فلننظر ما هى هذه القوة، واى مرتبة مرتبتها من قوى النفس، ولما ذا تشارك منها. وظاهر من امرها انه من القوى المدركة للامور الجزئية الشخصية؛ فان الذكر انما يكون للشىء بعد احساسه وتخيله، وذلك من جهة ما هو محسوس ومتخيل. فان طبيعة الكم مثلا، الكلية، التى يدركها العقل، لا تدركها القوة الذاكرة. وانما تدرك كمية محدودة قد احستها وتخيلتها. فاما كيف يتذكر الكلى، فسيقال فى ذلك. واذا كان ظاهرا من امر هذه القوة انها جزئية، وانها محتاجة فى فعلها ان يتقدمها قوتان، قوة الحس وقوة التخيل، فلننظر بما ذا تفترق هذه القوة من قوة التخيل، فانه يظهر من امرها انه، ان لم تكن هى، فهى لها مشاركة فى فعلها. فنقول انه من البين انه وان كان كل ذكر وتذكر فانما يكون مع تخيل، فان معنى الذكر غير معنى التخل، وان وان فعل هاتين القوتين متباينان. وذلك ان فعل قوة الذكر انما هو احضار معنى الشىء المتخيل بعد فقده، والحكم عليه الان انه ذلك المعنى الذى احس وتخيل. فهاهنا اذا اربعة اشياء: خيال؛ ومعنى ذلك الخيال؛ واحضار ذلك المعنى؛ والحكم على انه معنى ذلك الخيال الذى كان للمحسوس المتقدم. فاحضار الخيال واجب ان يكون لقوة غير القوة التى تدرك المعنى. وهذه القوة توجد بحالتين، ان كان ادراكها متصلا، سميت حافظة، وان كان منفصلا، سميت ذاكرة. واما الحكم على ان هذا المعنى هو لهذا المتخيل، فهو فى الانسان للعقل، فانه الحاكم فيه بالايجاب والسلب، وهو فى الحيوان الذاكر شى شبيه بالعقل، لان هذه القوة تكون فى الانسان بفكر ورؤية، ولذلك يتذكر. واما فى سائر الحيوان فهى طبيعة، ولذلك يذكر الحيوان ولا يتذكر. وليس لهذه القوة فى الحيوان اسم، وهى التى يسميها ابن سينا بالوهمية. وبهذه القوة يفر الحيوان بالطبع من الموذى، وان لم يحسه بعد، كما يفر كثير من بغاث الطائر من الجوارح، وان لم تبصرها قط.
مخ ۳۹