1و
التأليف الطاهر في شيم الملك الظاهر القائم بنصرة الحق أبي سعيد جقمق لسيدنا ومولانا الشيخ الأوحد والمفرج الأمجد أحمد بن محمد بن عربشاه رحمه الله
1ظ
بسم الله الرحمن الرحيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب • وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارا لله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين • الحمد لله ملك الملوك • ومالك المالك والمملوك • ذي الملك السديد • والبطش الشديد • والسلطان الذي لا يفنى ولا يبيد • والمعبود الذي ليس بظلام للعبيد • قسم الخلائق بين حاكم ومحكوم • وظالم ومظلوم • وغني وفقير • وسلطان ووزير ومأمور وأمير • وكافر ومؤمن والله بما يعملون بصير • مالك الملك يؤتي الملك من يشاء • وينزع الملك ممن يشاء • ويعز من يشاء • ويذل من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير • احمده حمدا يليق بسلطانه • وأشكره شكرا يسبل علينا ذيل نعمه وإحسانه • وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ملك يتنزه عن تصرف الحدثان • وآمر نفذ أمره في الزمان والمكان • وسلطان جرت أوامره على مقتضى الحكمة فكل يوم هو في شأن وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ملك الرسل وسلطانها والدرة التي بها ازدان تيجانها • والهادي الذي به انضح برهانها • بدر الظلم • ونبي السيف والقلم • المبعوث بالرسالة إلى سائر العرب والعجم والمخرج الأمة من نار الحرب إلى جنة السلم • صلى الله عليه صلاة تؤرخ في بطون الكتب • وتخلد على مر الأزمان والحقب • وعلى آله وأصحابه • وأزواجه وأحبابه • الذين اقتفوا أثاره • وأناروا بإحياء سنته للدين منارة وحفظوا بعده شعار الإسلام ودثاره • وتابعيهم وتابعي التابعين
2و
ومن سلك سنن سننهم من الملوك والسلاطين • وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا أما بعد فإن الله تعالى بجميل صنعه • ورحيم رأفته وجسيم فضله • وعميم نعمته جعل الإنسان أشرف الموجودات • وألطف المخلوقات • وواسطة عقد الكائنات • ودرة صدف الفطرة • ومركز دائرة الحكمة • وثمرة شجرة الوجود • والمقصود لعبادة المعبود • قال سبحانه وتعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون • وجاء في حديث قدسي يا بن آدم خلقت الأشياء كلها من أجلك وخلقتك من أجلي • وللإنسان صورة وسيرة وظاهر وسريرة • أما صورته وظاهره فكما قال الله تعالى لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم • وقال تعالى وصوركم فأحسن صوركم • فهو أحسن الحيوانات شكلا • وأزهى قدا • وأعجب منظرا • وأعدل قامة • وأصبح وجها • وأفصح نطقا • وأطرب نغمة • وألين ملمسا • وأرشق حركة • وهو مركب من لطيف الجواهر وكثيفها • ففيه من كثيف الأرض • ولطيف الهواء • ورفين النار • وصافي الماء • ولذلك صار معتدلا • وسمي العالم الأصغر • المحصور في العالم الأكبر • بيانه أن رأسه كهيئة الفلك في شكله واستدارته • قال الشاعر أفضل الأشكال شكل المستدير • أحسن الألوان لون المستنير • واجتماع الأجرام النيرة فيه كالسمع • والبصر • والشم • والذوق • والنطق فعيناه كالشمس والقمر • واذناه كالمشرق والمغرب • وأنفه كمهب الرياح وأمامه كالنهار • ووراءه كالليل • وحركته كسير النجوم • وسكونه كوقوفها • ورجوعه القهقري كهبوطها • وموته كاحتراقها • وأعضاؤه الباطنة سبعة كالكواكب السيارة • وأعظم رأسه سبعة كعدد أيام الأسبوع
2ظ
وفقار ظهره أربعة وعشرون كساعات اليوم والليلة • ومفاصلة ثمانية وعشرون كمنازل القمر • وحروف الهجاء وأمعاؤه كعدد أيام الأهلة • وعروقه الضوارب ثلثمائة وستون عرقا كعدد أيام السنة • والسواكن كذلك كعدد لياليها وطبائعه أربعة كالفصول الأربعة جسده كالتراب • ودمه كالبحار • وعروقه كالنهار • وعظامه كالجبال • وشعره كالنبات • وهذه نكتة من بدائع صوره وعجيب تركيبه • ولو ارخيت عنان القول في هذا المقام لفات المقصود • فإن الكلام على كيفية أسنانه • وأنيابه • والأضراس • والطواحين • فقط وحدها وبيان الحكمة في هيئاتها وأشكالها مثلا أو على العين • وذكر طبقاتها • وشرح عضلاتها • يفتقر إلى كلام طويل يخرج عن المرام • فضلا عن سائر أعضائه وتركيب أوصاله على صورها وهيئاتها • وإنما يعلم ذلك من التشريح في كتب الطب وزيادة بيان ذلك وكشف سره وحكمته في كتاب أحياء علوم الدين والتفسير الكبير • والكتب المطولة • وهذا خارج عن قواه وحواسه الباطنة • وأما سيرته وسريرته فعلى ضربين • ضرب محمود وهو العلم • والحكمة • والبذل •والجود • والحلم • والاغضاء • والعفو • والعدل • والشجاعة • والثبات • والصبر • والاحتمال • والصدق • وحسن الخلق والرفق • واللين • والتواضع • والشفقة على الخلق • وحسن سياستهم ومعرفة ما يراد منه من رضي خالقه • واتباع أوامره • والانتهاء عن زواجره • والإخلاص في عبادته • والتوكل عليه • وتفويض الأمر إلى ارادته ومشيئته إلى غير ذلك من الصفات الملكية • وضرب مذموم وهو الجهل والتكبر • والعجب • والحسد • والبخل • والبذاءة • والغضب • وطلب الانتقام • والظلم • والجبن • وسوء الخلق • وقلة الصبر على المكروه • وطلب
3و
العلو • وحب الرئاسة • والمكر • والخديعة • والكذب • والإغراء • والافتتان • والقهر والتجبر • والاستطالة • والحرص • والطمع • والشهوة • وجميع الصفات الشيطانية • والسبعية • والبهيمية • عن آخرها • • قال الشاعر • • وما هذه الأخلاق إلا طبائع • فمنهن محمود ومنهن مذموم • فصورة الإنسان وظاهره من عالم الملك المسمى بعالم الشهادة • وعالم الخلق • وسيرته • وسريرته من عالم الملكوت المسمى بعالم الغيب وعالم الأمر فإذن الإنسان مجمع عالمي الملك والملكوت ولكنه جاهل بنفسه مضيع لها غير باعثها على ما فيه نجاتها وخلاصها إلا من عصم الله تعالى وعرفه نفسه • ولهذا قال صلى الله عليه وسلم من عرف نفسه فقد عرف ربه • قال • • بو نعمت وراه ذو جهاتي جه كنم قدر حود نمى داني ترحمته • • فقلت • • أنت أعلى من الوجود وأغلى • قيمة أن تسام بالأرواح • • بعت في سكرة لأنفس نفس • بهوان الهوى أفق يا صاح • ومع ذلك فالإنسان مختلف في جنسه متفاوت في عقله وحسه • قال الله تعالى ما لكم لا ترجون لله وقارا • وقد خلقكم أطوارا • وكل حيوان سواه • فهو على خلق واحد وطريقة واحدة لا تتفاوت إلا قليلا • ولا يفضل بعضه على بعض إلا شيئا يسيرا • بخلاف جنس الإنسان • قال الله تعالى وهو الذي جعلكم خلائق الأرض • ورفع بعضكم فوق بعض درجات • وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس معادن كمعادن الذهب والفضة • قال الشيخ علاء الدين البخاري
3ظ
رحمه الله تعالى وقد خلق الناس اشتاتا متفاوتين كمعادن الذهب والفضة وسائر الجواهر فانظر إلى معادنها وتباعد ما بينها بكون • ولون • وخاصية • وبقاء فكذلك القلوب معادن لجواهر المعارف • فبعضها معدن النبوة • والولاية • والعلم • ومعرفة الله تعالى على تفاوت درجاتهم • وبعضها معدن الشهوات البهيمية • والأخلاق الشيطانية • ذكره في الملحمة • والرد على المجسمة • فمن الناس من يترقى في درجات الكمال ويتصعد في شريف ما ذكرنا من جميل الخصال • حتى يفضل على خواص الملائكة كخواص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام • فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن خواص البشر وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل من خواص الملائكة • وخواص الملائكة عليهم السلام أفضل من عوام البشر • ومنهم من يتنزل في مذموم هذه الأوصاف التي ذكرناها حتى يركد في أسف سافل ويصير أذل من الحشرات • وأقل من الجمادات قال الله تعالى ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ولو كان شيء أقل من التراب وأذل من الأرض التي تطاؤها الأقدام لتمنى الكافر أن يكون ذلك • كما قيل • شعر • • فكم بين شخص بالملائك ملحق • وبين شخيص ملحق بالبهائم • وإلى صورة الإنسان وسيرته أشار قوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين • ثم جعلناه نطفة في قرار مكين • ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة • فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما • ثم أنشأناه خلفا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين • وكل من القرآن العظيم • وحديث النبي صلى الله عليه وسلم الكريم مشحون بذكر هذه القدرة البديعة • والحكمة الرفيعة • فكلما ترقى الإنسان في الصفاء المحمود والمقام الأرفع كان إلى حضرة الله سبحانه وتعالى أقرب • ولجناب رب الأرباب أوصل • وبصفات أفعال الله تعالى
4و
ونعوت ذاته أعرف • وذلك مقام الأولياء والصديقين • والأنبياء والمرسلين • والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا • وكلما نصوب في الصفات الذميمة إلى الدرك • الأسفل كان إلى الشيطان وحزبه أقرب • وفي قعر الهاوية والسعير أنزل • وبصفات خالقه ورازقه وبمقدار نفسه أجهل • قال الله تعالى حكاي عن كلا الفريقين كلأ إن كتاب الأبرار لفي عليين • كلا إن كتاب الفجار لفي سجين • والتفاوت الذي بين كل من الفريقين لا يحيط بكنهه إلا عالم الغيب والشهادة الذي خلقه فسواه فعدله • في أي صورة ما شاء ركبه • تعالى وتقدس • ربما ترى شخصين متصاحبين أحدهما سره جائل في عالم الملكوت • في حظيرة القدس • منعما في حدائق الأنس • والآخر في دركات أسفل سافلين • معذور بقوله أم لهم قلوب لا يفقهون بها • وأعين لا يبصرون بها • ولهم آذان لا يسمعون بها • أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون • وقد بينا بعلم له لا عبرة بالصورة • وأما القول عليه بالباطن والسريرة قال فكم بين شخص الخ • حكاية توجه السلطان الملك الأشرف أبو النصر برسباي رحمه الله تعالى إلى طرف ديار بكر وذلك في شهور سنة ست وثلاثين وثمانمائة ثم لما قفل في أواخر السنة المذكورة حضر إلى زيارة شيخنا المرحوم العامل الرباني • والعالم الصمداني • قطب الأقطاب • وولي الملك الوهاب • الكامل المكمل الشيخ علاء الملة والدين • محمد بن محمد البخاري • سقي الله تعالى مرقده • شآبيب الغفران • وكساه بفضله خلع الرضوان • وكان إذ ذاك ساكنا في الشبلية من صالحية دمشق • فلما دخل عليه • وجثا بين يديه كان فيما نصحه به أن قال له يا برسباي اعلم أنه ملك الدنيا قبلك من هو أعظم منك دولة وأكبر صولة وأكثر جولة • منهم داود • وسليمان • عليهما الصلاة والسلام وذو القرنين والخلفاء الراشدون • ومن سلك طريقهم • ومنهم فرعون • ونمرود •
4ظ
وشداد • وبخت نصر • ومن تبعهم في نهجهم • ثم إن الكل تركوها ومضوا لسبيلهم • ولم يتبعهم منها مقدار ذرة • وقدموا على ما قدموا • ولاقوا ما عملوا • والآن قد ملكت أنت وصارت لك حصة ما كان لأولئك • وقد لاح لك طريق كلا الفريقين • واتضح لك سبيل الأخيار منهم والأشرار • فأنت بالخيار من سلوك أي طريق شئت • واتباع أي فريق منهم أردت فما تم طريق ثالث إلا طريق داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام فتحشر معهم وهذا القدر من الكلام يكفيك • وخير الكلام المختصر المفيد • عودا إلى ما كنا فيه فأذن أعلى جنس الإنسان الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم لاختصاصهم بالسمو إلى أعلى ذري هذه الصفات والترقي في الخصال المحمودة إلى غاية الغايات • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وهذه الصفات الحميدة هي من شرائط النبوة ولوازمها كما تقرر في علم الكلام ولذلك اختارهم الله تعالى لسياسة عباده • واصطفاهم لدعوتهم الخلق إلى توحيده وهدايتهم إلى سواء الطريق والوصول إلى جنانه • وتحصيل ثوابه ورضوانه • ثم من بعدهم أعلى جنس الإنسان وأشرفه من تمهدت به شرائعهم • وتقوت بصولته ودولته ملتهم • وسلك سننهم • وإحياء سننهم • من الملوك والسلاطين • وولاة أمور الدين • قال الله سبحانه وتعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم • فلم يكن أقرب إلى نبي مرسل من ملك شيد شريعته على قواعد العلم وأركان العدل والإمام العادل ببركة عدله يظله الله تعالى يوم القيامة تحت ظله • ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين • لم ينتظم بعده أمر الدين • إلا بخلافة الخلفاء الراشدين • ثم من بعدهم بالسلاطين العادلين • والملوك الفاضلين • وكل حاكم أحيى سنتهم • وولي أمر قوى طريقتهم • ووجود السلطان في الأرض من حكم الله تعالى • البالغة ومننه السابغة • لأن الله تعالى جبل الإنسان على حب الانتصاف
5و
لنفسه وعدم الإنصاف لغيره فمثل الإنسان بلا سلطان كمثل السمك يبتلع الكبير منها الصغير قال شعر • • لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم • ولا سراة إذا جهالهم ساروا • ولولا السلطان القاهر الذي يدبر معايش الناس ومصالحهم لم يتهيأ لهم أمر ولا استقام لهم معاش • وإذا لم يصلح لهم معاش فلا يصلح لهم معاد • فإن صلاح المعاد مترتب على صلاح المعاش • قال بعض القدماء لو رفع السلطان من الأرض ما كان فيه في أهل الأرض من حاجة • والسلطان للعالم بمنزلة الروح للجسد • والرأس للبدن • والشمس للدنيا • ومثل الناس بلا سلطان كمثل بيت بلا سراج يدب فيه الحشرات المؤذية • ويسرح فيه كل شرير • ويضيع فيه حال المحسن فإذا أوقد فيه السراج ارتدع كل مؤذ • وانتفع كل مصلح • وقيل للسلطنة سر من أسرار الربوبية يحفظ بها عباد الله وبلاده • شرفها جسيم • وقدرها عظيم • ونفعها عميم • وثمرتها حراسة النفوس والأهوال • وإحراز الأرزاق • وإقامة المعايش • ونشر العلم • وإظهار الدين وقمع الظالمين • وردع الباغين • وأمن السبل • وتعرف الدواعي على مصالح الدنيا والدين • ولا مرتبة أعلى منها • ولا غنى لمصالح الدنيا والآخرة عنها • إذ بإقامتها يتمكن نهض الخاشع من عبادته • والفلاح بقيام كفور زراعته • ويقدم التاجر على تنفيق بضاعته • ويقطع المسافر المفاوز لبلوغ حاجته • ومن الجملة لا يقدر أحد بدونها على إصلاح شيء من أمور دنياه وآخرته • هذا وقد من الله تعالى في هذا العصر • وجبر هذه الأمة الضعيفة بعد الكسر • برحمة شاملة • ونعمة كاملة ودولة عادلة • وأيام سحائب خيرها بالأمن والأمان هاطلة • وهي الأيام السعيدة • والدولة الشريفة الحميدة • أيام مولانا وسيدنا • ومالك رقابنا • السلطان الأعظم • المالك الملك الأكرم الأفخم • سيد سلاطين
5ظ
العرب والعجم • والترك والديلم • خادم الحرمين • ومخدوم الثقلين • حامي العباد • ماحي العناد • المؤيد بالنصر المسدد بالفخر • الملهم سير العدل • الثبت من الله تعالى بالفضل والفصل • حافظ حوزة الدين • ظل الله في الارضين • خلاصة الماء والطين • ناشر رايات الخير على الإسلام والمسلمين • ماد سرداق الويل على الكفرة والملحدين • رافع الوية الحق • ناصب ابنية الصدق • كاسر أرباب النفاق • جازم أصحاب الشقاق • مظهر كلمة الله العلية مخفي آثار الشرك والرياء • منصف المظلومين من الظالمين • مشيد مسند سيد المرسلين • ملاذ الملوك ملجأ السلاطين • غوث الملهوفين والضعفاء • مربي العلم والعلماء • الملحوظ بالعناية الأزلية • المحفوظ بالولاية السرمدية • مولانا السلطان المالك الملك الظاهر أبي سعيد جقمق • شعر • • من كان عند الله أيامه • مخبؤه للزمن الآخر • جعل الله تعالى ملوك الدنيا خدامه • وسلاطين الآفاق تمشي خلفه وقدامه ونصر أولياءه • وكسر أعداءه مليك لما نشر به الأمان جناحه • وشهر الزمان نجاحه • ورفع الحق رأسه بعد ما كان انتكس • وتبسم كل من الملك والدين ضاحكا بعد أن وقع في النازعات وعبس • وفد عليه من الأطراف • كل وافد • وقصد للاكتحال بنور طلعته الشريفة كل صادر ووارد • فاحل كل واحد محله • ورفع العلم والفضائل وأهله • وتشرفت بتقبيل الأرض بين يديه الملوك • ورأت الدخول في شريعة طاعته • وطريقة أوامره في الحقيقة من أعظم السلوك • فعمت هباته وطمت صدقاته • ووسع حلمه كل مجرم • وحمل عفوه كل مبرم • وكنت قبل هذا التأليف السعيد صنفت تاريخا وسميته بعجائب المقدور • في نوائب تيمور • ذكرت فيه بعض أحوال تيمور الأعرج
6و
الذي لم يوجد أعبر منه في العتو ولا اخرج • ولم أقصد بذلك إلا الاعتبار • وذكر ما جرى على العباد والبلاد من ذلك المتكبر الجبار ليعتبر • به ولاة الدين • وملوك الإسلام والمسلمين • إذ سيره كلها عبر وكل عبرة منها فيها سير • مع أنه لا يخلو من دقائق أدبية • ولطائف عربية • وبدائع انشائية • وإنشاءات بديعية • إلى غير ذلك ثم إني لما رأيت هذه الدولة العادلة • والأيام الزاهرة الفاضلة • وما من الله سبحانه به على الإسلام والمسلمين • وكيف التقى التوأمان بعد افتراقهما الملك والدين • أخذت على نفسي بالعتاب • على ما فرطت في تصنيف ذلك الكتاب • وما رأيت لمحو تلك السيئات • وتلافي هاتيك الهفوات • إلا كتابة كتاب يتضمن آثار هذه الدولة السعيدة • واثبات بعض أوصافها الحميدة السديدة • وذكر نبذة ما منح الله سبحانه وتعالى مولانا السلطان خلد الله اعلامه • ورفع على فرق الفرقدين أعلامه • من حسن النية • وخلوص الطوية • والشفقة على الرعية وما خصه الله تعالى من هذه الأوصاف المحمودة التي مر ذكرها وكيف امتاز بها دون غيره من الملوك والسلاطين فمن دونهم • وكيف تأبى نفسه الشريفة التلبس بخلافها • والقصد في ذلك أن يعلم الناظر فيه أن مولانا السلطان من أشرف جنس الإنسان ظاهرا وباطنا • وأن يعرف المتأمل قدر هذه النعمة فيجدد الشكر لله تعالى دائما عليها • ويدعوا بدوامها وطول بقائها • وشتان ما بين التأليفين • وهيهات ما بين التصنيفين • فإن تيمور الخارجي استقل بالتحكم في الدنيا نحوا من أربعين سنة فإنه قتل السلطان حسين متولي بلاد بلخ وممالك ما وراء النهر في شعبان سنة إحدى وسبعين وسبعمائة كذا أخبرني شيخي علاء الدين البخاري تغمده الله تعالى برحمته • توفي تيمور في شعبان سنة سبع وثماني مائة وقد جاوز السبعين • ولقد أهلك الحرث والنسل في هذه المدة واستولى على غالب الممالك الإسلامية فدمرها وكان إذا دخل
6ظ
كعبة المشؤوم بمكان يحل فيه ثلاثة أشياء القحط • والخراب والوباء • وكان هو يتبجح بهذا ويذكره في مراسلاته • ويهدده به مخالفيه • وقد استوفيت ذكر هذه الأمور في تاريخه حكاية حضرت عند الملك جلال الدين خان • بن الملك توقناميش خان رحمهما الله تعالى في سراي من ممالك الدشت سنة أربع عشرة وثماني مائة وذكرت له أني من بلاد الشام • وإن تيمور قتل أكابرنا وأجلانا عن أوطاننا • فقال سبحان الله أن تيمور لم يكن له غرض إلا في إهلاك العالم • وإفناء جنس بني آدم • وخراب البلاد • وافساد العباد • فإنه استأصل أولا إقليمنا أي إقليم الترك وبلاد التتار ونواحي الشمال • ذوي الفطرة السليمة • والأديان القويمة • والقلوب المستقيمة • ثم أهلك إقليم العراق مأوى الكيلة والظرافة • والرئاسة واللطافة • ثم دمر إقليم الهند معقل التجار • ومعدن الجواهر والبهار • ثم أباد إقليم الشام مهاجر الأنبياء عليهم السلام • ومقام الأبدال والأولياء• ثم أباد ممالك الروم ثغر الإسلام والمسلمين • ومجمع الغزاة والمجاهدين • فقال له مدرس تلك البلاد مولانا حسن السغنافي رحمه الله يا مولانا الخان • وأخرب أيضا ديار خراسان وسائر بلاد العجم وفارس محط رحال العلماء • ومنيع الأفاضل والأذكياء • فقال الملك جلال الدين أن ممالك العجم وإقليم فارس وخراسان كانت قد صارت تحت قبضته وفي يده كالمائدة يتناول منها ما يشاء كيف اختار • ولكن مولانا السلطان خلد الله أيامه • ورفع على قمم المخالف أعلامه • قد عمر الدنيا والآخرة في اقل • من مدة سنتين من مبتدأ أمره كما يأتي بيان ذلك وتفضيله إن شاء الله تعالى نكتة كانت مدة السلطان الملك العادل نور الدين الشهيد محمود بن زنك بن آق سنقر نور الله تعالى مرقده • ثم من بعده مدة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب عطر الله مشهده • نحوا من أربعين سنة
7و
ولقد كانت أيامهما غرة في جبهة الدهر • وشامة في وجنة العصر • فنشر في أيام دولتهما الخير والعدل • والغزو والفتوحات والفضل • وعمرت المساجد والمدارس • وانتعش كل خير وعلم دارس • وبزغت بدور العلم من أفلاك صدور العلماء • ونصب غراس الدين والعبادة من رياض افئدة الصلحاء • وهذا أمر مشهور • وسجل على طين الزمان منشور • ثم أن مدة تيمور الخارجي كانت نحوا من هاتين المدتين • وقريبا من أيام كلا السلطانين غير أنها ملأت الدنيا قهرا وقسرا • شرا وكسرا • وخرابا وأسرا • والآن فقد منح الله تعالى الإسلام والمسلمين • ومن بولاية مولانا السلطان على أهل الدنيا والدين • وأرجو من الله تعالى ان تستوعب أيامه الشريفة هذه المدد كلها وتتضاعف أعوامه السعيدة كما تضاعفت المدة التي قبلها • بحيث يجمع في أيامه الشريفة ما جمع في المدن التي قبلها • أما الخير والعدل • والكرم والبذل • والعلم والفضل فللإسلام والمسلمين • وأما القهر والكسر والخراب والأسر • فللكفرة والفجرة أعداء الدين • وها قد ظهرت علامات ما ذكرته • ومنها أن المراسيم الشريفة برزت بتمهيد درب الحجاز الشريف • وتحصيل الأمن لوفد الله تعالى الحجاج • ومنها تولية المناصب أهلها • وتنزيل الوظائف والمدارس والمباشرات • محلها ونشر جناح الشفقة على عامة الخلق • ومد سرادق الجود والكرم • والحلم والرفق • وإقامة شرائع الدين • وإحياء سنة سيد المرسلين • وهذا كله بشائر الخير والعدل • والإحسان والفضل • وتقدمت الآراء الشريفة إلى تهيئة الأغزية والمراكب والأخذ في أسباب الغزاة • والجهاد في سبيل الله وتعاطي اعلاء كلمة الله • والتقلد بطوق قوله تعالى واعدوا لهم ما استعطتم من قوة ومن رباط الخيل • والتوجه إلى قهر أعداء الله تعالى وكسرهم • وخراب ديارهم وأسرهم • وهذه الأفعال السعيدة هي غمارة الأعداء • وسبب لعمارة الدار
7ظ
الآخرة • وهذا دليل الشهامة • والتصلب في الدين والصرامة • وإظهار سر قوله تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين • أعزة على الكافرين • يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم • وسر معنى قوله تعالى محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم • وهذه بعينها هي مكارم الأخلاق الشاملة لطرفي اللين والشدة • الرابطة لعقدي الترغيب والترهيب • والطريقة التي كان عليها الأنبياء عليهم السلام ومن بعدهم الخلفاء الراشدون ومن تبعهم وهذه اللطيفة الخفية التي لا يكاد يهتدي إليها • ولا يضع شيئا منها في محله إلا من وفقه الله تعالى وأطلعه على خبايا اسرارها • وهي مرتبة الكمال والمنقبة الجامعة لشريف الخصال • وها أنا أذكر في هذا الكتاب من الأخلاق الطاهرة والأوصاف الملكية الظاهرية الظاهرة • ما يسحب على ذكر جميع من قضى من الملوك العادلة • والسلاطين الفاضلة • بحسن سيرتها • وبهجة سريرتها • ذيل النسيان • وينشر لها لسان الثناء • ويفتح أفواه الدعاء بطول الدوام والبقاء • ويعقد عليها أفئدة المحبة والولاء • ما تعاقب الملوان • واذكر ما منحها الله تعالى وسهل لمولانا السلطان في المدة اليسيرة من مبادئ أمره • من الطافه الخفية • وعناياته الحفية • من قهر الأعداء وكسرهم • واستئصال الباغين المخالفين وأسرهم • وقطع دابرهم عن آخرهم مع كثرتهم • وقوة شوكتهم • ووفور عددهم وعددهم • واطفاء نائرتهم • ونصر الأولياء • وتيسير الأمور الصعبة • التي كانت قد بلغت في الشدة غايتها • وجاوزت نهايتها • وأخذت مليها حدها • وأخطأت رشدها • إلى أن انقلبت العبا وظهر البطن • وتخبطت الممالك الإسلامية • من أبواب الروم • وإلى آخر ممالك الصعيد • وطاشت الحلوم • وتبلدت الفهوم • ومولانا السلطان نصر الله رايته • وبلغه مما يروم غايته • في ذلك ثابت الجنان • مفوض •
8و
امره إلى الرحيم الرحمن • وسيأتي تفصيل ذلك وبيانه في موضعه إن شاء الله تعالى • فكشف الله سبحانه تلك الكربة عن الإسلام والمسلمين بأدنى لطيفة ربانية في أقل مدة حتى كأنها لم تكن • وقبض على جميع البغاة والأعداء بحيث أنهم لم يفلت منهم أحد يوبه له أو يلتفت إليه بخلاف من تقدم من الملوك والسلاطين كالملك الظاهر برقوق وولده الملك الناصر فرج • والملك المؤيد شيخ • والملك الأشرف برسباي وغيرهم ففي الحال تمهدت البلاد • واطمأنت العباد • وابتهجت الخلائق كبيرا وصغيرا • واستقرت افئدة الرعية غنيا وفقيرا • ونظير هذه النعمة الشاملة • والرحمة الكاملة • ما لم يعهد لسلطان قلبه • وما ذاك إلا لاطلاع الله تعالى على حسن نيته • وطهارة طويته • ولما جبله الله تعالى عليه من طاهر الشيم الآتي ذكرها التي لا يحصل بعضها لخواص الأولياء • فصل في ذكر مبدأ أحوال مولانا السلطان خلد الله تعالى ملكه وكيف نشأ في إبان شبابه في عبادة الله إلى أن صار إماما عادلا وحاز الأوصاف المذكورة في الحديث الشريف النبوي عليه أفضل الصلاة والسلام • أو غالبها • • وهو قوله عليه الصلاة والسلام سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم • لا ظل إلا ظله إمام عادل • وشاب نشأ في عبادة الله • ورجل ذكر الله في خلاء • ففاضت عيناه • ورجل قلبه معلق بالمساجد • ورجلان تحابا في الله • ورجل • دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال إن أخاف الله • ورجل • تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله • ما صنعت يمينه • أخبرني • من يوثق بكلامه هو قاضي القضاء برهان الدين بن ميلق الشافعي رحمه الله
8ظ
من خواص مولانا السلطان خلد الله تعالى سلطانه • وأوضح على العالمين برهانه • إن مولانا السلطان كان في أوان شبابه من أحسن الفتيان صورة • وأزكاهم سيرة • وإنه من حدود سنة خمس أو سنة ست وتسعين وسبعمائة كان يسكن عند جامع الماس بالقاهرة • وكان قد حبب إليه الرمي بالسهام • واللعب بالرمح • والصراع • والثقاف • وجميع ما يتعلق بالغزاة والجهاد في سبيل الله تعالى من ركوب الخيل • والفروسية • وإعداد ما استطاع للكفار من قوة • ومن رباط الخيل • وتعاطى أسباب ما يرهب به عدو الله وعدوه • وهو مع ذلك مواظب على أفعال الخير وإقامة الصلوات في أحسن أوقاتها بصفة الكمال مداوم على الطهارة • والوضوء • وتلاوة القرآن العظيم • ليلا ونهارا بالقراءات السبع • محب للفراء والعلماء • مصاحب للفضلاء والأذكياء • كثير الميل إلى معاشرة أرباب القلوب والأولياء • يؤانسهم ويوادهم • ويوثرهم على نفسه بأنواع المبار والإحسان • قد جعلهم ذريعة بينه وبين الله تعالى عامل بما قيل من استقامة النية اختيار صحبة البرار بكرمهم ويستجلب دعاهم وخواطرهم بكل ما تصل إليه يده • شفوق على الضعيف • والفقير • والأرملة • واليتيم • محسن إلى • الغريب والقريب • يغتنم دعاء الصالحين كثير الصدقة • والبر • والمعروف • ولم يزل يترقى به الأحوال السعيدة • باطنا وظاهرا • حتى صار له منزلة • وانتظم في سلك أخوه المقر الموالف جركس المصارع • ولقد بلغني أن الملك الناصر فرج بن الملك الظاهر برقوق رحمهما الله تعالى لما استولى بعد وفاة والده واستقل بعدما تقلبت به الأحوال جرى بينه وبين الأمراء من عساكره ما جرى من الفتك والقتل وسائر ما هو مشهور عنهم ما وقع بينهم فاتفق أنه قبض على طائفة من الأمراء وحبسهم • وكان مولانا السلطان إذ ذاك من جملتهم
9و
والمعدودين في أعيانهم • ثم بعد ذلك شرع بقتلهم واحدا بعد واحد فلقد أخبرني من لا يشك في صدقه أن الملك الناصر كان قد أضمر أنه يتعرض لمولانا السلطان بأذى على جاري عادته فنام ليلة كان قد عزم على ذلك في صباحها فرأى في منامه كأن شخصا مهابا في يده شيء إما سيف مصلت وإما غيره وقد قصده به وهم أن يضربه به وهو يقول له يا فاعل يا تارك والله لين تعرضت للأمير جقمق باذي أو سلطت عليه من يؤذيه أو قصدته بسوء لندقن عنقك ولنقتلنك شر قتلة ففر وهو مرعوب واستيقظ وهو مذعور واقلع عما كان قد عزم عليه فانظر إلى هذه العناية الربانية • واللطيفة السابقة الصمدانية • وهل هي إلا معنى قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب • ومن يتوكل على الله فهو حسبه • وإذا كان الله تعالى حسب إنسان من هو الذي يقدر على إيصال مكروه إليه • ولولا أن أساس يقين مولانا السلطان عامله الله بالإلطاف • ووقاه شر ما يخاف • بالله تعالى وحسن توكله عليه في غاية من الأحكام • وجعل معاملاته وإخلاصه في طاعته بلغ نهاية الإبرام • لما تلافاه بلطفه في حدقة هذه الأهوال • ولا ادخره رحمة لعباده في هذا العصر الذي قحط فيه الرجال • حكي الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى قال أمر رجل هرون الرشيد بالمعروف فغضب عليه فأمر أن يربط مع بغلة سيئة الخلق لتقتله فلم تضره ولم تؤذه فأمر أن يلقى في بيت ويطين بابه عليه ففعلوا به ذلك فرأوه ماشيا يتبختر في بستان فأحضروه عند هرون والبيت مطين بحاله فقال له من أخرجك من البيت فقال الذي أدخلني البستان قال ومن أدخلك البستان قال الذي أخرجني من البيت فأمر هرون أن يركبوه دابة ويطوفوا به المدينة وينادوا ألا إن هرون أراد أن يذل عبدا أعزه الله تعالى فلم يقدر • ثم إن مولانا السلطان خلد
9ظ
الله تعالى سلطانه • وأوضح على العالمين برهانه • لم يزل يعلوا برهانه مقداره • ويرتفع به للدين منارة • ويزدان بطلعته الشريفة من كل منصب يليه شعاره ودثاره حتى تقدم في الإمرة وفاق أقرانه • في النباهة والشهرة • وصار حاجب الحجاب بمصر المحروسة • ثم ولي الولايات المعتبرة • وكان كلما زاده الله نعمة جدد لها شكرا • وكلما قلده منة ادخرها في رقاب عباده لداره الأخرى • واستمر يصطنع المعروف حيثما ولي • ويبقي المآثر الجميلة أن ما حل ركابه الشريف في أيام الملك المؤيد شيخ • والملك الظاهر تتر والملك الأشرف برسباي تغمدهم الله برحمته وولي وظيفة الخزندارية من زمان الملك المؤيد • وهو مع ذلك مقبول القول ميمون النقيبة • مبارك الطلعة منجح الفأل • سعيد الرأي • يتأمن بطلعته الشريفة الكبير والصغير • ويبتهج برؤيا وجهه الكريم القريب والغريب • ولما توجه الملك الأشرف برسباي إلى آمة ووصلت العساكر المنصورة إلى الشام كان مولانا السلطان إذ ذاك أمير أخور فنزلوا ببرزة فتوجه غالب أهل الخير والعلم والصلاح إليه ليقبلوا الأرض بين يديه وذلك لما اشتهر ثناؤه العاطر • وانتشر عطاؤه الوافر • وبره الجزيل • ولقاؤه الجميل • ومعاملته بالبشر والطلاقة • والخير والسماحة • لكل من يتمثل بين يديه فتوجهت فيمن توجه لتقبيل الأرض بين يديه وكنا إذ ذاك نتردد إلى شيخنا المرحوم الشيخ علاء الدين البخاري تغمده الله تعالى رضوانه • وأسكنه بحبوحة جنانه • وكان شيخنا المشار إليه كثيرا ما يثني على مولانا السلطان وما كان بوجه وجه الثناء والدعاء لأحد من أكابر الزمان إلا إليه • نبذة من صفات شيخنا المرحوم المشار وما قصدت بذكر الشيخ رحمه الله تعالى في الكتاب إلا التبرك لأن عند ذكر الصالحين تترك الرحمة • كان شيخنا الشيخ علاء الدين البخاري المشار
10و
إليه أفاض الله سجال الرضوان عليه من أفراد الأولياء • وخواص عمال العلماء • وكان من يجاريه من علماء العرب والعجم في شيء من العلوم أي علم كان يقول ليس على وجه الأرض أعلم منه وكأنه في كل علم مصنفه وفي تقرير كل كتاب مؤلف • وأما عمله واجتهاده فكان مراقبا لأحواله محافظا على رعاية أقواله وأفعاله • وكان كرجل حفر قبره وتدلت رجلاه فيه وهو على آخر رمق ينتظر خروج بقية ما في نفسه ليسقط فيه • وكان من رأى تقريره العلوم يرجح علمه على عمله ومن اطلع على مجاهدته نفسه يفضل عمله على علمه • وكان قد اشتغل على حاله الشيخ عبد الرحمن القشلاني البخاري ثم أخذ الفقه عن مشايخ الأعصون ومنهم الشيخ نعمان الخوارزمي المعتزلي الذي كان يقال مائي الفقه النعمان الثاني وهو أبو عبد الجبار المعتزلي الذي كان مع تمرلنك يدور معه البلاد ثم أن الشيخ علاء الدين المشار إليه أخذ العلوم الأدبية عن الشيخ سعد الدين التفتازاني • وكان له دنيا عريضة يتعانى المتاجر وأقام بالهند مدة وقد برع في العلوم ثم قدم إلى مصر في زمان الملك المؤيد وجرى له مع غلمائها أمور ثم حج منها ورجع مع الشامي إلى دمشق في أوائل سنة اثنين وثلاثين وثمان مائة واشتغل بالإفادة ولم يزل يتقلل من الدنيا حتى خرج منها فقرأ صورة التاريخ الآتي ذكره فيه • وأخبرني الشيخ الإمام علاء الدين أبو الحسن علي القابوني الحنفي شيخ علوم العربية بدمشق أيدها الله تعالى ونحن أخوان نتردد إلى الشيخ في شهر سنة أربع وثلاثين وثمانمائة • قال رأيت في المنام كان هاتف ينادي إلا أن الشيخ علاء الدين البخاري صار في هذه الليلة قطبا • ومن صفاته الجميلة أنه ما كان يجازف بالكلام وإنما يتكلم بما هو واقع من المغيبات وكان ينظر بنور الله تعالى فيتكلم مكاشفة فإذا دخل عليه أحد وفي خاطره شيء يريد يعرضه على الشيخ ويستشيره فيه أو يسأله عنه فيجلس ساكتا منتظرا ما يقوله
10ظ
الشيخ فإنه كان مهابا وقورا لا يبتدئ أحد عنده بكلام حتى يكون هو المبتدئ فإذا تكلم الشيخ بشي افتتح بكلام يكون جوابا لذلك السائل • ومفصحا عما في ضمير ذلك المستشير وارشادا له إلى ما يفعل سابقا لكلامه • وجوابا لسؤاله • ولقد قال لي خادمه الشيخ خضر الكردي رحمه الله قال لي الشيخ رضي الله عنه ذات يوم يا شيخ خضر إن لم يدخل على أحد قط إلا أظهرني الله تعالى على ما في نفسه • وأطلعني على ما في ضميره • فعلمت ما في خاطره • قال ثم كان الشيخ أفاق من هذا الكلام فقال يا شيخ خضر لا تلتفت إلى هذا الكلام ولا تغتر به فإن هذا أدنى مقامات أرباب الكشف والشيخ رضي الله عنه كان أعلى مقاما من أن يوصف بهذا • وهذا بعينه ما قاله الجنيد رضي الله عنه وقد سئل عن العارف فقال العارف من نطق عن سرك وأنت ساكت • وحكي الجناب الكريم القاضي الشرفي سيدي يحيى بن العطار حفظ الله تعالى مجده • وأدام سعادته ومجده • لما قدم الشام أواخر سنة ثلث وأربعين وثمانمائة بخانقاة الباسطية • قال كان الشيخ رحمه الله في سنة أربع وعشرين وثمانمائة بمصر وكنا إذ ذاك نتردد إليه ونقرأ عليه وكان تغمده الله برحمته يغار على أصحابه من الدنيا والغرور بها ويرجوا لهم كل خير • وكان مولانا السلطان خلد الله دولته إذ ذاك خزندار فأرسل إلي مع الجناب القضاي الفرسي السخاوي أن إلى نيابة الأنظار الجارية تحت تكلمه الشريف وتصرفه مع مباشرة وظيفة الدوادارية له فامتنعت متعللا بأني قد تركت هذه الأشياء • ونأيت عن المباشرات فألح علي وحاباني فذكرت أني مغتنم صحبة الشيخ علاء الدين البخاري والقراءة عليه والملازمة لخدمته ولا أؤثر على ذلك شيئا فاتفق لنا اجتماع بحضرته الكريمة وذكر هذا الكلام فقال الشيخ رضي الله عنه أما تمنعك عن قبول هذه الأشياء فهو أنفع لك وأعود عليك في الدنيا والآخرة
11و
وإن كان في نفسك ميل إلى شيء من ذلك أو تختشي عواقب الأمور فأنت بالخيار فإن الأمر ربما يؤول إلى الأمير جقمق ويلي أمور المسلمين ويصير سلطانا أو كما قال • ثم قال الجناب الشرفي في المشار إليه أن الشيخ رحمه الله قال هذا الكلام لمخدومنا المقر الأشرف الكمال عظم الله تعالى شأنه ولغيره مرارا • وذلك من شهور سنة أربع وعشرين وثمانمائة • وذلك قبل أن يلي مولانا السلطان أمور المسلمين بنحو عشرين سنة ومن جملة أحوال الشيخ رحمه الله ما حكى الشيخ عبد الله البلخشاني خادمه قال خدمت الشيخ رضي الله عنه نحوا من ثلاثين سنة فكنت أدخل عليه ليلا ونهارا وفي خلواته فلم أره في هذه المدة الطويلة يوما جالسا متربعا ولا مادا رجله ولا متكيا • وقدم الشيخ رضي الله عنه سنة اثنين وثلاثين وثمانمائة فكنا نتردد إليه وإلى حين توفى إلى رحمة الله تعالى يوم الخميس ضحوة نهار ثاني شهر رمضان سنة أحد وأربعين وثمانمائة • ودفن من يومه بالمرة رحمه الله تعالى فكان يجلس جاثيا على ركبتيه متوجها إلى القبلة من الضحى وهو وقت دخولنا عليه وإلى صلوة العصر يقرر العلوم • فكانت الجماعة تسأم من الجلوس وتتعب وتتقلب وهو لا يتحرك ولا يتغير عن جلسته تلك رحمه الله وأحواله ومعاملاته مع الله تعالى ومراعاة أوقاته وحكاياته لا تكاد تحصر والاشتغال ببسط ذلك يخرج عن المقصود • وكان ثناء الشيخ رضي الله عنه ودعاؤه لمولانا السلطان رحمه الله تعالى من أقوى الدواعي والبواعث على المثول بين أياديه الشريفة واغتنام النظر إلى وجهه الكريم والدعاء له فحصل بحمد الله تعالى لنا من صدقاته البر التام والإنعام العام • ولما حل الركاب السلطاني الملكي الأشرفي بالقاهرة ترقى مولانا السلطان إلى أن صار أتابك العساكر المنصورة الإسلامية إلى أن اندرج الملك الأشرف إلى رحمة الله تعالى في أواخر سنة أحد وأربعين وثمان مائة وهو مع ذلك
11ظ
فأسند وصيته إليه • وعول في أمر ولده الملك العزيز يوسف عليه • لما كان تحققه منه من الدين • وحسن المعاملة مع الخالق والمخلوقين • والحنو والشفقة على اليتيم والفقير والكبير والصغير • وكأنه في شأنه الشريف قيل شعر • • وهب الوري أيامهم لك وارتضوا • بالموت في أيامك الغراء • • علما بأنك بعدهم لبنيهم • خير من الآباء للأبناء • فقام بموجب ذلك كما ينبغي إلى أن ابتهج الدين والدنيا بولايته • وأضاء الزمان والمكان بسلطنته • كل ذلك بفضل الله تعالى وكرمه • وشمول رحمته ووفور نعمه • وسيأتي بيان ذلك وتفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى • فصل في ذكر الأوصاف المحمودة التي ذكرناها في اول الكتاب.
