(بَلْ هُوَ الْعِلْمُ بِكُلِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي قَدْ ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهَا وَاَلَّتِي انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا مِنْ أَدِلَّتِهَا مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ الصَّحِيحِ مِنْهَا) فَالْمُعْتَبَرُ أَنْ يَعْلَمَ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ جَمِيعَ مَا قَدْ ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَانُوا فُقَهَاءَ فِي وَقْتِ نُزُولِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بَعْدَهُ، ثُمَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ قَدْ لَا يَعْلَمُهُ الْفَقِيهُ وَالصَّحَابَةُ ﵃ لِعَرَبِيَّتِهِمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا ذَكَرَ وَلَمْ يُطْلَقْ الْفَقِيهُ إلَّا عَلَى الْمُسْتَنْبِطِينَ
ــ
[التلويح]
ضَرَبْت كُلَّ الْقَوْمِ أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَمَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، إذْ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ مَعْرِفَةُ كُلِّ حُكْمٍ وَبِالْعَكْسِ، وَإِنْ الْتَزَمَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ مَعْرِفَةَ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ أَعَمُّ مِنْ مَعْرِفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ أَوْ الْبَعْضِ فَقَطْ فَعَدَمُ تَنَاهِي الْحَوَادِثِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْكُلِّ مَجْمُوعَ الْأَحْكَامِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مَا يَقَعُ وَيَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَيَلْتَفِتُ إلَيْهِ ذِهْنُ الْمُجْتَهِدِينَ حَيْثُ عَلَّلَ عَدَمَ إرَادَةِ الْأَوَّلِ بِلَا تَنَاهِي الْحَوَادِثِ وَالثَّانِي بِثُبُوتٍ لَا أَدْرِي وَلَمَّا أَجَابَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْكَامِ الْمَجْمُوعُ، وَمَعْنَى الْعِلْمِ بِهَا التَّهَيُّؤُ لِذَلِكَ رَدَّهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ التَّهَيُّؤَ الْبَعِيدَ حَاصِلٌ لِغَيْرِ الْفَقِيهِ، وَالْقَرِيبُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، إذْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ أَيَّ قَدْرٍ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ يُقَالُ لَهُ التَّهَيُّؤُ الْقَرِيبُ وَلَمَّا فَسَّرَ التَّهَيُّؤَ بِكَوْنِ الشَّخْصِ بِحَيْثُ يَعْلَمُ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَوَادِثِ لِاسْتِجْمَاعِهِ الْمَأْخَذَ وَالْأَسْبَابَ وَالشَّرَائِطَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ تَحْصِيلِهَا وَيَكْفِيهِ الرُّجُوعُ إلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ رَدَّهُ الْمُصَنِّفُ بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهَا بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ تَيَسُّرِ مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَوْ الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ يُنَافِي التَّهَيُّؤَ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَوْ وُجُودِ الْمَوَانِعِ أَوْ مُعَارَضَةِ الْوَهْمِ الْعَقْلِيِّ أَوْ مُشَاكَلَةِ الْحَقِّ الْبَاطِلَ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا مَسَاغَ فِيهِ لِلِاجْتِهَادِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ ﵁ حَيْثُ اعْتَمَدَ الِاجْتِهَادَ بِرَأْيِهِ فِيمَا لَا يَجِدُ فِيهِ النَّصَّ وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ ﵇، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلٌّ لِلِاجْتِهَادِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنْ لَا دَلَالَةَ لِلَفْظِ الْعِلْمِ عَلَى التَّهَيُّؤِ الْمَخْصُوصِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى إدْرَاكِ جُزْئِيَّاتِ الْأَحْكَامِ، وَإِطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَيْهَا شَائِعٌ ذَائِعٌ فِي الْعُرْفِ كَقَوْلِهِمْ فِي تَعْرِيفِ الْعُلُومِ عِلْمُ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَذِهِ الْمَلِكَةُ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا الصِّنَاعَةُ لَا نَفْسُ الْإِدْرَاكِ وَكَقَوْلِهِمْ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ كَوْنُهُمَا جِهَتَيْ الْإِدْرَاكِ.
قَوْلُهُ، (بَلْ هُوَ الْعِلْمُ) تَعْرِيفٌ مُخْتَرَعٌ لِلْفِقْهِ بِحَيْثُ تَنْضَبِطُ مَعْلُومَاتُهُ وَالتَّقْيِيدُ بِكُلِّ الْأَحْكَامِ يَخْرُجُ بِهِ الْبَعْضُ إلَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِحُكْمٍ أَوْ بِحُكْمَيْنِ فَالْعَالِمُ بِهِ مَعَ الْمَلَكَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُسَمَّى فَقِيهًا وَإِذَا عَلِمَ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ يُسَمَّى فَقِيهًا وَقَيَّدَ نُزُولَ الْوَحْيِ بِالظُّهُورِ احْتِرَازًا عَمَّا نَزَلَ بِهِ الْوَحْيُ وَلَمْ يُبَلَّغْ بَعْدُ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْفَقِيهِ مَعْرِفَتُهُ.
قَوْلُهُ (مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ) أَيْ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرَ بِشَرْطِ كَوْنِهِ
1 / 29