تمهید لتاریخ فلسفه اسلامی
تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية
ژانرونه
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، وهاتان طريقتان؛ الأولى منهما: طريقة الاستدلال. الثانية: طريقة المشاهدة. والأول درجة العلماء الراسخين، والثاني درجة الصديقين، وقد تنتهي كل من الطريقتين إلى الأخرى؛ فيكون صاحبه مجمعا للبحرين؛ أي بحري الاستدلال والمشاهدة، أو العلم والعرفان، أو الشهادة والغيب.
وإذا عرفت أن السالكين إلى الحق، مع كثرة الطرق وخروجها عن حد الإحصاء، نوعان؛ أحدهما: ما يبتدئ من طريق العلم إلى العرفان، ومن طريق الشهادة إلى الغيب. وثانيهما: ما ينجلي الحق له بالجذبة الإلهية فيبتدئ من الغيب ثم ينكشف له عالم الشهادة.
قال بعض العارفين: يشبه أن يكون الأول طريقة الخليل، حيث ابتدأ من الاستدلال بأفول الشمس والقمر إلى وجود رب العالمين، والثاني طريقة الحبيب، حيث ابتدأ بشرح الصدور وكشف له سبحات
35
وجه ذي الجلال وأحرقته حتى انمحق جميع ما أدركه وتلاشى في ذاته، ولم يبق له لحظة إلى نفسه لفنائه عن نفسه، فتحقق رتبة كل شيء هالك إلا وجهه ذوقا وحالا لا علما وقالا.
هذا حال الجامعين بين المرتبتين، وأما السالكون إلى إحدى الطريقتين فقد اختلفوا، وقال أرباب النظر: الأفضل طريق النظر؛ لأن طريق التصفية صعب الوصول لأن مسلكها وعر، وإفضاؤها إلى المقصد بعيد؛ لأن محو العلائق إلى حد يؤدي إلى انكشاف المعارف متعذر بل قريب من الممتنع ، وإن أفضى إلى المقصد فثباته أبعد منه، إذ أدنى وسواس وخاطر يمحو ما حصل ويقطع ما وصل، على أنه قد يفسد المزاج ويختلط العقل في أثناء تلك المجاهدات الصعبة، والرياضات الشاقة.
وقال أرباب التصفية: العلوم الحاصلة بالنظر لا تصفو في الأكثر عن شوب أحكام الوهم، ولا تخلص عن مخالطة الخيال في الغالب؛ ولهذا كثيرا ما يقيسون الغائب على الشاهد فيضلون ويضلون، كما تراه في أكثر مذاهب الاعتزال، وغير ذلك من اعتقادات الجهال من أصحاب الضلال، وأيضا لا يتخلصون في مناظراتهم ومباحثاتهم عن اتباع الأهواء والعادات، بخلاف التصوف فإن ذلك تصفية للروح وجلاء للنفوس، وتطهير القلوب عن أحكام النفس وتخليتها عن الأوهام والحيالات، فلا يبقى إلا الانتظار للفيض من العلوم الإلهية الحقة؛ فتنكشف عليهم علوم إلهية ومعارف ربانية، ويرد عليهم وارد إلهام هو حديث عهد بربه، وأما وعورة المسلك وبعده فلا يقدح في قوة اليقين وصحة العلم، مع أنه يسير على من يسره الله - تعالى - من السالكين سبل أنبيائه والمتبعين لكمال أوليائه.
وأما اختلال المزاج؛ فإن وقع فيقبل العلاج؛ لأنهم كما أنهم أطباء النفوس والأرواح كذلك عارفون أحوال الأبدان والأشباح، فالرياضة على ما شرطوه من الآداب والأحوال أمان من الفساد والاختلال، وخلاص من الأفزاع والأهوال.
يحكى أن أهل الصين والروم في زمان قديم، تباهوا في صناعة النقش والرسم، وطال بينهم النزاع والجدال، ودار بينهم الكلام في النقص والكمال، حتى أدى الافتخار في هذا الشأن إلى الاختبار والامتحان، فعين لكل من الطائفتين جدار بينهما حجاب ليتميز الكامل من الناقص في هذا الباب، فجمع أهل الصين من الأصباغ العجيبة والألوان الغريبة، وتكلفوا الصنائع النادرة والرسوم الباهرة، حتى استفرغوا المجهود في تحصيل المقصود، واشتغل أهل الروم عن الترسيم بالتصقيل، وعرفوا أن ترك التخلية إلى التحلية هو التكميل، فلما كشف الغطاء وارتفع الحجاب لمعرفة الحال بين الأصحاب، رأوا أن جانب أهل الروم تلألأ لجميع نقوش أهل الصين مع زيادة الصفاء ولطافة الصقالة والجلاء، فهذا مثال العلوم النظرية والكشفية، والأول يحصل من طريق الحواس بالكد والعناء ، والثاني يحصل من اللوح المحفوظ والملأ الأعلى.
إذا عرفت هذا؛ فاعلم أن المحاكمة بين هذين الفريقين، وتعيين الأفضل من الطريقين، هي أن العلوم مع تكثر فنونها وتعدد شجونها منحصرة في أربعة أنواع: وذلك لأن الأشياء وجودا في أربع مراتب: في الأعيان. وفي الأذهان ، وفي العبارة. وفي الكتابة، فالعلوم المتعلقة في الأول من حيث حالها في نفس الأمر هي العلوم الحقيقية التي لا تتبدل باختلاف الأزمان وتجدد الملك والأديان، وهذه تسمى علوما حكمية إن جرى الباحث عن أحوالها فيها على مقتضى عقله، وعلوما شرعية إن بحث عنها فيها على قانون الإسلام، والعلوم المتعلقة بالثانية هي العلوم الإلهية المعنوية كالمنطق ونحوه، والعلوم المتعلقة بالأخيرين هي العلوم الآلية اللفظية أو الخطية، وهذه هي العلوم العربية المعتبرة في ديننا هذا لورود شريعتنا هذه على لسان العرب وعلى كتابته، ثم إن الثلاثة الأخيرة من هذه الأنواع لا سبيل إلى تحصيلها إلا بالكسب بالنظر، وأما النوع الأول منها فقد يتحصل بالنظر وقد يتحصل بالتصفية.»
ناپیژندل شوی مخ