وهي التي اختصر الله تعالي به الإنسان وميزه بها عن سائر مخلوقاته • وبواسطته عبر بقوله تعالي ولقد كرمنا بني آدم وذكر معانيها • وتفصيل جملها وبيان فضائلها بالآيات الشريفة • والأحاديث المنيفة • واقوال العلماء والأولياء فيها وإن من حازها هو الإنسان الكامل • ومن حاز شيئا منها فهو إنسان بقدر ما حاز منها وقسم الله تعالي له منها • ثم في بيان كيف جمعت لمولانا السلطان خلد الله تعالي سلطانه بحيث صارت في ذاته الشريفة ملكه واشتهرت فيه ديدنا وعادة وسر ذلك واثباته في مولانا السلطان بالدلائل الحسية المشاهدة وتدنيك كل خصلة بما يتعلق بها من اخبار السادات وسيد الملوك • وحكايات اهل السعادات • ولم اقصد بذلك مجر التاريخ ولكن عموم الفائدة ولطائف ونكت زائدة • منها التبرك بذكر الآيات الشريفة وتفسيرها • والأحاديث المنيفة وشرحها • وربما يتطرق من ذلك الي ذكر مسئيلة1 توحيدية • او فائدة
12و
فقهية • او دقة ادبية • او حكة معمولية • او نكتة عجيبة • او حكاية عربيه • او غير ذلك فتعم حينئذ الفائدة • ولكن المقصود الأصل في ذلك كله تذكير كل من يطالع هذا الكتاب بشكر ما انعم الله تعالي عليه من ولاية مولانا السلطان والدعاء له بطول البقاء • وخلود هذه الدولة السعيدة • فان الله سبحانه وتعالي إذا أراد بقوم خيرا ولي عليهم خيارهم • وإذا أسند الأمر الي غير أهله فانتظر الساعة • وليعلم المعاصر لتلك الدولة السعيدة ان الله تعالي له الحمد والشكر قد أراد بهذه الامة الأخيرة خيرا ولولا أن فيهم الخيار والابرار لما من عليهم بمولانا السلطان فإنه قيل اعمالكم عمالكم • وقال عليه الصلاة والسلام كما تكونون يؤل عليكم • وقال مالك ابن دينار رضي الله عنه وجدت في بعض الكتب يقول الله تعالي إني انا الله ملك الملوك قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمه • ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة • فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك ولكن توبوا الي اعطفهم عليكم • وقال قتاده رحمه الله قالت بنوا اسرايل2 الهنا أنت في السماء ونحن في الأرض فكيف نعرف رضاك من غضبك فأوحى الله تعالي الي بعض أنبيائهم إذا استعملت عليكم خياركم فقد رضيت عنكم وإذا استعملت عليكم أشراركم فقد سخطت عليكم • ومع هذا فالناس على دين ملوكهم وبصلاح السلطان تصلح الرعية ولولا ان نية مولانا السلطان مستقيمة مع الله تعالي لما استقامت الرعية • قيل في زمن الحجاج كان كلام الناس قتل فلان • صلب فلان • جلد فلان • قطع فلان • وفي زمن الوليد المغرم بالعمائر كان كلام الناس في البنيان • والعمائر • والمصانع • وشق الأنهار • وغرس الأشجار • وما يتعلق بذلك • وفي زمن سليمان بن عبد الملك المغرب بالانكحة وأنواع الملاذ والملاهي • والأطعمة • كان كلام الناس في التأنق في المآكل والمشارب والمناكح مثل قولهم تزوج فلان فلانه • صنع فلان وليمة كذا • أشباه ذلك •
12ظ
وفي زمان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان كلام الناس في حفظ القرآن • والقيام به في صلاة الليل وذكر الطاعات • والصيام وأنواع العبادات • قال الشاعر • شعر • • بلغ الأمان على حياض محمد • ثولاء محرفة وذئب أطلس • • لا ذي تخاف ولا لهذا جراء • تهدي الرعية ما استقام الرئيس • قال عبيدة السلمان قلت لعلي كرم الله ما بال الناس انطاعوا لابي بكر وعمر رضي الله عنهما والدنيا عليهم اضيق من شبر فاتسعت عليهما ووليت انت وعثمان فصارت عليكما أضيق من شبر بعدما كانت متسعة ولم تنطع الناس لكما كما انطاعت لهما فقال لأن رعية العهدين كانت مثلي ومثل عثمان رضي الله عنهما ورعيتي ورعية عثمان مثلك ومشبهك • حكي في جامع الحكايات عن رجل من أصحاب الحجاج قال، قال لي الحجاج يوما اذهب بهذا الدينار الي سوق الصيارف وزنه عند كل واحد منهم ثم سلهم عن سيرة الحجاج ثم أخبرني بوزنه وبما يقولون فيه قال فذهبت الي سوق الصيارف ووزنت الدينار عند كل واحد منهم فلم يختلف واحد منهم ان وزنه مثقالان إلا قيراطا واتفقت كلهم على ذلك وسألهم عن الحجاج فكل منهم دعا عليه وذكره بسوء فرجعت الي الحجاج وأخبرته بذلك فقال اذهب الي المكان الفلاني فان هناك صيرفيا منعزلا عن الناس ولا يفتح من حانوته إلا مقدار النصف فزنه عنده ثم سله عن الحجاج وعن سيرته عنده قال فذهبت بالدينار الي عند ذلك الصيرفي ووزنته عنده فإذا هو مثقالان من غير نقص ثم إني سألته عن سيرة الحجاج فإنني عليه خيرا وقال لم ار منه الا خيرا واحسانا فرجعت الي الحجاج واخبرته فقال انظر هل هذا الا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام كما تكونون يؤل عليكم ثم تأمل انا الظالم ام هؤلاء اللصوص الخونة فيجب
13و
على كل أحد شكر الله تعالي على هذه الأيام السعيدة • وأيضا قصدت تذكر الخواطر الشريفة السلطانية زاد الله عدلها • وأدام فضلها • بأداء شكر ما انعم الله تعالي عليها من هذه الأوصاف السعيدة • والأخلاق الحميدة • الجامعة لسعادتي الدنيا والآخرة • التي قلما تجمع في هذا العصر في شخص واحد • وان كان مولانا السلطان خلد الله أيامه لم ينس حق الله تعالي فيها • ولكن قال الله تعالي وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين • ولو لم يكن ذكرها أمرا عظيما وهي نعمة جسيمة ما ذكر الله تعالي بها نبيه صلي الله عليه وسلم حيث قال وإنك لعلى خلق عظيم • وأيضا جعلت هذا التأليف السعيدا نموذجا دستورا لمن يطالعه من الملوك والسلاطين ليتأدبوا بآدابه ويدخل كل منهم الي ما وليه من بابه • فيقتفوا أثاره • وينظروا كيف رفع على أمر الشريعة منارة • وجعل لباس الحق شعاره ودثاره • ونصر الله ورسوله فجعل الله أعداء أنصاره • ولنذكر أولا النفس وماهيتها ثم نسرد أوصافها إذا لا بد من معرفة الموصوف أولا ثم بيان صفاته ثانيا لان الحكم علي الشي فرع تصوره ورسمت هذا التأليف الشريف • بالتأليف الطاهر في شيم الملك الظاهر القائم بنصرة الحق • ابي سعيد جقمق • ورتبته على فصول ليكون مقاصده للمطالع أقرب الي الحصول • والله الموفق المعين • اياه اعبد واياه استعين •
الفصل الأول في ذكر النفس وماهيتها وما ذكره حكماء الإسلام وغيرهم فيها قال الله تعالي يأيتها النفس المطمئنة ارجعي الي ربك راضية مرضيه فادخلي في عبادي وادخلي جنتي • وقال تعالي ونفس ما سواها فألهمها فجورها وتقواها وقال تعالي وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا
13ظ
تبصرون • وقال تعلي سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم • وقال تعلي ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم الي غير ذلك من الآيات الشريفة • وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم أعدي عدوك نفسك التي بين جنبيك • وقال عليه الصلاة والسلام من عرف نفسه فقد عرف ربه • قد أكثر الناس من حكماء الإسلام والفلاسفة الكلام على حقيقة النفس وانواعها وفي انها جسم او جسماني او مجرد او مركب وهذا لا يهمنا وليس الغرض في هذا الكتاب تطويل الكلام ولكن اذكر القول مختصرا مفيدا مبينا إن شاء الله تعالي • اعلم ان حقيقة نفس الإنسان لطيفة روحانية ربانية لها تعلق بقلبه وقالبه الجسماني وهي المدركة العالمة العارفة بها يتكلم الإنسان وتبصر العين • وتسمع الأذن • وتبطش اليد • وتمشي الرجل • إلى غير ذلك • وهي المخاطبة والعاتبة • والمسابة والعاقبة • والمطلوبة والمطالبة • ويطلق عليها لفظ القلب تارة ولفظ الروح أخرى ولفظ العقل أيضا • وبن آدم هو المخصوص بهذه النفس دون سائر الحيوانات وان كان يطلق على الجميع ان لها نفس لكن هذه النفس يقال لها الناطقة أي المدركة • واختلف أيضا بل تحيرت الألباب في كيفية تعلقها بالبدن وما يعلم وجه تلك العلاقة الا بالكشف • وهذه النفس لما كثرت صفاتها • وتضادت نعوتها • تخالفت أوصافها حتى أن بعض حكماء الإسلام • وقدماء الفلاسفة نوعوها • قال أفلاطون أنواع النفس ثلاثة ناطقة • وشهوانية وغضبية فالناطقة مسكنها الدماغ • والشهوانية مسكنها الكبد • والغضبية مسكنها القلب • فأية نفس منها غلبت أختيها ردتهما إلى صفاتها كالعناصر الأربعة وقال بعض حكماء الإسلام هما روح ونفس فطبع النفس طبع النار في جوهرها وإليها ينسب كل طبع لئيم كالجهل • والغضب • والحدة • واللؤم •
14و
والسفة • والملال • والترف • والطيش • والحمية • والشهوة • واللجاج • والمرآة • والجفاء • الحسد والكبر • والحقد • والبخل • والحرص • والكذب • والخيانة • والجبن • وسائر الأخلاق الذميمة كالنار في إحراقها • واستشاطتها • وحدتها • وشهوتها • وجفوتها • ودخانها • ولهيبها • وشررها • واغلائها • وحرارتها • وإهلاكها • وإعدامها • وأكلها ما تجده • والحركة • وطلب العلو إلى غير ذلك وطبع الروح طبع الماء في جوهره وإليه ينسب كل خلق كريم من الحياة • والحلم • والعلم • والصبر • والتؤدة والاحتمال • والتربية • والرواء • والسكون • والجود والبذل والرضا • والعفة • والشكر • واللين كالماء في سلاسته وسهولته ورقته • ولينه • وانقياده • والميل إلى الجانب الوطيء إلى غير ذلك فأيتهما قويت وغلبت انقادت لها الأخرى حتى تصير على طبعها كالروح والبدن فان الروح من عالم ظلماني كثيف أرضي فأيهما غلب على صاحبه جذبه إلى أفقه ومركزه • قال الله تعالى لعيسى عليه الصلاة والسلام إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وقال تعالى في حق ادريس عليه الصلاة والسلام ورفعناه مكانا عليا وقال تعالى في حق بلعم بن باعورا ولو شئنا لدفعناه بها ولكنه اخلد إلى الأرض واتبع هواه • الأنبياء عليهم الصلاة والسلام صارت أجسادهم أرواحا والكفار صارت أرواحهم أجسادا • وقال سهل رحمه الله الأنفس ثلاثة لوامة وهي العقل • وأمارة وهي الشهوة • ومطمئنة وهي الإيمان • وقال بعضهم الأنفس أربعة أمارة وهي نفس الكافر • ولوامة وهي نفس العصاة وملهمة وهي نفس المخلصين • ومطمئنة وهي نفس الأنبياء والأولياء والمؤمنين فعلى قول أفلاطون وسهل ومن بينهما تجمع الأنفس في شخص واحد وعلى القول الرابع لا • والحق ما ذكر لولا من إن النفس واحدة وبحسب تكثر صفاتها
14ظ
كثرت اسماؤها • وبحسب تنوع صفاتها نوعوها تنزيلا للتنويع في الصفات • منزلة التنويع في الذات • قال الله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه • والدليل على أنها واحدة فقط وإنما تتعدد باعتبار تخالف صفاته أنك تقول هذا نفسه كريمة • وهذا نفسه لئيمة • ونفس هذا مطمئنة • ونفس هذا أمارة • ونفس شريفة • ونفس دنية إلى غير ذلك • أي يوصف نفسه تارة بالشرف وتارة بالدناءة قال الله تعالى ونفس وما سواها • فألهمها فجورها وتقواها • قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها • أي قد ربح وانجح من أرشدها إلى الحق • وزينها بالأوصاف المحمودة • وقد خسر من أضلها بإيقاعها في مخاليب3 الوصاف المذمومة • وقد علم من هذا أن الإنسان هو عبارة عن هذه النفس التي ذكرناها • وإنه من ذكي نفسه فقد أفلح • ومن دنسها فقد خاب • وتزكية النفس معرفتها • وبمعرفتها يعرف الإنسان ربه • وكيفية معرفة النفس في الظاهر • أن يعرف أنها كانت عدما فوجدت • فيعرف موجدها ويعرفها بالمخلوقية • فيعرف ربه بالخالقية • ويعرفها بالمرزوقية • فيعرف ربه بالرازقية • ويعرفها بالعابدية • فيعرف ربه بالمعبودية ويعرفها بالعجز فيعرف ربه بالقدرة • ويعرفها بصفات النقص • فيعرف ربه بصفات الكمال • وهلم جرا في صفات العبد وصفات الرب • ومن جهل قدر نفسه فهو لقدر غيره أجهل • وإذا تحقق الإنسان من صفات نفسه • وصفات ربه ما ذكرنا فقد اطمأنت نفسه • وإذا اطمأنت النفس زكت وبالعكس • وكثيرا ما كان يدعوا صلى الله عليه وسلم اللهم اجعل نفسي مطمئنة تؤمن بلقائك وتقنع بعطائك • وترضى بقضائك • وهذا هو أصل الدين • ولا شك أن مولانا السلطان نور الله بصيرته • وطيب سره وسريرته • من أعلى من عرف نفسه وزكاها • أو هو ملتبس بهذه الأوصاف السعيدة كلها وكل الخلق
15و
تشاهد هذا فلا يحتاج إلى دليل لأنه في الظاهر محسوس • ومن الدليل أيضا على معرفة مولانا السلطان بنفسه الشريفة ما أخبر به عنه الأخص من خواصه وعقد واسطتهم سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى • ذخر المنقطعين والغرباء • مربي العلماء • والفضلاء • الخير المحض • والبر البحت • مولانا شمس الملة والدين الكاتب • عظم الله تعالى شأنه قال، قال لي مولانا السلطان خلد الله تعالى أيامه كنت أقرأ القرآن العظيم ليلة من الليالي فبلغت إلى قوله تعالى حكاية عن نوح عليه الصلاة والسلام ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك فقال أي مولانا السلطان فلما انتهيت إلى هذه الآية فتفكرت في معنى هذه الآية الكريمة وتأملت ثم رجعت إلى نفسي وقلت هذا نوح عليه الصلاة والسلام وولده من صلبه على قول لم تنفعه أبوته ولا نبوته وقد نفاه الله تعالى عنه وأبعده عن أن يكون من أهله وبين ذلك بقوله عز وجل أنه عمل غير صالح هذا معنى قوله عز وجل فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسألون ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام من ابطأ به عمله لم يسرع به نسبه ومعنى قول الشاعر • • لعمرك ما الإنسان إلا بن دينه • فلا تترك التقوى اتكالا على النسب • • فقد رفع الإسلام سلمان فارس • وقد وضع الشرك الدني أبا لهب • انظر كيف وافق فكره الشريف كلام الله عز وجل وكلام رسوله عليه السلام وكلام الشاهد الحكيم • وأنا اخرجني الله تعالى من صلب كافر وقد سبقت فواصل نعمه في أزل الأزال4 أن نقلني من بلاد الشرك إلى ديار الإسلام • وكساني خلع التوحيد • وتوجني بتاج الإيمان • وعصمني من غالب العاصي • ورزقني جانبا من العلم • وحفظ كتابه الكريم • ثم لم يتركني بهذا فقط بل خولني في أنواع النعم التي لا يمكنني حصرها ولا إحصاء
15ظ
أدناها • وحكمني في أول أمري في رقاب الناس وأموالهم • وبلغ بي أن ولاني سلطنة الإسلام والمسلمين • ورفعني إلى منزلة لا يمكن في الدنيا أعلا منها • وجعلني سلطان ملوك مشارق الأرض ومغاربها • فصرت أخاطب نفسي بيا فلان ترى كيف تطيق أن تؤدي شكر أدنى أوفى نعمة من هذا النعم التي من الله تعالى عليك بها • أيا فلان احذر أن تقصر فيما تطول إليه يدك من إقامة حقوق الله تعالى وإجراء حدوده • وامتثال أوامره • والنهي عن زواجره • وإحياء سنة نبيه صلى الله عليه وسلم • وإقامة شعائر شرائعه • والحنو على عباده • والشفقة على خلقه • وأمة رسوله صلى الله عليه وسلم مهما • امكنك واعلم أن الله تعالى مسائلك عن هذا الخلائق كلهم كبيرهم وصغيرهم • غنيهم وفقيرهم • شقيهم وسعيدهم • قريبهم وبعيدهم • قال ثم أين أخذت في البكاء والتضرع • والابتهال إلى الله تعالى وسألته أن يودعني أن اشكر نعمه التي نعمها علي • وهذا بعينه عند الأولياء رضي الله عنهم هو مقام المراقبة والمحاسبة الذي هو أعلى مقامات الأولياء • قال أوشهنج هو معرب هوشنك وهو من قدماء سلاطين الفرس من عرف الابتداء شك • ومن عرف الانتهاء خلص • ومن عرف التوفيق خضع • ومن عرف الانفعال أناب للاستسلام • وهذه الحكاية كانت والدنيا قد انقلبت ظهرا لبطن وقد عصي بكري رئيس في حلب • واينال الحكمي في الشام وقد هرب الملك العزيز في القاهرة • واختفي اينال الاشرف • وتوجه طوغان الزردكاش فارا إلى من توجه إلى عرب الصعيد من الأشرفية صحبة المعز الأشرف السنقر يشبك المشد وخبط أمرهم وذلك في شهور سنة اثنين وأربعين وثمانمائة وقد يحكي عنه غالب الجند والعسكر واختلفت بواطنهم وطابت أخلاقهم وتخالفت آراؤهم • فانظر أيها المتأمل كيف كان حال مولانا السلطان • زاد الله تعالى ملكه ثباتا • ورياض أفكاره بالله تعالى من أنهار انسه ومعرفته
16و
نباتا • في تفاقم تلك الأحوال • وتراكم هاتيك الأحوال • التي يطيش فيها الحليم • ويسفه فيها الوقور • مشغولا بمراقبة أحواله • مشغوفا بمراعاة ما به ومآله • عاملا بما قال له بن عباس رضي الله عنهما أفضل العدة • الصبر على الشدة • مطرحا الدنيا وأهلها • مكفأ على مناجاة مولاه • معاتبا نفسه هل تقوم بشكره أولاه • غير مبال بما سواه • متشبثا بأذيال قوله تعالى قال الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون • وهذه الحالة تدل على شدة منبره وثبات فؤاده • وصحة عزيمته • وقوة جفانه • وحسن توكله على الله تعالى • وتفويضه أموره اليه • وكمال ثقته بنصرته • وكأنه في هذه الحالة • كان مطالعا مغني قوله تعالى وأصب لحكم ربك فإنك بأعيننا • أذكرتني هذه الحالة بيت عنترة حيث يقول • شعر• ولقد ذكرتك والرماح نواهل • مني وبيض الهند تسفك في دمي • فوددت تقبيل السيوف لأنه • دقت كعارض ثغرك المتبسم • وهل معرفة النفس والرب وتزكيتها غير هذه الأحوال الشريفة • والأوصاف الكريمة والاستغراق في مشاهدة ما يفعله الله سبحانه الحكيم الذي يصرف أمور عباده على مقتضى حكمته وإرادته • وموجب مشيئته واختياره • واستسهال ما يرد من المحبوب بمزيد المحبة والرضا • وهذه الحركات السعيدة تدل على أعلى درجات العقل • وكمال الفضل • كما حكي أن قس بن ساعدة كان يغد على قيصر فيكرمه فقال له يوما يا قس ما أفضل العقل قال معرفة الرجل بنفسه • لا جرم ان الله تعالى المطلع على خفيات الضمائر • ومكنونات السرائر • دفع عنه ما يكره بأدنى لطيفة • وبلغه ما يرجوه من المقاصد الشريفة • حكى الإمام القشيري رضي الله عنه قال سئل بعض الصالحين عن سبب توبته وانقطاعه إلى الله تعالى فقال كنت رجلا ذراعا فاجتمع لي شغلان في ليلة واحدة سقي الزرع والذهاب إلى الطاحون لطحن الحنطة
16ظ
فحملت الحمار الحنطة وسقته فضل عن الطريق فبقيت متحيرا أن طلبت الحمار فاتني سقي الزرع وإن سقيت الزرع ضاع الحمار والحنطة وكانت ليلة الجمعة وبيني وبين البلد مسافة ليلة فتركت جميع الأشغال يفعل الله فيها ما يشاء وقلت امضي إلى صلوة الجمعة فلما رجعت من الصلوة فمررت بالزرع فإذا هو مسقي فسألت من سقاه فقيل لي جارك سقى زرعه فسلط عليه النوم فانخرق السك ودخل الماء إلى زرعك فجئت البيت فإذا الحمار والطحين في البيت فسألت من فعل ذلك فقيل ذهب الحمار إلى الطاحون فعرفه الطحان فطحن الحنطة وردها مع الحمار إلى البيت فقلت ما أصدق ما قيل من كان لله كان الله له وتفكرت في قوله تعالى قل الله ثم ذرهم فتوجهت إلى عبادته فكفأني بكرمه كل مؤنة والله الموفق والمعين • فصل في أهل هذه الصفات الحميدة • ومنبع هذه الخصال السعيدة اعلم أن جميع صفات الإنسان الحميدة هي نتيجة العقل الذي به يثيب الله تعالى وبه يعاقب • وبه يأخذ • به يعطي • فكل ما كان عقل الإنسان أتم كانت محاسن أخلاقه أعم • وكلما كان رأيه أصوب • كان في اقتناء مكارم الشيم أرغب • فلا بد من ذكر العقل وبيانه إذ هو الأصل ثم ذكر نتيجته وهو حسن الخلق محملا ثم بيان ما يتولد من حسن الخلق من الخصال المحمودة مفصلا • فنقول وبالله التوفيق العقل قسمان غريزي أي خلقي هو مناط التكليف يحدثه الله تعالى عند بلوغ الإنسان أما بألسن أو بالاحتلام فيجري عليه إذ ذاك قلم التكليف • ويدخل في حيز المخاطبين بالأحكام • ويترتب على الثواب والعقاب • والعقل الشافي بجري يكتسب بالتجربة وبواسطته يقال إن الشيوخ أكمل عقلا من الشبان • قيل من بيضت الحوادث لمته • وأخلقت التجارب لباس حدته • وارضعه الدهر من
17و
وقائع الأيام أخلاق درته • أراه الله تعالى لكثرة ممارسته • تصاريف أقداره وأقضيته • كان جديرا برزانة العقل ورجاحته • فهو في قومه بمنزلة النبي في أمته قال بعض الحكماء كفى بالتجارب تأدبا • وبتغلب الأيام عظة • وقالوا التجربة مرآة العقل • وقال الشاعر• • ألم تران العقل زين لأهله • ولكن تمام العقل طول التجارب • لكن قد يمن الله تعالى على من يشاء من أطفال عباده وشبابهم بعقل يبصرون به من المغيبات • ما لا يراه كثير من الشيوخ في المشاهدات • قال الله تعالى حكاية عن خليله عليه الصلاة والسلام ولقد أتينا إبراهيم رشده من قبل أي من قبل بلوغه أي صغيرا وهو هدا بيته إلى التفكير في الكواكب • واراءته ملكوت السموات5 والأرض وقال حكاية عن يحيى عليه الصلاة والصلام وأنبيناه الحكم صبيا • وقال تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نقشت في غنم القوم وكنا بحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان • قيل لحاكم إلى داود عليه الصلاة والسلام اثنان فقال أحدهما دخل غنم هذا إلى زرعي فأكله ولم يبق شيئا فأمر داود عليه السلام بالغنم لرب الزرع عوضا عن زرعه فخرجا من عنده فلقيهما سليمان عليه الصلاة والسلام فسألهما عن حالهما فأخبراه بذلك فقال عندي ما هو أوفق لهما من ذلك وهو أن يدفع صاحب الغنم لرب الزرع ينتفع بما فيها من در وصوف ونسل وغير ذلك ويتسلم رب الغنم الأرض فيزرعها ويربيها حتى تصير كما كانت فيدفعها لربها ويأخذ غنمه فأجرى الحكم على ذلك وكان سنه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك إحدى عشرة سنة وناهيك بسيد المرسلين • وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم • الذي ربي يتيما • ونشأ غريبا • كيف رجح على أمته حين كان طفل • ونشأ وقد بغض إليه اللهو واللعب • وخفة ما كان عليه الجاهلية وذلك بعصمة أزلية وحفظ
17ظ
أزلي قال التوحيدي رحمه الله عليه شعر • كفاك بالعلم في الأمي معجزة • في الجاهلية والتأديب في اليتم • وحاصل الأمر أن من يهدي الله فهو المهتدي من صغره إلى كبره فيكون إذ ذاك الشاب أفضل من الشيخ وليس ذلك مخصوصا بالأنبياء عليهم السلام • ذكر في جامع الحكايات أن الهادي كان جالسا على السماط وحواليه أولاده وأحفاده وأولاد الأمراء والوزراء وكان على المائدة سكرجة فيها خردل لا يقدر أحد أن يشمه فضلا عن تناوله فقال الهادي لأولئك الصغار على سبيل المداعبة والمزح من لعق من هذا الخردل أعطيته خمسة آلاف درهم فلم يجسر أحد منهم أن يمد يده إليه وكان هرون الرشيد بينهم وسنه إذ ذاك خمس سنين فمد يده إلى السكرجة فأكل ما فيها عن أخره فتعجب الحاضرون منه وأمر الهادي بإحضار خمسة آلاف درهم فأعطاها لخادم الرشيد فلما انقضى المجلس أخذ الرشيد المال وذهب بأولاد الأمراء والوزراء إلى مكان خال وقال بايعوني على الخلافة حتى أفرق عليكم هذا المال فبايعوه بالخلافة ففرق المال عليهم وولي كل واحد منهم وظيفة من الوظائف • وولاية من الولايات والممالك • كل ذلك وخادم من خدام الهادي يشاهد هذه الأحوال من حيث لا يرونه ثم جاء إلى الهادي وقال له يا أمير المؤمنين إن ابنك هرون تولى الخلافة وبويع بها وفرق الولايات والوظائف وأخبره بما كان من الأمر فدعاه الهادي فحص عن أمره ثم قبله وقال ستبلغ هذا المقام إن شاء الله تعالى وكان كما قال • ولما ولي هرون الخلافة ولي كل من ولاه في ذلك السن ولاية ما ولاه • ووفى بما وعده • فانظر هل هذا بطول بخسه • أو كبر سن • أو ممارسة أحوال • أو مرور أيام • وإنما هذه الأمور عطايا ومواهب • من ذي الجلال والإكرام • ونقل أيضا عن الرشيد أنه في سنه ذلك أدعى رجل النبوة فضربه الهادي على رؤوس الأشهاد فجعل يصيح فقال له الرشيد اصبر
18و
كما صبر أولوا العزم من الرسل فعجب الحاضرون من حسن خطابه واستحضاره هذه الآية في ذلك المحل • وكثير من شباب هذه الأمة كان أفضل من الشيوخ • كعبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي تقدمه عمر رضي الله عنه على مشايخ الصحابة كعتاب بن أسد وأطفال الصحابة • والتابعين • وأياس بن معوية • وتحدث لكم وغيرهم مما لا يحصى • لكن لما كان الغلب على الشيوخ التجارب والاطلاع على أحوال الدنيا بمرور الأيام وعلى الشباب زيادة الشهوة وغرور الصبا • وحدة النفس • مع قلة الممارسة والتفكر في عواقب الأمور • كما قيل روائح الجنة في الشباب • وقيل الشباب شعبة من الجنون • لا سيما إذا ساعد ذلك فراغ بال • وانتظام حال ووفور مال • كما قال أبو العتاهية • شعر • • إن الشباب والفراغ والجدة • مفسدة للمرء أي مفسدة • كان الجهل غالبا عليهم الأمن عصم الله تعالى • وحكم الناس في ذلك بالأغلب الكثير الوقوع • ولذلك حضر صلى الله عليه وسلم الشاب بالذكر لمزيد القيام بأمره فقال وشاب نشأ في عبادة الله • ولم يقل ورجل نشأ كما قال في غيره من السبعة فإذا وجد شاب مشغول بعبادة الله فذلك دليل على غزارة عقله وصحة فكره ووفور فهمه • وكمال فطنته • وإن كان كل من اعتكف على طاعة الله تعالى وعبادته صحيح الفعل • مستقيم الفكر لكن الشباب أعلى درجة وأرفع منزلة إذ يدل ذلك على أنه أكمل عقلا وأرجح لبا لدفعه من الصوارف عن ذلك • والدواعي إلى ارتكاب الشهوات • ما ليس مع الشيوخ • قال الأصمعي رحمه الله قلت لغلام حدث السن من أولاد العرب وقد حادثني فأعجبني وأمتعني بفصاحته وكياسته وكان فقيرا جدا أيسرك أن يكون لك مائة ألف درهم وأنك أحمق قال لا والله قلت ولم قال أخاف أن يجني علي حمقي جناية يذهب فيها مالي ويبقى علي حمقي فعجبت من
18ظ
كلامه وعقله وذكائه وذكر لي شيئا لم يجل في خاطري • لكن يسدل علي عقل الرجل ماشيا منها ميله إلى محاسن السئم • ومكارم الأخلاق • والتلبس بالخصائل الحميدة • ونفوره عن سفساف الأمور • وقال بعض الحكماء يعرف عقل الرجل بقلة سقطه من كلامه وأفعاله فقيل له فإن كان غائبا فقال بثلاثة أشياء برسوله • وكتابه وهديته فرسوله قائم مقام نفسه • وقد قيل • تخير إذا ما كنت في الأمر مرسلا • فمبلغ أراء الرجال رسولها • وكتابه يصف نطق لسانه • واللسان دليل على الفؤاد وقد قيل • إن الكلام لفي الفؤاد دائما • جعل اللسان على الفؤاد دليلا • وهديته عنوان تيمنه • وقد قيل • إن الهدايا على مقدار مهديها • فكمال هذه الأشياء يدل على كمال صاحبها ونقصانها يدل على النقص في عقله وقال بعض الأصوليين العقل يوزن بين الأدميين قيل محلة الرأس • وقيل القلب • وهو لعين البصيرة بمنزلة الشمس • والسراج للعين الباصرة • يعني كما أن العين تنظر المحسوسات في الظلمة بواسطة نور الشمس • والسراج كذلك البصيرة تدرك المعقولات في ظلمة الجهالات • بواسطة نور العقل • فلذلك سموه نورا • وقال بعض الحكماء العقل قوة للنفس الناطقة بها تدرك المفهومات الكلية • ثم بداية المقولات • نهاية المحسوسات • لأن الإنسان إذا رأى • بعينه شيئا أو سمع او شم أو لمس أو ذاق استدل بنور العقل من ذلك الشيء بواسطة تلك الحاسة على شيء آخر • مثلا إذا نظر بعينه إلى بناء رفيع • وقصر مشيد • استدل بنور عقله أن له بانيا لا محالة ذا حيوة وقدرة • علم أن سائر • أوصافه التي لا بد للبناء منها • ثم إذا نظر إلى السماء ورأى أحكامها ورفعتها وعظم هيأتها • واستنارة كواكبها • وسائر ما فيها من القدرة العجيبة • والحلة
19و
البديعة • استدل بنور عقله لا محالة على أنه لابد لها من صانع قديم • مدبر حكيم قادر عظيم • حي عليم • سميع بصير • وقيل العقل جوهر يدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة • وقيل هو جوهر طهر بما القدس • وروح بروائح • الأنس • وأودع في قوالب بشرية • وأحداق إنسانية • كلها أضاء استنار مناهج • اليقين • وإذا أخفى أظلم خفي مدارج الدين وهو من عالم الملكوت كالشمس في عالم الملك • قال الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه لو لم يبعث بالله رسولا لوجب على العقلاء أن يعرفوا الله تعالى بعقولهم • قال الله تعالى أن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب • قال الإمام علم الهدي أبو منصور المازيدي رحمه الله المراد بالوجوب هنا الأولوية يعني لكان إقرارهم بوجوده أولي من إنكارهم وتوحيدهم إياه أولى من أشركهم معه غيره لا الوجوب الذي يترتب عليه الثواب والعقاب كما هو مذهب المعتزلة • وعلى كل تقدير فلا شك إن العقل هو من حجج الله تعالى على خلقه • وأجمع المتكلمون على أن الدليل على وجود الصانع القديم تعالى وتقدس هو العقل فقط • وأما الدليل على وحدانيته فقد اشترك فيه العقل والنقل • وأما الأحكام الشرعية فدليل ثبوتها النقل فقط وقد يساعده العقل بشيء يستنيط به وقد لا يدرك وجه الحكمة فيه فما يسعه إلا الانقياد والتسليم وقد ذكرت لك ذلك مستوف في شرح السلك الفريد فليطالع • قال أفريدون العاقل محبوب حتى إلى عدوه والجاهل بغيض حتى إلى والده • قيل عداوة العاقل خير من صداقة الجاهل وحسبك أن الله تعلى لم يخاطب إلا أولى الألباب • وقال بعض الحكماء اعتبر الرجال بأفعالهم وعقولهم • لا بأجسامهم وأشكالهم • قال صالح ابن عبد القدوس شعر •
19ظ
• ولين يعادي عاقلا خير له من أن يكون له صديق أحمق • وإذا ثبت ما قررناه فلينظر المتأمل إلى سيرة مولانا السلطان خلد الله تعالى سلطانه ومبدأ أمره • وكيف نشأ من بين أقرانه • في عبادة الله تعلى وطاعته • متلبسا بجميع ما ذكر وما يذكر من مكارم الشيم • ومحاسن الأخلاق • فهل خرج غير معني قوله صلى الله عليه وسلم على ما رواه ابن الدرداء رضي الله عنه • قال النبي صلى الله عليه وسلم يا عويمر ازدد عقلا • تزدد من ربك قربا • قلت يابي6 أنت وأمي ومن لي بالعقل قال اجتنب محارم الله • وأد فرائض الله • تكن عاقلا • ثم تنقل بصالح الاعمال تزدد في الدنيا عقلا • وتزدد من ربك قربا • وعليه عزا • وهل خرج عن ذاته الشريفة ما ذكره الإمام أمير المؤمنين على كرم الله وجهه من هذه الأخلاق شيء وهو قوله شعر • إن المكارم أخلاق مطهرة • والعلم ثالثها والحلم رابعها • والمر سابعها والصبر ثامنها • والنفس تعلم أني لا أصدقها • والعين تعلم من عيني محدثها • فالعقل أولها والدين ثانيها • • والجود خامسها والعرف سادسها • • والشكر تاسعها واللين عاشرها • • ولست أرشد إلا حين أعصيها • • إن كان من خرجها أو من أعاديها • قد استوفينا بحمد الله تعالى في هذا الفصل في العقل وفضله الذي هو مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ما فيه مقنع وقد اعقبنا ذلك بفصل نذكر فيه حسن الخلق مفصلة • وقد اسرنا إلى ذلك في أول الفصل في العقل ولكن الشيء إذا تكرر تقرر • وإذا تقرر تحرر • والله أعلم بالصواب • • فصل في حسن الخلق وفضله •
20و
