ولما تبين له هذا أخذ يبين أن شكل الأرض كرى وهو يقدم لذلك مقدمات: إحداها: ان لكل جزء من اجزاء الأرض ثقلا إلى أن يتنهي إلى وسط العالم. والثانية: ان من شرط الجزء الأكبر ان يدفع الأصغر حتى ينال هو الوسط. والثالثة: أن الجزء المدفوع لا يتموج بل ينقبض ويميل نحو الوسط بغاية ما يمكنه (وإذا كان ذلك كذلك فلنضع الأرض على جهة المثال متكونة) على ما كان يراه كثير من القدماء، وذلك بأن يتوهم أن أجزائها (29 ظ) [12ظ] تكونت في أول الأمر في كل جهة، ونزلت من جميع نواحي الفلك إلى الوسط، وكل واحد منها يطلب الوسط على قدر ميله، فإذا وضعنا الأرض على هذه الصفة وتحفظنا بالمقدمات التي عددناها فأقول: انه يجب ضرورة أن تتخلق الأرض في الوسط تخلقا كريا، وذلك أنه لا تخلو الأجزاء الثقيلة النازلة من جميع النواحي ان تكون متساوية في العدد متساوية في العظم والترتيب أعني أن يكون ما ينزل منها من كل نقطة من الفلك متساويا في العدد والعظم والترتيب أو يكون ما ينزل منها من ناحية أكبر وأكثر مما ينزل من أخرى. فإن كان ما ينزل منها من جميع النواحي، أعني من كل نقطة من الفلك (منها)، متساويا في العظم والعدد، وكانت كلها تؤم المركز حتى يضغط بعضها بعضا على تعادل، فبين أنه واجب أن تكون سطوح آخر الأجزاء نزولا، وهي التي يحدث منها سطح الأرض، بعدها من المركز بعد متساو، وهذه هي خاصة الكرة، أعني أن تكون الخطوط التي تخرج من المركز إلى السطح المحيط متساوية. وان فرضنا أن هبوطها من بعض الجهات يكون أكثر أو أكبر لزم أيضا عن ذلك أن يكون شكلها كريا وفي وسط العالم ضرورة، وذلك أن الأكبر يضغط الأصغر والأكثر الأقل حتى يخرجه وينحيه من المركز إلى أن يصير الكل منها في وسط العالم، فتكون الأرض مستديرة [31 و: ع] ضرورة. ولذلك لو توهم أحد أنه قد زيد في كرة الأرض مثل نصفها من أحد جهاتها فقط حتى لا يكون مركز الأرض هو مركز الكل لتحركت الأرض بأسرها حتى يكون مركزها بعينه هو مركز الكل، وحينئذ (كانت) تسكن بالطبع، لأن ما تطلبه المدرة الواحدة من الوقوف في الوسط هو الذي تطلبه الأرض بجملتها فإن كان من شأن الأرض أن تتكون بهذا الشكل فبين أنه واجب أن يوجد لها هذا الشكل وإن لم تتكون بجملتها فإن هذا الشكل إذا تبين أنه الشكل اللازم لجوهرها لم يكن فرق فيما يلزم من ذلك بين أن نضعها متكونة أو غير متكونة. ولذلك لم يضرنا في التعلم ان ننزلها متكونة، (وان كنا نرى أنه ممتنع ومستحيل أن تكون متكونة، لكن لم نضع هاهنا الممتنع) من جهة ما هو ممتنع وإنما فرضناه من جهة ما هو ممكن، ولذلك لم يعرض لنا خلل من استعماله في هذا التصور والتصديق. وهذا النحو من التعليم كثيرا ما يستعمل، وقد قيل في جهة استعماله في غير ما موضع. والفرق بين انزالنا هاهنا ان الأرض متكونة، وبين ما كان يضعه القدماء من ذلك، انا نضع نحن أنه لما تكونت الاجزاء الثقيلة بالقوة وصارت ثقيلة بالفعل تحركت بالطبع نحو الوسط. واما القدماء فإن حركتها عندهم نحو الوسط عندما تكونت