغدقة. حامي حمى بيت الله الحرام، ومهبط وحيه ومنشأ نبيه، ومرباه، وحارس
مخ ۸
حوزته، بخيله ورجله ورماحه وظباه، سيدنا ومولانا: السيد الشريف الحسيب النسيب، نجم الدنيا والدين محمد - أبي نمي - بن بركات بن محمد بن بركات، لا زالت دولته القاهرة، تلبس الأيام خلع
العدل وتكسو الليالي ملابس الامان، وسلطنته الباهرة غرة في جبهة الملك وشامة في وجنة الزمان،
ولا برح ملكه الشريف على طول الزمان، محفوظا حفظ الصلوات الخمس، ومحروسا من جهاته
الست بالسبع المثاني، حراسة القمر والشمس بمحمد وآله.
التعريف بأبي الطيب:
ولنقدم قبل الشروع في المقصود نبذة لطيفة تشتمل على التعريف بأبي الطيب، وأخباره. فنقول:
نسبه:
أبو الطيب اسمه: أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي الكندي المتنبي.
تسميته المتنبي:
وإنما قيل له: (المتنبي)؛ لأنه ادعى النبوة ببادية السماوة، وتبعه خلق كثير، من بني كلب وغيرهم؛
فخرج إليه لؤلؤ - أمير حمص - نائب الإخشيدية، فأسره، وتفرق أصحابه وحبسه - طويلا - ثم
استتابه، وأطلقه وكان قد قرأ على البوادي كلاما، ذكر أنه قرآن؛ فمنه: (والنجم السيار، والفلك
مخ ۹
الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار، أمض على سنتك، وأقف اثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من لحد في الدين، وضل عن السبيل ... ).
مع سيف الدولة:
وكان ربما يذكر له ذلك في مجلس سيف الدولة، فينكره ويجحده، ولما أطلق من السجن، التحق
بالأمير: سيف الدولة بن حمدان، ثم فارقه، ودخل مصر، سنة ست وأربعين وثلثمائة، ومدح كافورا
الإخشيدي. وكان يقف بين يديه، وفي رجله خفان، وفي وسطه سيف، ومنطقة، ويركب بحاجبين من
مماليكه، وهما بالسيوف والمناطق، ولما لم يرضه هجاه وفارقه ليلة عيد النحر، سنة خمسين
وثلاثمائة، ووجه كافور خلفه عدة رواحل إلى جهات شتى، فلم يلحق، وقصد بلاد فارس، ومدح عضد
الدولة بن بويه الديلمي؛ فأجزل صلته؛ ولما رجع عرض له فاتك (بن أبي الجهل الأسدي) السعدي،
في عدة من أصحابه، فقاتلوهم، فقتل المتنبي وابنه، وغلامه بالقرب من: (النعمانية). في موضع،
يقال له: (الصافية)، من الجانب الغربي من سواد بغداد، ويقال: أنه ساء عضد الدولة، فدس عليه من
مخ ۱۰
قتله؛ لأنه لما وفد عليه، وصله بثلاثة آلاف دينار، وثلاثة أفراس مسرجة محلاة، وثياب مفتخرة، ثم دس عليه من سأله: أين هذا من عطاء سيف الدولة؟؟ فقال: هذا أجزل، إلا أنه عطاء متكلف، وسيف
الدولة كان يعطي طبعا، فغضب عضد الدولة، فلما انصرف جهز عليه قوما من بنى ضبة، فقتلوه،
بعد أن قاتل قتالا شديدا، ثم أنهزم. فقال له غلامه: أين قولك: (من البسيط، قافية المتراكب):
الخيل والليل والبيداء تعرفني...والحرب والضرب والقرطاس والقلم::؟؟
فقال له: قتلني، قتلك الله.، ثم قاتل، فقتل.
ويقال: إن الخفراء جاءوه فطلبوا منه خمسين درهما، ليسيروا معه فمنعه الشح والكبر، فتقدموه،
فوقع له ما وقع، وكان قتله يوم الاربعاء، لست بقين وقيل: لليلتين بقيتا من شهر رمضان، سنة أربع
وخمسين وثلاثمائة.