اعلم أن حسن التصوير • وجمال الشكل • هو مطلوب عامة الناس • فإنهم مقصورون على ظاهر الخلقة • وبصائرهم قاصرة عن إدراك المعاني التي هي من خواص الإنسان ومطلوبه منه وكمال الإنسان وحقيقته في باب الخلق أتم وأكمل • فإن الله سبحانه وتعالى خلق أكثر الناس • وأما من حسن خلقة فقليل • وامتياز العوام عن البهائم بتسوية الخلق • وامتياز الخواص عن العوام بتسوية الخلق • وأيضا فإن تباين الأخلاق كتباين الصور • وكما لا تتشابه الصورتان إلا نادرا • فكذلك السيرتان لا تتشابهان إلا نادرا • وهذا مما يدل على كمال القدرة • وإلا كان دليل العجز • تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا • وقل ما توجه صورة حسنة • إلا وكان فيها فعال حسنة • ولهذا قال صلى الله عليه وسلم اطلبوا الخير عند حسان الوجوه • وسئل أفلاطون أي شيء من أفعال الناس أشبه بأفعال الله تعالى قال الإحسان إلى الناس • وحسن الخلق نعمة عظيمة لا يضعها الله تعالى إلى فيمن أحبه من خواص عباده • وفيمن اصطفاه من خيرة خلقه ولذلك من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بها دون سائر النعم فقال عن من قائل وإنك لعلى خلق عظيم • قال أنس رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا مع أنه كان أجملهم خلقا أيضا • وروى جابر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا أخبركم على من تحرم النار على كل هين لين سهل قريب • وروى بن مسعود رضي الله عنه • قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل فكلمه فأرعد فقال هون عليك فإني لست بملك ولا جبار إنما أن من امرأة من قريش كانت تأكل القديد • قال الله سبحانه وتعالى وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن أن الشيطان ينزع بينهم • وقال تعالى ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ثم قال وما يلقاه إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا
20 ظ
ذو خط عظيم • وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم • وفي رواية فسعوهم ببسط الوجوه والخلق الحسن وقال صلى الله عليه وسلم حسن الخلق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة وقال صلى الله عليه وسلم لكل ذنب توبة إلا سوء الخلق فإنه كلما خرج من ذنب دخل في ذنب • وقال عليه الصلاة والسلام ما حسن الله خلق إنسان وخلقه ليطعمه النار • حكى الإمام القشيري رحمه الله قال سأل بعض الملوك ندماؤه عن سر الأشياء فقال بعضهم المرأة السوء • وقال آخر الولد السوء وقال بعضهم الجار السوء • وقال آخر الخلق السوء • ثم شرع كل منهم يقيم الدليل على ما ادعاه حتى اتفقوا على التحاكم إلى قول من يلقونه إذا خرجوا من البلد للسيران فخرجوا فاستقبلهم رجل من أهل السواد معه حمار عليه جرار خزف فتحاكموا إليه فقال شر الأشياء الخلق السوء فطلبوا الدليل فقال لإن المرأة والولد والجار والصاحب يمكن الخلاص منهم بالموت أو الفراق والطلاق والخلق السوء لا خلاص منه لا في الدنيا • ولا في القبر • ولا في الآخرة • فاستحسنوا ذلك منه • وسلموا إليه • وأعجب به الملك • فقال ثمن علي فقال أطلب من صدقاتك • شيئا يزيدني ولا ينقصك • وينفعني ولا يضرك • فقال ما هو فقال إن المهرجان قريب والناس يهنئون مولانا الملك بقدوم المهرجان ويقومون له بالخدم والتقادم على جاري عادتهم فلتبرز مراسيمه أن لا يقدم إليه أحد تقدمة إلا معه جرة من جراري هذه ولا يقبل لأحد خدمة بدون جرة من جراري هذه فإن في ذلك نفاق بضاعتي ومنفعتي بما ليس فيه كبير ضرر لأحد فأجابه إلى ذلك وأمر فنودي أن لا يقدم أحد تقدمة إلا مع جرة من جرار فلان الفخار فشرع كل من أراد أن يقدم تقدمة يشتري من ذلك الرجل جرة فيبيع ذلك
21و
بما اختار ثم استقر الحال على أنه باع كل جرة بدينار وجعل يخالق الناس بخلق حسن فلا يرون لذلك مضضا بل يرغبون في منادمته • وكان للملك وزير سيء الخلق فقيل له في ذلك فقال جرة بنصف درهم فلتكن بدرهم او درهمين وأرسل إليه بذلك فأبى إلا بدينار فاضطرب الوزير إلى شراء الجرة ورضي بالدينار فقال الرجل ما كنت من معاملي أول سوق وأما الآن فلا أبيعها إلا بمائة دينار فغضب الوزير وساء خلقه وقال بالأمس لم اشترها بدينار فاشتريها بمائة دينار ثم تصبر وقرب وقت التقدمة واضطر الوزير فبذل مائة دينار فقال لا أبيعها إلا بألف دينار فاستشاط الوزير غضبا • وضاق عطنا • وساء خلقا • وتأخرت هدايا الناس لأنهم لا يهدون قبل الوزير ثم إن الوزير لم يجد بدا من شراء الجرة فبذل ألف دينار فقال الرجل لا أبيعك شيئا أصلا لا بقليل ولا بكثير فألح عليه وألجأه الاضطرار إلى التملق والخضوع له فقال له لا أريد له ثمنا إلا أن تحملني على رقبتك وتدخل بها على الملك وهي في يدي ففعل ذلك بالضرورة ودخل على الملك فلما وقع نظر الملك عليه ناداه وقال أيها الملك هذه نتيجة سوء الخلق فانظر ما أثقل حمله فاستحسن الملك منه ذلك وعزل الوزير وولى ذلك الرجل مكانه وقال إنه حكيم وسلم إليه ذمام أموره وقيل أن وزير أمن وزراء السلطان يمين الدولة محمود بن سبكتكين رحمه الله دخل عليه يوما فرآه مغتما فسأله عن سبب ذلك فقال إني نظرت اليوم في المرآة فلم يعجبني وجهي والملك ينبغي أن يكون حسن المنظر لتتوفر رغبة الرعية ومحبتهم فيه ويميل طبعهم إليه فإن الناس غالبهم مقيد بالصورة فقال الوزير يا مولانا السلطان أنا أدلك على ما تستعيد به أحرار الرعية • وتملك به باطنهم وظاهرهم • فقال وما هو قال حسن الخلق • واصطيادهم بالبر والإحسان • وربط أعناق الكبير منهم والصغير بحبال الجود والامتنان • وإذا فاتك حسن الصورة فتلاق ذلك
21ظ
بحسن السيرة فإنك إلى تحسين خلقك • أحوج منك إلى تزيين خلقك • فأعجبه ذلك واتخذه أمامه • فملك قلوب الناس وخلد ذكره الجميل إلى يوم القيامة • قال الشاعر • شعر• • يا حسن الوجه توق الخنا • لا تبدلن الزين بالسين • • ويا قبيح الوجه كن محسنا • لا تجمعن بين قبيحين • ولقد وفدت على أكابر ملوك زماني من الشرق والغرب وحاضرتهم وخدمت أكثرهم في بلاد الجغتاي • والخطأ • والهند • والعجم • والدشت • والروم • والترك • والعرب • ولازمت مباشرة الوظائف عندهم • إلى أن شملتني السعادة بالمثول بين يدي المواقف الشريفة • المولوية السلطانية • الملكية الظاهرية • نضر الله بهجتها • وحفظ عن الأسواء مهجتها • فلم تقف عيني على أحد من الملوك والسلاطين ولا على أحد من غيرهم أحسن خلقا وخلقا • ولا أبهى صورة • ولا أذكى سيرة من مولانا السلطان أما صورة وخلقا فذلك مشاهد لكل أحد لا يحتاج إلى دليل • وأما سيرة وخلقا فيكاد بألفاظه العذاب يخلب القلوب • وبحركاته الشريفة اللطيفة يستعبد الأحرار ويسلب العقول يحسن ويعتذر • ويعطي ويجزل • ويعقب العطاء الجزيل • بالوعد الوفي الجهل يجترئ عليه فيتلافا هفوات المجترئ بحسن خلقه • ويقصر في طاعته فيتدارك ذلك التقصير بالاعتذار عن المقصر ولما توفى الملك الأشرف وأوصى إليه شرع بعض المماليك الأشرفية يستطيل على الناس وكل من هو في حارة منهم أضمر لجيرانه سوءا وجعل يفتري ويجترئ عليهم وكان الناس يرفعون شكواهم لمولانا السلطان وهو إذ ذاك نظام الممالك الإسلامية فكان ينصحهم بالحسنى ويردعهم بأحسن عبارة ويجتهد في إصلاحهم بقدر ما يصل إليه يده ولسانه من الإحسان وقد قال الله تعالى
22و
من يضلل الله فلا هادي له فلم يجدوا لبرد غليلهم غير أن يتفقوا ويركبوا عليه ويرفعوه من البين فيصلوا إذ ذاك إلى أغراضهم الفاسدة • ويستطيلوا على المسلمين في دنائهم وأموالهم وحريمهم كيف ما أرادوا ويأبى الله ألا يتم نوره ولو كره الكافرون وكان رؤوس الأمراء غائبين في التجريدة التي جهزها الملك الأشرف قبل أن يحصل له المرض الذي مات فيه ثم إن الأجلاب اتفقوا على الوثوب على مولانا السلطان يوم يصعد إلى الخدمة وذلك يوم الخميس سادس عشر صفر سنة إثنين وأربعين وثمانمائة • وكان في منزله الشريف المعهود وتحت الكبش فاختلفت كلمتهم وأخبره بذلك واحد من أعيانهم قيل أنه كان اينال الذي كان عين لأمرة الحاج وسيأتي بيان أمره مفصلا فلم يركب مولان السلطان ذلك اليوم وأخذ حذره منهم ولما خاب سعيهم وعرفوا أن هذا القضية لا تخفى لم يسعهم إلا المجاهرة بالعصيان فتوجه لمحاصرتهم في القلعة ثم أنهم نزلوا إليه مذعنين وتمثلوا بين يديه بعد أن تفرقت كلمتهم • فكان من حسن أخلاقه الشريفة وكرم عاطفته أنه لم يعنفهم • ولم يقل لهم ما يؤلم خاطرهم • بل قال لهم يا أولادي أنا نصحت لكم • وكان قصدي حفظ دينكم وصيانة عرضكم • فأنتم فعلتم هذا بأنفسكم • ولم يزدهم على هذا • ونزلهم في داره وقال أنتم ضيوفي واحتفظ برعايتهم حتى قدم الامراء فتعاطى أمرهم فرقتان وسنذكر تفصيل ذلك وكيفيته • ومن أعلا أخلاق مولانا السلطان الشريفة • ومكارم شيمه المنيفة • التشبث بأذيال الشريعة المطهرة • والوقوف عند أوامرها • وتعاطي أسباب نصرتها مهما أمكن • وتلاوة كتاب الله تعالى ليلا ونهارا بالقراءات السبع • والفحص عن أوامره وأموره • وتأمل معانيه • والتفكر في دقائق أسراره ولطائف فحاديه • والتشبث بذيل العمل بما فيه • وهذا سر قول عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت
22ظ
كان خلقه القرآن مع مراقبة أحواله • وملازمة أوراد الذكر والتسبيح • وقيام الليل والتهجد • والتعبد • والدوام على الطهارة ليلا ونهارا • حتى نقل عنه بالتواتر أنه لم يدخل عليه وقت صلوة في سفر ولا حضر إلا وبادر إلى أدائها على الوجه الأتم الأحسن في أفضل أوقاتها • وتقديمها على جميع المهمات • ولا يشغله عنا شاغل • ولم يضبط عليه أنه نام على غير وضوء بل إذا أراد النوم فإن كان على وضوء نام وإلا توضأ واضطجع الاضطجاع المسنون وهذا مقام لا يكاد يوفق إليه إلا أفراد الأولياء • حكى لي أخص خواص حضرته الشريفة الجناب القضائي الغرسي السنحاوي أحد بطائن الخير ورأس المخلصين الناصحين • قال كنت مرة في خدمة مولانا السلطان ببلاد الصعيد فأصابنا برد شديد • وشتاء عتيد • وكان مولانا السلطان جعل الله تعالى التقوى زاده • ورزقه الحسنى وزيادة • يتوضأ كل ليلة بعد أداء العشاء الأخرة ويأخذ مضجعه فيحصل له بذلك مشقة عظيمة من البرد اليابس فقلت له يا مولاي قد أديت ما عليك وصليت العشاء الأخرة والآن تأخذ مضجعك وليس في الوضوء كبير فائدة لأنك تنام فلم تتحمل هذه المشقة الكثيرة الضرر القليلة الجدوى فقال إني سمعت مرة العلماء والثقات أنه من توفى على الوضوء فإنه يموت شهيدا وينال درجة الشهداء • ومن نام على وضوء وأدركه الموت فكمن مات على وضوء وما يدريني أن هذه الليلة هل أعيش إلى صباحها أم لا • وربما تكون أخر الليالي من عمري فأنا أستعد لذلك فإن أدركني الأجل وقدر الله تعالى علي بلقائه في ليلتي فأكون على طهارة فأنال مرتبة الشهادة وأكون مستعدا للقاء به • ومن كان هذا أمله كيف لا يحسن أخلاقه • ولا يتهذب في أقواله وأفعاله • ومن استعد كل ليلة لحلول رمسه • كيف يغفل عن اصلاح نفسه • وهذه نبذة ما وقع الاطلاع عليه • وأما أحواله الشريفة التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى وما هو
23و
بينه وبين مولاه • من صدق النية • وخلوص الطوية • والشفقة على الرعية • والمناجاة الخفية • والإخلاص في طاعة الله تعالى • والتضرع والالتجاء إليه في الخلوات فذلك شيء لا نعرفه • فكيف نقدر نذكره أو نصفه • فاسأل الله تعالى الذي لا يخيب سائلا • أن يخلد هذه الدولة السعيدة على المسلمين والإسلام • أن يصل طنب سعادتها بأوتاد الخلود إلى يوم القيام • بمنه وكرمه • واعلم أن أعلى محاسن أخلاق العلم الذي هو زمام مصالح الدارين • وقوام معائش الثقلين • وأصل المعالي والمفاخر • ورأس مال المكارم والمأثر • فلنذكر فضله بعد محاسن الأخلاق إذ هو لرأسها وجه ولوجهها عين • ولعينها نور • ولجسدها صدر • ولصدرها قلب • ولقبها سرور والله الموفق • فصل في العلم وفضيلته ومزية أهله على سائر الناس قال الله تعالى قل هل يستوي الذين لا يعلمون والذين لا يعلمون وقال تعالى قل يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات • وقال عليه الصلاة والسلام طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة • اعلم أن كل شيء من الحيوانات يعظم العالم ولولا العلم لما قدر الإنسان أن يتمكن من شيء من المخلوقات • وإن الله سبحانه وتعالى لم يتخذ وليا جاهلا • وقال سبحانه وتعالى فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون قال بعض الحكماء كل عمل لا يوطده علم فهو جهل • ولعالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد • وقال الله سبحانه وتعالى إنما يخشى الله عبادة العلماء أي لا يخاف الله ويعظمه ويتقيه من عباده إلا العلماء لأنهم هم العارفون دون غيرهم • وقور إنما يخشى الله من عبادة العلماء أي ما يوقر الله ويعظمه إلا العلماء من عباده لأنهم هم المستحقون التعظيم والتوقير وعلى كل تقدير فهم المخصوصون
23 ظ
دون غيرهم وبالخوف منه وبالتعظيم له وإما بتعظيمه لهم وتوقيره إياهم ومفسد الخشية على القراءة الأولى الخوف والتعظيم • وعلى القراءة الثانية التعظيم فقط • وقال تعالى ولقد أتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين وناهيك بموسى عليه الصلاة والسلام صاحب الشريعة والنورية وعلم الظاهر في زمانه كيف ارتحل هو وفتاه ليتعلم ممن هو أعلم منه بعلم الباطن بقرب الشام بحر الظلمات إلى مجمع البحرين إلى اقصى بلاد المعرب حتى لاقى الخضر عليه الصلاة والسلام ولم يأنف من أن قال له هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا وهو نبي الله تعالى وكلمته وحسبك أيضا ما أقحم الله الملائكة وأسجدهم لآدم صفيه إلا ببركة العلم وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال تعلموا العلم فإن تعلمه خشية • وطلبه عبادة • ومذاكرته تسبيح • والبحث عنه جهاد • وتعليم من لا يعلمه صدقة • وبذله لأهله قربة • لأن العلم منار أهل الجنة • وهو المؤنس في الوحشة • والصاحب في الغربة • والمحدث في الخلوة والدليل على السراء • والمعين على الضراء • والزين عند الإجلاء • والسلاح على الأعداء يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قاده • أئمة يقتفي أثارهم • ويقتدي بفعالهم • وترغب الملائكة في حلقهم • وبأجنحتها تمسحهم • ويصلي عليهم كل رطب ويابس وحيتان البحر • وهوام الأرض وسباع البرية • والبر • والبحر • والانعام • ولان المعلم حياة القلب من الجهل • ومصابيح الأبصار من الظلمة • وقوة الأبد أن من الضعف ويبلغ بالعبد منازل الأنبياء • والدرجات العلى في الأخرة والدنيا • والتفكر فيه يعدل بالصيام • ومذاكرته تعدل القيام • وبه توصل الأرحام • ويعرف الحلال من الحرام ويلهمه الله تعالى السعداء • ويحرمه الأشقياء • وحاصل الأمر في الجملة أن العلم أصل كل خير إلخ • والجهل منبع كل شر • قال الشاعر • وفي الجهل قبل الموت موت لأهله • وأجسادهم دون القبور قبور •
24و
• وان امرءا لم يحي بالعلم قلبه • فليس له حين النشور نشور • ويكفي الإنسان شرفا وكرامة أنه بالعلم يكتسب اسما من أسماء الله تعالى القديمة وهو اسم العالم فإن من أمهات الأسماء والصفات الأزلية القديمة لله تعالى العلم والله سبحانه وتعالى عالم وعليم وعلام وهو أن الاسمان صيغتا مبالغة قال أبو القاسم القشيري رحمه الله أسماء الله تعالى توقيفية فلا يسمى إلا بما ورد به الكتاب والسنة • وانعقد عليه اجماع الأمة • وقد وردت هذه الأسماء فأطلقت عليه ولا يقال في صفته تعالى عارف ولا فطن ولا داري ولا فقيه ولا فهم • فمن أذن من تحقق أنه عالم أن يكتفي بعلمه عند جريان قضائه وحكمه • ساكنا عند حلول تقديره عن تصرفه في أمور نفسه وتدبيره • كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام حين قال له جبريل7 عليه السلام سل الله حاجتك حسبي من سؤالي علمه بحالي رأيت في بعض التواريخ ببلاد الترك أن عالما في بلد تسمى تنكي تلاس هي عن سمرقند إلى جهة الحطا نحو من خمسة وعشرين يوما كان رجل من فوارس المسلمين اسمه قرا وكان قد انكى في مشركي الترك والتتار فاتفق أنه استشهد في بعض المواقف ففي بعض الليالي رآه واحد من الصلحاء في النوم وهو يقول له إن الكفار قد عزموا على قتالكم واستئصالكم فخذوا حذركم منهم فقال له الرأي ربما لا يصدقني الناس به في هذه الرؤيا فما علامة صدقي عندهم قال أن يحضروا إلى بيتي ويسمعوا كلامي من الزاوية الفانية فلما انتبه أعلم الناس فحضروا إلى بيت قرا الشهيد وسمعوا هذا الكلام منه الكبير والصغير • والمأمور والأمير ثم قال لهم إن لازمتم هذا الدعاء فإن الله يكشف عنكم شرهم • ويكفيكم أمرهم • فقالو وما هو • قال لازموا قولكم • اللهم كفى علمك عن المقال • وكفى كرمك عن السؤال • قال فلان سوء الناس هذا الدعاء فكف الله عنهم عدوهم وكفاهم أمره ومن أدب من تحقق علمه تعالى بحاله وأنه مطلع على سرائر الضمائر
24ظ
ووساوس الهواجس • وخفيات الخواطر • أن يستحي منه • ويكف عن معاصيه • ولا يغتر بجميل ستره • بل يخشى بغتات قهره • ومفاجأة مكره • قال الله تعالى يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضي من القول وفي بعض الكتب السماوية إن لم تعلموا أني أراكم فالخلل في إيمانكم • وإن علمتم أني أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم ومن أدب من اتقن بعلمه سبحانه وتعالى أن يكتفي بتدبيره • ولا يرفع إلى مخلوق حاجة • ولا يسكن إلى أحد سواه • فإن سكن إلى أحد غيره عوقب في الحال إن كان له عنده قدر • كما حكي عن إبراهيم الخواص رضي الله عنه قال كنت بالبادية فتهت فسمعت نباح كلب من بعيد فأصغيت إليه وقلت في نفسي لا يكون هذا إلا في عمارة فتبعت الصوت طالبا له فلم ألبث حتى أصابتني صفعة من ورائي ولم أر أحدا فبكيت وقلت يا رب هذا جزاء من توكل عليك فهتف بي هاتف ما دمت في خفارتنا كنت عزيزا فلما دخلت في خفارة الكلب صفعت ولكن هذا رأس من صفعك وذا برأس بين يدي مقطوعا • وحكي عنه أيضا قال كنت جائعا فوصلت إلى الري فخطر ببالي أن لي بها معارف سيضيفوني فلما دخلتها رأيت منكرا فنهيت عنه فضربوني فقلت في نفسي من أين أصابني هذا بجوعي ونهيي عن المنكر فنوديت في سري أصابك بسكونك إلى مضيفيك في طلب الرزق • ونقل عن بعضهم قال كنت جائعا فقلت لبعض معاوني إني جائع فلم يطعمني شيئا فمضيت فوجدت في الطريق درهما فأخذته فإذا عليه مكتوب أما كان الله تعالى عالما بجوعك حتى طلبت من غيره وحكي عن أبي سعيد الجزار رحمه الله قال خرجت من البادية إلى الكوفة وأنا جائع وكان لي فيها صديق يقال له الجرادي وكان يضيفني لو أدخلت الكوفة فقصدت حانوته فلم أجده فدخلت مسجدا بقرب حانوته انتظره وقلت بسم الله الرحمن الرحيم • والحمد لله رب العالمين • وسلام علينا وعلى عباده المتوكلين •
25و
وقعدت منتظرا فدخل داخل فقال الحمد لله رب العالمين • سبحان من أخلى الأرض من عباده المتوكلين • وسلام علينا وعلى جميع الكذابين • يا أبا سعيد يا مدعيا التوكل، التوكل يكون في الصحاري والبراري • ليس التوكل الجلوس على البوادي • لانتظار الجرادي قال فالتفت فلم أر أحدا • وهكذا سنة الله تعالى مع خواص أحبابه والمصطفين من عباده لا يشاء ضلهم في خطره • ولا يتجاوز عنهم في لحظه • بل يطالبهم بالصغير والكبير ويضايقهم على النقير والقطمير • وما أحلى عتاب الله تعالى مع أوليائه • لان العتاب أنما يكون بين الأحباب • وقيل شعر • • إذا ذهب العتاب فليس ود • ويبقى الود ما بقي العتاب • وعلى هذا قيل حساب أمة الحبيب حساب عتاب لا حساب عقاب لأن من نوقش الحساب عذب • وقد ورد في الحديث الصحيح أن الله تعالى يدين عبده • ويقرره بذنوبه • فيقول ما عملت كذا وكذا فيقول نعم • ويقول له عملت كذا وكذا فيقول نعم • حتى إذا اتفق له هالك • قال له سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفره لك اليوم وإذا أراد الأمر بين الستر في الدنيا والغفر في الأخرة فهل بقي شيء سوى العتاب • والعتاب إنما هو من الأجناب وأما الأعداء فيقال لهم أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون الآية وإذا سئلوا فيقال لهم مالكم لا تبصرون سؤال توبيخ وتضريع فلا خلاق لهم في الأخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وإن قيل في حقهم شيء • قال سبحانه وتعالى فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا • سئل إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه عن الصوفي إذا جاع يوما ماذا يعمل قال جوع يوم ليس بجوع قيل فيومين قال ولا جوع يومين بجوع قيل فثلاثة أيام قال يصبر قيل ثم ماذا يفعل قال يصبر قيل فإن مات قال ديته على قاتله أليس كان عالما بحاله فإن شكاه فقد استحق العتاب • قال الشاعر •
25 ظ
• وإذا عرتك مصيبة فاصبر لها • صبر الكريم فأنه بك أعلم • • وإذا شكوت إلى بن آدم إنما • تشكوا الرحيم إلى الذي لا يرحم • وسر هذا المقام أن المحب إذا علم من محبوبه أنه عالم بحاله ومطلع على أحواله باطنا وظاهرا بل المملوك إذا علم من مالكه ذلك وقد أنهي إليه مالكه أنه يتصرف في ملكه كيف ما اختار وأنه لا يسأل عما يفعل • ثم ادعى أنه مكثف بعمله • وملق زمام تدبيره ورضاه إلى يد تقديره • وقال له شعر • • وكلت إلى المحبوب أمري كله • فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا • ثم التفت إلى غيره • ودفع حوائجه إلى ما سواه • هل يكون صادقا في دعواه أم لا فهل يستحق العتاب من محبوبه • والعقاب من مالكه أم لا • وهذا مقام عزيز • ومكان شريف • مبناه على الرسوخ في العلم • وثبات القدم في تحقيق المعرفة ولا يكاد يصل إليه إلا خواص العلماء • وأعلام الأولياء • والمقربون من الحضرة الإلهية والمتألهون في المشاهدات القدسية • والجائلون بأجنحة البابهم في الحظيرة الملكوتية • وأما الذين رتبتهم خسيسة • وقيمتهم رذيلة قليله • فلا اعتبار بهم ولا يعيا الله تعالى بأمورهم • فهم بإمهاله مغترون • ومن غفلاتهم منهمكون • إلى أن يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون • كما قال الله تعالى قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون واعلم ان أشد الناس احتياجا إلى العلم الملوك والسلاطين ومن تقلد أمور عباد الله تعالى لأن الإنسان كلما كثرت عائلته واحتياج الناس إليه كان همه وهمته • وتوزع خاطره • واشتغال فكره • بعمل مصالحهم أكثر من غيره ولا شك أن جميع الرعايا وعامة الخلق وخاصتهم هم عائلة السلطان ومحتاجون إلى وفده • وضمهم تحت جناح عدله ومرحمته • ويفتقرون إلى صونه إياهم أن يتخطفهم أعداؤهم • وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام كلكم راع وكلكم
26ر
مسيؤل8 عن رعيته • فالإمام راع هو مسيؤل عن رعيته • فبحسب ذلك يحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به وهو اعلم الذي به قوام العالم • وكما أن السلطان هو خليفة الله في أرضه • ونائب رسله • في تدبير مصالح عباده • كذلك العملاء هم ورثة أنبيائه في إقامة شرائعهم • والملوك هم سياج الدنيا على عباد الله تعالى • والعلماء هم سياج الدين على خلق الله • فإذا كان السلطان عالما فهو نور على نور لأنه قد جمع بين أساسي السياسة والشريعة • وإن لم يكن لولي الأمر علم فإنه لا يقدر أن يعرف مقادير الناس ولا ينزل الناس منازلهم • ولهذا قيل ينبغي أن يكون عقل السلطان موازنا لعقول جميع الخلق لأن كل واحد من الناس صغير أو كبير محتاج إلى السلطان ومستمطر نواله ومراحمه وهو آنيا محتاج إلى معرفة قدر استحقاق كل منهم لينزله منزلته لا يتعدى بالوضيع طوره علوا • ولا يبخس الرفيع قدره تنزلا • عملا بقوله انزلوا الناس منازلهم • وقوله عليه الصلاة والسلام خاطبوا الناس على قدر عقولهم غير أن العقل يدرك به الكليات • والعلم يفصل به القضايا الجزئيات • والحاكم يحتاج مع هذا كله إلى فضل الحكومات • وخلاص الحقوق • وفصل المظلوم عن الظالم • فلو لم يكن له علم يستعين به على ذلك وتفرق به بين المحق والمبطل لا يتهيأ له ذلك وإذا كانت المخاطبة على قدر العقول واجبة وهي قولي فتنزيل الناس منازلهم على قدر مراتبهم واستحقاقهم أولى إذ هي فعل • وإذا لم يتهيأ لولي الأمر العلم فينبغي أن يكون صحبته مع العلماء • ويستعين بهم في فصل الحكومات • وإجراء أوامر الله تعالى على ما يقتضيه الشرع الشريف • قال الله تعالى فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون • وقال تعالى ولا ينبيك مثل خبير وكان القراء أهل مجلس عمر رضي الله عنه شيوخا كانوا أو شبانا • وإذا اجتمع في السلطان والملك العلم والدين وصحبة العلماء والإحسان إليهم في الغاية القصوى الجامعة لسعادة الدارين
26ظ
وخاصة إذا كانت العلماء فيهم المعون الناصح • والبطانة الصالحة • والمشيد الشفوق • والصديق الصدوق • الذي لا يأخذه في الله لومة لائم • كان الشيخ الإمام أبو سعيد ابن أبي الخير له كرامات مذكورة • وأخبار مشهورة • وكانت قد انتهت إليه الرئاسة في العلم والعمل ببلده ملازم • ويقصده السائح من الطريق والأقاليم • وكان يتردد إلى أبواب السلطان • ويحضر ديوان المظالم وغيره من الحكومات • ويتعاطى الكلام فيها وعقدها وحلها • ففي بعض الأيام قصده صور من بلاد شاحطة لما بلغه عنه من الزهد والعلم والعمل فلما قدم صور قصد داره فرأه راكبا في كبكبة عظيمة متوجها إلى ديوان المظالم فلام نفسه على مجيئه من بلاده وأنكر عليه غاية الانكار وهم بالرجوع لكن تضبط وقال قد جئت لأمر لابد من انهائه إلى أخره فلم يجد بدأ من أنه تبعد إلى الديوان فلما بلغوا إليه وإذا برجل حكم بقطع يده على أنه سرق والجلاد معه فسأل الشيخ أبو سعيد عن حاله ورفعه أن يرجئ أمره فانحلت القضية عن أنه كان بريء الساحة فتخلص من قطع اليد ثم التفت إلى الصوفي وقال لمثل هذه لازمنا أبواب السلاطين فعلم ذلك الرجل مقدار الشيخ ولازمه واستفاد منه غرضه • ومن هذه الحكاية يعلم أنه لا ينبغي أن يعترض على أحوال المشايخ وأهل العلم بل يحمل أفعالهم وحركاتهم من أفعالهم مهما أمكن على غرض صحيح ويطلب لهم وجه حسن مهما استطاع فإن لم يجد الطالب لذلك سبيلا فنسب الغي إلى نفسه • مثل ما منح الله الإسلام والمسلمين بمولانا السلطان خلد الله سلطانه الذي جمع بين الدين والعلم والميل إلى صحبة الأخيار والأبرار من العلماء والصلحاء وأهل الدين والخير والسداد والبر والإحسان إليهم وأمرهم بملازمة المواقف الشريفة ليلا ونهارا والاصغاء إلى ما يقولون ويرشدون إليه من مناهج الخير والصلاح والاستفسار والتفحص عن من يستحق توليه المناصب الدينية من أهل العلم أهل الدين والعفة والصلاح
27 و
والمعرفة بأحكام الشرع الشريف ليوليها إياهم ويرتب لهم الإقطاعات والادرارات والجوامك كوظيفة القضاء والتعاريش والأنظار على الأوقاف • والجوامك وشتان بين من لا يؤل وظيفة من الوظائف وخصوصا وظيفة القضاء حتى يعرضها للبيع وكل من أعطي أكثر ولاه ولا يلتفت إلى علم ولا عمل • وبين من يولي الوظائف • ويعطي عليها الإقطاعات والجوامك والادرارات ليصون بذلك أموال المسلمين ودينهم • وهذا معنى ما قلت أن مولانا السلطان عمر الله دنياه • وجعل أخراه خيرا من أولاه • عم الدنيا والأخرة في أقل مدة • فأشرقت بولايته الممالك الإسلامية • ومن جملة ذلك أن بلغ المسامع الشريفة عن سيدنا ومولانا الشيخ الإمام العلامة • فريد الدهر • وحيد العصر • علامة العلماء • بقية السلف الكرام الصلحاء • برهان الملة والدين بن أبي عون الشافعي عظمه الله تعالى • وما هو منطو عليه من الديانة والعفة والعلم والعمل فأحب أن يسأل صدقاته الشريفة • بحيث تتعدى بركته ونفعه إلى الإسلام والمسلمين ويحرروا ذلك في الصحائف الشريفة • وعد ذلك من أفضل إثباته عند الله • وسر عزته • أن يقبل وظيفة قضاء الشافعية بتدريس المدرسة فلم يقبل سيدنا الشيخ برهان الدين المشار إليه ذلك فدخل عليه نائب الشام والمرحوم السيد محمد بن السيد محمد بن يشبك فلم يقبل ذلك ولا خطر بباله وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى • وهذه الشيمة الشريفة لم تتجدد وإنما كانت من قديم الزمان وبعد الحدثان ومن حالة الصبا وعنفوان الشباب • ومن نكت اطلاعه على العلم واستحضاره لمتن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما جرى في مجلسه الشريف وهي أن شخصا يدعى الشيخ علاي9 الدين بن الدواليبي من أهل بغداد حضر مجلسه الشريف وأورد بالمناسبة قوله صلى الله عليه وسلم سبعة يظلهم الله الحديث إلى أن قال ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال إلى نفسها فقال إني أخاف الله فلما خرج الشيخ
27ظ
علاء الدين المذكور جرى ذكر هذا الحديث المنيف فقال مولانا السلطان لمن حضر أن الشيخ علاء الدين قال دعته امرأة ذات حسب والذي سمعناه ونستحضره إنما دعته امرأة ذات منصب ثم أنه نهض بنفسه الشريفة إلى خزانة الكتب وأخرج كتابا وناوله بعض من حضر وقال له افتح في المكان الفلاني فإنه في وسط الصفحة اليمين منه فكان كذلك • وإنما لم يذكر مولانا السلطان هذا الحديث بحضور الشيخ علاء الدين الدواليبي لئلا يستحي فذكره بعد أن خرج من بين يديه الشريفة فانظر إلى هذه الحشمة الملوكية • والشفقة التامة • وحفظ خواطر الناس • لئلا يخجلوا فأسأل الله تعالى أن لا يخجله يوم العرض بين يديه • وأيضا فانه لم يجر في خاطرته الشريفة مسألة فقهيه أو مفيدة إلا وكان له فيها يد ودراية ومشاركة بديعة • هذا الذي شاهدته مذ كنت ملازما الحضرة الشريفة واحدي قاضي القضاة سراج الدين الحمصي الشافعي قاضي قضاة الشام يوم الإثنين جاء من عرب صيديقة أبو رايق • قال كان مولانا السلطان خلد الله سلطانه يوما راكبا وحده في حارة من حوان فرأى بياعا ينادي ما يفعل الله إلا خير فدعاه وقال له لا تقل هكذا وقل كل ما تراه من الله انظر إلى هذا السطر الدقيق الذي لا يكاد يدركه فحول العلماء ومدققوا النظر في علم الكلام من الفضلاء والأذكياء إذ في قوله ما يفعل الله إلا خير دسيسة من مذهب الاعتزال حيث قصروا فعل الله تعالى على الخير ولم يعدوه إلى خلافة واستعملوا فيه أداة الحصر وحصروه والأوفر ما رسم به مولانا السلطان إشارة إلى مذهب أهل السنة والجماعة وهو الحق وهو أن الخير والشر بينه فقال وبإرادته وهو مأخوذ من قوله تعالى قل كل من عند الله لعمري أن كثيرا من مستعدي الفتها لا يدركون معنى الكلامين إلا بعد تقرير شاف وتحرير واف وكد القريحة وإمعان النظر ولم أر في ملوك العرب والعجم أكثر محبة من مولانا السلطان للعلم
28و