كان قسرا، ومن جهة ضغط الحركة الدورية لها. وقد تبين بطلان ذلك. ولما أتي بالبرهان الطبيعي على أن شكل الأرض كري شرع أيضا في عضد ذلك بالبراهين التعاليمية فقال: إن الدليل على أن شكل الأرض كري أنه إذا قاطع ظلها جرم القمر في الكسوف القمري فإنه يقاطعه بخط مستدير، وليس يتفق ذلك إلا أن يكون ظل الأرض مخروطا أو أسطوانيا، وذلك لا يكون إلا ظل الجرم المستدير ضرورة. (وهو يستدل على أن ما يظهر من ذلك حقيقة لا خيال أنه يظهر الخط الفاصل) أبدا في الكسوف القمري غير التام بين الجزء المضيء من القمر والمكسوف محدبا، وذلك بخلاف الخط الذي يفصل الوجه المضيء منه من غير المضيء عند تشكله من الشمس بالاشكال الهلالية، فإن هذا الخط يختلف منظره من قبل اختلاف الهواء، فمرة يظهر إلى الاستقامة، ومرة يظهر محدبا، ومرة يظهر تام التقويس. واما الخط الذي (يظهر) في الكسوف فإنه يظهر أبدا على حالة واحدة. وهذا يدل على أن ما يظهر من ذلك ليس هو خيالا وانما هو حقيقة. وإذا كان ذلك كذلك، فالأرض كرية ضرورة. ومن الدليل أيضا على أنها فلكية، وأنها ليست بكبيرة، أنا إذا انتقلنا إلى ناحية القطب الجنوبي ليس بكبير انتقال ظهرت لنا كواكب في الفلك الأعلى لم تكن تظهر بعد فإن الكواكب التي تحت الفرقدين تغيب في أرض مصر وأرض قبرس، وهي لا تغيب عند أهل الربع الشمالي لا الغربي ولا الشرقي. وسهيل لا يظهر في بلادنا هذه التي هي جزيرة الأندلس إلا ما يحكى (30و) [13 و] أنه يظهر في الجبل المعروف فيها بجبل سهيل. وهو يظهر في بلاد البربر، خلف البحر الذي بيننا وبينهم المسمى بالزقاق، وقد عاينت (أنا) بمراكش في عام ثمانية وأربعين وخمسمائة كوكبا لا يظهر من هذه البلاد وذلك على الجبل المعروف بجبل درن فزعموا أنه سهيل. والكسوفات القمرية يتقدم حدوثها في البلاد الشرقية على حدوثها في البلاد الغربية، وذلك دليل على استدارتها أيضا. وقد قال قوم أن الأرض يبلغ من صغرها أن الموضع الذي يدعي بصنم هرقل، وهو فيما أحسب المدعو عندنا بصنم جزيرة قادس، هو قريب من أول حد من حدود أرض الهند، ولذلك يرون أن البحر واحد، ويستدلون على صحة قولهم بأن الفيلة تتكون في أرض الهند وتتكون أيضا في أقصى الغرب، وذلك باقصى الجنوب، من الربع الغربي الجنوبي، وهي بلاد [31 ظ: ع] السودان والبربر. هكذا حكى أرسطو وقد رأيت أنا من أخبرني أن الفيل يوجد في تلك الصحاري. قالوا: وإذا كان الأمر كذلك، فطبيعة الموضعين واحدة ، أعني أرض الهند والحدود الغربية. وإذا كانت طبيعة الموضعين واحدة فليس ذلك إلا لأحد أمرين: اما لأن الموضع واحد واما لأن احدهما قريب من الآخر وما قاله أيضا أصحاب المجسطي في مساحة دورها انه نحو من أربعة وعشرين ألف ميل يشهد على صغرها. وكذلك ما ظهر لهم من أنها جزء من نحو مائة وستين جزءا من الشمس يدل أيضا دلالة ما على صغرها. فقد تبين من هذا القول شكل الأرض وموضعها وسكونها والسبب في ذلك. وهنا انقضت هذه المقالة. والحمد لله رب العالمين. (30و) [13و]
مخ ۲۷۶