مولده:
ومولده في سنة: ثلاث وثلاثمائة - بالكوفة - في محله، تسمى: كندة وليس هو من كندة - القبيلة -،
بل: هو جعفي.
عائلته:
وقيل: أنا أباه كان سقاء بالكوفة، وكان يلقب: (بعيدان)، ثم انتقل إلى الشام، وإلى هذا أشار بعض
الشعراء في هجوه، فقال: (من الخفيف): (قافية المتواتر):
مخ ۱۱
أي فضل لشاعر يطلب...الفضل من الناس بكرة وعشيا
عاش حنا يبيع بالكوفة...الماء وحينا يبيع ماء المحيا
لغته وحفظه:
وكان المتنبي من المكثرين من نقل اللغة، والمطلعين على غريبها، وحوشيها.
ولا يسأل عن شيء، الا استشهد له من كلام العرب من النظم، والنثر، حتى قيل له - يوما -: كم
لنا من الجموع على وزن: (فعلى):؟! فقال المتنبي في الحال: (ظربى وحجلى)! قال الشيخ أبو علي:
فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثا، فلم أجد، وحسبك من يقول في وصفه
أبو علي هذه المقالة.
وقال أبو الفتح، ابن جني: قرأت ديوان المتنبي عليه، فلما بلغت إلى قوله في كافور: (من الطويل -
قافية المتدارك):
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة...ولا أشتكي فيها ولا أتعتب
وبي ما يذود الشعر عني أقله...ولكن قلبي يا ابنة القوم قلب
فقلت: يعز علي .. كيف قلت هذا الشعر في غير سيف الدولة؟ ..
فقال: حذرناه، وأنذرناه فما نفع البيت القائل فيه: (من الطويل - قافية المتدارك):
مخ ۱۲
أخا الجود أعط الناس ما أنت مالك...ولا تعطين الناس ما أنا قائل
فهذا الذي أعطاني إياه بسوء تدبيره.
شعره في غير الديوان:
ومن شعره مما ليس في ديوانه، بل روي عنه بسند صحيح متصل به، (من الكامل - قافية
المتدارك):
أبعين مفتقر إليك نظرتني...فأهنتني، وقذفتني من حالق
لست الملوم، أنا الملوم لأنني...أنزلت آمالي بغير الخالق
رثاء الطبسي للمتنبي:
ولما قتل، رثاه أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي بقوله: (من الخفيف قافية المتواتر):
لا رعى الله صرف هذا الزمان...إذ دهانا في مثل ذاك اللسان
ما رأى الناس ثاني المتنبي...أي ثان يرى لبكر الزمان
كان في نفسه الكبيرة في جيش وفي كبرياء ذي سلطان
هو في شعره نبي ولكن...ظهرت معجزاته في المعاني
شعره ينشد عند ابن عباد اللخمي بالأندلس:
مخ ۱۳
وحكي أن المعتمد بن عباد اللخمي - صاحب قرطبة وأشبيلية أنشد في مجلسه - يوما بيت المتنبي الذي من جملة قصيدته المشهورة، وهو (الطويل - قافية المتدارك):
إذا ظفرت منك العيون بنظرة...أثلب لها معيي المطي ورازمه
وجعل يردده استحسانا له، وفي مجلسه أبو محمد عبد الجليل بن وهبون الأندلس، فأشد ارتجالا: (من
الطويل قافية المتدارك):
لئن جاد شعرا بن الحسين، فإنما...تجيد العطايا واللها تفتح اللها
تنبأ عجبا بالقرض ولو درى...بأنك تروى شعره لتألها
قوله: (واللها تفتح اللها) هو مثل قديم، وقد نظمه أبو سعيد القصار في جعفر بن يحيى، فقال:
(مجزوء الخفيف - قافية المتدارك):
لابن يحيى مآثر...بلغت بي إلى السها
جاد شعري بجوده...واللها تفتح اللها
وأخبار المتنبي، وما جرياته كثيرة، وفيما أوردناه كفاية، ونشرع الآن في المقصود، فنقول :
المقدمة في
بيان حد الفصاحة
أعلم أن مبنى معايب الشعر ومحاسنه، والتمييز بين عذبه وأسنه، متوقف على معرفة الفصاحة،
وعدمها.