الشريف والعلماء ولا أحسن ميلانه إليهم • ولا أوفر عطاء لهم • ولا أكثر إعظاما للعلم وأهله منه مع الرعية التامة إليهم • والاصغاء لمباحثهم • واستجلاب خواطرهم ودعائهم بأنواع البر والإحسان والمرء مع من أحب • ولقد أذكرتني هذه الحكاية ما وقع بين أبي الفتح ملكشاه بن البر ارسلان وبين وزيره نظام الملك صاحب المدرسة النظامية ببغداد وهي أن ملك شاه كانت قد اتسعت مملكته بحيث ملك أقصى من بلاد ما وراء النهر إلى القدس الشريف • وما بينهما من بلاد العرب والعجم والترك واتفق أن الوزير نظام الملك أبا علي الحسن بن علي كان وزيره فتمكن في الملك حتى لم يبق لأبي الفتح ملكشاه سوى التخت والصيد فقط وذلك لاعتماده على كفاية نظام الملك ودينه وحسن تدبيره • وكان قبل أبي الفتح وزرلابيه الب أرسلان وكان قد وصى نظام الملك بابنه وضمه إليه وكان يدعوه أبا ونظام الملك يدعو ملكشاه أبنا فلما تمكن نظام الملك من الممالك وثبتت قدمه وطالت يده في الأمر والنهي شرع في الإحسان إلى العلماء • والفضلاء • والفقراء • والصلحاء • والأرامل والأيتام بحيث أن بره ومعروفه كان قد عم كل من مملكته • ومن هو معدود من تحت ولايته من بلاد العرب والعجم • وحضر هذه الطوائف المذكورون كما هو دأب مولانا السلطان خلد الله معدلته • وكأنه كان آلي على نفسه أن لا يمنع أحد من رفدة وجوده • وامتد زمان ذلك كالقيد في المكان فضبط ما كان يعرف إلى هؤلاء في كل سنة فوجد نحوا من ستمائة ألف دينار فوشي به إلى أبي الفتح فتغير عليه ثم دعاه وقد أضمر له سوءا وقال له يا أبت بلغني أنك تخرج من بيت الملا في كل سنة نحوا من ستمائة ألف دينار لمن لا ينفعنا ولا يصل إلينا منه كبير فائدة لو فرق هذا المبلغ على الجند والعساكر التي هي حاميتنا وبها تندفع الأعداء • وتستجلب الادراء • لركزت رايتنا في سور قسطنطينية
28ظ
فبكي نظام الملك وقال يا ابني أنا شيخ كبير أعجمي لو نودي علي في مظان الرغبات في لم اساو خمسة دنانير وأنت غلام تركي لو نودي عليك لعلك لا تصل إلى ثلاثين دينارا وقد ملكك الله تعالى في أحسن بلاد المسلمين • وحكمك في رقابهم وأموالهم • وأقامني أنا في خدمتك • وجعلني أنا واسطة بينك وبين عباده • وأنت مشغول بلذاتك منهمك في شهواتك • لا يصعد إلى اشتعالي منك غير المعاصي • وجيوشك الذين تعدهم النوائب • ونزول للصائب • إذا احتشد والدفع ما يهمك • وكشف ما يقصدك • إنما يكافحون عنك بسيف طوله ذراعان • وقوس مدي مرماه ثلثمائة10 ذراع • مع ما هم عليه من ارتكاب المعاصي • واستغرقهم في أنواع الملاذ من الخمور والملاهي • وانهماكهم في كبائر الذنوب • وربما لا يفيدك مكافحتهم شيئا • ولا يغني عنك مدافعتهم ومقاتلتهم • ولما كان لك ولأبيك من قبلك علي حق لابد من القيام بموجبه أقمت لك جيشا لا تطيش مهامهم • ولا نبوا سيوفهم • يسمون جيش الليل إذا نامت جيوشك • واستغرقوا من غفلاتهم • واشتغلوا بلذاتهم وشهواتهم • قامت الجيوش التي أقمتها لك جيوشا صفوفا على إقدامهم • بين يدي ربهم فأرسلوا دموعهم وأطلقوا بالدعاء لك ولجيوشك ألسنتهم • ورفعوا إلى الله تعالى أكفهم • ومدوا أيديهم بالتضرع والتذلل • وأعين بالنصر لك ولجيوشك • فأنت وجيوشك في خفارتهم تعيشون • وبدعائهم تثبتون • وببركاتهم تمطرون وترزقون وبوجودهم تنصرون تخرق سهامهم الحجب إلى السماء السابعة • وسيوف أدعيتهم في رقاب من يدعون عليه قاطعه فبكى أبو الفتح بكاء شديدا ثم قال شاباش شاباش يا أبت أكثر لي من هذا الجيش • وهذا الجيش بعينه هو الجند الذي اتخذه مولانا السلطان خلد الله سلطانه • لدفع النوائب • وحصول المآرب • فإنه لم يعهد أنه قصد المقام الشريف وافدا لا من العرب ولا من العجم عامة وخاصة العلماء
29و
والفقراء والصلحاء إلا وأولاه من صدقاته البالغة • ونعمه السابغة • ما يستدعي الدعاء لدولته الشريفة بالخلود • ودوام بقائها • ونصر أوليائها • وكسر أعدائها • ولا شك في أن الله عز وجل استجاب ذلك لأن منهم المضطر والمحتاج • والمسافر • والغريب • والصالح • وكل هؤلاء دعاؤهم مستجاب • بالنصوص القاطعة • بأخبار من لا خلاف في أخباره • ولله الحمد والمنة • أخبرنا الشيخ شمس الدين محمد بن الجزري رحمه الله بسنده في كتابه المسمى بالحصن الحصين • في كلام سيد المرسلين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يرد القضاء إلا الدعاء • ولا يزيد في العمر إلا البر • وقال فيه أيضا ما سعد الأمن سعد بالدعاء • ولا شقي من تشقى إلا بالدعاء • ونظام الملك المذكور هو أول من أنشأ المدارس وهو صاحب مدرسة النظامية ببغداد • وكان ورد عليه شخص صوفي يدعى أبا سعيد الصوفي وحسن له بناء مكان لأجل العلماء يلقي فيه الدروس فولاه عمل ذلك فبنى المدرسة المذكورة ورفع إليه حساب كلفتها ستين ألف دينار وكتب على بابها القاب نظام الملك واسمه فكتب أصحاب ديوان نظام الملك إليه وهو بأصبهان أن أبا سعيد لم يخرج مصروف المدرسة المذكورة سوى تسعة عشر ألف دينار لا غير فطلبه فلما عرف أبو سعيد لماذا يطلبه توجه إلى أحد الأكابر ببغداد لا يحضرني اسمه وقال له إني بنيت مدرسة باسم الوزير نظام الملك وإن ذكره يخلد بها إلى يوم القيامة فإن كان لك رغبة في تخليد ذكرك فأعطني ستين ألف دينار وأنا امحوا اسمه من طرازها وأثبت اسمك فرضي بذلك وأمره أن ينفذ إليه من يأخذ المال فلما استوثق منه رحل إلى أصفهان ودخل على نظام الملك فقال له إنك لم تصرف في عمارة المدرسة سوى تسعة عشر ألف دينار فقط وإلا فأقم حساب مصروفها فقال لا تطل الكلام إن شئت ليبرز مرسومك
29ظ
بتسلم الستين ألف دينار وامحوا اسمك من المدرسة المذكورة فقال بل رضيت بما صنعت ولا تهدم ما بنيناه • ولا تبطل ما عملناه • وسلم إليه ما فعله • وأبقى اسمه بالمدرسة المذكورة • ثم إن أبا سعيد المذكور • صرف الزائد من المال في عمل مساجد ورباطات وأماكن كلها مرصدة للخير • وكانت باقية إلى أخر وقت رحمهم الله تعالى • وحاصل ما ذكرنا أن الإنسان ينبغي أن يكون عالما أو متعلما • أو محبا للعلماء محسنا إليهم • فإن المرء مع من أحب • وهذه الأوصاف السعيدة هي التي اتخذها مولانا السلطان خلد الله سلطانه دابا ودينا • فالله تعالى يحوطه بالعلم الشريف ويجعله قائدا له إلى سعادة الدارين بمنه وفضله • وأحلى ثمرات العلم التواضع فلا جرم أعقبنا فصل العلم بالحلم الذي هو أفضل ثمراته • • فصل في التواضع • قال الله تعالى هو أصدق القائلين مخاطبا نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين • وقال تعالى ولا تصغر خدك للناس ولا تمشي في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور • وعن سنان بن سعد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى أوصى إلي أن تواضعوا ولا يبغي بعضكم على بعض • وقال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني قال على البر والتقوى والرهبة وذلة النفس وقال من تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيب دعوة الحر والعبد • ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن • أو فخذ أرنب • ويكافئ ويأكلها ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين • وسئل الجنيد رضي الله عن عن التواضع فقال خفض الجناح ولين الجانب • وسئل الفضل رضي الله عنه عن التواضع فقال تخضع للحق وتنقاد له وتقبله ممن قاله وتسمع منه وقال
30و
وهب بن منبه رضي الله عنه مكتوب في كتب الله أني أخرجت الذر من صلب آدم فلم أجد قلبا أشد تواضعا من قلب موسى فلذلك اصطفيته فكلمته • وقال أبو حفص من أحب أن يتواضع قلبه فليصحب الصالحين • وليلتزم بحرمتهم • فمن شدة تواضعهم في أنفسهم • يقتدي بهم ولا يتكبر • وقال لقمان عليه السلام لكل شيء مطية ومطية العلم التواضع • وقال يحيى بن معاذ رضي الله عنه التواضع حسن ومن الأغنياء أحسن وقال عبد الملك بن مروان أفضل الناس من تواضع عن رفعه • وزهد عن قدرة وأنصف عن قوة • وقال بعض الحكماء التواضع مع الشرف أشرف من الشرف وقيل البخل والجهل مع التواضع خير من السخاء والعلم مع التكبر • وقال ابن عباس رضي الله عنهما سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول شعر • إذا أردت شريف الناس كلهم • فانظر إلى ملك في زي مسكين • • ذاك الذي حسنت في الناس رأفته • وذاك يصلح للدنيا وللدين • هذه صفات مولانا السلطان خلد الله تعالى سلطانه • رأيت في الكتاب المسمى بجامع الحكايات • ولامع الروايات • أن السلطان إسماعيل الساماني متولي نجارا وممالك ما وراء النهر استأذن عليه عالم من علماء زمانه فأذن له فلما دخل عليه قام له ثم استقبله حافيا ومشى لاستقباله سبع خطوات ثم أجلسه معه على منصته • وأصغى إلى كلامه • وعظمه تعظيما بالغا • يليق بحشمته وسلطانه وقضى حوائجه • فلما قام ذلك العالم نهض السلطان إسماعيل معه وشيعه كذلك مقدار سبع خطوات كما فعل أولا • وكان أخوه إسحاق الساماني حاضرا فلما خلا المجلس قال له يا أخي لقد أوهنت ناموس الملك ووضعت من جانبه قال بماذا قال بما فعلت مع هذا الفقيه حيث بالغت في تعظيمه ومشيت قدامه • ثم شيعته كذلك وحشمة الملك والسلطنة تقتضي الوقار والسكون وعدم الاكتراث بالناس فإذا فعلت
30ظ
هذا مع واحد من أحاد الفقهاء فقد أضعت حشمة الملك فقال إسماعيل يا أخي إن عزة تزول بتعظيم العلم والعلماء • وملك يحصل الوهن فيه • وكسر الناموس بإكرام ورثة الأنبياء لجدير أن لا يكون • وحقيق أن يذل ويهون • أنا ما عظمت هذا الرجل وإنما عظمت العلم الذي شرفه الله تعالى به • فلما نام السلطان إسماعيل تلك الليلة رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستبشر فقال له يا إسماعيل أكرمت عالما من علماء أمتي ومشيت معه سبع خطوات • فيملك من ولدك بعدك سبعه بنين • ويكون الملك في ذريتك إلى سابع ولدك • وأما أخوك إسحاق فليس له في الملك نصيب وكذا كان كل هذا من بركة التواضع وهذا باب واسع • ويلزم من التواضع الشفقة والحنو • والبذل • والسخاء • والرضى • والعدل • واتباع الحق • والحياء • وغالب الصفات المحمودة • وهذه الصفات السعيدة قد صارت كلها ملكة لمولانا السلطان خلد الله تعالى أيامه الزاهرة • وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة وهذا لا يحتاج إلى دليل فإن الصبح لا يخفى على ذي عينين • وأما تواضعه وقربه من الناس فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت الكلام بين يديه • ورفع الحوائج إلى مسامعه الشريفة أهون وأيسر من تعاطي ذلك من أدنى ذو آذان ومباشر عند أحد من حواشيه وهذا ليس لواحد من الناس مخصوصا بل القريب والغريب • والصغير والكبير في ذلك سواء • وما أشبهه إلا بالشمس إلى نورها • يعم السهل والجبل والبر والبحر • ويصل إلى المشرق • والمغرب • والبحر العذب الذي يغترف به كل أحد كما يختار صافيا غير مكدر • ومن تأمل أوصافه السعيدة • وأفعاله الشريفة • وحنوه وشفقته على كافة الخلائق بعين البصيرة • ونظرها الاعتبار • يتعجب من لطيف صنع الله تعالى وكما احسانه • وفي الحال ينشد شعر •
31و
• ليس من الله بمستنكر • أن يجمع العالم في واحد وليس هذه الخلائق الشريفة • في ذاته المنيفة • على سبيل التكلف والتصنع • وإنما هو سجية وغريزة • وملكه ركيزة • وربما يلوم على ذلك جماعة من الأجلاف • وطائفة من الأجلاب • ومن لا يعرف دقائق المملكة • ودربة السياسة والرئاسة كإسحاق الساماني فيقول أن هيبة الملك • وحشمة السلطنة تقتضي الترفع عن الناس • والاحتجاب عن أبصار الخلائق وعدم الالتفات إليهم • فضلا عن الأذن لأفرادهم • والاجتماع بأحادهم • والانبساط إليهم • وهذا الكلام • والملام كان في مبادئ الأمر شائعا • وبين الأتراك ورؤساء الجند ذائعا • ولم يعلموا ان الفضل من الله يؤتيه من يشاء • وإن العزة لله تعالى • وذهلوا عن قوله تعالى قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء • وعن معنى قوله تعالى ألا تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا الآية • فكذلك أكان للناس عجبا أن يرفع عليهم واحدا متواضعا من خيارهم • ويملكه رقابهم • ثم ماذا عسى ينقصه التواضع • واتباع سنة رسوله عليه الصلاة والسلام من ناموس الملك وحشمة السلطنة • وإن الله سبحانه وتعالى لما ملك مولانا السلطان ورفع قدره صار أعلى من على وجه الأرض شرقا وغربا فإنه سلطان ملوك الأرض وملك سلاطين الأقاليم السبعة • وإن جميع ملوك الأرض من الجهات الست قد فرض عليهم أن يحجوا البيت الذي هو تحت حكمه • ويتوجهوا إلى مكة المشرفة وحرما • وإن يطوفوا ببيت الله تعالى الذي هو خادمه وحاكم على جهاته • وأنه لا يجوز لهم أن يدخلوا الحرم ولا يجاوزوا الميقات الذي هو تحت حكمه وجار تحت ولايته الشريفة • إلا حفاة عراة • حاسري الرؤس11 • شعثا • غبرا • تاركي الأوطان متدرعي الأكفان • محرما عليه صيد وحوشه • وقطع أشجاره • واختلاء خلاه • اعظاما 31ظ
له إلى غير ذلك مما فيه تعظيمه وإجلاله وهذا إذا قصوا طوافه وأداء فرض عمرهم والقرب منه وإذا كانوا في أقطار البلاد ونواحي الأفاق فإنه لا تقبل لهم الصلوة التي هي عماد دينهم • والفارقة بين المؤمن والكافر إلا أن يتوجهوا إليه ويضعوا جباههم على الأرض سجدا إلى نحوه وجهته كل يوم وليلة خمس مرات وهذا في حال حيوتهم وأما في حال الممات فلا غنى عن التوجه إلى شطره • والاضطجاع في القبور متوجهين إلى نحوه وهذا القدر من العزة والرفعة ونباهة الشأن • يكفي مولانا السلطان • ولم يسمعوا بمن مضى من الخلفاء الراشدين • ومن تابعهم من الملوك والسلاطين كيف كانت طريقتهم في شرائع السياسة • وكيف كان قربهم من الناس • في حنوهم وشفقتهم عليهم • وعاطفتهم على الضعيف والمسكين واليتيم • وكيف كانت معيشة أولئك وأن عمر رضي الله عنه لما قدم عليه الهرمزان أحد ملوك العجم وبلاد فارس كان عليه رقعة فيها أربعة عشر رقعة • ولما قدم بلاد الشام وتلقاه رؤس الجنود وكان قائد البعير بغلامه فإنها كانت نوبته أشاروا عليه أن يلبس شيئا يمتاز به بين العساكر • وأتوه بمركوب يركبه بين الناس تعظيما له فقال إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب العزة في غيره • ومن صفات عمر رضي الله عنه أنه كان عالما برعيته • عادلا في أقضيته • خاليا من الكبر • قبولا للعذر • سهل العجاب • مصون الباب • متحريا للصواب • رفيقا بالضعيف • غير مجاف للقوي ولا مبعد للقريب وقد قيل أفضل الملوك من كان شركة بين الرعايا لكل واحد منهم فيه قسط ليس أحد أحق به من أحد لا يطمع القوي في حيفه • ولا ييأس الضعيف من عدله • وقد قيل إن احتجاب السلطان عن الرعية شبيه بالموت لأن الميت محجوب لا ينتفع به وأيضا عند أصحاب السلطان تمتد أيدي الظلمة من حاشيته إلى الرعية وتنبسط إلى أموالهم ودمائهم • وأغراضهم الفاسدة • فإنهم قد آمنوا أن المظلوم لا يصل
32و
إلى السلطان • وإن لا يتمكن منه كما يريد وإن أوصل أحد خبره إلى السلطان • فإنها بين حاشيته قلما يبلغ ما يريد كما يريد • ويرى الحق في صورة الباطل • والباطل في صورة الحق وهذا لقوة الأسباب على حصور الفساد في الممالك • والخلد في أمور السلطنة • ومن تيقن معنى قوله صلى الله عليه وسلم كلكم راع ومحقق أنه مسؤول عن الرعية والنظر في أمرها ليرعاه الله تعالى يوم القيامة فكيف يهمل أمر عباد الله تعالى ويحتجب عنهم إذا وكل الله تعالى أمرهم إليه • واختاره على غيره في ذلك • فكيف هو معتهد على غيره • ووكل أمرهم إليه • وخاصة إذا كان ذلك الغير مائل إلى الأغراض الفاسدة • وعرض الدنيا • أو كان قليل الخبرة بمداراة الناس والقيام بمصالحهم • أو غير أهل لما وليه • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة • وفي الأمثال زوال الدول باصطناع السفل • وسئل بعض الملوك عن سبب زوال ملكه فقال شغلتنا آرائنا عن مهماتنا • ووثقنا بكفاتنا في القيام لحاجاتنا • فأشروا مصالحهم عليها • وظلم عمالنا رعيتنا • ففسدن نياتهم لنا • وتمنوا الراحة منا وقل أهل خراجنا فقل دخلنا • فضعف لذلك جندنا • وزالت طاعتهم لنا • وقصدنا عدونا • فقل ناصرنا • وكان أعظم ما خذلنا استتار هذه الأخبار عنا • وأعظم من ذلك الكبر • والإعجاب • والاحتجاب عن الناس • بالحجاب والبواب • ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كنت الأمة من آما المدينة تأخذ بيده فتطوف به على سكك المدينة حتى تقضي حاجتها • وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من بعده مشهورة • وأحولهم وفرائضهم مذكورة • وأعلام معائشهم ومعاملاتهم مع عباد الله تعالى والتودد إليهم • والقرب منهم على فنن الدهر منشورة • فالذي قد جاء بعدهم • وأطلع على حالهم وأفعالهم • ثم ولي أمور الناس وترفع عما كانوا عليه من جميل الخصال • وشريف الفعال • ولم يرض أن يعيش مثل ما عاشوا • فكأنه تنزه عن 32ظ
طريقهم وما ارتضى عقلهم فيما كانوا عليه وكأنه في نفسه هو أعقل منهم وأعرف بطرق الحشمة • وعن أبي سلمة رضي الله عنه قال قلت لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه ما تقول فيما أحدث الناس من الملبس والمطعم والمشرب والمركب قال يابن أخي كل لله • واشرب لله • والبس لله • وكل شيء من ذلك دخله زهود ومباهاة • أو رياء أو سمعة فهو معصية وسرف • وعالج في بيتك من الخدمة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج في بيته كان يعلف الناصح • ويعقل البعير • ويقم البيت • ويجلب الشاة • ويخصف النعل • ويرقع الثوب • ويشتري الشيء من السوق • فلا يمنعه الحياء أن يعلقه بيده • أو يجعله في طرف ثوبه فينقلب إلى أهله • يصافح الغني والفقير • والصغير والكبير • ويسلم مبتديا على كل من استقبله • من صغير أو كبير أسود أو أحمر • حر أو عبد من أهل الصلوة • ليس له حلة لمدخله • وحلة لمخرجه • لا يستحي أن يجيب إذا دعي وإن كان أشعث أغبر • ولا يحقر ما دعي إليه • وإن لم يجد إلا حشف الدقل • لا يرفع غداء لعشاء • ولا عشاء لغداء • هين المؤنة • لين الخلق • كريم الطبيعة • جميل المعاشرة • طلق الوجه • بسام من غير ضحك • حزون من غير عبوس • شديد من غير عنف • متواضع من غير مذلة • جواد من غير سرف • رحيم لكل ذي قربي ومسلم • رقيق القلب • دائم الأطراق • لم يتسم قط من شبع • ولم يمد يده قط إلى طمع • قال أبو سلمة فدخلت على عائشة رضي الله عنها فأخبرتها بحديث أبي سعيد فقالت ما أخطأ له حرفا • ولقد قصر أدبا أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمثل سبعا قط ولم يبث إلى أحد شكوي • وكانت الفاقة أحب إليه من اليسار والغني وإن كان ليظل جائعا يلتوي ليلته حتى يصبح فما يمنعه ذلك عن صيام يومه ولو شاء أن يسأل ربه فيؤتيه بكنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها من مشارقها ومغاربها لفعل • وربما بكيت رحة له مما أوتي من الجوع فامسح بطنه بيدي فأقول نفسي لك
33و
الفداء • لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك ويمنعك من الجوع • فقال يا عائشة إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم • فقدموا • على ربهم فأكرم ما بهم • وأجزل ثوابهم • فاحذر أن ترقيت في معيشتي أن يقصر بي دونهم فأصبر أياما يسيرة أحب إلى من أن ينقص إذا خطي في الآخرة • وما من شيء أحب إلي من اللحوق بإخواني وأخلاني • قالت عائشة رضي الله عنها فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله تعالى • وما نقل من أحواله صلى الله عليه وسلم بجمع جملته أخلاق المتواضعين • فمن طلب التواضع فليقتد به • ومن رأى نفسه فوق محله صلى الله عليه وسلم • ولم يرض لنفسه بما رضي هو به فما اشد جهله • فلقد كان أعظم خلق الله تعالى منصبا في الدنيا والدين • فلا عزة ولا رفعة ولا سلطنة ولا شرف إلى في الاقتداء به صلى الله عليه وسلم • قال الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحييكم الله ويغفر لكم ذنوبكم • وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم فيرى اختلاف كثيرا • فعليكم بسنتي • وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي • عضوا عليها بالنواجذ • وإياكم ومحدثات الأمور فإنا كل بدعة ضلالة • ولا شك أن غالب ما يفعله ملوك هذا الزمان بدع • لكن الملوك التي سلفت لما لم يقدروا على ما يفعله مولانا السلطان خلد الله ملكه من الأفعال الموافقة للكتاب والسنة واتباع أثار السلف الصالح • لأنها كالجمع بين المتناقضين • احتجبوا عن الخلائق وترفعوا عن الناس • وفعلوا ما لا حاجة إلى ذكره • وتصوروا أن عزة الملك وحشمة السلطنة هو عين ذلك واشتهرت تلك عادة وديدنا • فلو اتفق أن جماعة من الفقراء أو غيرهم كانوا مسافرين ودخل وقت الصلوة فول واحد منهم أذن ونوب للصلوة ربما استسمح بعضهم فضلا عن الأجناد والأمراء ولو شرعوا في أطراف الكلام أو غيبة
33ظ
أحد فنهاهم واحد منهم لحسن يصعب على بعضهم وهذا أمر مشاهد يلذ بما تفوه بعضهم بشيء من الكلام نحو تتصوف علينا أو هذا درب لا ينقضي إلا بلطائف أو بالأخذ في نتف الكلام ونحوه • ومولانا السلطان يريد أن يحي رسوم الخلفاء الراشدين • ويتبع سنة سيد المرسلين • والله سبحانه وتعالى يقول يأيها الذين أمنوا أن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم • ولقد كنت يوما بحضرته الشريفة فدخل عليه واحد من خواصه وثوبه يرفل فقال له مولانا السلطان خلد الله ملكه • وأجرى في بحر السعادة والبقاء فلكه • لم تصنعون ثيابكم بحيث انه تصل إلى النجاسة وفيه عدة من المحذور • أولا إنه إسراف والله لا يحب المسرفين • وثانيا أنه يتنجس ويترتب عليه عدم جوز الصلوة والله يحب المتطهرين • وثالثا إنه يلجئ الإنسان إلى أن يشتغل دائما برفع ثيابه وضم أذياله • ورابعا إنه لا يستطيع من المشي فإنه يعثر في أذياله وخامسا إنه يسرع إليه الحك والتقطيع • ثم إنه رفقة الله تعالى لمرضاته • ورفع في الدارين درجاته • برز من سومه الشريف أنه إذا أفضل له قماش أن يكون من فوق الكعب • فانظر أيها المتأمل بين هذا القول الذي رسم به مولانا السلطان وبين ما قاله أمير المؤمنين على كرم الله وجهه قصر ثوبك فإنه أتقى • وأنقى • وأبقى • فرق وهل هذان الكلامان الأخارجان من مشكاة قوله تعالى وثيابك فطهر أي فقصر على بعض التفاسير • وإذا راعى إنسان رضي الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جزئية لا يلتفت إليها غالب العلماء العاملين فكيف يكون مراعاة لما فوقها • فلو حلف حالف أن مولانا السلطان أدام الله تعالى أيامه • ورفع على قمم الأعداء أعلامه • من كبار الأولياء لم يحنث • قيل إن الله تعالى أخفى ثلثا في ثلاث أخفى رضاه في طاعته • وأخفى سخطه في معصيته • وأخفي أولياه في خلقه • فلا تحقرن شيئا من الطاعة
34و
فلعل أن يكون رضي الله تعالى فيها • ولا تحقرن أحدا من الخلق • فلعل أن يكون وليا لله تعالى من بركة التواضع ما روى أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن يأتي الجبل ليكلمه فتطاول كل جبل طمعا في كونه محلا للمناجاة • وتصاغر طور سينا فكلمه الله تعالى عليه لتواضعه • وضد التواضع الكبر والتجبر وذلك أجلب شيء لسخط الله تعالى وأعظم موجبات عقابه • قال الله تعالى كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم • قال الله تعالى الكبرياء رواء • والعظمة ازاري • فمن نازعني شيئا منهما قصمته • وقال عليه الصلاة والسلام لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر • وهذا القدر كاف في بيان التواضع وفائدته • والكبر وضرره • ومن لم يهتد بأصباح • لم يهتد بمصباح • ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور • فصل في الحلم والعفو والشفقة ولين الجانب قال الله تعالى فيما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانقضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر • وقال تعالي والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين وقال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم • وقال تعالى يأيها الذين أمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين لغزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم • وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء وروى بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المؤمن الذي يعاشر الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم وقال صلى
34 ظ
الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا • روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق • أن تفرغ من دلوك في إناء أخيك وكان من حسن مداراته صلى الله عليه وسلم أن لا يذم طعاما ولا ينهر خادما روى أن رجلا يقال له أزهر بن حرام وكان بدويا وكان لا يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جاء بطرفة يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه يوما من الأيام فوجده رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة يبيع سلعة له ولم يكن أتاه ذلك اليوم فاحتضنه النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه بكفيه فالتفت فأبصر النبي صلى الله عليه وسلم فقبل كفيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم من يشتري العبد فقال إذا تجدني كاسدا يرسول12 الله فقال عليه الصلاة والسلام ولكن عند الله ربح ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لكل أهل حضر بادية وبادية آل محمد أزهر بن حرام • وروى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه أنفعهم لعياله • وفي الحديث الصحيح إن الله تعالى كتب كتابا قبل خلق السموات والأرض فهو عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي روى مسلم رحمه الله من حديث سلمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها في الأرض رحمة واحد فيها تعطف الوالدة على ولدها • والوحش والطير بعضها على بعض • وإذا كان يوم القيامة أكمله بهذه الرحمة • وفي بعض الروايات فإذا كان يوم القيامة جمعت الواحدة إلى التسعة والتسعين فكملت مائة رحمة حتى أن إبليس ليتطاول إليها رجاء أن ينال منها شيئا ورحمة الله تعالى عبادة هي اسباغ نعمته عليهم والتلطف بهم • ورحمة الخلق بعضهم
35و بعضا هي الرقة • والحنو • والشفقة • وهذا في جانب الله تعالى محال • لأن الرقة والحنو من خواص المخلوقين • والملك إذا رق لرعيته • وعطف عليهم أصابهم بخيره ومعروفه وأيدهم بصداقاته وإحسانه • وبث فيهم ما ينفعهم • ورفع عنهم ما يضرهم • قال معوية رضي الله عنه إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي • ولا سوطي حيث يكفيني لساني • ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت • لأنهم إذا شدوها خليتها وإذا خلوها شددتها • ولما أتى الله تعالى سليمان الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده وهو الملك المشهور • والسلطنة البسيطة • والتكحم في الأنس والجن والطير • والوحش • وتسخير الريح • تفقد الطير الحقير وهو الهدهد • وذلك لوفور شفقته عليه الصلاة والسلام • ولشمول عاطفته • ولعلمه أن الله سبحانه ليستحضر الجواب عن ذلك • وملك سليمان عليه الصلاة والسلام هو انموذج لسائر الملوك والسلاطين • وقيل ان سليمان عليه الصلاة والسلام هو حجة الله تعالى على الملوك والسلاطين المقصرين في أمر الرعية وطاعة الله تعالى وأيوب عليه الصلاة والسلام هو حجة الله تعالى على من ابتلى بمرض في بدنه فقصر في طاعة الله تعالى • ويوسف عليه الصلاة والسلام هو حجة الله تعالى على من استرق فقصر في عبادة الله تعالى • قال حكماء الهند لأسود دمع انتقام ولا رئاسة مع عجب • وقال معوية رضي الله عنه إني لأرفع نفسي أن يكون ذنب أعظم من عفوي • وجهدك أكبر من حلمي • وعورة لا يواريها ستري • وقال المأمون رحمه الله أليس علي في الحلم مؤنة • ولوددت أن أهل الجرائم علموا رأي في العفو فذهب خوفهم فتخلص لي قلوبهم • وقال بعض المذنبين للمنصور يا أمير المؤمنين الانتقام انتصاف • والتجاوز فضل • والمتفضل قد جاوز حد المنصف • ونحن
35ظ
نعيذ أمير المؤمنين أن يرضى لنفسه باوكس النصيبين • وأن لا يرتفع إلى أعلى الدرجيتين فاعف عنا يعف الله عنك فعفى عنه • وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ما قرن شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم ومن عفو إلى قدرة • وقال المهلب لا شيء ابقي للملك من العفو لأن الملك إذا وثقت رعيته منه بحسن العفو لم يوحشها الذنب وإن عظم • وإن خشيت منه العقوبة أوحشها الذنب وإن صغر حتى يضطرها إلى المعصية • وقال لا تكن على الإساءة أقوى منك على الإحسان • ولا إلى البخل أسرع منك إلى البذل • وقال المأمون رحمه الله إني أجد لذة العفو أعظم من لذة الانتقام وكان يحي بن معاذ رضي الله عنه يقول سبحان من أذل العبد بالذنب • وأذل الذنب بالعفو • الهي إن عفوت فخير راحم • وإن عذبت فغير ظالم • إلهي إن كنت لا ترضى إلا عن أهل طاعتك فكيف تصنع الخاطئون • وإن كان لا يرجوك إلا أهل الوفاء فبمن يستغيث المقصرون • وقال لقمان عليه السلام لابنه يا بني ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلثة الحلم عند الغضب • والسماع عند الحرب • وأخوك الصديق عند الحاجة • وقال الأصمعي رضي الله عنه دفع أزدشير إلى رجل كتابا وقال إذا رأيتني غضبت فادفعه إلي وكان فيه اسكن فلست بألة • إنما أنت بشر • يوشك أن يأكل بعضك بعضا وتصير عن قريب للدود والتراب • وفي التوراة بن آدم أذكر في حين تغضب اذكرني في حين أغضب • وإلا أمحقك فيمن أمحق • وقال الأحنف تعلمت الحلم من قيس ابن عاصم كنت جالسا معه في فناء وهو يحدثنا إذ جاءت جماعة يحملون قتيلا ومعهم رجل مأسور فقالوا هذا ابنك قتله أخوك وها هو مأسور فوالله ما قطع حديثه ولا حل حبوته حتى فرغ من كلامه ثم أنشأ يقول شعر • • أقول للنفس تأنيبا وتعزية • إحدى يدي أصابتني ولم تزد • • كلاهما خلف من فقد صاحبه • هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي •
36و
