فَأَقُولُ هَذَا الْقَيْدُ ضَائِعٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُخْرِجْ لَكَانَ الشَّخْصُ الْعَالِمُ بِوُجُوبِهِمَا فَقِيهًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْكَامِ لَيْسَ بَعْضَهَا وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّ الشَّخْصَ الْعَالِمَ بِمِائَةِ مَسْأَلَةٍ مِنْ أَدِلَّتِهَا سَوَاءٌ يَعْلَمُ كَوْنَهَا مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً أَوْ لَا يَعْلَمُ كَالْمَسَائِلِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي فِي كِتَابِ الرَّهْنِ وَنَحْوِهِ لَا يُسَمَّى فَقِيهًا فَالْعِلْمُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مِنْ الْفِقْهِ مَعَ أَنَّ الْعَالِمَ بِذَلِكَ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى فَقِيهًا كَالْعِلْمِ بِمِائَةِ مَسْأَلَةٍ غَرِيبَةٍ فَإِنَّهُ مِنْ الْفِقْهِ لَكِنَّ الْعَالِمَ بِهَا وَحْدَهَا لَيْسَ بِفَقِيهٍ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِمَا مِنْهُ بِذَلِكَ الْعُذْرِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِالْأَحْكَامِ الْكُلُّ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ لَا تَكَادُ تَتَنَاهَى، وَلَا ضَابِطَ يَجْمَعُ أَحْكَامَهَا، وَلَا يُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ لِوُجُودٍ لَا أَدْرِي، وَلَا بَعْضَ لَهُ نِسْبَةٌ مُعَيَّنَةٌ بِالْكُلِّ كَالنِّصْفِ أَوْ الْأَكْثَرِ لِلْجَهْلِ بِهِ، وَلَا التَّهَيُّؤُ لِلْكُلِّ إذْ التَّهَيُّؤُ الْبَعِيدُ قَدْ يُوجَدُ لِغَيْرِ الْفَقِيهِ وَالْقَرِيبُ مَجْهُولٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، وَلَا يُرَادُ أَنَّهُ يَكُونُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ عِلْمُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَدْرِ الدَّهْرَ وَلِلْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ حُكْمَ بَعْضِ الْحَوَادِثِ رُبَّمَا يَكُونُ مِمَّا لَيْسَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغٌ وَأَيْضًا لَا يَلِيقُ فِي الْحُدُودِ أَنْ يُذْكَرَ الْعِلْمُ وَيُرَادَ بِهِ تَهَيُّؤٌ مَخْصُوصٌ إذْ لَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ عَلَيْهِ أَصْلًا وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْفِقْهُ عِلْمًا بِجُمْلَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ مَضْبُوطَةٍ فَلِهَذَا قَالَ:
ــ
[التلويح]
الْمَجْمُوعُ، وَإِمَّا كُلُّ وَاحِدٍ، وَإِمَّا بَعْضٌ لَهُ نِسْبَةٌ مُعَيَّنَةٌ إلَى الْكُلِّ كَالنِّصْفِ أَوْ الْأَكْثَرِ كَالثُّلُثَيْنِ مَثَلًا، وَإِمَّا الْبَعْضُ مُطْلَقًا، وَإِنْ قَلَّ وَالْأَقْسَامُ بِأَسْرِهَا بَاطِلَةٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْحَوَادِثَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَنَاهِيَةً فِي نَفْسِهَا بِانْقِضَاءِ دَارِ التَّكْلِيفِ إلَّا أَنَّهَا لِكَثْرَتِهَا وَعَدَمِ انْقِطَاعِهَا مَا دَامَتْ الدُّنْيَا غَيْرَ دَاخِلَةٍ تَحْتَ حَصْرِ الْحَاصِرِينَ وَضَبْطِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ لَا تَكَادُ تَتَنَاهَى فَلَا يَعْلَمُ أَحْكَامَهَا جُزْئِيًّا فَجُزْئِيًّا لِعَدَمِ إحَاطَةِ الْبَشَرِ بِذَلِكَ وَلَا كُلِّيًّا تَفْصِيلِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ يَجْمَعُهَا لِاخْتِلَافِ الْحَوَادِثِ اخْتِلَافًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الضَّبْطِ فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ فَقِيهًا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ بَعْضَ مَنْ هُوَ فَقِيهٌ بِالْإِجْمَاعِ قَدْ لَا يَعْرِفُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ كَمَالِكٍ سُئِلَ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ لَا أَدْرِي.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْكُلَّ مَجْهُولُ الْكَمِّيَّةِ وَالْجَهْلُ بِكَمِّيَّةِ الْكُلِّ يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ بِكَمِّيَّةِ الْكُسُورِ الْمُضَافَةِ إلَيْهِ مِنْ النِّصْفِ وَغَيْرِهِ ضَرُورَةً وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَمَّا فَوْقَ النِّصْفِ، وَهُوَ أَيْضًا مَجْهُولٌ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ بِمَسْأَلَةٍ أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ مِنْ الدَّلِيلِ فَقِيهًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ اصْطِلَاحًا، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِيمَا سَبَقَ فَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ هَاهُنَا، بَلْ أَشَارَ إلَيْهِ بِلَفْظِ " ثُمَّ " أَيْ بَعْدَمَا لَا يُرَادُ الْبَعْضُ، وَإِنْ قَلَّ لِإِيرَادِ الْكُلُّ إلَى آخِرِهِ وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ كَقَوْلِنَا كُلُّ الْقَوْمِ يَرْفَعُ هَذَا الْحَجَرَ لَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَمِنْهَا مَا هُوَ بِالْعَكْسِ كَقَوْلِنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ يَكْفِيهِ هَذَا الطَّعَامُ لَا كُلُّ النَّاسِ وَمِنْهَا مَا لَا يَخْتَلِفُ كَقَوْلِنَا
1 / 28