فما كان من الشعر مستوفيا لشروط الفصاحة فهو فصيح حسن. وما كان من الشعر خاليا من
شروطها، فهو معيب غير فصيح.
مخ ۱۴
والفصاحة في الكلام: خلوصه من: (ضعف التأليف) و(تنافر الكلمات) و(التعقيد) مع فصاحتها.
ضعف التأليف:
والمراد ب (ضعف التأليف) أن يكون الكلام على خلاف القانون النحوي المشهور بين الجمهور، أو
تكون كلماته ثقيلة على اللسان كقوله: (من الرجز، قافية المتواتر):
وليس فرب قبر حرب قبر.
التعقيد:
والمراد: (بالتعقيد) أن يكون الكلام غير ظاهر الدلالة على المراد، لخلل في النظم، بسبب تقديم أو
تأخير أو حذف، أو غير ذلك، مما يوجب صعوبة فهم الكلام، كما ننبه عليه في بعض الأبيات
المعيبة.
معنى فصاحة الكلمات:
ومعنى: (فصاحة كلمات الكلام): أن تكون كل كلمة خالصة من تنافر الحروف، والغرابة، ومخالفة
القياس، فالتنافر يوجب ثقل الكلمة على اللسان، وصعوبة النطق بها، كقول امرئ القيس: (من
الطويل، قافية المتدارك):
غدائره مستشزرات إلى العلي...تظل العقاص في مثنى ومرسل
فلفظ: (مستشزرات) ثقيل على اللسان، يصعب النطق به.
الغرابة:
مخ ۱۵
والمراد (بالغرابة)، كون الكلمة حوشية غير ظاهرة الاستعمال؛ كلفظ: (مسرجا) من قول رؤبة بن
العجاج: (رجز - قافية المتدارك):
وفاحما ومرسنا مسرجا...ومقلة وحاجبا مزججا
الفاحم: الشعر، والمرسن: الأنف، ومسرجا: أي كالسيف السروجي في الرقة والاستواء، أو كالسراج
في البريق واللمعان.
وعلى كل حال، فلفظ: (مسرج) غريب، ومثله يخرج الكلام عن كونه فصيحا؛ وإذا كان مثله يخرج
الكلام عن الفصاحة، فما بالك مما أعيب علي أبي الطيب من الكلمات الغريبة جدا؟ فتأملها عند
إيرادها في كلامه؛ لتنظر ما نسبته إلى هذه الكلمات.
مخالفة القياس:
والمراد ب (مخالفة القياس) أن تكون الكلمة على خلاف قانون مفردات الألفاظ الموضوعة، وعلى
خلاف ما ثبت عن الواضع؛ كقول الشاعر: (رجز - قافية المتدارك).
الحمد لله العلي الأجلل ..............
وكان القياس أن يقول: الأجل، ففك الإدغام من الكلمة يخرجها عن كونها فصيحة.
الكراهة:
مخ ۱۶
ويشترط - أيضا - في فصاحة كلمات الكلام خلوصها من: (الكراهة) في السمع، بحيث يمجها السمع، ويتبرأ من سماعها؛ كنحو: (الجرشي) من قول أبي الطيب نفسه: (متقارب قافية المتدارك).
كريم الجرشي شريف النسب ....
فإن علماء الفصاحة عدوا هذا البيت غير فصيح؛ لا شتم له على لفظ (الجرشي)، وعللوه بأنه ثقيل
يكرهه السمع.
المبالغة والغلو:
وقد يعاب الشعر لا من جهة الفصاحة؛ بل من جهة التهور، والمبالغة المفضية إلى المحذور؛ كما
سننبه عليه في بعض كلامه.
المبتذل والساقط:
وينبغي بعد اجتناب ما يجب على الشاعر اجتنابه من التنافر والتعقيد والغرابة، أن يتحاشى عن
الألفاظ: (المبتذلة الساقطة الهافية الركيكة) و(المعاني السفسافية الدنيئة)!!.
ويأتي بالألفاظ الجزلة الجسيمة الفصيحة، والمعاني الغريبة البديعة الشريفة، ولا يغفل عن تنافر
الأطراف، وتخالف الأبيات، والتناسب بينها، والتفاوت؛ ولا يجمع بين الكلمة الفصيحة واللفظة
القبيحة، والمعنى البديع الباهر والضعيف الساقط، ويتأنق في جميع شعره، ويبالغ في تحريره،
وتنقيحه وتهذيبه، فإنما شعر المرء عقله، يعرضه على الناس.