ثم قال لابنه قم فأطلق عمك • ووار أخاك • وشق إلى امه مائة من الإبل فإنها غريبة وقيل للإسكندر أن فلانا وفلانا يثلبانك وينتقصانك فلو عاقبتهما فقال فقال هما بعد العقوبة على ثلبي وتنقصي أعذر • وذكر في كتاب جامع الحكايات أن أمير المؤمنين المعتصم كان في غاية الشدة واستمساك البدن ونهاية القوة • وإنه في بعض متصيداته مع المأمون خرج عليه أسد فنزل عن فرسه وقاومه وقطع رأسه وحمله إلى المأمون ثم أنه في أيام خلافته ركب يوما وكان شديد البرد فمر في سيرانه بشيخ كبير قد انحنى ظهره من الكبر وهون يسوق حمارا ضعيفا عليه حطب وقد توحل الحمار في الطين وكل منهما قد تغلب لعجزه وضعفه لا الحمار له نهضة الخلاص من الرجل • ولا الشيخ فيه قوة تعينه على ما هو فيه وقد ضعف الطالب والمطلوب • فرق له قلب المعتصم فأوقف حاشيته مكانهم وتوجه إلى الشيخ وحده فوجده في أشد ما يكون من الحال • ودموعه تتساقط من البرد فنزل عن فرسه • وشمر عن ساعديه • وعزز أذياله في محزمه وجذب الحمار فخلصه من الطين ثم إنه أراد أن يكمل احسانه • ويلحم ما أسداه من الخير بالمعروف فأمر للشيخ بخمس مائة دينار • فلما جاء الشيخ إلى منزله باع الحمار واشترى فرسا • وظهر في حالة حسنة فقال الجيران أنه لقي خبيه وقالوا له أطعمنا مما أطعمك الله وإلا وشينا بك فإنك لقيت كنزا فقال كلا والله ما لقيت شيئا • ولكن لحظتني لواحظ السعادة بعين العطف والرحمة • واشرقت علي شمس السعد فأنجتني من ظلمات الخمول • حكى الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله أن مالك بن دينار رضي الله عنه كان له جار يتعاطى المنكرات ويؤذي الجيران فاجتمعوا إلى مالك رضي الله عنه وشكوه إليه فأحضره وقالوا له إن الجيران يشكون منك لأنك تؤذيهم بما أنت عليه من ارتكاب
36ظ
الفواحش واخرج من المحلة فقال أنا في منزلي لا أخرج منه • فقال له بع دارك فقال ولا يلزمني أحد يبيع ملكي • فقال له نشكوك إلى السلطان • فقال السلطان يعرفني وأنا من خواصه • فقال له ندعوا الله عليك فقال الله ارحم بي منكم • قال مالك رضي الله عنه فغاظني لشدة جداله فلما امسيت قمت إلى الصلاة وهممت بالدعاء عليه فهتف بي هاتف لا تدع عليه فإنه من أوليائنا • فلما أصبحت أتيت إلى بابه ودققت عليه الباب فخرج فلما رآني ظن أني جئت لإخراجه من المحلة فجعل يعتذر فقلت له ما جئت لهذا ولكن رأيت في حقك كذا فبكى وقال إذا كان كذلك فأشهدك أني تائب لوجهه الكريم • ثم خرج من الدار فلم أره بعد ذلك فخرجت بعد مدة إلى الحج فرأيت حلقة في الحرم • فتقدمت إليها فرأيت مريضا مطروحا في وسطها وإذا هو جاري ذلك • فلم البث حتى فارق الدنيا رحمه الله • وقيل أن المأمون ركب يوما بالشماسية ومعه أحمد بن هشام فصاح رجل الله الله يا أمير المؤمنين فوقف له المأمون فقال له إني رجل جئتك من فارس وقد ظلمني أحمد بن هشام واعتد علي فقال له المأمون كن بالباب حتى أرجع وانظر في أمرك فلما مضي التفت إلى أحمد ابن هشام وقال ما أقبح بك أن تقعد أنت وصاحبك على رؤس13 الأشهاد • في دست المظالم • ثم يكون خصمك ظالما وأنت مظلوم • فكيف إذا قعدت أنت وهو وأنت ظالم وهو مظلوم • وهو محق وأنت مبطل • فوجه إليه من يجمله إلى رحلك واسترضه ولا تحوجه إلى الحضور إلى بابنا • فلو ظلمت أبني العباس كان أهون علي من أن تظلم رجلا تعني من شاحط البلاد • وقطع المهامه والبرادي وتجشم ركوب الأخطار • ومكابدة الهواجر • وطول المسافة • وليس له معين ولا ملجأ ولا حيلة • ولا يتيسر له النظر إلى كل وقت • إذا والله لا ننصفه • ثم لا ننصفه • قال فوجه إليه أحمد بن هشام من حوله إلى رحله • وكتب إلى عامله بفارس
37و
يرد ما أخذه منه واسترضاه • وهذا من شفقة المأمون ووفور عاطفته • سامحه الله تعالى • وكان مسلم بن نوفل سيد بني كنانة فضربه يوما رجل من قومه بسيفه فأخذوه وأتوا به إليه فقال لم فعلت هذا أما خشيت انتقامي • قال فلم سودناك علينا • إنما سودناك لتكظم الغيظ • ونغفوا عن الجاني • وتحلم عن الجاهل • وتحتمل المكروه في النفس والمال • فخلى سبيله فقال الشاعر • شعر • تسود أقوام وليسوا بسادة • بل السيد المعروف سلم بن نوفل • ومن أمثال العرب احلم تسد قال هشام لخاله بن صفوان صف لي الأحنف ابن قيس • قان إن شئت بثلاث وإن شئت باثنتين • وان شئت بواحدة • قال بثلث قال كان لا يخوض • ولا يجهل • ولا يدفع الحق إذا نزل به • قال باثنتين قال كان يؤثر الخير • ويتوقى الشر • قال بواحدة قال كان أعظم الناس سلطانا على نفسه • وقال الأحنف رحمه الله وجدت الحلم انصر لي من الرجال وهذا كلام حق • لأن الإنسان إذا استعمل الحلم قام بنصرته كل أحد وانتصف له • وضد الشفقة والرحمة ولين الجانب القسوة • والفظاظة • وقد مر أن الله سبحانه وتعالى فأوت بكمال قدرته بين بني آدم في هذه الأوصاف • وبها يعرف التفاوت بين الرجال • وكان تمرلنك المخذول من افظ الناس واشدهم قسوة على من خالفه وأغبى ملوك الدنيا وكذلك جنده وعساكره وحكاياتهم أكثر من أن تحصر • وأشهر من ان تذكر • حتى أن كف من وقع في أيديهم من الناس عجما أو عربا • حصل له من الشدة والنكال قصة لا تشبه قصة الآخر • فمن أعظم ذلك أنه لما فتك في أصفهان كان من قتل في دفعة واحدة صبوا ستمائة ألف نفس • ثم أن بعض الفقراء استعان ببعض أمراء تيمور فأمره أن يجمعوا شرذمة من الأطفال في مكان ويتركونهم يتصاغون فإذا رآهم تيمور ربما رق لهم ففعلوا ووضعوا على ممر تيمور جماعة كثيرة
37ظ
من الأطفال فلما ركب ومر بهم سأل عن أمرهم فقال له ذلك الأمير هؤلاء أمة مرحومون وطائفة أطفال محرومون • قد شمل الفناء أكابرهم • وعم غضب مولانا الأمير على والديهم وذويهم • وهؤلاء يسترحمون مولانا الأمير لصغرهم • ويتمهم وفقرهم وكسرهم • أن يبقى على من بقولهم • فما رد جوابا • ولا أبدى خطابا • ثم إنه مال بعنان فرسه عليهم وما العسكر معه فجعلوهم طعمة لسنابك الخيل ودقة تحت مواطئ الأرجل وكذلك فعل في بغداد وحلب وغيرها • وكان في عسكره شخص يدعى دولت تمور لم يخلق الله تعالى في قلبه من الخير ذرة • وكان راكبا معه ذات يوم فكان تمرلنك رأى واحدا من العسكر ينعس أو حمله مائل فقال ترى ما تم أحد يقطع رأس هذا الفاعل الصانع ففي الحال توجه دولة تمور إلى ذلك الرجل وقطع رأسه وأتى به إلى تمرلنك فقال ويلك ما هذا فقال رأس الذي أشرت أن تقطع فلم يكترث به بل أعجبه ذلك لكون أمره يمتثل بأدنى إشارة • ولما أخذوا حلب عنوة وقهرا وقتلوا فيها وسفكوا الدماء جمع بعض الناس جماعة من الأطفال في حانوت تحت القلعة فجعلوا يتصاغون ويبكون فمر بهم أمير من أمرائه فكان رق لهم ولم يجد شيئا يفيدهم به ولا ينقذهم مما هم فيه فأمر صبيانه وحاشيته فصعدوا الحانوت وهدوه عليهم فارتدموا تحته وقال إذا ماتوا استراحوا مما هم فيه هذا الشفوق الرحيم الذي في عساكر تيمور ذكر في جامع الحكايات عن بعض جلساء المأمون أنه قال حضرت يوما مجلس المأمون وقد حضر الطعام فقال المأمون للحاضرين ما الذ الأطعمة فقال كل منهم شيئا والمأمون ساكت فلما فرغوا قال المأمون أنا عندي أن ألذ الأطعمة الهريسة لا سيما وفيها قوة الدهن واللحم المضاف ذلك إلى قوة الحنطة مع أن رجلا قال لرجل أنا جائع فما آكل قال كل التراب فقال أفيه ودك يعني أن الودك إذا كان في شيء فإنه يمكن أكله فاستصوب الحاضرون ذلك وسلموا إليه فقال للمتوكل بأمر السماط اصنع
38و
لنا غدا هريسة فقال سمعا وطاعة • ثم قال لنا المأمون لا يتخلف غدا منكم أحد ليأكل من الهريسة فحضرنا اليوم الثاني فقال المأمون الأن تحضر الهريسة فلما جاء وقت السماط أحضروا جميع أنواع الأطعمة ولم تحضر الهريسة فحصل للمأمون بذلك خجل فسأل المتوكل عن ذلك فقال يا أمير المؤمنين نسيت والنسيان من عادة الإنسان ونسي قبلي من هو أجل قدرا مني وأعظم حظرا فقال ومن هو فقال آدم عليه الصلاة والسلام إذ قد أخبر الله عز وجل عنه بقوله ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي فقال المأمون إن كان آدم عليه السلام نسي فإنه جوزي بذلك بأن أخرج من الجنة ونحن أيضا نجازيك عن نسيانك بأن نعزلك عن هذه الوظيفة ولم يزده على ذلك ولم يقصد هذا القول إلا المداعبة وإعلام من حضر أنه لم يؤثر ذلك في حلمه وسعة صدره شيئا • وكان في الحاضرين أحمد بن هشام أحد أعيان المجلس وكان فظا غليظا فلما رأى أحمد المذكور أن المأمون لم يزد على هذا القول ولم يؤاخذ الطباخ بأكثر ما قاله له حصل له من الغيظ والحنق ما لا مزيد عليه وكاد قلبه يتفطر وصار يعض الأنامل من الغيظ فلما تصدع الحاضرون من المجلس جاء أحمد إلى منزله وأمر بإحضار طباخه فلما أحضر أمر به فنزعت ثيابه ثم جلده جلدا مبرحا إلى أن سكن ما به من الغضب والحنق فلما فرغ من ضربه قال له الطباخ يا مولانا الوزير أي كبيرة صدرت مني وبأي جريمة استوجبت هذا العقاب الأليم فقال لأن طباخ الخليفة نسي طبخ الهريسة وخالف أمر أمير المؤمنين ولم يجازه الخليفة بشيء فشق ذلك علي ولم أقدر على الانتصاف منه فانتقمت منك والجامع بينكما علة الطبخ واتحاد والوظيفة • وذكر هذه الحكاية من باب الحلم ثم قال في أخرها فانظر أيها المتأمل تفاوت ما بين خلقي أمير المؤمنين المأمون وأحمد الطوسي وهذه الحكاية تظهر لك سر قوله
38ظ
عليه الصلاة والسلام إن الله قسم بينك أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم • قال الفضيل رضي الله عنه ثلاثة لا يلامون على الغضب المريض • والصائم • والمسافر • ومما نقل عن دماثة أخلاق الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب سقي الله ثراه شآبيب الغفران • أنه لما ثقل في مرض موته أسند ظهره إلى مخدة وأحضر له ماء فآثر ليشربه عقيب شراب يلين باطنه فشربه فوجده شديد الحرارة فشكا من شدة حره فغيروه وعرض عليه ثانيا فشكى من شدة برده ولم يغضب ولم يصخب ولم يقل سوى سبحان الله لا يمكن أحدا تعديل الماء • ولم يزد على هذا حتى تعجب الحاضرون من لين جانبه ودماثة أخلاقه في تلك الحالة خاصة • وقال القاضي الفاضل والله لو أن هذا وقع لبعض الناس كان قد ضرب بالقدح رأس من أحضره وهذه الأخلاق الشريفة بعينها هي سجية مولانا السلطان خلد الله تعالى سلطنته ومملكته الراسخة في ذاته الشريفة • وإنه قد وجد الحلم والاغضاء والإحسان إلى كافة الخلائق عامة وخاصة أعون له على سيد قلوبهم وأوثق قيد ورباق ربط أعناقهم فبث ذلك فيهم • واصطاد الغريب والقريب • شعر • • ومن وجد الإحسان قدا تقيدا • فالشفقة والرحمة والحنو والعاطفة التي جعل الله تعالى مولانا السلطان عليها قل إن توجد إلا في أفراد الاولياء • وأحاد العباد من الأصفياء • أما شفقته ورحمته للقريب والغريب والصادر والوارد فأجل من أن يحصى • وأعظم من أن يستقصى • ولكن أذكر نكتة من شفقته وحنوه • ووفور مرحمته على مخالفيه ليعلم من ذلك ما منحه الله تعالى من الرأفة والعاطفة ويكون ذلك كالأنموذج على غيره وهو أنه لما أظهر الأجلاب العصيان • ورفعت يد المماليك الأشرفية يد البغي والطغيان • وعصوا في القلعة كما مر وسيأتي بيانه في موضعه سنة
39و
اثنين وأربعين وثمانمائة لزم من هذا أنه توجه إلى القلعة وقصد الهفاء نائر لهم وقمع فسادهم فأقام يحاصرهم فأشار جماعة من العسكر المنصور أنهم يقطعون الماء عن البغاة ليظهروا فقال لا تفعلوا فإن هذا لا يفيدنا شيئا لان في القلعة الضعيف والفقير والحرم والعاجز عن الوصول إلى الماء فما ذنبهم فإن نحن قطعنا الماء عن الناس فأول من يتضرر بقلة الماء وغلبة العطش الضعفة من المسلمين لا نستفيد من القصد بقدر ما نأثم بل نتوكل على الله تعالى ونلقي مقاليد أمورنا إلى تدبيره وزمام تقديره يفعل بنا وبهم ما يشاء ويحكم ما يريد • ثم إن الذين أشاروا بقطع الماء توجهوا من غير أن يكون لمولانا السلطان بذلك علم وقطعوا سبيل أم المؤمنين فاضطررت العصاة وهم بلا ماء ونزلوا طائعين ومناديلهم في رقابهم وإذا كان هذا الشفقة في حق مخالفيه وأعدائه فما الظن بالشفقة والحنو على مطيعيه والمخلصين من أوليائه• وأما وفور شفقته العامة من حق العامة والخاصة ومرحمته وعاطفته لجميع الخلائق • فلو أمكنه أن يجعل جميع الناس أوتادا أولياء وعبادا أصفياء • لفعل وهذا الوصف بعينه كان خلق شيخنا المرحوم الشيخ علاء الدين النجاري تغمده الله تعالى برحمته فإنه كان يقتل نفسه في إجهاده أن يرد الناس عما هم عليه من ارتكاب الهوى • والمساعي الباطلة • وحظوظ الأنفس ويود جهده وطاقته إن يتخلص الخلق من المأثم والمظالم • ويصيروا أتقياء • أبرارا وأذكياء أخيارا• وكان مولانا السلطان خلد الله دولته والشيخ علاء الدين روى الله روضته • كانا فرسي رهان في هذا الوصف السعيد • والخلق الحميد • غير أن مولانا السلطان يتعاطى أسباب ذلك قولا وفعلا بتولية الوظائف • وبذل الأموال • وإعطاء المناصب لأربابها • لحفظ دينهم وتبعيدهم عن الآثام • وتقريبهم إلى ما يرضي الله تعالى ويبلغهم دار السلام • وهذا
39ظ
لعلمه الشريف بأنه راعيهم ومسئول14 عنهم فهو مجتهد في العمل بمقتضى علمه الشريف بما تبلغ إليه طاقته • ويصل إليه اجتهاده فاسأل الله تعالى أن يعطف بقلوب الخاص والعام على طاعته الشريفة • وتحليهم بحلي الإخلاص والعكوف على محبته المنيفة • وينفذ في مسامع اقبالهم مراسيم أوامره • ويقيد ملوك الدنيا بأرباق زواجره • • • فصل في الشكر • قال تعالى وإذ تأذن ربكم لين شكرتم لأزيدنكم • وقال تعالى وقليل من عبادي الشكور • والشكر عند أهل الحقيقة الاعتراف بالنعمة على سبيل الخضوع والله سبحانه وتعالى سمي نفسه شكورا على معنى أنه يجازي العبد على أداء الشكر فعلى هذا إذا أطلق الشكور على الله تعالى يكون مجازا وإذا أطلق على العبد يكون حقيقة قال الإمام أبو القاس القشيري رحمه الله حقيقة الشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه فشكر الله تعالى لعبده المحسن ثناؤه عليه بذكر أفعاله الحسنة وطاعاته فعلى هذا يكون الشكور حقيقة في جانب الخالق والمخلوق وقيل شكره تعالى أعطاؤه الثواب الجزيل على العمل القليل • حكي أن رجلا ريئي15 في المنام بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال أقامني بين يديه وقال لم خفتني كل ذلك الخوف أما علمت أني كريم • وسئل بعضهم عن أشكر الشاكرين فقال المطيع الذي يعد نفسه من المذنبين • والمجتهد في الفرائض والنوافل الذي يعد نفسه من المقصرين • والراضي بالقليل الذي يعد نفسه من الراغبين والذاكر الذي يعد نفسه من الغافلين • والمواظب الذي يعد نفسه من البطالين • والشكر على أقسام شكر البدن وهو أن لا يشغل جوارحه بغير الطاعة • وشكر القلب وهو أن لا يشتغل في غير ثناء حمده وخالقه ومدحته • وشكر المال وهو أن لا ينفقه في غير رضاه ومحبته • وقيل الشكر أن لا يستعان بنعمة على معاصيه
40و
قال بعض العلماء حقيقة شكر الله تعالى استقامة القلب على أداء جميع الطاعات والاجتناب عن جميع المعاصي • وقال الهلب بن أبي صفرة إذا رأيتم النعم مستدرة فبادروها بتعجيل الشكر قبل حلول الزوال • قال بعض العلماء العارفين في معنى قوله تعالى وقيل من عبادي الشكور أي قليل من يشهد النعمة من أخر حقيقة الشكر للنعمة الغيبة عن شهودها بشهود المنعم تعالى وتقدس اعلم أن شكر الله تعالى واجب على كل مخلوق لأن نعمه شاملة للكل وأول النعم الوجود من العدم • ثم بعد ذلك تزداد النعم وتترادف الآلاء • وكلما زادت نعم الله تعالى على بعد زاد وجوب الشكر عليه فأذن الملوك والسلاطين أشمل نعما من غيرهم فيكون شكر الله تعالى عليهم أوجب وأكثر • بيان ذلك أن السلطان طل الله تعالى في أرضه • وله شطر من حكمه قبل حكمه • وليس فوق يده يد • يده باسطة • وكلمته نافذة • له حصة في الإبقاء والإهلاك • وقسم في المنع والإعطاء • ونصيب من التصرف في عباد الله تعالى وبلاده • كتصرف المالك في ملكه • وتحكم السيد في عبيده • قد نال من منازل الدنيا أعلاها • وبلغ من أرجائها أقصاها • وصعود رده الملك الشامخ • والسلطان الباذخ • فينبغي أنه مثل ما اختاره الله تعالى • لكن يكون فوق كل أحد • وكل أحد تحت حكمه • وأمره كل على إطاعته بالجنة • وأوعد على مخالفته • والخروج عن أمره بالنار فلذلك يجب أن يكون شكره لله تعالى • وانقياده لأوامره فوق طاعة كل مطيع • وانقياد كل منقاد • ولا يرضى من نفسه لله تعالى بيسير الشكر • ولا بقليل الطاعة • ذكر بن عمر ابن عبد العزيز رحمة الله عليه كان يؤتى قبل الخلافة بالثوب بأربعة آلاف درهم فيقول ما أحسنه لولا خشنة فيه فلما ولي الخلافة
40ظ
كان يؤتى بالثوب بأربعة دراهم فيلمسه فيقول ما أحسنه لولا نعومة فيه فيقل له في ذلك فقال إن لي نفسا تواقة ذواقة ما ذاقت شيئا إلا وتاقت إلى ما هو فوقه وأعلى منه فلما ذاقت الخلافة تاقت إلى ما فوقها • ولم يكن شيء في الدنيا فوقها فتاقت إلى ما عند الله تعالى وما عند الله تعالى لا نصله إلا بترك الدنيا فتركها • وحسبك في المثال واحد وهو أن الله تعالى جعل محمدا صلى الله عليه وسلم أشرف المخلوقات وسيد الأنبياء • وخاتمهم • وهذه هي النعمة العظمى • ثم قال له وللإخوة خير لك من الأولى • ولسوف يعطيك ربك فترضى • وهو المقام المحمود • والحوض المورود وقبول الشفاعة حيث يحجم عنها كل شيء مرسل • وملك مقرب • فلا نعمة في الدنيا والأخرى فوق هذه • مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر • ثم انظر كيف قابل صلى الله عليه وسلم هذه النعم بأنواع الشكر من بدنه وقلبه ولسانه • إلى أن شد الحجر على بطنه • وقام لله تعالى حتى ورمت قدماه • فقيل له في ذلك فقال أفلا أكون عبدا شكورا • ثم جاهد في الله حق جهاده • وعبد الله حتى أتاه اليقين • ومع هذا قال لا أحصي ثناء عليك تصديقا لقوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها • وكما أن نعم الله تعالى كانت في حقه صلى الله عليه وسلم أشمل • كان شكره لله تعالى من جميع الأنبياء والمرسلين • بل من جميع العالمين أوفر وأكمل • ثم قال لا أحصي ثناء عليك • فلما يحصي الثناء الذي هو وظيفة اللسان • وهو أهون ما يكون من الشكر وأيسر طرق الشكر إذ هو قول فكيف يحصي ما هو أعلى من ذلك وهو العمل بسائر الأركان وغيرها وهو فعل ثم اعلم ان نعمة واحدة من نعم الله تعالى تستغرق جميع عمر المنعم عليه بيانه أنه لو شكر الله تعالى واحد على نعمة فتوفيق الله تعالى له لأداء ذلك الشكر نعمة أخرى يجب الشكر عليها وإذا شكر عليها فيجب على شكر آخر فيتسلسل
41و
إذ ذاك إلى ما لا نهاية له فيستغرق نعمة واحدة جميع العمر في أداء شكرها فما ثم غير التشبث بذيل ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه بقوله لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ثم اعلم أيضا ان نعم الله تعالى لا تتناهى • قال الله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها • وأفعال العباد محصورة فكيف يحيط ما يحصر بما لا يحصى • مثال آخر وهو أن في نفس الإنسان نعمتين وذلك أن الهواء الذي يتنشقه الإنسان من خارج يتبرد به القلب • وتتروح به الروح • فلو انحبس عنه ساعة مات الإنسان ولو كان دخانا أو غبارا أو نحو ذلك ويستمر مات الإنسان بل لا بد أن يكون معتد لا ليستريح به القلب والروح فهو نعمة وإذا دخل الهواء من خارج إلى بدن الإنسان فإنه نعمة إذا دخل الهواء من خارج إلى بدن الإنسان • ونعمة إذا خرج النفس من بدن الإنسان ففي كل نفس استرواح القلب والبدن الداخل يدخل ببرودة يتروح بها البدن والقلب • وتسكن بها الحرارة الغريزية • والأصح يخرج بالحرارة التي انحبست وإيهما انحبست ساعة مات الإنسان • وهو الذي لا يحتاج إلى دليل • فأي شكر يصور بأداء نفس من هذين النفسين • وقد قيل ان كل ساعة يتنفس فيها الإنسان ألف نفس • ففي كل يوم وليلة عدوا على الإنسان من النعم أربعة وعشرون ألف نعمة • ولا يقدر الإنسان أن يؤدي شكر نفس إلا بأمداد أنفاس فمن يقدر أن يؤدي شكر نفس واحد • لكن ما يدرك كله • لا يترك كله • وإذا كان كذلك فبالشكر يبلغ الوضيع في النسب • درجة الرفيع في الذنب • قال الله تعالى فإذا انفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسألون فيكون العبد الحبشي الشكور • أولى من الشريف الهاشمي الكفور • فإن من ابطأ به عمله • لم يسرع به نسبه • قال سلم الجعفر بن سليمان الهاشمي متولي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم احذر أن يأتي غدا يوم القيامة رجل ليس به في الإسلام أب ولا جد فيكون
41ظ
أولى منك برسول الله صلى الله عليه وسلم كما كانت زوجة فرعون أولى بنوح ولوط عليهما الصلاة والسلام من فرعون وامرأتا نوح ولوط عليهما السلام أولى بفرعون من زوجيهما • إذا تأمل الناظر في هذا الكتاب حقيقة الشكر • وكيفية القيام بأدائه • ثم شاهد الشمائل الشريفة السلطانية وتدبر حركاتها السعيدة • وأقوالها السديدة • وأراءها الحميدة • وجدها منسوجة على منوال الشكر • فإن مولانا لم يسد الله إليه نعمة إلا والحمها بالشكر • وطرزها بألوان الذكر والفكر • وقلدها أعناق عباده ليكون له يوم القيامة أعظم ذخر • ومورد الشكر هو القلب واللسان والأركان • قال شعر • • أفادتكم النعماء مني ثلاثة • يدي ولساني والظهير المحجب • وأما لسان مولانا السلطان فلم يزل بأداء شكر نعم الله مشغولا في القرآن العظيم والتسبيح • وأراد الخير • والأمر بالمعروف • والنهي عن المنكر • وأما أياديه الشريفة فكأنها خلقت من أصل الجود ومعدن الكرم • وجوارحه منعكفة على طاعة الله تعالى • والجوارح واللسان أقوى دليل على ما في القلب • فإن الجوارح والأعضاء بمنزلة الخدم • والقلب هو السلطان • والخدم لا يتحرك • ولا يطرف طرفة عين إلا بإرادة القلب • كذا ذكر الإمام الغزالي رضي الله عنه ورحمه في كتاب احياء علوم الدين • وقال عليه الصلاة والسلام في حق المصلي الصابئ لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه • فأولا إن القلب مغمور بالله تعالى ما كانت الجوارح مشغولة بما هو رضي الله تعالى • قال شعر • • إن الكلام لفي الفؤاد وإنما • جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقد تقرر أن صلاح الظاهر دليل على صلاح الباطن فاسأل الله تعالى أن يورع
42و
لان يشكر نعمته التي أنعم بها عليه • وأن يوفقه لاكتساب المزيد من نعمه بالشكر كما أجرى نعم عباده على يديه • ويسدده فيما أنعم عليه وما أولى • ويصل نعم دنياه بنعيم أخراه فإن الأخرة خير من الأولى بمحمد واله فصل في الكرم والبذل والسخاء والإيثار • والجود • قال الله تعالى يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة • وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله حي كريم إذا رفع العبد يديه إليه أن يردهما صغرا حتى يصنع فيها خيرا • الكرم ضد اللؤم ويطلق على الخالق والمخلوق وهو في حقه تعالى من صفات ذاته فإنه سبحانه لم يزل كريما ولا يزال كريما ومعناه نفي الدناءة وتنزيهه سبحانه عما لا يليق بجنابه تعالى وتقدس وإذا أطلق على مخلوق فالمراد منه النفيس الخطير الحسن • ومنه قوله تعالى أجرا كريما • رزقا كريما • ومقام كريم • قال الجنيد رضي الله عنه الكريم الذي لا يحوجك إلى وسيلة وقيل هو الذي لا يرضى أن يرفع إلى غير ربه حاجة • وقيل هو الذي لا يخيب رجا الآملين • وقيل هو الذي إذا رفعت إليه حاجة عاتب نفسه كيف لم يبادر إلى قضائها قبل أن تسأله • قال بعضهم رأيت في سوق البصرة جنازة يحملها أربعة وليس معهم مشيع فقلت لا إله إلا الله سوق البصرة وجنازة رجل مسلم لا يشيعها أحد لأشيعها فتبعتها وصليت عليها فلما دفنوه سألتهم عنه فقالوا ما نعرفه وإنما أكثرتنا تلك المرأة وأشاروا إلى امرأة واقفة قريبا من القبر ثم انصرفوا فرفعت المرأة يدها إلى السماء ودعت ثم ضحكت وانصرفت فتعلقت بها وقلت لها أخبريني بقصتك فقالت إن هذا الميت ابني ولم يترك من المعاصي شيئا إلا فعله فمرض ثلثة أيام فقال يا أمي إذا أنا مت فلا تخبري الجيران
42ظ
بموتي فإنهم يفرحون بموتي ولا يحضرون جنازتي ولكن اكتبي على خاتمي لا إله إلا الله محمد رسول الله وضعيه في إصبعي وضعي رجلكي على خدي إذا مت وقولي هذا جزاء من عصى الله فإذا دفنتيني فارفعي يديكي إلى الله عز وجل وقولي اللهم إني رضيت عنه فارض عنه فلما مات فعلت جميع ما أوصى به فلما رفعت يدي إلى السماء ودعوت سمعت صوته بلسان فصيح انصرفي يا أمي فقد قدمت على رب كريم رحيم فرضي عني فلذلك ضحكت سرورا بحاله • وأما البذل فهو الإعطاء مطلقا • وأما الجود فقيل هو إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي لمن ينبغي كإعطاء السلاح للمغازي • والكتاب للعالم • والثوب للعريان • والطعام للجائع • وإيصال كل محتاج إلى ما هو محتاج إليه • والحاصل أن حقيقة الجود تنزيل كل شيء في محله وهذا كما قال عيسى صلوات الله وسلامه عليه لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها • ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم • وقال الشاعر • شعر • إذا أنت أكرمت الكريم ملكته • وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا • فوضع الندا في موضع السيف بالعلا • مضر كوضع السيف في موضع الندا • وأما السخاء فهو سماحة النفس وسهولتها عند البذل وبذل الرغائب في مواضعها وهو قريب من الجود غير أن السخاء غريزة • وفي مقابلته الشح • وفي مقابلة الجود والبخل • وفي مقابلة البذل الإمساك • وفي مقابلة الإعطاء المنع • وفي مقابلة الكرم اللوم • وأما الإيثار فهو تقديم الغير على النفس • وإعطاء الشيء لمستحقه مع كون المعطي أكثر استحقاقا • وأشد احتياجا • إليه وهذا أعلى المقامات • قال أبو يزيد البشطامي رضي الله عنه رأيت شابا من الزهاد جاء من بلخ فسألني عن الزهد فقلت إذا وجدنا أكلنا • وإذا فقدنا صبرنا • فقال هذه عادة الكلاب عندنا في بلخ لكن الزهد عندنا إنه إذا فقدنا شكرنا • وإذا وجدنا آثرنا
43و
وفي مثل هذا المقام نزل قوله تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة • قيل أهدي إلى واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأس شاة مشوي وكان مجهودا فوجه به إلى جاره فتداوله سبة أنفس ثم عاد إلى الأول فأنزل الله تعالى هذه الآية وفي رواية فقال إن أخي فلانا وعياله أحوج إليه منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تداوله سبعة أبيات حتى رجع على الأول فنزلت وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابه جهد فقال يرسول الله إني جائع فأطعمني فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه هل عندكم شيء فكلهم قلن والذي بعثك بالحق نبيا ما عندنا إلا الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عندنا ما نطعمك هذه الليلة ثم قال من يضيف هذا هذه الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال أنا يرسول الله فإني به منزله فقال لأهله هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرميه ولا تدخري عنه شيئا فقالت ما عندنا إلا قوت الصبية فقال قومي عليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يستطعموا شيئا ثم اشرحي فإذا اخذ الضيف ليأكل قومي كأنك تصلحين السراج فأطفئيه وتعالي نضع السنتنا لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشبع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم • فقامت إلى الصبية فعللتهم حتى ناموا عن قوتهم ولم يطعموا شيئا • ثم قامت فأثردت وأسرجت • فلما أخذ الضيف ليأكل قامت كأنها تصلح السراج فأطفأته فجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وظن الضيف أنهما يأكلان معه حتى شبع الضيف وباتا طاويين فلما أصبحوا عدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم • فلما نظر إليهما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لقد عجب الله من فلان وفلانة هذه الليلة فانزل الله تعالى هذه الآية • وروى أن أبا الحسن الأنطاكي رحمه الله اجتمع عنده نيف وثلاثون
43ظ
رجلا بقرية الري وله أرغقة معدودة لا تشبع خمسة منهم فكسروا الرغفان واطفئوا السراج وجلسوا للطعام فلما رفع الطعام إذا هو بحاله لم يأكل أحد منهم شيئا إيثارا منه أصحابه على نفسه • وحكي عن صديقه العدوي رحمة الله عليه قال انطلقت يوم اليرموك لطلب بن عم لي بين القتلى ومعي شيئا من الماء • وكان ذلك اليوم شديد الحر والعطش استشهد فيه جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وهو يوم مشهود • فكنت أقول إن لقيت بن عمي سقيته ومسحت وجهه • فإذا أنا به وهو على أخر رمق فقلت أسقيك فأشار أن نعم فسمعنا رجل من الجرحى فقال آه فقال بن عمي انطلق به إليه فإذا هو هشام بن العاص فقلت أسقيك فقال آخر آه فقال هشام انطلق به إليه فتوجهت نحوه فلم أدركه إلا وقد مات • فرجعت به إلى هشام فلقيته قد مات • فرجعت إلى بن عمي فإذا هو أيضا قد مات • رضي الله عنهم • حكاية ذكرها الشيخ كمال الدين الدميري في باب القاف عند ذكر القط عن بن خلكان في ترجمة ابن بابشاد النحوي فلتنظر هناك • ومن أغرب ما وقع في هذا الباب ما ذكره أبو محمد الأزدي قال احترق مسجد بمصر فظن المسلمون أن النصارى أحرقته فذهب جماعة من المسلمين وأحرقوا خانات النصارى فقبض السلطان على جماعة من الذين أحرقوا الخان وكتب رقاعا في بعضها القتل وفي بعضها الجلد ونثرها عليهم وأمرهم أن يأخذ كل واحد منهم ورقة • وإن يجري عليه ما هو في ورقته • فوقع في يد واحد منهم رقعة فيها القتل • فقال والله ما بي أن أقتل ولا أبالي به إذ لا بد من الموت ولكن لي أم ضعيفة يضيع أمرها بعدي • وكان إلى جانبه واحد من الفتيان من رفقائه فقال أنا في رقعتي الجلد • وليس لي كلفة أم ولا ورائي علقة • وأنا كما قيل • شعر • لولا التكلف عاش الناس عيش هناء • لولا التعلق مات الناس موت رضى •
44و
فادفع إلي رقعتك وخذ رقعتي فدفع إليه رقعة القتل وأخذ رقعة الجلد فقتل ذلك ونجا هذا وهذا كما قيل شعر • يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها • والجود بالنفس أقصى غاية الجود • يقول إنما نجا ذلك ببركة بره أمه • وقال بعض الأولياء رحمهم الله تعالى حقيقة الإيثار أن تؤثر بخط أخرتك فإن الدنيا أقل خطر من أن يكون لإيثارها محل أو لذكرها قدر • كما قيل إنه سعي بالصوفية إلى الخليفة وقيل إن ههنا جماعة سكنوا القبور ورفضوا الدنيا وهم يدعون الخلائق إلى رفض الدنيا وقطع الأسباب والعلائق ويلزم من هذا تعطيل أمور الناس وتبديد معايشهم وما هم إلا زنادقة • وكان ذلك في زمن الجنيد رضي الله عنه • فأرسلوا إليهم وقبضوا عليهم • منهم الشحام • والدقاق • وأبو الحسين النوري • وبسط النطع لضرب رقابهم • فتقدم أبو الحسين النوري وقال للجلاد أريد أن تضرب عنقي قبل رفاقي فتعجب الخليفة والحاضرون من ذلك إذ هذا خلاف المعهود ممن يؤمر بقتله ثم سألوه عن موجب ذلك فقال لم يبق لنا في الدنيا غير أنفاس قليلة فأنا أوثر أصحابي بها ليذكروا الله تعالى فيها ويسبحوه ويتلوا القرآن فيكتب لهم الأجر فعند ذلك قال الخليفة لا تتعاطى أمر هؤلاء من غير تدبر وترو • ثم أحضروا العلماء وطرحوا عليهم مسائل فقهية وأجابوا عنها بأحسن جواب من جملتها كيف زكاة الذهب فقال النوري عندكم في كل عشرين دينارا إذا حال عليها الحول نصف دينار • وأما عندنا فيجب فيها عشرون دينارا ونصف دينار فقال ولم قال غرامة وجناية لأنا أمسكنا متاع الدنيا فنحن من أين ومتاع الدنيا من أين وشرع يقول إن لله عبادا إذا قاموا قاموا بالله • وإذا نطقوا نطقوا بالله • وسرد ألفاظا أبكى بها الخليفة الحاضرين وصدع بها كما قلت • • الروح إن تخرج كلأة صادقا • تصدع به القلب الأصم الجلمدا •