التأنق:
مخ ۱۷
ويتأكد التأنق في ثلاثة مواضع من شعره. في: مطلعه، ومخلصه، وختامه، لا سيما المطلع، فيجب
أن يكون لفظه عذبا وسبكه حسنا، ومعناه بديعا مناسبا للمقصود، وأن يكون خاليا مما يمجه السمع،
وينفر عنه الطبع، وتنبو عنه النفس، متجنبا فيه ما يتطير منه؛ ليكون أدعى للقبول وأقرب لنيل
المراد؛ ولنذكر نبذة من ذلك عند ذكر معالمه القبيحة؛ لتتم به الفائدة.
الباب الأول
ما وضع هذا المؤلف لأجله
ما وضع هذا المؤلف؛ لأجله من المحاسن المستملحة والمعايب
المستقبحة.
حرف الهمزة
القصيدة التي أولها: (من الكامل - قافية المتواتر):
أمن ازديارك في الدجى الرقباء...إذ حيث كنت من الظلام ضياء
يقول:
أمن رقباؤك أن تزوريني ليلا؛ إذ حيث أنت ضياء بدلا من الظلام في الليل، ومن: - هاهنا -
للبدلية؛ لأن الضياء لا يكون من جنس الظلام، وإذ: ظرف للأمن تقديره: أمنوا اذاك، حيث أنت
ضياء، بدلا من الظلام. ويروي: إذ حيث كنت .. والتقدير: بحيث كنت من الظلام هناك.
مخ ۱۸
والمعنى: أنها لكونها نورا وضياء لا تخرج من البيت - ليلا -؛ لأن الرقباء يشعرون بخروجها،
حين يرون الظلام ضياء؛ لأن ضياء.
وجهها ينم عليها، وهذا مأخوذ من قول علي بن جبلة؛ حيث يقول:
(من الرمل قافية المتراكب):
العكوك:
بأبي من زارني مكتتما...خائفا من كل شيء فزعا
طارق نم عليه نوره...كيف يخفي الليل بدرا طلعا
رصد الغفلة حتى أمكنت...ورعى السامر حتى هجعا
كابد الأهوال في زورته...ثم ما سلم حتى ودعا
كشاجم أو ابن طاهر:
وقد أخذ هذا المعنى - أيضا - كشاجم أو الحسن بن طاهر، حيث يقول: (الكامل - قافية المتدارك):
بأبي وأمي زائر متقنع...لم يخف ضوء البدر تحت قناعه
لم استتم عناقه لقدومه...حتى ابتدأت عناقه لو داعه
فمضى وأبقى في فؤادي حسرة...تركته موقوفا على أوجاعه
ونظم أبو الطيب بعض هذا المعنى، فقال: (من الخفيف، قافية المتواتر):
مخ ۱۹
بأبي من وددته فافترقنا...وقضى الله بعد ذاك اجتماعا فافترقنا حولا فلما التقينا...كان تسليمه علي وداعا
وهذان البيتان عزاهما أهل الأدب لأبي الطيب، ولم أرهما في ديوانه. ومعنى هذين البيتين لطيف،
وقد عكسه بعضهم يهجو ثقيلا، فقال، وأجاد: (الرمل - قافية المتدارك):
وجليس قد شنئنا شخصه...مذ عرفناه ملحا مبرما
ثقل الوطأة في زورته...ثم ما ودع حتى سلما
عيوبها:
وأقول: من عيوب هذه القصيدة قوله:
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو...عقمت بمولد نسلها حواء
هذا البيت سيئ النظم، متكلف، فيه تعقيد وحذف وتقديم وتأخير وحشو، وسوء أدب، وتهور، كما
يظهر من حل معناه -.
فقوله: (الذ) - بتسكين الذال - هي (الذي) بحذف الياء، لغة فيها. يقول: (لو لم تكن من هذا الورى
الذي هو منك؛ لأنك جماله وشرفه وفضله، وأشرف أهله؛ لكانت حواء في حكم العقيم التي لا تلد؛
مخ ۲۰