44ظ
فقال بعض الحاضرين من العلماء إن كان هؤلاء زنادقة فما في الدنيا صديق ولا مسلم فقال لهم الخليفة ارفعوا إلينا حوائجكم فقالوا حاجتنا أن لا تسألوا عنا ولا تطلبونا فلا نراكم ولا ترونا • ومولانا السلطان خلد الله تعالى أيامه • وأطال تحت ظله الشريف أيام الملك وأعوامه • هو المختص بأعلى هذه المقامات • والواصل في ذروة الكرم والسخاء إلى أعلى الدرجات • فلقد طفق بهم جوده وفائض نواله الشرق والغرب • وروت بحار بذله وعطائه رياض الآمال • وحدائق رجاء ذوي الفضل والأفضال • ولقد اصطاد بهباته العميمة • وصدقاته الجسيمة • قلوب جميع الخلق ما بين سلطان ووزير • ومأمور وأمير • وكبير وصغير • وبعيد وقريب • ومعرفة وغريب • فاهرع إليه الأقارب والأجانب • وأسرع إلى تقبيل أرض العبودية وبساط • الطاعة الموافق والمخالف • واغتنم الملوك الامتثال أوامره الشريفة • وبادرت أكابر أطراف الأرض إلى الإكتحال بنور طلعته السعيدة المنيفة • وما ذاك لعموم صدقاته فقط • ولا لفيض أياديه فحسب بل لما انتشر في الآفاق من صيت ثنائه الجميل العاطر • وتقدمت إلى الأطراف من عوائد إحسانه الجليل الماطر وكأنه كان آلى على نفسه أن لا يدخر شيئا • ولا يحرم سائلا قط • وإنه يبذل جميع موجوده • ويؤثر بكل ما تحويه يداه الشريفة • وهذه العادة الشريفة من مبتدأ أمره • وقديم أيامه ولقد كان إذا جاءه سائل ولم يكن بحضرته شيء يتصدق عليه بقماش الخيل والفرش ونحو ذلك وربما دخل إلى الطشتخاناه والفراشخانه فمهما وجده من أثاث ونحاس أعطاه السائل وأوصاه بإخفاء ذلك بالإسراع لئلا يطلع عليه أحد من جماعته وهذه هي الصدقة المخفية بعينها التي عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه • وهذه
45و
نكتة من عادة الأولياء • وخواص الخواص الأتقياء • كان الإمام أبو سهل الصعلوكي رضي الله عنه من الأجواد الأخيار • والعباد الأبرار • وكان يوما يتوضأ في صحن داره فدخل عليه سائل فقال له اصبر حتى أفرغ ولم يكن عنده شيء سوى القمقمة التي يتوضأ منها فلما فرغ أعطاه القمقمة وقال أسرع لئلا يراك أحد فيأخذها منك ثم صبر حتى علم أن السائل أبعد وفات من يطلبه • ثم صاح وقال دخل إنسان وأخذ القمقمة فخرجوا خلفه وطلبوه فلم يدركوه • وما كان قصده بهذا الإعلام الا عدم وقوع المريدين بعضهم في بعض ودفع تهمة بعضهم عن بعض • فالحمد لله الذي وافقت أفعال مولانا السلطان خلد الله دولته أفعال أولياء الله تعالى • ومما تواتر من صدقات مولانا السلطان وفيض أياديه الشريفة أنه من حين قدر على شيء من مال الدنيا وإلى حين ولي أمور المسلمين • وتشرف بميامن ولايته الدنيا والدين • لم يجب عليه زكاة قط • وكأنه من شأنه الشريف كما قيل • هو البحر من أي النواحي أتيته • فلجته المعروف والجود ساحله • تعود بسط الكف حتى لو أنه • تناهي لقبض لم تجبه أنامله • ولو لم يكن في كفه غير روحه • لجاد بها فليتق الله سائله • وقيل إنه كان من علمه الشريف أنه إذا جاء إليه أحد من مماليكه وخدمه لطلب مركوب أو نحوه فمهما كان بحضرته من ذلك الجنس أعطاه إياه على الحظ والنصيب فربما طلب أحد مماليكه فرسا فيعطيه فرسا ثم يعود إليه ويقول يا مولاي هذا الفرس ظالع أو لا يصلح للركوب فيقول له يا ولدي هذا الذي فتح الله تعالى به وقسم إن لم ينفعك بعه وارتفق به وإذا فتح الله تعالى بشيء غيره أعطيناك ترى هل فوق هذه المكارم ودماثة الأخلاق درجة • ومما اشتهر عنه من جميل الصفات يدفع الله تعالى في الدارين الدرجات • إنه في بعض الأوقات كان مضيقا عليه في مكان
45ظ
فكان يصر الدراهم وغيرها ويلقيه على الطرقات فإذا سئل عن سبب ذلك قال ربما يقع ذلك في يد مستحق وهذا النوع من الكرم والجود كان يفعله جونة صاحب الهند وهو أحد الملوك المشهورين بالعظمة والجود والسخاء • ونظير هذه الحكاية ما حكي عن أمير المؤمنين المتوكل على الله أنه كان عنده مملوك يدعى الفتح وكان في الجمال • وجميل الخصال • في غاية الكمال • فأحبه المتوكل واتخذه في مقام الولد وأقام عليه من علمه فنون العلم والأدب • وكان دون البلوغ ومن جملة ما أراد تعليمه السباحة • وكان الملاحون يترددون إليه كل يوم يعلمونه العوم والسباحة فاتفقوا أنه في بعض الأيام القى نفسه في دجلة بغداد ليسبح فقوى عليه التيار وغلبه فما وسعه غير الاستسلام لأمر القادر الجبار • وعدم مقاواة التيار • واسترسل في الماء إلى أن غاب عن أعين الناس • ثم اجتهد وسارق الماء إلى أن ألقى نفسه في كهف نقبه الماء من طول المرور فالتجئ إليه واشتهر فيه مدة سبعة أيام منتظرا من الله تعالى ما يقدره له من الفرج • فلما سمع المتوكل بذلك اسودت الدنيا في عينيه واضطرب وحزن حزنا شديدا لا مزيد عليه • ثم دعي الملاحين وقال من أتاني بجنة الفتح أعطيته ألف دينار فشرع السباحون والغواصون يطلبونه بالفتح حيا فما تتصدق به علي قال خمسة ألاف دينار فأخذ مركبا وذهب إليه وأتى به سالما فلما رآه المتوكل سجد لله شكرا وأعطى الملا ما جعله له ثم دعا بطعام للفتح ليأكله فقال إني شبعان فقال المتوكل سبحان الله لك سبعة أيام في الماء ثم تقول أنك شبعان فمن أين كنت تأكل • قال بينما أنا في ذلك النقب إذ مر بي طبق عليه نحو من عشرين رغيفا فاجتهدت إلى أن تناولت منه ما سد رمقي في هذه المدة وكان مكتوب على كل رغيف محمد بن الحسن الإسكاف فتعجب الخليفة من هذا الأمر ورسم
46و
فنودي ليحضر إلى أبواب أمير المؤمنين من كان يلقي الخبز كل يوم في دجلة ليكافئه • فحضر رجل وقال أنا كنت ألقى الخبز فقال له الخليفة وما علامة ذلك قال اسمي • مكتوب على كل رغيف وهو محمد بن الحسن الإسكاف فلما ظهر صدقه قال له الخليفة ما حملك على ذلك قال سمعت من الأكابر يقولون ازرع الجميل والق في البحر فلا بد أن يثمر يوما فأردت تجربة هذا المثل فقال له الخليفة لا جرم أثمر زرعك ثم أمر له بخمس ضياع من قرى بغداد تكون له رزقة ولأولاده من بعده • قال راوي هذه الحكاية إن الخير لا يبور أبدا ولكن اين من يتنبه لهذه اللطائف الا من أيقظه الله تعالى كمولانا السلطان خلد الله تعالى أيامه الزاهرة • وجمع له بين خيري الدنيا والأخرة • قال لي الجناب القضاي الفرسي السخاوي أحد بطائن الخير والناصحين لهذه الدولة الشريفة قلت يوما لمولانا السلطان خلد الله أيامه وقد شاهدت عميم صدقاته • وفيض هباته • ومنحه المال لكل أحد بما لا مزيد عليه • يا مولانا السلطان إن المال يدخر لكائنة تقع • أو لحادث يكون • ولما يحتاج إليه من وقت ضيق أو شدة ومولانا السلطان وإن كنت همته الشريفة لا تدرك • وكرمه وسخاؤه لا يحصر • لو ادخر شيئا من هذه الأموال • وأبقى على بعض شيء منها • فربما يقع الاحتياج إليه فما كان جواب مولانا السلطان إلا إن قال أو هذا الذي أفعله بالمال من الإعطاء والهبات هو جودا ويقال له كرم وسخاء أنت أرني مالا وانظر كيف يكون الكرم والنوال والسخاء بالأموال • قال فأسكتني وعلمت أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وهذا من باب تلقي المخاطب • بغير ما يترقب • كقوله تعالى يسئلونك ماذا ينفقون قل ما انفقتم من خير فللوالدين والأقربين الآية • كما قيل شعر • أنت تشتكي عندي مزاولة القرى • وقد رأت الضيفان ينحون منزلي •
46ظ
فقلت كأني ما سمعت كلامها • هم الضيف جدي في قراهم وعجلي • وكان مولانا السلطان أظله الله تعالى تحت سحاب نعمه • وروي حدائق الفضل من سيول كرمه • هو الذي أنشد شعر • ملأت يدي من الدنيا مرارا • فما طمع العواذل في اقتصادي • ولا وجبت على زكاة مال • وهل تجب الزكاة على الجواد • فائدة ادخار الأموال ورفعها إلى بيت الأموال والخزائن إنما هو طريق ملوك الطوائف والهند والصين والسند وملك الروم • وأما الملوك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين فلم يكن لهم بيت مال بل كانوا كلما حصل لهم مال من الغنائم والفتوحات وغيرها فرقوه على جندهم ورعاياهم • وكانت الرعايا هم الأجناد والحماة وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يجوع نفسه الشريفة أكثر من ما كان يشبعها لا لأنه ما كان يجد الدنيا لكن بهوانها وذلتها وقلتها عنده ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في صاع من شعير عند يهودي • وكذلك الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان • وعلي • وغيرهم الحسن • وعمر بن عبد العزيز • رضي الله عنهم • والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح البلاد كانت تجيء إليه الأموال • فيفرقها ليومها • وكانت توضع في المسجد على الانطاع فيغرقها • وكذلك المغانم ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر • ولم يكن له صلى الله عليه وسلم بيت مال ولا للخلفاء الراشدين من بعده • وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجد • وروى أبو جاود في السنن أنه عليه الصلاة والسلام صلى العشاء ودخل حجرته وخرج مسرعا وبيده خريقة فيها ذهب فقسمه ثم قال ما ظن آل محمد لو أدركه الموت وهذا عنده • الآل مفخم المتعظم ولو وردت ما ظن آل بالإضافة لكان له وجه وما استفهامية من الوجهين فائدة
47و
أخرى تفريق المال في وجوهه أهون وأيسر من جمعه من أي جهة كانت مع عدم المبالاة لأن في تحصيله أيضا على هذا الوجه تحمل أوزار وآثام ولا بد أن الله تعالى مسائل عبده عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه فيكون أقل الدرج الحساب • ولولا الحساب خاب الاكتساب • وهل سمع في هذا العصر أو قريبا منه أن أحدا من الملوك جاءه مال جزيل من جهة من الجهات فرده وخاف حسابه وعقابه • لكن مولانا السلطان نصر الله الإسلام بوجوده • وغمر المسلمين بصداقته وجوده • كان من بعض ورعه وتعففه عن الشبهات أن رد على الفرنج أكثر من ثلثمائة ألف أفلودي جاءته وورد عليه وردها صفوا • وذلك ما ذكر لي بحضرته الشريفة زاد الله شرفها • وأعلى في قصر الدوام غرفها • الجناب العالي القضائي الولي الصفطي الشافعي عظم الله تعالى شأنه أنه لما من الله تعالى به على الإسلام والمسلمين • وأضاء بمشكاة طلعته الشريفة معالم الدنيا والدين • أخذ في هدم ما بنى من المظالم • ونقض ما أسس على الجود والمأثم • والخلاص من ما تحمله من قبله من المغارم • فمن ذلك أن الملك الأشرف أبا النصر برسبآي تغمده الله تعالى برحمته كان قد جمع أكابر الفرنج المستأمنين بإسكندرية ومصر والمتسببين بالممالك الشريفة الإسلامية وحجر عليهم أن لا يتجروا ببلاد الإسلام • وشوشوا عليهم بهذا السبب وغيره • ثم ألت القضية إلى أن ألزموا بمبلغ ثلثمائة ألف أفلودي وكسور في بطن ما يفسح لهم من التجارة والتسبب ببلاد الإسلام وكتب بذلك عليهم شهادات بشهود عدول وأثبت ذلك على القضاة وكان مستند من تعاطي هذه الأمور أن هذا مال ينفع الله به المسلمين • أو بنصرة جيوش الموحدين • فليدخر لما يحدث من جر منفعة أو دفع مضرة • فلما أشرقت الدنيا بأنوار الدولة الشريفة الملكية الظاهرية وكان علمها الشريف محيطا بأن ذلك كتب بطريق القسر والجبر والإكراه والقهر برزت المراسيم الشريفة
47ظ
بإبطال ما كتب من ذلك لكونه على غير الأساس الشرعي وقال مولانا السلطان نصره الله وأيده وثبت ملكه وخلده • إن كان الله تعالى قدر أن يمهدها قد أمرنا لفوز الدين • وينصرنا على الأعداء المتمردين • فلا حاجة بنا إلى هذا المال الخبيث • وإن كانت والعياذ بالله الأخرى فلا يفيدنا مال ولا رجال • فعلى كل حال لا تذمم مال أهل الذمة • ثم دعا من كتب ذلك عليه ودفع مكاتبته إليه • فلما رأت الفرنج إلى هذه القضية • سارعت إلى تهيئته شيء من الهدية فقدموا شيئا يساوي عشرة آلاف دينار وأكثر فلم يقبل مولانا السلطان خلد الله ملكه من ذلك ما يساوي الدرهم الفرد • ورد ذلك كله عليهم • وهذا الورع لا يكاد يفعله أحد إلا إن كان الجنيد البغدادي • أو إبراهيم بن أدهم • رضي الله عنمها • أو من يداينهما في زهدهما • ولو اتفق أن أحدا استفتى في هذه القضية أحد من العلماء بحل تناول هذا المال واستنبط له دليلا وأقل الأشياء كان يفتي بحل تناول الهدية وهذه نكتة من تورع مولانا السلطان في ادخار المال رغبة ليس له هذا أيضا رغبة في تحصيله من أي جهة كانت بل يتحرى جهات حصوله ويتوقى الشبه • وكانت الملوك السالفة • والسلاطين الماضية • من يد يد يده قد تعودوا أخذ شيء من القضاء في مقابلة ما يولونهم وظيفة القضاء واستمر ذلك عادة وديدنا حتى كأنه صار سنة ورسما معهودا • وإن قوله مخل بقواعد السياسة • واعتاد ذلك من يسعى في طلب القضاة حتى صاروا يتغالون في ذلك • ويتزايدون في رفع الأموال ولا يبالون بكلام الناس • وهذه البدعة السيئة كانت إحدى الحجج التي اعتل بها تمور على ملوك الشام وسلاطينهم • والسبب الباعث له على التوجه إلى بلاد الشام وكان في بعض مراسلاته إليهم أنهم يبيعون وظيفة القضاء ويرتشون على تولية المناصب الدينية ولا يلتفتون إلى من يستحقها بل يعطونها لمن دفع إليهم الذهب سواء كان عالما دينا أو فاسقا جاهلا • ويصيب أيضا العلماء والفقهاء لكونهم لا يتعففون عن ذلك ويقولون
48و
الوظائف بالرشي • ويذلون أنفسهم والعلم الذي من حقه أن يكرم ويرفع محله ويقول وإذا دفعوا في مقابلة وظيفة القضاء والتحكم في دماء الناس وأموالهم مالا فمن أين يأخذون عوضه إلا من أموال اليتامى • والارتشاء على الأحكام • والاستيلاء على الوظائف وقطع أرزاق المستحقين من الفقهاء • وطلبة العلم • والاستطالة على الناس بكل ما تصل إليه يدهم • وبويع المظالم على بلاد الله تعالى وعباده • وإذا فعل ذلك في المنصب الذي هو أعلا مناصب الدين • ووظيفة الأنبياء والمرسلين • وهو القضاء الذي به يميز الحلال عن الحرام • ملوك الناس وعلما وهم الذين هم أعلا الناس فلا عتب على العامة إذا أكل بعضهم بعضا • ثم أن تيمور جعل هذه ذريعة إلى توجهه على بلاد الشام • وإن جميع ملوك المشرق والمغرب ينتقمون على ملوك الشام • وقصر هذه الخصلة الوبيلة • فأما بن عثمان فإن عادتهم أنهم كل سنة يرسلون إلى سائر ممالكهم ويتفحصون عن أمور القضاة بحيث أن قضاتهم ينادون في كل مدينة كل من ظلم من القاضي أو قطع القاضي ممانعته فعليه بالملك العادل ابن عثمان • وإذا ولي بن عثمان قاضيا يقول له على شرط أنه إن ظهر عليك أنك ارتشيت على حكم الله تعالى أو حكمت لغرض بغير الحق أطعمتك لكلابي • إلى أن من الله سبحانه وتعالى على الإسلام والمسلمين بولاية مولانا السلطان جعلها الله ولاية دائمة وبإحياء الشريعة المطهرة قائمة • فأبطل هذه العادة البشعة • وأمات هذه البدعة الشنيعة • وصار أكره الخلق إليه من يدفع مالا في مقابلة ولاية القضاء • وجعل يرسم لمن يتق به ويقول كل من رأيتموه صالحا لوظيفة من الوظائف وخصوصا وظيفة القضاء إلى مصر أعلا مناصب الدين ارفعوا أمره إلينا • ثم أنه في شهور سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة قدم المرحوم القائي علاي16 الدين بن خطيب الناصرية من حلب وسعى أن يتولى وظيفة القضاء بها وبذل في مقابلة ذلك نحوا من ألفي دينار فاستشاطت الخواطر الشريفة بسبب ذلك فقيل يا مولانا
48ظ
السلطان إنما فعل ذلك على وجه الهدية لا في مقابلة الوظيفة فقال مولانا السلطان لما قدمنا مع العساكر إلى حلب هذا أهدى إلينا رأس غنم أو عشرة أجنحة من طير الدجاج فلولا أن له غرضا فاسدا لما أهدى الفي دينار فقال القاضي علاي الدين وأقسم بالله أنه إنما فعل ذلك غيرة على الدين وصونا لأحكام الشريعة المطهرة وإنه لا يأخذ في مقابلة ذلك من أحد من خلق الله شيئا • وإنه يخاف إن ولي هذا المنصب غيره أن يقع الخلل في أحكام الله تعالى أما لجهله أو لغرض فاسد • وكان القاضي علاي الدين المذكور من أهل العلم والمعرفة بالأحكام فلما تحقق مولانا السلطان ذلك منه قال فإذن نوليه بغير شيء وفعل ذلك • ثم إن القاضي علاي الدين المذكور استشفع إلى الأبواب الشريفة بأهل الخير والدين والصلاح وبكل من هده جميل بأن هذا مال حلال من غير شبهة وقد خرجت عنه وقد سمعت أن المراسيم الشريفة برزت بتهيئة أغربة ومواكب لمجاهدة أعداء الله فليصرف ذلك المال في هذا الوجه لعل الله يقبل ذلك فيكون لي فيه أجر • وإن قد وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا وأنا في غنية فيكون هذا أبعد ما بين يدي من لأمور أخرى فقبل اليسير منها بجهد • وصرف إلى الوجه المذكور • والعمل الصالح المبرور • ثم إن القاضي علاي الدين المذكور لم ينشب أن توفي إلى رحمة الله تعالى • وهذا إلا بنية مولانا السلطان أنار الله ضهيره • وأما بنية القاضي علاي الدين وإيمانه التي حلفه • وهذه العادة الشنيعة لما هدمها مولانا السلطان وبرزت المراسيم الشريفة بتولية كل من كان للقضاء أهلا من العلم والدين • والعفة والمعرفة بأحكام الشرع ودرية القضاء • وفصل الحكومات • فأختار لهذه الوظيفة النفيسة • والمنصب العالي بدمشق من يليق بذلك كالشيخ الإمام العلامة برهان الدين الباعوني فلم يقبل فازدادت رغبة مولانا السلطان في المشار إليه وتوفر اعتقاده فيه
49و
وذلك في شهور سنة أثنين وأربعين وثمانمائة إلى أن وقع الاختيار على قاضي القضاة شمس الدين أبي عبد الله محمد الوناي الشافعي فتجهز إليها في شهور سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة • فأجي شعائر الشرائع • ونصر الحق • ونصر المظلوم • وأوصل الحق إلى مستحقه جهده وطاقته إلى أن حج ورجع على الدرب المصري • واستقال منها • وذلك لعفته وزهده • واشتغاله بمذاكرة العلم الشريف • وطلب ما هو الأهم • وإذا رفع إلى الخزائن الشريفة شيء من الأموال لم يزل نصيب العين حتى يفوق على الجهات المبرورة وفي المصالح المشكورة • حسبما ذكر وما هو مشاهد • وهاهنا دقيقة غامضة لا يكاد يهتدي إليها إلا من وفقه الله تعالى وأرشده إليها مثل مولانا السلطان أنار الله بصيرته وعمر بواردات أنسه سريرته • وهي أن المال ليس محبوبا لعينه • ولا مطلوبا لذاته • بل إنما هو واسطة بين صاحبه وبين الأغراض المطلوبة مثل استجلاب خواطر الأولياء • وقهر الحساد • والأعداء • وإذا صرف إلى قهر الأعداء وكسرهم • فهو بين أمرين بين أن ينجح ويظفر بهم وبين أن لا ينجح فيضيع كل ذلك ويزيد عليه تحمل مشاق البدن ووهن العساكر • وتعب الأولياء والأصحاب • وحصول ما يترتب على ذلك من شماتة الأعداء • وظفر الحساد • كما فعله الملك الأشرف في التوجه إلى آمد بسبب عثمان وايلوك التركماني • لكن الطريق الأسلم • والخلق الأكرم • في ذلك تعاطي أسباب نصرة الموافق • واصطياد الأعداء • والمخالف باللطف والرفق • وبذل الأموال • وبذر حبات الإحسان • والإيثار تحت شباك مكارم الأخلاق • لإيقاع عصافير القلوب في شرك المحبة والطاعة • والانقياد بالسمع والطاعة • عملا بقوله صلى الله عليه وسلم ما كان الرفق في شيء الا زانه ولا فرق بين خزن المال • وخزن التراب والأحجار • وفي المثل لا طعم للشهد إلا في الفم وإذا كان لا بد من صرف المال لنيل المآرب وحصول المقاصد فبالطريق الأحسن
49ظ
أولى • ويبقى الثناء الحسن • وراحة القلب والخاطر • ورفاهية الجند والعساكر • واكتساب الدعاء والثناء • والظفر من كل الناس برق العبودية والولاء • والتيقن بحصول المقصود زيادة على ما في النفس • اللهم إلا إن كان الخصم لا يرضى إلا ببذل الروح • وينتصب للمناوشة والمهاوشة • ويتسم للمقابلة والمعاتلة • فعند ذلك يؤخذ في أمره بالأفكار الدقيقة • والحيل الغامضة • ويتعاطى دفع كيده وشره • وتدبير تدميره بأنواع المخادعة • وأبواب الحزم والتيقظ • ويبذل المال في ذلك • وقد قيل أضعف الحيلة خير من أقوي الشدة • وكما قيل شعر • • الرأي قبل شجاعة الشجعان • هو أول وهي المحل الثاني • فإذا هما اجتماعا لنفس حرة • بلغت من العليا كل مكان • ثم بعد ذلك ببذل الأموال • في اصطناع الرجال • وإعداد العدد • وأعداد العدد • كما قال الله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم • ومولانا السلطان خلد الله دولته • ونفذ في الأفاق كلمته • هو الذي وفقه الله تعالى لإدراك هذه المعاني الدقيقة • والطلاع على هذه الأسرار الجليلة • وها أنا أوضح ذلك ببرهان جلي • فأقول الذين عاصرتهم أنا وغالب أهل زماني من ملوك مصر والشام وسلاطينهم خاصة • منهم الملك الظاهر أبو سعيد برقوق رحمه الله والذي قاساه وعاناه من مشاق أمور السلطنة • وصعاب أحوال المملكة • لا يخفي على معاصر • ولا متأخر • إلى أن استقل بعد أنواع المحن • وركوب الأخطار • وتحمل أنواع الأوزان • وسفك دماء لا تحد ولا تحصر • إما بحق وإما بباطل • مع كثرة المخالفين • وقوة العصاة والمتمردين كنعم أمير العرب • وسوابك بن دلغادر أمير التركمان وغيرهم • ثم خرج من الدنيا وقلبه ملآن من حراتهم وزفراتهم • ولم يشف له غليل ولم يبرد له عليل • وإن كان
50و
التجأ إليه السلطان أحمد بن الشيخ يونس حاكم بغداد والعراق • والملك مجد الدين عيسى حاكم ماردين وديابكر17 وخطب له ببلادهما وضرب الدرهم والدينار باسمه فيها وفي تبرين فإنما كان ذلك بواسطة ما ألجأهما إليه تيمور وضيق عليهما وقصد بلادهما ولم يكن له في ذلك صنع وإنما ألجأتهما الضرورة إلى أن اديا إليه وجعلاه ظهرهما ولم يفدهما ذلك شيئا إلى أن درج إلى رحمة الله تعالى وفي قلبه من الحسرات ما فيه فتولى بعده ولده الملك الناصر فرج وكان من أمره أن سفك الدماء وقطع رؤس18 الرؤس من الملوك والأمراء إلى أن خلت الديار والممالك واستولى العدو الخذول تيمور على البلاد وجرى عليها ما هو مشهور • ثم بعد ذلك وقع بينه وبين أمراء عساكره ورؤس أجناده من السفك والفتك والقتل ما هو مشهود مذكور • وفي كتب التواريخ مسطور • وحاصل الأمر أنه لم يكن له نية في عمارة بلاد • ولا إصلاح عباد • وإنما كان منهمكا في لذاته • مشغولا بإبادة الملوك والأمراء من عساكره • إلى أن قتل شر قتلة وآل مآله إلى ما آل • ثم من بعده الملك المؤيد شيخ فبعد وقائعه مع نوروز وبعد نوروز عصيان الأمراء والنواب فأمر من اليمن ما لا يزيد عليه وتشتت الأمراء والعساكر منه في البلاد وأطراف الدنيا استقر واستقل ثم أراد أن يستخلص الممالك من أيادي مجاوريه فلم ير لذلك الارتكاب ما لا يحل فارسل إلى من عثمان الملك المظفر غياث الدين أبي الفتح بن محمد بن أبي يزيد بن مراد بن أورخان بن عثمان على يد قوجتار المؤيدي سنة 823 هدايا وتحفا ودس إليه في ذلك شيئا فمات إلى رحمة الله تعالى وأرسل إلى قرا يوسف شخصا يعمل المعاجين والجوارسان وكان قرا يوسف ممن لا يتقيد بدين • وكان يرغب في المفرحات والمخذرات فصنع له شيئا من المعاجين وأضاف إليه سما فقتله به • ثم لم يلبث الملك المؤيد أن توفي إلى رحمة الله تعالى فلا هو الذي بلغ مراده وصفا له الملك وتمكن في الدنيا بعد اضداده
50ظ
ولا هو الذي خلص من أثم القتل فتحمل أثام ذينك الملكين ودماؤهما ثم لحقهما عن قريب بحيث لم يكن بينهم إلا أقل من نصف سنة وذلك في شهور سنة أربع وعشرين وثمانمائة فتولى بعده الملك الظاهر أبوا الفتح تتر رحمه الله تعالى فلم يمهلهم الزمان إلى أن يرتب الأمور • ويمهد أحوال الممالك • وطرائق السلطنة والسياسة • فتولى بعده الأشرف • أبو النصر برسباي فلم يكن له دأب إلا في ادخار الأموال حلالا وحراما ومعاداة الغريب والقريب • والترفع عن الناس • والاحتجاب عنهم • ولم يكن عنده من الناس مسلم إلا من كان عنده ذهب أو مال فرشاه • أو قدم إليه شيئا من سحت الدنيا في مقابلة توليه الوظائف والمناصب • وأما العلم والفضل والاستحقاق في أيامه • وكان من أكبر أمور الناس مع أنه كان لم يكن له في تدبير الملك • ولا في سياسة الرعية رأي ولا تدبير • وإنما كان له سعد عال • وحظ مساعد • وزمام اختياره كان في يد غيره يصرفه كيف ما اختار إلى أن اندرج إلى رحمة الله تعالى وهو على ذلك • ولو أطلت لسان القلم في ترجمة كل واحد من هؤلاء الملوك والسلاطين واستوفيت بقدر الإمكان ترجمته لطال الشرح وانفرط نظام المقصود من هذا الكتاب • وأما أولاد هؤلاء الملوك فلم تكن مدتهم إلا يسيرة ولم يكن لهم حل ولا ربط فيما في ذكرهم كبير فائدة • وأما الملك الظاهر برقوق والملك المؤيد شيخ • والملك الأشرف برسباي • فإنهم كانوا أحرص خلق الله على جمع المال • وأبخل خلق الله ولم يكن لهم دأب إلا في ادخار الأموال • والملك الظاهر برقوق كان أطيب نفسا من الملك المؤيد • والملك الأشرف • وما أفادهم في ذلك شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة وأما الملك الناصر فرج فإنه كان متلافا مسرفا في إخراج المال لكن لا في وجوه الخير • ولا يقصد بذلك البر والأجر والثواب • وأما الملك الظاهر تتر فإنه كان محسنا حسن الطوية والاعتقاد ولكن لم يساعده
51و
الزمان فتوفي إلى رحمة الله تعالى سريعا • ومدة سلطنته كانت يسيرة نحوا من ثم أن الله تعالى أنار الافاق بطلعة مولانا السلطان وولايته فتنفس الزمان ورفع الدهر عن كاهل الإسلام والمسلمين كل الجور والعدوان • فأحسن مراسم العدل والإنصاف • وأفنى مواسم الجور والاعتساف • ورفع لواء الحق • ونصر أولياء الصدق • وربي العلم والعلماء • وإلى مراتب الفضل والفضلاء • ونظر في حال الغريب والقريب • وأحسن إلى كافة الناس من كبير وصغير • وغني وفقير • ومأمور وأمير • واجتهد في إعلاء كلمة الله تعالى • وإحياء رسوم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم • ووضع كل شيء في محله • وولي كل وظيفة أهلها كما ينبغي • ثم أنه حفظ عهد القدماء من خدمه • ومن بينه وبينه أدني معرفة • فضلا عن سابق خدمة أو أكيد صحبة ومحبة • فرفع من قدر الجميع • وشمل الكل بصدقاته الوافرة • وعطاياه العاطرة الماطرة • ونشر لواء المواهب على أطراف الأفاق • وهادن الملوك وهاداهم وصادق سلاطين الأطراف وصافاهم • وكان ذلك دأبه ودينه من أول ما اشتهر أمره في الدنيا حتى كانت الملوك والسلاطين من الجوانب يتمنون أن لو كان الأمر إليه • وإن عول في أمر مصالح الإسلام والمسلمين عليه • إلى أن انجح الله تعالى قصدهم • وزين سعادتهم وسعدهم • واستجاب دعاهم • وقضى مناهم • فابتهجت الدنيا شرقا وغربا • بعدا وقربا • فصار كل يوم يزيد ما كان يفعله من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم • وينشر سحائب الجود على أطراف البلاد وعطر غيث الكرم • حتى قيد الناس بإحسانه • وملك ملوك الدنيا بصدقاته وامتنانه • شعر • ومن وجد الإحسان قدا تقيدا • وقيل قيل للإسكندر بم نلت ما نلت قال باستمالة الأعداء • والإحسان إلى الأصدقاء • وسنذكر في فصل الحزم وفكر العواقب حكاية الشيخ صفا • ثم
51ظ
إن جميع المخالفي والموافقين اغتنموا فرص امتثال أوامره • وسارعوا إلى تقبيل الأرض بين يدي المواقف الشريفة • وحصل لهذه الدولة العادلة بعون الله تعالى ما لم يحصل للملوك والسلاطين قبلها • فممن ابتهج غاية الابتهاج • وانشرح صدره غاية الانشراح • شاهرخ بن تمور صاحب ممالك العجم • والهند • وما وراء النهر • وخوارزم • وإذربيجان وكيلان • وعراق العجم • وغيرها • وأجرى الله تعالى ما يجب عليه من وظائف الشكر وطير بطارق البشائر من أطراف ممالكه بذلك • وكان ممن آخا مولانا السلطان قبل الولاية وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى • ثم المقر الشرق المرادي ابن عثمان صاحب ثغور الروم • وملك الغزاة والمجاهدين • وكان يدعو مولانا السلطان أبا • وممن سارع إلى المثول بين يدي المواقف الشريفة الجناب العلاي علي بيك بن عثمان • وأيلوك هو وأولاده وأهله وهو أنجب أولاد عثمان الذكور وأقر بهم إلى الخير فأولته المواقف الشريفة من صدقاتها سابغ النعم وفائض الكرم ولما برزت المراسيم الشريفة بتجهيز المشار إليه إلى الحجاء الشريف وكان وقت الحج قد قرب فانهال عليه من الإنعامات والصدقات بما كان محتاجا إليه من البر والمحابر والمحفات والأزواد والرواحل وجميع الاستعدادات الملوكية له ولأولاده ولمن معه من جماعته ففاض عليهم من ذلك ما لا مزيد عليه ثم خرج المحمل وكان المشار إليه في القلب من الطليعة والجناب الشرف بيك المؤيدي يمنه • والجناب الشريف نوروز ميسرة • وأمير الحاج المقر الشريف قاني بيك نائب القلعة المنصورة فحج المشار إليه بعد أن كان منغمسا في بحار الخطايا والآثام حجة الملوك ثم قفل فتضاعفت عليه الصدقات الشريفة بأنواع الخيرات وأصناف المبرات • وخير بين الإقامة في الخدمة الشريفة وبين سكناه من أي مكان أراد من الممالك الإسلامية مع ما يسري إليه من الانقطاعات • وسائر أصناف
52و
الجبر والصدقات وكان ذلك في أواخر شهور سنة إثنين وأربعين في أوائل سنة ثلث وأربعين وثمانمائة • ثم في يوم الخميس ثامن عشرين شهر رمضان المعظم قدره سنة ثلث وأربعين وثمانمائة قدم إلى دمشق المقر الكريم الشرفي الناصر محمد بن دلغادر أخو سولي بيك المذكور وهو أمير التركمان وحاكم أبلسنين وقيسارية وما والي ذلك من المدن والقلاع قاصدا المثول بين يدي المقام الشريف متقلدا طوق السمع والطاعة • ولفضل ما أسدى إليه من الصدقات الشريفة في موضعه ولقد خرج أكابر الملك والسلاطين من الدنيا وفي قلوبهم من المشار إليه وممن تقدمه من الدلغادرية وخاصة أخيه سولي بك الحسرات من زمان الملك الظاهر برقوق • ومن ولي بعده من الملوك • وكان قد أعجز الجميع مع ما يجرون له من العساكر والجنود ويتأهبون له بأنفسهم بالاستعدادات التامة والعدد والعدد • فتحصن منهم في رؤوس الجبال والأماكن الصعبة الوعرة السلوك فلا ينالون منه الثأر • ولا يدركون منه ولا الغبار • وكان لعب بعقل الملك الأشرف برسباي وأدى إليه جانبك الصوفي وأرسل إلى الملك الأشرف التمس منه أشيئا من جملة ذلك قلاعا وأمرته تقدمة في حلب وألوف دنانير معينة ليرسل في مقابلة ذلك جانبك الصوفي فأجابه إلى ما سأل وأرسل جميع ما طلبه من الأموال والأمرية بزيادة ووعده المواعيد الجزلة الجميلة فأخذ ذلك كله وأطلق جانبك وصاهره ولم يآل بالملك الأشرف فحصل له من الخنق والغيظ ما كان يفطر قلبه ثم أنه جهز إليه العساكر والأمراء ومنهم مولانا السلطان والأمير أركار الدوادار الظاهري فجردهم وأرسلهم إليه على عادته برؤس الجبال فأوغل العساكر في طلبه حتى دخلوا المضائق والأماكن الوعرة العسرة السلوك وخاطروا بأنفسهم وأمكن الأمر ناصر الدين فأخذ الطرق عليهم وقبضهم والفتك بهم
52ظ
كما يختار فلم يفعل من ذلك شيئا فأشار عليه جماعة من أهله وقالوا افعل معهم كما فعل أخوك سولي بك بالعسكر الذي أرسله إليه الملك الظاهر برقوق وصورة الواقعة إن الملك الظاهر برقوق رحمه الله في أول ولايته في سنة سبع وثمانين وسبعمائة أرسل جماعة من العساكر إلى سولي بك بن دلغادر أخو ناصر الدين المذكور فوصلوا إلى أيلتيزا وما يدانيها من محاذاة باب الملك وأوغلوا في طلبهم وهي أماكن صعبة المسلك عسرة الطرق فأخلوا لهم الأماكن فتصوروا أنهم هربوا منهم فتطلبوهم في كل شاهق ودخلوا الأوعار والمضائق وتشعبت بهم الشعاب والدروب وهم غرباء لا يهتدون إلى سلوكها وأهل مكة أخبر بشعابها فانقلب الراكد عليهم وداروا وسدوا عليهم أفواه الدروب والمسالك وتناولوهم بالأحجار والسهام والمقاليع وصاروا من كل حدب ينسلون وأخذوا يأسرون ويسلبون • ثم أنهم سلبوهم ثيابهم وما معهم وأطلقوهم فوصلوا إلى حماة في أبشع صورة ودخل الأمير الكبير منهم وهو عريان على حمار إلى حماة ولم ينالوا من الراكد غير السلامة بالروح كما قيل • • أيا بك سالما نصف الغنيمة • وكل الغنم في النفس السليمة • فلما جهز الملك الأشرف العساكر إلى الأمير ناصر الدين كما ذكروا مكنه إيذاؤهم ولم يفعل وأشار عليه جماعته بذلك فقال كلا لا أفعل شيئا من ذلك ولا أوصل إليهم • مكروها وذلك لأن فيهم الرجل الخير • والسيد الجليل الأمير جقمق • الولي الخفي • والكامل المسري • مغيث الملهوف • وصاحب الخير الجم والمعروف • والأمير إزكمار • فأنا أكرم هذه العساكر كلها لأجل هذين الأميرين العظيمين • ولأجل عين تكرم ألف عين • فبلغ الملك الأشرف على ما أرسله إليه غاية الندم وأكل يديه اسفا عليه وخرج من الدنيا بحسرته وذلك لما كان مولانا السلطان يسدي من الخير والمعروف لكل أحد من خلق الله تعالى قريبا كان أو بعيدا معرفة أو غير معرفة إن كان أمكنه
53و
بالفعل وإيصال خير ومعروف كان وإلا فلا يقصر في القول والتربية وسد خلل الكبير والصغير • وكان كما نقل إذا ذكر الأمير ناصر الدين بن دلغادر بحضرة أحد من الملوك وخاصة الملك الأشرف يذكره بالخير • ويدافع عنه مهما أمكن • وكان يبلغ ذلك ناصر الدين فكان ذلك الموجب لكف الأذى عنهم في تلك التجريدة كما قيل • • الخير أبقى وإن طال الزمان به • والشر أخبث ما أوعيت من زاد • ثم إن ذلك أدى إلى أنه لما شرفت الدنيا بولاية مولانا السلطان وصل ما كان يقوله في حق الناصري المشار إليه من الخير بالفضل فلم يسعه إلا الإسراع والمثول بين يدي المواقف الشريفة السلطانية واستقبال أوامرها بالامتثال بالسمع والطاعة ففعل معه من اللطف السابغ والكرم السابغ ما لا يمكن حصره ولا إحصاؤه وسيأتي تفصيل ذلك • فانظر إلى الملك الأشرف هل أفاده تهيئة العساكر وبذل الأموال والأرواح والتوجه إلى عثمان قرا ملوك في سفره إلى آمد وتجهيزه العساكر إلى الأمير ناصر الدين بن دلغادر المشار إليه غير التعب والنصب والخيبة والمشقة ووقوع الوهز في الأبدان والنقص في الأموال ولتسلط الألسنة عليه بالتشنيع • وتشفي المخالفين • وكيف آل مآل ذلك إلى الندم • ولقد هم مرارا لما كان في آمد أن يبيد العساكر الإسلامية وراء ظهره ويركب البحر ويهرب متوجها إلى الشام فثبته الله تعالى حتى رجع وعرضه باق عليه • ثم أنظر كيف امنع وأزهر وانتج وأثمر جميع ما كان يغرسه مولانا السلطان الهمه الله العدل والتوفيق • وهداه بلطفه ورحمته إلى سواء الطريق في قلوب الأقارب والأباعد وملوك الأفاق • وسلاطين الأطراف من الود والإحسان ومكارم الأخلاق • بحيث صار أمره الشريف نافذا في مسامع الكل • وتحكم فيما كان بين يديهم من جل وقل • وهذه نكتة عزيزة من التوفيق التي قل من يهتدي إليها إلا من وفقه
53ظ
الله تعالى ولذلك قيل التوفيق عزيز وذكره الله تعالى في القرآن في موضع واحد في قصة شعيب عليه الصلاة والسلام من سورة هود وهو قوله تعالى وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب • ولقد قال قرا يلوك إن الملك الأشرف ليس التدبير ضيق العطف وإنه لو أرسل إلي كلاما يستعطفني مع شيء مما يليق بحشمة الملوك ولو كان قليلا وأوتي شيء يجبر بذلك خاطري ويرفع من قدري نحو فرس أو خلعة لبلغ مني ما يريد ولتوفرت عليه حشمته وهيبته • وبقيت له راحته وحرمته واستراح بدنه وعسكره • واطمأن قلبه وخاطره • ولو اتخذني مملوكا له وصديقا لكان خيرا له ممن يتخذني عدوا • ولكفيته كثيرا من أمور مخالفيه وأعدائه بديار بكر وغيرها • وقال لي الجناب الغرسي السخاوي أن أربعة نفر من التركمان جاؤا19 إلى الأبواب الشريفة قاصدين صدقات مولانا السلطان ومراحمه وهم من أفراد التراكمة • لا من العير ولا من النفير • فرسم لكل واحد منهم بمائة وخمسين دينارا فقالوا يا مولانا السلطان جئنا من بلاد بعيدة وقد سمعنا بمراحمك الجمة وصدقاتك الوافرة • فالحمد لله رأينا أكثر ما سمعنا • ونريد مراكيب نرجع بها إلى من ورائنا ولتكن خيولا فلاحا فإن لنا أصدقاء وأعداء • تسر اصدقاءنا • وتسر أعدانا • وترى الناس إنعام مولانا السلطان • وسابغ صدقاته فرسم لهم بذلك • فقالو يا مولانا السلطان بسروجها ولتكن مغرفة بكنائس فأنعم بذلك • فقالوا يا مولانا السلطان غمرتنا الصدقات الشريفة ولم يبق يليق بنا إلا معاداة عدوها • وموالاة وليها • فنسأل فائض برها • فراتك وخوذ فأنعم بذلك فقالوا يا مولانا السلطان وسيوفا مصرية نقاتل بها أعداء مولانا السلطان ومخالفيه فأعطوها فقالوا وبكاتر ليخولنا فأجيبوا لذلك فقالوا يا مولانا السلطان هذه الصدقات مما تتعلق بنا وقد تركنا أهلا وأولادا وهم مترقبون ايابنا بما تبرز به الصدقات الشريفة لهم فبرزت الصدقات
54 و
لكل واحد منهم بعشرة مقاطع اسكندرانية حتى قوم ما لكل منهم بأكثر من ألف دينار فرجعوا على بلادهم وقالوا من أراد خيري الدنيا والآخرة فعلية بالأبواب الشريفة المولوية السلطانية فإن عطاياها وصدقاتها قد ملأت الخانقين • فسألت أطراف الأرض شرقا وغربا إليها وقصدها الأمير ناصر الدين المشار إليه • ولقد رأيت طالب علم من أهل سمرقند من أهل الخير والصلاح وله استعداد في العلم وكان قد خرج من ما وراء النهر قاصدا أداء فرض العمر فلما حج توجه على مصر وأقام بمدرسة البيبرسيه ولم يكن له قوة الكتابة ولا قدرة سرا كتب وكان قصده أن يظفر بسند الحديث الصحيح لينشره في بلاده ولم يكن في هذا العصر مثل مولانا قاضي القضاة شهاب الدين بن حجر الشافعي أسبغ الله ظلاله فصار ذلك الرجل يستعير طلبة العلم كتاب البخاري ويقرأه على مولانا المشار إلهي وهو غريب لا يؤبه له وهو متحسر أن يحصل له كتاب يصحبه فذكرت قصته لمولانا الجناب الشمسي الكاتب البطانة الخيرة فأنهاها إلى المسامع الشريفة فما كان الجواب إلا ببخاري في أربع مجلدات نفيسة مصححة بخط واحد محشاه مقروءة على المشايخ أهداها بعض الداعين لمولانا السلطان تساوي أكثر من مائة دينار فاشترط ذلك العالم أن ما دام في قيد الحياة أن يختم هذا كل سنة في ذلك الكتاب بسمرقند وما وراء النهر ويهدي ثواب ذلك إلى الصحائف الشريفة وكان ذلك الكتاب عنده أعز من روحه • وماذا يمكن الإنسان • أن يصف عن البحر وكرمه • والسحاب الغزير وديمه • فاسأل الله تعالى أن يعامل مولانا السلطان بكرمه العميم • ويسئل عليه في الدنيا والآخرة ذيلا حسانه الجسيم لان الجزاء من جنس العمل • وتتمم بذكر المؤلفة قلوبهم فإنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة • • فصل في الحزم وفكر العواقب وحسن التدبير •
54ظ
اعلم أن التفكر في الأمور وعواقبها والأخذ بالحزم من أعلى المقامات وهو قريب من مقام المراقبة والمحاسبة • ويترتب عليه الشروع في الأهم وحفظ الأوقات • ومراعاة النفس • والاشتغال بأحسن الأعمال إلى غير ذلك • قال الله تعالى إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب إلى آخر الآيات وقال تعالى إن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الآية • ولم يذكر الله تعالى في كلامه المجيد شيئا مما يدل على عجيب صنعه وينبه على بديع حكمته إلا وأعقبه بالحث على التفكك والتأمل مثل قوله تعالى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون يعقلون يفقهون • والأخذ بالحزم الاحتياط والتفكر في العواقب لا يضر بالتوكل • والتفويض إلى الله تعالى • وإن كان لا يجري في الكون شيء إلا بتقدير الله تعالى وارادته غير أن الإنسان له اختيار جزئي يترتب عليه أمور الدنيا والآخرة فيحتاج في ذلك إلى تدبر وتفكر وتأمل في عواقب الأمور • قالت عائشة رضي الله عنها وقد سئلت عن أعجب • ما رأت من رأت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كل امره عجب أتاني في ليلتي فدخل معي في فراشي حتى الصق جلده بجلدي ثم قال يا عائشة أتأذنين لي أن أعبد ربي فقالت والله إني قربك وأحب هواك فقام إلى قربة فتوضأ منها ثم قام فبكى وهو قائم حتى بلغت الدموع حجره ثم اتكئ على شقه الأيمن ووضع يده اليمنى تحت خده الأيمن فبكى حتى رأيت الدموع بلغت الأرض ثم أتاه بلال بعد ما أذن الفجر فلما رآه يبكي قال تبكي يرسول20 الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا وقال ألا أبكي وقد نزلت علي الليلة أن في خلق السموات والأرض إلى قوله تعالى سبحانك فقنا عذاب النار ثم قال ويل لمن قواها ولا يتفكر فيها وروى في بعض الأخبار من نظر في النجوم وتفكر في عجائبها وقدرة الله تعالى فيها وقد أرتنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار وكتب الله له بعدد كل نجم في السماء حسنة
55و
قال عليه الصلاة والسلام تفكر ساعة خير من عبادة سنة • وكل أحد محتاج إلى التفكر إما في أمور المعاش وإما في أمور المعاد من لم يفتكر في العواقب ما الدهر له بصاحب • قال أفريدون من أدرع الحرام من سهام المكائد • وقيل من علامة الدولة قلة الغفلة • وقال بعض العلماء من أعرض عن الحزم والاحتراس • وبنى أمره على غير أساس زال عنه العز واستولى عليه العجز • وقيل أضعف الحيلة خير من أقوى الشدة • قال أبو مسلم الخراساني • • أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت • عنه ملوك بن مروان إذا حسدوا • • ما زلت أسعى بجهدي في ديارهم • والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا • حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا • من نومة لم ينمها قبلهم أحد • ومن رعى غنما في أرض مسبعة • ونام عنها تولى رعيها الأسد • وأمور السلطنة تقتضي ريادة التدبير والتفكر في حسن السياسة وغموض الفكر والتعمق في أمور الناس وأكثر الناس احتياجا إلى التفكر والتأمل من ولى أمورهم فإنه كلما اتسعت دائرة ملكه وكثرت أقطار ممالكه زاد ضبطه في تدبيرها والقيام بمصالحها فتتسع دائرة فكرته • وتتشعب آراؤه • وطرق تدبيره فإن كان له أولياء ونواب • وجند وعساكر • فهو دائما مفتكر في تدبير مصالحهم • وحفظ ودادهم • وعمارة ولايتهم وأثارهم • وأن لا يميلوا عنه • ولا تفسد عقائدهم عن محبته وولائه • ولا بد له أعداء وحساد فهو دائما متفكر في كيفية • ردهم إلى الوفاق ونظمهم في سلك الرفاق • أو في تدبير تدميرهم • وقهرهم واستئصالهم • ومع هذا فلا بد أن يكون محترزا من عارض يعرض له • أو ممن يقصده بسوء • فعلى كل مال لا يخلوا باله من الأفكار • والأخذ بالحزم والتدبير في مصالح نفسه ومملكته وأوليائه وأحوال مخالفيه وأعدائه • وهذا النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه الخندق
55ظ
وتفخيذة وبدر وقيل كعب بن الأشرف • وعبد الله بن أبي الحقيق ويبسط ذلك • رأيت في جامع الحكايات أن أحد نواب السلطان محمود بن سبكتكين رحمه الله كان يدعى أبا العباس عصى عليه في قلعة تسمى رأس الكلب من بلاد خراسان وكانت على رأس جبل وهي شاهقة عاصية بحيث أنها لم يمكن حصارها ولا مناوشتها • ولا يصب المجانيق عليها فأرسل إليه السلطان يلاطفه ويستهل خاطره ويستعطفه بكل ما أمكنه فلم يفده شيئا ولم يذعن • وطالت مدة العصيان والمراسلة بينهما • فجهر من بعض أمرائه شخصا يقال له نظام الدين مجردا إلى جهة • ثم قال له جز في طريقك بقلعة رأس الكلب وافعل في التوصل إليها ما يمكنك من جليل الأفكار ودقيقها • ولا تبق مجهودا في استخلاصها • وفي كفايتك ما يغني عن زيادة التأكيد • فتوجه نظام الدين إلى وجهة وقضى شغله ثم قفل فجاز في طريقه بالقلعة المذكورة • وأرسل إلى أبي العباس يلاطفه ويسالمه مع هدايا وتحف جليله • ثم تكفل له بإرضاء السلطان وبالغ في ذلك بحيث أنه لان إلى كلامه واصغى إليه • فلما علم نظام الدين أن كلامه أثر في أبي العباس قال له أريد الاجتماع بك فإن معي مشافهة لا يؤمن عليه كتاب ولا رسول فسمح بذلك ولان لنظام الدين أن يصعد إلى القلعة فألبس نظام الدين بعض خواصه الدروع تحت الثياب وقال لهم أجهدوا أن تصلوا إلى باب القلعة فإذا أملكنا الباب نرجوا أن نصل منه إلى القلعة ثم توجهوا فأرسل أبو العباس جماعة من جنده فاستقبلوا نظام الدين وجماعته في أسفل القلعة وقالوا لهم إن مخدومنا أبا العباس رسم أن لا يصعد غير نظام الدين ولا يتقدم أحد من جماعته عن هذا المكان فلم يكترث نظام الدين بهم ولا أثر ذلك فيه ولا أنجبه بل قال لهم انصرفوا كلكم إلى الوفاق ولا يقف أحد منكم هنا فرجعوا إلى مخيمهم ثم توجه هو بمفرده فدخل القلعة واجتمع بأبي العباس ولاقى كل واحد منهما بالإكرام والاعزاز والاحترام • والاحتشام التام • وجلسا في مكان
56و
عال مشرف على ما تحته • ثم مدوا السماط واحضروا أنواع الأطعمة الفاخرة المتكلفة ولما فرغوا تباثوا الأشواق والأخبار وانبسطوا فقال نظام الدين لأبي العباس أريد ان أسر إليك كلاما لا يحضرنا فيه أحد فأمر أبو العباس جماعته أن يخرجوا واختليا فلم يبق عندهما غير صبي دون البلوغ كان يحمل لأبي العباس العكازة التي كان يتوكأ عليها فإنه كان به وجع النقرس غير أنه كان آمنا على نفسه من الفتك لأن في محل عزته وبين حفدته وجماعته • فلما خلا المجلس تحدث طويلا ثم أن نظام الدين عمد إلى خنجر كان معه فقتل به أبا العباس فدهش لذلك الصبي وجمد مكانه ثم أنه أخرج من ساق خفة طنب حرير فربط طرفه في وسطه وشد طرفه الآخر في ساق السباك وتدلى إلى أن وصل إلى الأرض واجتمع بجماعته سالما فلما يشعر أهل القلعة وجماعة أبي العباس إلا وقد فاتهم نظام الدين ووصل إلى مأمنه فاختل أمرهم ولم يسعهم إلا التسليم والإذعان فلم يبرح نظام الدين أن ملك القلعة وأخبر السلطان أنه كفاه مؤنة أبي العباس • فانظر ما أحسن نظام الدين وأدق حيلة واحدة بالحزم حيث افتكر أولا في خلاص القلعة بالقوة والقهر فالبس غلمانه الدروع وأمرهم أن يأخذوا أسلحتهم وحذرهم لذلك ثم افتكر في أن ذلك قد لا يتم ولا يصعد معه • وتلجئة الضرورة أن يدخل وحده ولا يمكنه التوقف على الدخول إليها فيفتضح أذ هو طلب ذلك فإذا دخله كيف يتمكن من بلوغه إلى ما يقصده ولا يمكن ذلك إلا بالفتك بأبي العباس فإذا فتك به وهو منفرد عن جماعته فإنه أيضا يقتل ولا يفي هذا بذا فافتكر في وجه خلاصه بعد قتله أبي العباس فأداه اجتهاده أنه ليس له مخلص إلا من الشباك بالتدلي فأخذ أهبته لذلك وهذا واشباهه أمور لا يستغنى عنها الملوك • وكان الداهية الدهياء والطامة الكبرى في باب التفكر والتدبير والمغالطة والتأمل في عواقب الأمور والأخذ بالحزم وأنواع الحيل وذلك تمورلنك المخذول فإن أفكاره وتدابيره
56ظ
أبحرا لا تدرك لها غواص العقل ولا يسلك في طريقها المصيب الوهم سهل ولا وعر وقد ذكرت نبذة من ذلك في تاريخه ومما لم أذكره في ذلك الكتاب أنه لما قصد بغداد بعد رجوعه من الشام كان قصده أن يخربها ويفتك بأهلها ويقتلهم فإن السلطان أحمد كان قد هجاه وأنكاه بالقول وذكره بأسواء ما يكون فحنق عليه وأضمر له كل سوء وكان السلطان أحمد قد تحقق ذلك منه فلما وصل تيمور إلى ماردين واشتغل بحصارها • وكان في شهر رمضان سنة ثلاث وثمان مائة علم السلطان أحمد أن تيمور لا بد له من التوجه إلى بغداد وأنه يغدر به فلم يقر له قرار لأنه قد تحقق من دهاه ومكره • وغامض حيله وفكره • ما يخفي في كثير من العقلاء • فلم يسعه غير أن أخلى له بغداد • وتوجه نحو ديار الشام • واستخلف في بغداد شخصا يقال له فرج وشخصا آخر يقال له بن البليقي • وأوصاهما أن لا يغلق في وجه تيمور باب ولا يشهر في وجهه سيف • فمهما أراد أن يفعله يفعل فبلغ تيمور ذلك • وكان قصده التشفي من السلطان أحمد فحين فاته ذلك أراد أن ينتقم من ممالك العراق الجارية تحت ولايته لأنه لم يجد لدائه دواء • ولا لغليله شفاء • إلا بخراب مملكته وتدمير رعيته • وما أمكنه تعاطي أسباب ذلك مع تسليمهم المدينة ومهادنتهم وانقيادهم إليه • فأرسل إليهم من العساكر نحوا من عشرين ألف مقاتل مع الشيخ نور الدين • وجلال الإسلامي ورستم ورسم أن يتسلموا المدينة • ويكون الأمير بها من قبله رستم • ولا يخربوا ولا يقتلوا • وينادوا بالأمان والاطمئنان • فلما انفصل العسكر تمارض وأشهر أن ضعفه صعب وجعل يشيع ذلك ويرجف به ويأذن للناس فيدخلون عليه ويشاهدونه ملقى على فرش الفناء فانتشر ذلك في أقطار البلاد ثم احتجب فأشاعوا أنه مات واشتهر هذا الخبر • وتحقق غالب الناس ذلك ووصل على بغداد ولما تحققوا ذلك قال فرج إذا كان الأمر كذلك ومات تيمور
57و
فلم نعطي المدينة أو نسلم المدينة وكان قصد تيمور بذلك ما هو أدق من هذا كله وهو أن السلطان أحمد إذا سمع أن تيمور قد مات يرجع إلى بغداد وربما يطمع في عساكر تيمور فيقصدهم فيقع إذ ذاك في مخاليب تيمور • ثم أن فرج امتنع من تسليم المدينة واستعد للحصار وأخذ في أهبة القتال فوجد تيمور عند ذلك سبيلا إلى استئصالهم وخراب المدينة وقطع دابرهم فتوجه إليهم بالجنود والعساكر وفعل بهم ما فعل • ومن ذلك قصته مع سلطان ماردين الملك الظاهر وقد ذكر بها وهو أنه لما أراد أن يستولي على قلعة ماردين عمل مع الملك الظاهر أنواع المكر والحيل والدهاء وذهب فكره في ذلك كل مذهب فحسبه في مدينة سلطانية سنة ولم يظفر منه بطائل فما وسعه إلا أنه غالطه وصالحه فعانقه وأحسن إليه أحسانا لا مزيد عليه وقال إنك ولي من أولياء الله وأنا ما كنت أعرف قدرك واعتذر إليه وولاه جميع ما حواليه من القلاع والمدن منها ما هو متعلق بممالك الشام • ومنها ما هو متعلق بالسلطان أحمد ومنها ما هو متعلق بصاحب دياربكر وغير ذلك • وقصده بذلك القاء الشر والعداوة بينه وبين مجاوريه • وكتب له ستة وخمسين منشورا كل منشور بولاية مدينة فإذا تشهروا لعدوانه وقصدوه من الجوانب والأطراف • لم يكن له أحد يلتجئ إليه إلا تيمور فيستظل بجناحه فيصل منه إذ ذاك إلى القلعة ولكنه خاب سعيه وقد اشبعت القول في ذلك في تاريخ تيمور • وأفكار تيمور الدقيقة • وأراءه العميقة • لا تكاد تحصى • ولا يستغني من قصده النظر في دقيق الآراء وغامض الأفكار • وخاصة الملوك والسلاطين عن مطالعة ما ذكرته في تاريخ تيمور • لك بديهة مولانا السلطان نصره الله نصرا مؤزرا • وجعل صحة العزم والحزم • والجزم لسلطان فكره الشريف وزراء • أحسن من كل روية • وأرضى من كل فكرة ورية • مع المساعدات الإلهية • والتوفيقات الربانية • وكأنه
57ظ
وكأنه في شأنه الشريف قيل أهل الدول ملهمون • وسيأتي في المجلد الثاني ما يقضي الناظر منه العجب في حوادث سنة إثنين وأربعين وثمانمائة إن شاء الله تعالى كان الفاضل كثيرا ما ينشد • • وإذا السعادة لاحظتك عيونها • نم فالمخاوف كلهن أمان • • واصطد بها العنقاء فهي حبائل • واقتد بها الجوزاء فهي عيان • أما رأيه الصائب • وتأمله الثاقب • وتأمله في العواقب • وما يتعلق بأمور الآخرة • ومما يدل على ذلك حسن معاملته مع الخالق والمخلوق • والقيام بامتثاله أوامر الله تعالى • وأحياء شعائر شرائعه • واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلوكه سبيل السلف الصالح • وطريقة الصحابة والتابعين • رضي الله عنهم أجمعين • مهما أمكنه • والتودد إلى عباد الله تعالى بأنواع البر والإحسان • وأصناف مكارم الأخلاق قولا وفعلا • ونية واعتقادا • فإنه مشاهد ليلا ونهارا لا يحتاج إلى دليل • وقد مر ذكر ذلك مرارا • وكان من أقوى الدلائل الحسية على تفكريه في أمور الآخرة • والاستعداد ليوم المعاد • فإن من اعتقد حقية المعاد • والقدوم على رب العباد • فلا بد أن يجتهد في إصلاح أمور الآخرة ومعادة • ويهيئ أسباب الإقامة لما بين يديه من زاده وعباده • هذا ما يتعلق بأحوال الآخرة وامر المعاد • وأما ما يتعلق بأحوال الدنيا وأمر المعاش • من تدبير مصالح رعيته وسياسة الملك بالفكر الدقيق • والرأي الصائب • فمن خير تولي المناصب السعيدة • والولايات العالية • لم يزل يتصيد قلوب الناس ويستجلبهم بالكلام اللين • واللطف البين • والخلق الهين • ويسدي إليهم أنواع المبرات • وأصناف الخيرات • وذلك بتوفيق الله تعالى وحسن إرشاده • وتسديده في سابق الأزل واسعاده فمن ذلك قضية الشيخ صفاء الدين يذكر أنه من المقربين عند المقام
58و
الشريف شاهرخ كان قد قدم القاهر على زمان الملك الأشرف فاعتنى بشأنه وجهزه إلى الحجاز الشريف • ثم إنه رجع إلى وطنه • فاتفق أن الملك الأشرف جهز قاصدا إلى المقام المشار إليه به عن آق تاو فاجتمع مع الشيخ صفاء عند المقام المشار إليه وذكر عن مالك الشام وأمور حكاهما أشياء فانكره عليه الشيخ صفاء أو عارضه فيما ذكره وحصل لآق تاو بذلك خجل أو وهن وانكسار من الملك شاهرخ المذكور وبلغ ذلك إلى الملك الأشرف فلم يسهل عليه • وكان غري الطبع ثم إن الشيخ صفاء توجه نحو القاهرة وحضر لدى الملك الأشرف فقال له مقرعا ممتنا عليه ألم أفعل معك هكذا ألم أصنع معك كذا • وجعل يعدد عليه • ما أسداه من الإحسان إليه • ثم قال له فهلا سامحت رسولي • وهب أنه تكلم بخلاف الواقع فلم لا تذكر إحساني إليك • وتعامل قاصدي ببعض ما عملت معك • وتكافئ الخير بالخير وتساعده • فإذ لم تصدقه لا كنت كذبته ولا خجلته • وإذ لم يتكلم بخير كنت سكت عن الشر • أما علمت أن حرمة الرسول من حرمة المرسل • وإن مهما فعل مع قاصد الإنسان فهو واصل به • وكان الشيخ صفاء لم يوفق في الجواب والاعتذار • ثم إنه أشبعه لعنا وشتما • وأمر به فأوسعوه ضربا ولكما • وأهانوه إهانة بالغة • وألبسه من ملابسه الخزي خلقا سابغة وكان يوما باردا فأمر به فغطسه في الماء البارد مرارا • وكان ذلك بحضرة مولانا السلطان فلم يمكنه في مبادئ ما استشاط الملك الأشرف أن يقابله بالشفاعة فإنه كان فظا غليظا • وعلم أنه إن بادر بالشفاعة ربما يزداد الحنق والغيظ فأمهله حتى تشفى بعض التشفي • ثم مشى على ما اعتاده من حسن الشفاعة والإحسان إلى الخلق بمكارم اخلاقه • فتقدم وشفع في الشيخ صفاء فشفع فيه فتقدم له كالمعاون له والمخرج له من بحرة الماء فمد يده ودخل تحت ابطه ودس له ذهبا ومالا جزيلا بين أثوابه ونبهه إليه لئلا يسقط منه فإنه أهين إهانة
58ظ
بالغة وذهب وهله وعقله • فأشار إليه بأدنى رمز بحيث أنه لم يشعر به أحد • فجبر بذلك كسره • وأتم به جبره • ثم توجه الشيخ صفاء إلى مخدومه شاهرخ • وحكى له ما جرى له من الوبال والنكال • وكيف خلصه مولانا السلطان من تلك الورطة وأحسن إليه بحسن شفاعته • وما أسداه إليه من البر والإحسان • ولقد قال لي السيد الشريف تاج الدين عبد الملك قاضي سمعان أخو إمام المقام الشريف شاهرخ وكان قد حج سنة اثنين وسبعين وثمانمائة فرافقنا في أرض الحجاز فحكي لي في جملة ما كن يثني على مولانا السلطان قال لما بلغ أميرنا أيمن الشريف شاهرخ ما أسداه مولانا السلطان إلى الشيخ صفاء من الشفاعة والبر والإحسان • والمساعدة بمهما أمكنه في تلك الحالة التي يذهل فيها العقل • ويطيش فيها الحليم • شرع يثني على مولانا السلطان ويدعوا له • ويقول لمثل هذا تصلح الرئاسة والسؤدد • ولو لم يكن في ممالك الشام ومصر للقريب والغريب ولمصالح المسلمين إلا الأمير جقمق أكفاهم • ولوددت أن ولو كان الأمر إليه وأرجوا أن تصير أمور الإسلام والمسلمين إليه عن قريب فكان الضال بالمنطق موكلا فمولانا السلطان بحسن تدبيره • وبمن تفكيره • اصطاد قلب المقام الشريف شاهرخ واستعبده • وحصل محبته وصداقته • قل أن يلي أمور المسلمين فلما وليها لم يسع شاهرخ غير الشكر لله تعالى • وزيادة الصداقة وتأكيد المحبة • والإخلاص • وارتفع النكد وانجلى الغبار الذي كان قد حصل من الدولتين الدولة الملكية الأشرفية • والدولة السيفية الشاهرخية • بأدنى لطيفة • وكانت العداوة قد تأكدت بحيث أنه ما كان يمكن رفع ذلك ببذل الأموال • ونفائسي النفوس والأرواح • فلله الحمد والمنة • ولقد أذكرتني هذه النكتة ما وقع بيه هرون الرشيد وبين زوجته زبيدة من المعاتبة في أمر محمد الأمين • وعبد الله المأمون • وهي أن محمد الأمين كان ولد هرون من زبيدة
59و
وعبد الله المأمون كانت أمه أمة سوداء وهو الذي يقول شعر • • لا يسئمن21 أمرءا من أن يكون له • أم من الروم أو سوداء عجما • • فإنما أمهات الناس أوعية • مستودعات واللاحساب آبا • وكان هرون يحتج إلى المأمون لكونه رآه سديد الرأي • ضابط الأمر • أخذ بالحزم قويم الفكر • مصيب القول • والأمين كان مسترسلا في اللذات • منهمكا في الراحات منعكفا في المنادمة القينات والكاسات • ففي بعض ليالي السرور وقد صفا ما بين هرون وزبيدة أبرزت ما في خاطرها له وقالت له على سبيل المعاتبة ونعوذ بالله من مكر النساء يا أمير المؤمنين إن نظرك لم يمل إلا إلى بن السوداء • وعنايتك لم تنصرف إلا لعبد الله المأمون • وأما ابني محمد الأمين فإنه محروم من عنايتك مبعد من رعايتك • ولا أعرف لذلك سببا • ولا موجبا • فقال لها هرون صدقتي ولكن الأمر ليس في هذا إلي • وإنما المأمون يفعل ذلك مع نفسه • ويصنع معي ما يوجب التفاني إليه وارتباطي معه • وأما ابنك الأمين فإنه غافل • وفي شغل شاغل ذاهلا عن مراعاة نفسه • فضلا عني وعن أمور الملك • وسياسة الدولة • وسأبين لك حقيقة ذلك • ثم إنه دعا بأحد الخدام الطواشيه فقال له اذهب من فورك هذا إلى محمد الأمين وادخل عليه من غير استئذان وانظر ماذا يصنع • وعلى أي حالة • وفي أي هيئة ولباس هو • ثم ادعه على حالته • وهيبته تلك • والكيفية التي هو عليها فذهب من وقته ودخل عليه هجما فإذا • هو في مجلس لهو وطرب وقد ألبس الغلمان ثياب الجواري • والجواري ثياب الغلمان • وهو أيضا قد لبس لباس القينات • متعاطيا كؤوس اللهو واللذات • فسلم عليه فارتاع له • فقال اجب أمير المؤمنين فقال حدث حادث قال لا ولكنه يريد أن ينظرك فطلب ثياب البدلة فقال إن أمير المؤمنين لم يأمر أن تتوجه إليه إلا على
59ظ
هذه الهيئة التي أنت عليها من غير أن تبدل شيئا فتضرع إليه في أن يفسح له أن يغير قماشه فلم يسمح له بذلك • فبالغ بكل ما يمكنه فلم يفده • فما وسعه غير أن توجه على تلك الهيئة فدخل على هرون بتلك الهيئة وحيا بتحية الخلافة وقبل البساط ووقف في مقام الخدمة فأذن له في الجلوس فجلس فقال فيما ذا كنت قال تحت ظل مولانا أمير المؤمنين في أرغد عيش وأطيبه ولله الحمد • فقال له تمن علي فقال أن في الاسطبل الفلاني فرسا سبوحا حسن المشي والهيئة يصلح للركوب في حالة النشاط فقال هو لك وأيضا فقال إن بالكرخ على جانب الشط بستانا ترها يحسن للجلوس وقت الصحبة والعشرة والتنزه • فقال هو لك • وأيضا فقال سلامة أمير المؤمنين فأمره بالانصراف فلما انصرف أمر الخادم المذكور أن يذهب إلى المأمون ويفعل معه ما فعل مع الأمير فذهب ودخل عليه فإذا هو قد ألبس على غلمانه الدروع • وأفرغ هو أيضا عليه سابغ السلاح • وهم واقفون في خدمته شاكي السلاح • وقد أوقد أمامه شمعة وهو متكي على ترسه • واضع الخوذة عن رأسه • والدبوس في يده • وهو يطالع في كتاب • فسلم عليه فنهض قائما مرتاعا • وقال ما حدث فقال خير وسلامة • عليك سمع وطاعة لأمير المؤمنين فقال لأي شيء فقال لا أدري غير أن الأخبار طيبة • والأمور صالحة • فلا يكن خاطرك الا مطمئنا • ولا صدرك إلا منشرحا • فإنه أراد أن ينظرك • وأحب أن يكلمك • فأراد أن ينزع السلاح فقال بل على هذه الهيئة • فلم يسعه إلا التوجه على تلك الحالة • فلما دخل على أمير المؤمنين حيا بتحية الخلافة ارتاع هرون له وقال ما هذه الحالة أحدث شيء فقال إن الأمان بحمد الله تعالى قد شمل الدنيا وكل أحد مشغول ومشغوف بما يهواه • إذا الولي محبور • والصدر مكسور • كل ذلك بسعادة أمير المؤمنين • مع أن كلا من أكابر الناس وأعيان الخلائق خصوصا من هو رأسهم
60و
متول أمورهم • لا يخلوا من حسود غبن • أو عدو معاندا بي • يراقب فرصة الضرر • ويرتقب زمانا يقدر فيه للشر الشرر • وإذا كان الإنسان والعياذ بالله غافلا ومعتهدا على أوقات الأمن والأمان • ربما كان ذلك أنكى في اتصال الضرر إليه • فعلى هذا أولى من تيقظ لهذه الزمرة • واستعد لمثل هذه الغفلة • أولاد أمير المؤمنين • إذا وأذى يحدث والعياذ بالله للذات الشريفة مولانا أمير المؤمنين من متصدي منه قبل كل شيء للماليكه أولاده • فأنا كل ليلة استعد لمثل هذه الكائنة • وأتيقظ لهذه الحالة • إذ رعاية ذلك أكد علي من جميع الخلائق • وآمر جماعتي أن يحضروا إلي فيأخذوا حذرهم وأسلحتهم لها • وفي الحقيقة أنما نحامي عن أنفسنا • ونحترز لذاتنا • فأعجب هرون لذلك • فقال له وما الكتاب الذي كنت تطالع فيه فقال سير الملوك يا أمير المؤمنين • فقال جزاك الله تعالى خيرا فهل لك حاجة • فقال سلامة ذات أمير المؤمنين الشريفة وطول بقائه • فقال لا بد أن تطلب شيئا فقال يا مولاي إن الجند محتاجون إلى صرف جوامك • ومضطرون إلى النفقة • فأسأل صدقات مولانا أمير المؤمنين أن يصرف للجند جوامكهم • فقال أنت غدا تول صرف ذلك من الخزائن • واعط من أردت وامنع من شئت • ثم ماذا قال يا أمير المؤمنين إن البلاد شرقا وغربا ولله الحمد قد تمهدت بنافد أمير المؤمنين • وبسط فيها الأمن والأمان • وإن في السجون أناسا قد أضر المقام فيها بهم • فإن انقضت الصدقات الشريفة التفحص في أمرهم فمن استحق العفو يعفى عنه • ومن كان عليه دين ينظر في حاله • أو يصالح عنه • ومن استحق القصاص يجري عليه • أو يتلافى أمره • وعلى كل حال فالمذنب يسعه العفو • والبريء يسعه العدل • فقال وهذه القضية منوطة برأيك فافعل فيها ما تختار • وأيضا فقال يا أمير المؤمنين إن الخزائن بحمد الله موفورة • والولايات معمورة • والعساكر
60ظ
منصورة • والسيول من صدقات مولانا أمير المؤمنين الشفقة على الفلاحين والرعايا برفع الخراج والكلف عنهم سنتين • ليترفه حالهم • ويطمئن بالهم • ويتسعوا في أمورهم • ويتوفر الدعاء والثناء منهم لمولانا أمير المؤمنين • فقال اجلس غدا في صدر الدست وطير المراسيم إلى الأطراف والجوانب بمسامحة الرعايا والفلاحين بمهما رأيت المصلحة فيه فقبل الأرض ودعا وانصرف • فقال هرون لزبيدة اشعرت أن الأمر انسلخ من الملك والخلافة بما هو عليه من الغفلة والانهماك في اللهو واللذة • وإن المأمون تولى الخلافة وملك الدنيا في حياتي • واشتغل بالملك • واستعبد الجند والرعايا وعيني تنظر مع إن في الناس بين عدو وصديق • وقد صار الناس كلهم للمأمون أصدقاء وأعداء فقالت كيف • فقال إن الأمين لفي غفلة عد نفسه فضلا عن أبيه وعن الملك والممالك • وأما المأمون فإني اجتهد حتى سخرت الناس وحبست منهم جماعة ولا شك أن في خواطرهم مني ضغائن • وفي قلوبهم احقاد • وهو قد سعى في خلاصهم وزرع محبته في قلوبهم • وحملهم بذلك مننا لا يقدرون على القيام بشكرها وهذا في حق الأعداء • وأما الجند والأصدقاء وباقي الفلاحين • والرعايا • فإنه استملكهم بما اسدي إليهم من الإحسان الذي قد تسبب في وصوله إليهم • وإن قدر الله تعالى علي بأمر • وانتقل الأمر إلى أولادي فإن جميع الخلائق يتوجهون إلى المأمون وينبذون الأمين وراء ظهورهم • وهذا أمر لا قدرة لي على التصرف فيه • ولا يكاد يتيقظ له الأمن بصرة الله تعالى عواقب أموره وفتح له باب التوفيق والرشاد • ومن يضلل الله فما له من هاد • وتطير هذه الحكاية أيضا ما يحكى عن الرشيد وزبيدة من المعاتبة وإنه قال لبعض الخدام أن يذهب إلى الأمين ويباسطه ثم يقول له في أثناء المحاورة أن صار الأمر يوما إليك ووليت الخلاقة ماذا كنت تفعل معي وماذا توليني من الوظائف ففعل ذلك وامتثل ما أمر به الرشيد وقال
61و
للأمين في أثناء المباسطة أن وليت أمر المسلمين يوما ما كنت توليني من المناصب فقال له الأمين كنت أعطيك كذا وكذا • وأوليك من الوظائف الوظيفة الفلانية • والوظيفة الفلانية • ثم إنه ودعه وذهب وأخبر الرشيد بما كان بينهما • وما قال للأمين وما أجباب به • ثم قال له اذهب إلى المأمون وافعل معه مثل ما فعلت مع الأمين وقل له ما قلت للأمين • وانظر ماذا يجيبك ففعل • فلما قال له ذلك لم يستتم كلامه إلا وقد رفع المأمون دواة كانت بين يديه فضربه بها فشجه موضحة وقال له يا بن الفاعلة أو تتفوه بمثل هذا الكلام جعل الله يومنا قبل يوم أمير المؤمنين وكلنا له الفداء • وأمر به فسحب واخرج • فدخل على الرشيد ودمه حميمة • فارتاع له وسأله عن حاله فأخبره بما كان منهما • فدعا الرشيد المأمون وسأله لماذا ضرب خادمه فقال يا أمير المؤمنين جعلنا الله فداك • لقد أتى أمر عظيما • وفاه بكلام تقف له شعرة الأبدان • فقال وماذا قال قال يا أمير المؤمنين قال أن لساني لا يجترئ على ذلك • وإذا أمر بخاطري أكاد أسقط وتضعف رجلاي عن حمل بدني فقال قل ما قال ولا تخف • فان حاكي الكفر ليس بكافر قال قال كلاما فيه اشعار بما يسوءنا في أمير المؤمنين جعل الله جميع الخلق وأيانا فداء لمولانا أمير المؤمنين ولا أرانا فيه يوم سوء • فاسترضاه هرون وصرفه • ثم قال لزبيدة انظري إلى فكر ابنك وكيف فعل ثم تأملي أفكار المأمون الدقيقة • وكيف علم أن لا يصير الأمر إليه إلا أزا مت أو خرج الأمر من يدي ففعل مع الخادم ما فعل • ولك الأخذ بالحزم من شروط الملك • وأحسن ما تعاطاه الأكابر • على الخصوص في زماننا هذا وإن كان لا محذور من مقدور • والأسباب معتبرة • قال النبي صلى الله عليه وسلم اعقلها وتوكل • وقال الشاعر شعر• على المرء أن يسعى ويبذل جهده • وليس عليه أن يساعده الدهر •
61ظ
فإن مال ما يسعى المنا ثم أمره • وإن غلب المقدور كان له عذر حكاية ذكروا أن بعض الأمراء كان قد توجه إلى قتال عدوه فلما قرب التصاف لبس لامته واستعجل في تزريرها فترك مكان زر منها • فقال له إحدى جواريه زر هذه الزر فقال اتركيه واستعجل فركب وتوجه إلى القتال فكان من قضاء الله تعالى وقدره أن جاه سهم من مكان ذلك الزر فقتله • والأخذ بالحزم والتفكر في عواقب الأمور • والتيقظ • وتعاطى أسباب الاحتياط • من الأعداء والاحتراس من الجوانب والجهات • لا يقدح في صحة التوكل • وتسليم مقادير الأمور إلى مسبب الأسباب • وربط زمام الانقياد بالأمل تدبيره • وطرح القلب والقالب في مجاري اختياره وتقديره • فلذلك أردفنا فصل الحزم • بفصل التوكل • والتفويض • ليعلم الواقف على الكتاب أنه لا منافاة بنهما فيأخذ خطه من كل منهما • ويستعمل كل شيء منهما في محله كما ينبغي • والله الموفق المعين • وهو عون المستعين • فصل في التوكل والتفويض • وتحمل المشاق • والصبر في الأمور • قال الله تعالى حكاية عن رسوله صلى الله عليه وسلم بعد واقعة أحد الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل • ثم قال فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم • وقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقدري به في المنجنيق إلى النار وهو في الهواء حسبي من سؤالي • علمه بحالي • وقال مؤمن آل فرعون وافوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد • ثم قال فوقاه الله سياءت22 ما مكروا • وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين • وقال وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين
62و وقال وعلى الله فليتوكل كل المؤمنون • وعلى الله فليتوكل كل المتوكلون • وقال وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وقال تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقال مرشدا نبيه صلى الله عليه وسلم قلن لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وقال تعالى مفزعا وموبخا من لم يتوكل عليه أليس الله بكاف عبده • وقال عز من قائل ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم أي عزيز لا يذل من عز به • ولا يضيع من لاذ لجنابه • حكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره • مقتضي المقام أن يقال ومن يتوكل علي يعز فيعل إلى ومن يتوكل علي فإني وكلاهما مقام التكلم فيعل من مقام التكلم إلى مقام الغيبة ففيه التفات على مذهب الشيخين الزمخشري والبكالي رضي الله عنهما وعلى هذا المقتضى المقام ومن يتوكل على الله ثم كان حق العبادة أذ يقال فإنه فقيل فإن الله وضع المظهر موضع المضمر في موضعين • ولا يخفي ما فيه من التعظيم ونباهة الشأن • وفي وضع المظهر موضع المضمر في قوله عز وجل فإن الله عزيز حكيم حيث لم يقل فإني وكذلك لم يقل ومن يتوكل علي من التعظيم ونباهة الشأن • والدواعي على التوكل إليه • وتفويض الأمور إليه ما لا يخفي • ونظيره قوله عز وجل فإذا عزمت فتوكل على الله حيث لم يقل فتوكل علي فليتأمل • وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من انقطع إلى الله كفاه كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب • ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها وقال السري السقطي رضي الله عنه ورحمه التوكل الانخلاع من الحول والقوة وقال بن مروان التوكل الاستسلام • لجريان القضاء في الأحكام • وقال المحققون مشتق من الوكالة يقال وكل أمره إلى فلان أي فوضه إليه • واعتهد في أموره عليه قال شعر • فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا • ويسمى الموكل إليه وكيلا • ويسمى المفوض إليه متكلا عليه • ومتوكل عليه •
62ظ
وإنما يفعل ذلك الإنسان مع إنسان مثله لما يثق به ولم يتهمه فيما وكله إليه بتقصير ولم يعتقد فيه عجزا وقصورا • فعلى هذا يحث على التوكل لما يقتضيه مرؤته أن يجتهد فيما وكل إليه بحيث أنه لا يخيب ظن الموكل • وإذا كان هذا في حق إنسان لا يملك لنفسه فضلا عن غيره ضرا ولا نفعا • فما ظنك برب خلقك • وتكف بجميع مصالحك • من حيث لا تدري • ثم قال لك وتوكل على الحي الذي لا يموت وقال لك قل الله ثم ذرهم • وقال وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين • قيل سأل أبو موسى الرملي أبا يزيد البسطامي رضي الله عنهما عن التوكل فقال له ما تقول أنت فيه فقال إن أصحابنا يقولون لو أن السباع والأفاعي عن يمينك ويسارك • ما تحرك لذلك سرك • فقال أبو يزيد رضي الله عنه هذا قريب لك لو أن أهل الجنة في الجنة ينعمون • وأهل النار في النار يعذبون • ثم وقع لك بينهما تمييز خرجت من جملة التوكل • فحقيقة التوكل ثبات القلب وقوة اليقين بالله تعالى • وعدم الاضطراب بما يحدث من خير وشر • والسكون تحت ما يضر من سر القضاء والقدر • سئل ذوا النون رضي الله عنه عن التوكل فقال خلع الأرباب • وقطع الأسباب • فخلع الأرباب • إشارة إلى علم التوحيد • وقطع الأسباب • إشارة إلى الأعمال • فقيل له زدنا فقال القاء النفس في العبودية • واخراجها من الربوبية • وهذا إشارة إلى التبري من الحول والقوة • فكلما ترى اليقين بالله تعالى ثبت التوكل فحصلت راحة البدن والقلب • وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما أني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك • احفظ الله تجده تجاهك • إذا سألت فاسأل الله • وإذا استعنت فاستعن بالله • واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك • وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك • رفعت الأقلام • وجفت الصحف
63و
وفي رواية احفظ الله تجده أمامك • تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة • واعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك • وما أصابك لم يكن ليخطيك • واعلم أن النضر مع الصبر • وإن الفرج مع الكروب • وإن مع العسر يسرا • وقد مر هذا الحديث الشريف • حكاية في التوكل ذكر في جامع الحكايات إن السلطان محمود بن سبكتكين رحمه الله كان قد اجتمع عنده من العلماء والصلحاء • والفضلاء • والأذكياء • والشعراء • والمهرة في كل فن • ما لم يجتمع عند غيره • فمن جملة ذلك منجمون مهرة كانوا قد برعوا في علم التنجيم والاستخراج من الزايدجة إلى أن فاقوا في زمانهم وكان علم الهيئة والتنجيم • والرمل • وقد اشتهر • وانتشر في زمانهم • وتحذق فيه جم غفير بواسطتهم وكان منهم في خدمة السلطان محمود جماع من أعيانهم لهم إدرارات وجوامك وانعامات وافرة تجري عليهم وكانوا لا يفارقونه سفرا ولا حضرا ولا ينقطعون عن ملازمته صباحا ولا عشاء • ولم يتفق أن السلطان في هذه المدة التي كانوا ملازمي خدمته فيها سألهم يوما من الأيام عن سعد طالع • ولا عن بخسه • ولا استشارهم في سفر ولا غزو عن نجم ولا كوكب • ولم يذكر بين يديه في وقت من الأوقات شيء من رصد ولا طالع إلا أعرض عنه وأخذ في حديث غيره • ولا التفت إلى ما يتعلق بعلمهم ولا أصغى إليه يوما من الدهر فاتفق أن يوما من الأيام قال له بعض خواصه أن مولانا السلطان في خدمته فلان المنجم وفلان المستخرج • وفلان الأستاذ وإن مولانا السلطان ما اتفق أنه سألهم يوما عن طالع ولا غارب • ولا عن بخس كوكب ولا عن سعده • ولم تقف المماليك لهذا على سبب • فقال له السلطان اعلم أني بنيت أمري في أمور المملكة وما منحني الله تعالى من السلطنة على أمرين لا ثالث لهما أحدهما التوكل على الله تعالى • وتفويض اموري إليه باطنا وظاهرا • سرا وعلانية • فإني أعلم واعتقد أنه لا يجري علي بل ولا في عالم الملكوت شيء ولا تتحرك ذرة ولا تسكن إلا
63ظ
بأمره وقضائه وأرادته • وإن جميع ما هو كائن من خير وشر قد فرغ منه وأتيقن أنه لن يصيبني إلا ما كتب الله تعالى لي وقدره علي قبل أن يخلقني • وقضاه علي في أزل الأزال حين كنت عدما • فمهما أتى علي من خير وشر • ونفع وضر • تلقيته بجيد الإذعان والرضا • ولاقيته بالسمع والطاعة • ولا يستعين غير ذلك • وناهيك قصة آدم عليه الصلاة والسلام وموسى عليه الصلاة والسلام واحتجاجهما • وكيف حج آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام • وإذا سألت عن شيء من ذلك فربما يتعلق به خاطري • ويتشوش فكري • فأما أن يفسد به اعتقادي أو تتشتت به أرائي وتتوزع فكري وبالي • ثانيهما اتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم • والتشبث بأذيال شريعته • والاقتداء بأقواله وأفعاله على حسب الطاقة • ومهما أمكن فالأول باطني واعتقادي • والثاني ظاهري واعتمادي • فقال له السائل فإذا كان الأمر كذلك فلم يجري عليهم مولانا السلطان هذه الإنعامات الوافرة والجوامك السنية • والادرارات المتكاثرة • وهل لا يكون ذلك موفرا في الخزائن السعيدة • إذ لا احتياج إليهم • ولا معول حينئذ على كلامهم وعلمهم • فقال السلطان رحمه الله إن السلطان ينبغي أن يكون كالبحر يغترف سنة كل أحد ولا يخلوا واحد من الناس عن نصيب منه • ولا يختص بفيضه ونواله بعض الناس دون بعض • وخاصة أهل العلم والفضل والذكاء • ومن له سعي في طلب الكمالات فقال يا مولانا السلطان فلتبرز المراسيم بلزومهم بيوتهم • ولا تكلفهم السفر والانزعاج بالحركة • ويزيد الإحسان إليهم برفع مشقة السفر عنهم • ويكون ذلك مضافا إلى ما • يسدي إليهم من إحسان وإنعام • وأفضال وإكرام • فقال السلطان كما ينبغي أن • يكون السلطان كالبحر الفياض • وكالمطر العام • لا يحرم من نواله أحد • كذلك • ينبغي أن يكون كالمقر الجامع • مهما طلب من شيء فيه وجد • وهذه درجة الكمال
64و
وهؤلاء وإن كنت أنا غير محتاج إليهم • ولا ملتفتا إلى أقوالهم • لمكان التوكل والتفويض لكن ربما يكون في الجند والعساكر من هو مشغول بعلمهم • ومربوط بأقوالهم • ومعتقد تقاويمهم • وأنا إنما اصحبهم كيلا يخلوا عسكري من العلم والفضل • ولأجل ذلك أكلفهم مشقة السفر • والملازمة في الحضر • فانظر أيها المتأمل ما أحسن هذا الاعتقاد • وهذا الاعتقاد السعيد المبارك بعينه هو اعتقاد مولانا السلطان ثبته الله تعالى بالقول الثابت في الحيوة الدنيا والآخرة • وما انطوى عليه ضميره ويقينه الشريف واتخذه باطنا وظاهرا • قولا وعملا • فإنه لما تشرفت الدنيا بطلعته السعيدة • وولايته السديدة • لم يتغير عن حالته التي كان عليها أولا من القرب من الناس • والاختلاط من العلماء والفضلاء والأتقياء • والأذكياء • والتماس البركة • والدعاء الصالح من الصلحاء • والفقراء • والتودد إلى القريب • والغريب • ولم يحترس لنفسه كما كان يحترس من قبله من الملوك والسلاطين وهذا هو أحد الأسباب الباعثة على تحريض المنافقين والمخالفين عليه • فإنهم لما رأوه مفوضا أموره إلى الله تعالى • ملقي مقاليد حركاته وسكناته إلى أيادي قضائه وقدر مقتفيا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم • مقدما للعلماء • وأهل الفضل والخير • مائلا إلى مصاحبة أهل التقي والزهد والصلاح • توهموا أنهم يصلون إليه بمكروه • ولم يعلموا أن الله تعالى هو ناصره وحافظه • ومؤيده وراعيه • يريدون ليطفوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره • ومن كانت هذه عقيدته وهذا يقينه هل يكترث للأعداء أو يبالي بغير الله تعالى • ولما لم يهتم مولانا السلطان كما كان يهتم غيره بالحرس والاحتراس • والتحفظ • والتيقظ • أغرى ذلك المخالفين • حتى صرح العتاه منهم وقالوا نحن ما نريد لنا سلطان فقيه • ولا صوفي نحن ما نريد إلا سلطان على عادة السلاطين الذين تقدموا • ثم إنهم عتوا وتجبروا وطغوا وبغوا ودبروا أمورا
64ظ
فجعل الله تعالى تدبيرهم في تدبيرهم • وأرسلوا إلى نائب حلب بكري يرميس التركماني • ونائب الشام اينال الحكمي • وسائر النواب يضعون من جانب مولانا السلطان ويهونون أمره • ويقولون إنه لا يصلح لسياسة الملك • ولا لتدبير أمور السلطنة • وإنه مائل إلى صحبة الفقهاء • والعلماء • وإنه لا يحتجب من الناس • ولا يترفع عن الرعية • والخلق كما هو دأب من تقدم من الملوك • والسلاطين • ولا يحترس بالسلاح وأربه • والبواب • والحجاب • وأرادوا أن يجعلوا الملك العزيز شيئا للتوصل إلى أغراضهم الفاسدة • والاستطالة على المسلمين • وأخذ أموالهم وحريمهم • وتوكيد كل شر • ثم قالوا لهم إن فرص الفتك • وإيقاع المكروه به ممكنة • ونحن نتكفل بإيقاع الاذا23 به • فتواعدوا على وقت معين • كموعدة أهل دار الندوة • فشرعوا يغالبون القضاء والقدر • ويكالبون الشر والشرر • وهذه القضية ليست بأول قضية وتعب • ومولانا السلطان لازال في نعم الله محفوظا • وعدوه وحاسده مغبونا ومحزونا • ليس بأول من حسد وعودي • بل هذه عادة من قديم الزمان والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء • وخواص الناس والصلحاء • كلهم مبتل بالأوباش والأنذال • حتى قالو في شأن أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم • لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم • فرد الله تعالى عليهم فقال أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم وكما أن الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالاته كذلك أيضا هو أعلم حيث يجعل سلطانه • وسياسة عباده • ثم أن الباغين المذكورين لم يبقوا فيما كانوا بصدده من الجد والاجتهاد شيئا إلى أن خيب الله تعالى سعيهم وبلغ الأفاق نعيهم • وذلك لما علم الله تعالى من حسن يقينه • وثقته لحفظه • وحراسته إياه • وقوة توكله • وتفويضه أموره إليه • ولقد قال لي بعض خواصه لما عصى الأجلاب عليه وظفره الله تعالى بهم وخذلهم فنزلوا إليه
65و
وأسكنهم في منزله الكريم تحت الكبش • وشرع هو فيما هو بصدده من تفقد مصالح المسلمين وخلاص المظلومين من الظالمين • وضبط أمور المملكة الشريفة • والسلطنة حتى تصل الأمراء الذين كان وجههم الملك الأشرف إلى صوب الرق قبل وفاته استمر على ما كان عليه من عدم الاحتراس • والتشبث بذيل التوكل والتفويض • فقال لي هذا الرجل قلت يا مولانا نظام الملك لم تغفل عن نفسك • وتهمل أمر حفاظها • هل لا تحتاط لها • وأقل الأشياء أنك بالليل اجعل حوالي منزلك الكريم أعوانا ورصدا فإن المنافقين والأعداء كثيرة فربما يكيدون كيدا • أو يبغون نكاية • قال فقال لي من يحرسني ويتعاهد حياطتي وحفظي أنت لا تخف علي فإني لست بغافل عن رعاية نفسي • فلا يكن خاطرك من هذه الجهة إلا مطمئنا • قال فتصورت أنه إنما يغني عن بعض مماليكه وخدمه أنهم يتعاطون ذلك • ثم ظهر لي أنه إنما كان يعني بذلك أن الله سبحانه وتعالى حافظه وواقيه • وكاليه وراعيه • وإنه متشبث بذيل قوله تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه • إن الله بالغ أمره • ولما اكتفى بالله لا جرم كفاه الله تعالى مؤنة ما أهمه • حكي عن أبي حسين الديلمي رحمه الله وكان كبير الشأن في تفسير اسمه تعالى الحسيب قال من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس • قيل رأى رجل شيبان الراعي رضي الله عنه يصلى والذئب يحرس غنمه فقال له متى أصطلح الذئب مع الغنم قال لما اصطلح رب الغنم مع رب الذئب • ولم يزل مولانا السلطان على ذلك حتى رد الله عز وجل عنه كيد عدوه بعدوه • ثم أهلك عدوه وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين • • فصل في العدل قال الله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية وقال رسول
65ظ
الله صلى الله عليه وسلم سبعة يظلهم الله الحديث بداء النبي صلى الله عليه وسلم بالإمام العادل العدل الوسط • والوسط الخير • قال الله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس • وقال تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء أي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا أي مذكيكم • أي ويجعلنا بينكم إمام القبلتين • جائز الفضيلتين • جعلناكم خيارا حائزين فضيلتين • وهما كونكم عدولا • شهداء على الناس مأخوذا بشهادتكم • وكون الرسول صلى الله عليه وسلم مذكيكم معدلكم • وقال صلى الله عليه وسلم عدل السلطان يوما يعدل عند الله تعالى عبادة سبعين سنة وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده أنه ليرفع للسلطان العادل إلى السماء مثل عمل جملة الرعية • وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل • والصائم حتى يفطر • ودعوة المظلوم • وروى كثير بن مرة قال قال صلى الله عليه وسلم السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده فإذا عدل كان له الأجر • وعلى الرعية الشكر • وإذا خان كان عليه الإثم • وعلى الرعية الصبر • وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه لعمل الإمام العادل في رعيته يوما أفضل من عبادة العابد في أهله مائة سنة أو خمسين سنة • وقال قيس بن سعد ستين سنة • اعلم أن العدل ميزان الله تعالى في أرضه يؤخذ به للضعيف من القوي • وللمحق من المبطل • والعدل من صفات ذات الله بمعنى أنه له أن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد • والخلق كلهم بعض ملكه • فله أن يفعل بهم ما يختار • فمن عرف أنه سبحانه هو العدل • لم يستقبح بقلبه موجودا • ولم يستثقل منه حكما • بل يستقبل جميع أحكامه بالرضا • ويصبر لما يأتيه من بلوى • بغير شكوى • لعلمه وتيقنه إنه العدل
66و
وأعدل المخلوقات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم أعدل الخلق مزاجا وطبيعة وأعدل الناس أفعالا وإنما يعترض على أفعالهم من هو منحرف عن جادة الصواب • وفي عين بصيرته عن مراقبة الحق عمياء • كالأعمى الذي خرج وهو ماش عن الطريق وهو يتصور له على الطريق فيعثر في حجر أو شوك ونحوه فيقول نحوا هذا الحجر عن الطريق ويعيب الناس وإنما هو الذي خرج عن الطريق لعمي عينيه ولهذا قال ذو الخويصرة للنبي صلى الله عليه وسلم لما قسم الغنائم أعدل وأجابه صلى الله عليه وسلم بأنه لم يعدل فمن يعدل وإنه أي ذو الخويصرة خاب وخسر إن لم يعدل • وكيف يقال له صلى الله عليه وسلم هذا الكلام وقد نزل عليه قوله تعالى وأمرت لأعدل بينكم وهو مما أمره الله تعالى أن يقوله حيث قال له في صدر الآية المكرمة وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم وأول الآية قوله تعالى فلذلك فادع واستقم كما أمرت لأتتبع أهواءهم قال علي رضي الله عنه إمام عادل • خير من مطر وابل • واسد حطوم • خير من سلطان ظلوم • وقيل عدل السلطان خير من خصب الزمان • وقيل الملك يدوم مع العدل ولو كان الملك كافر • ولا يدوم مع الظلم ولو كان الملك مسلما وما تعاطى حاكم في حكمه فضيلة أحسن من العدل • ولهذا بقي اسم أنو شروان مشهورا بالعدل إلى يوم القيامة مع أنه كان مجوسيا يعبد النيران ومما اشتهر من عدله أنه أمر أن يصنع سلسلة من مكان خارج من داره واصلة إلى قصره وداخل حرمه وعلق فيها ناقوسا ونادى أن من له ظلامة ولا يقدر على التوصل إلى الملك إذا أراد أن يرفع أمره إلى الملك يجي إلى تلك السلسلة ويحركها فإذا تحركت تلك السلسلة وصوت ذلك الناقوس أمر بإحضار ذلك المظلوم وكشف ظلامته وهذه العادة استمرت في بلاد الصين يفعلها ملوكهم وإلى يومنا هذا وقيل إن أنو شروان كان يحب التصيد بالبازي وكان مغرما بحب هذا
66ظ
الطير فسأل يوما البازدارية ما سبب عمره قالوا لأنه يظلم الطيور والظالم عمره قصير قال فتنبه بهذه الكلمة وبنى أمور سياسته على قواعد العدل فصار أمره إلى ما صار واشتهر اسمه بالعدل وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ولدت في زمن الملك العادل ونقل عن بعض الملوك أنه كبر فثقل سمعه فحزن لذلك حزنا شديدا وجعل يبكي ويقول ما أتأسف على ذهاب سمعي ولكن تلهفي وأسفي على أني لا أقدر أسمع صوت المظلوم والمستغيث • ثم قال إن حرمت ذلك من طريق السمع فلا جعلنه من طريق البصر • ثم أمر أن كل من كان له ظلامة وأراد إنهاءها فليلبس ثيابا حمرا وليقف في المكان الفلاني ليعرف أن له ظلامة فأمر فنودي بذلك وقيل أن السلطان نور الدين الشهيد رحمه الله لما أمر ببناء دار العدل بدمشق علم الأمير أسد الدين شركوه أنه لا يسامح أحدا إذا رفعت إليه محاكمة فجمع مباشري ديوانه وأقسم لمن شكى عليه من جهة أحد لينتقمن منهم وقال لهم إن السلطان لم يبن هذه إلا من أجلي وأجل أمثالي فما وسعهم إلا أنهم أرضوا جميع الخصوم الذين كانوا ظلموهم وروى أن بعض العقلاء غصبه بعض عمال المنصور ضيقة فاستعدى عليه إلى المنصور فقال أصلح الله أمير المؤمنين أذكر حاجتي أم أضرب لها قبل ذكرها مثلا فقال بل اضرب المثل قال اصلحك الله أن الطفل الصغير إذ أنابه أمر يكرهه فإنما يفر إلى أمه ويأوي إلى حضنها إذ لا يعرف سواها فيظن أنه لا ناصر له غيرها فإذا ترعرع واشتدوا وأوذي كان فؤاده وشكراه إلى أبيه لأنه قد علم أن أباه أقوى من أمه على نصرته فإذا بلغ وصار رجلا وحصل له أمر شكي على الوالي لعلمه أنه أقوى مما سواه وأنه لا يد فوق يده فإن لم ينصفه السلطان وحصل له من يظلمه شكي إلى الله تعالى لعلمه أنه أقوى من السلطان وقد نزل بي نازلة ولم ينصفني الوالي فشكوت إليك وليس فوقك أحد من المخلوقين ولا في المخلوقين والحكام
67و
أقوى منك وما بعدك إلا الله عز وجل وقد رفعت قضيتي إليك فإن انصفتني وكشفت ظلامي وإلا رفعتها إلى الله تعالى في الموسم فإني متوجه إلى بيته وحرمه فبكى المنصور وقال بل انصفك وأمر فكتب إلى واليه بأن يرد ضيعته إليه • ونظير هذه الحكاية ما أورده الشيخ علاي الدين البخاري رضي الله عنه في رسالة الملحمة ونقلته عنه في شرح عقيدتي التي نظمتها باسم مولانا السلطان المسماة بالعقد الفريد • في مسئلة24 التوحيد • في قوله تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا • ثم بدا لي زيادة الإحساس والعلم أن يقفوا في معرفة الله تعالى والأمور الإلهية على القياس بالمحسوسات والوهميات فيقعوا في النخم والتشبه • وروى أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل الله تعالى في بعض مناجاته أن يريه نكتة من عدله فأمره ان يتوجه على المكان الفلاني فتوجه إليه فيجلس على شاطئ نهر مختفيا ليرى ما أراد فامتثل ما أمره به فجاء رجل بعد ساعة ونزع ثيابه ودخل في النهر وسبح وغلغل إلى أن غاب عن العين وكان معه هميان فيه مال فوضعه في ثيابه فجاء رجل على فرس فرأى ثيابا لم يكن عندها أحد فنزل عن فرسه وفتشها فلقي الهميان فأخذه وذهب • ثم بعد ساعة أقبل رجل وعلى ظهره حزمة حطب • فلما وصل إلى الماء طرح الحضب عن ظهره وقعد يستريح وخرج الذي كان دخل إلى الماء سابحا فأخذ ثيابه ليلبسها فلم يجد الهميان ففتش عليه فلم يره • ولم يكن عنده غير صاحب الحطب فسأله فقال ما رأيت شيئا فقال هل كان معك أحد غيرك قال لا قال فهل رأيت أحدا في هذا المكان لما جيت إليه قال لا فقال إني وضعت الهميان هنا بيدي قبل أن أدخل إلى الماء ولم يكن هاهنا أحد ولم يأت غيرك فأنا لا أشك ولا أرتاب أنك أنت أخذته فشرع يحلف ويقسم بما يحلف به من أنواع الإيمان أنه لم يره ولم يعرف أحدا أخذه ولا يجد له سبيلا وهو لا يصدقه إلى أن قال له أقسمه بيني وبينك وإن شئت خذ منه ما تريد فجعل ذلك
67ظ يتألم ويتحرق ولم يجد سوى الإيمان الغلاظ الشداد والحلف فجعل يتألى ويحلف فقال له صاحب الهميان لا تكثر القيل والقال • فإني لا أصدقك ولو حلفت مهما حلفت • ولا تطل الكلام بيننا أما إن تظهر ما أخذته وهو الهميان وإما أقتلك • فلا يبقى لك ولا لي • فإني لا أشك ولا يختلج في صدري غير أنك أخذت المال فإن أخرجته وإلا قتلتك • فقال تقلد وافعل ما بدا لك • والله يحكم بيننا يوم القيامة • ففتشه وبالغ في التفحص عن ذلك منه فلم يجد شيئا • فاشتد حنقه عليه • وغلا قبله • فما وسعه إلا أن قتله ومضى لسبيله • كل ذلك وموسى عليه الصلاة والسلام يشاهد تلك الأحوال • فلما فرغ من ذلك قال يرب25 سألتك أن تريني نكتة من عدلك فأريتني هذا الحال وانت أعلى وأعلم فأطلعني على حقيقة الأمر فإن هذا في ظاهر الحال مخالف لطريقة العدل • فقال الله تعالى يا موسى إن المقتول هو قاتل أبي القاتل • والقاتل هو سارق الهميان من أبي الفارس الذي أخذه • ففي الحقيقة الذي ذهب بالمال إنما ذهب بمال نفسه المخلف • له عن والده • والقاتل إنما قتل قاتل أبيه • واستوفى حقه بالقصاص • وهذه الأحوال إنما ينكشف سرها يوم القيامة يوم تبلي السرائر وينادي لا ظلم اليوم إن الله قد حكم بين العباد • ونظير هذه الحكاية ما قصه الله سبحانه وتعالى عن موسى والخضر عليهما السلام في سورة الكهف في قوله تعالى وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين إلى قوله ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبر أفات ظاهر ذلك أي ما فعله الخضر عليه السلام من خرق السفينة • وقتل الغلام وبناء الجدار وإقامته مخالف للشريعة • ومقتضي الحكمة • وباطنه موافق للحكمة الإلهية • والعدل الحقيقي الذي لا يطلع عليه الا من أطلعه الله تعالى عليه • قال الله تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول وقيل من أيقن بحقية أربعة أشياء أمن من أربعة أشياء من أيقن أن الصانع
68و
والمقدر لم يغلط ولم يخط أمن من العيب • الثاني من أيقن بأنه لم يمل في قسمة الرزق أمن من الحسد • الثالث من أيقن أن المقدور كائن أمن من الغم • الرابع من عرف أصله أمن من الكبر والعجب • كتب عالم حمص إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن حمص تهدمت واحتاجت إلى الإصلاح • فكتب عمر رضي الله عنه في جوابه إليه أن حصنها بالعدل • وفق طرقها من الجود والسلام • وقيل أمير بلا عدل كغيم بلا مطر • وعالم بلا ورع كأرض بلا نبات • وشاب بلا توبة كشجرة بلا ثمر • وغنى بلا سخا كقفل بلا مفتاح • وفقير بلا صبر كسراج بلا ضوء • وامرأة بلا حيا كطعام بلا ملح • وقيل إن المأمون ركب يوما هو والقاضي يحي بن أكتم وخرجا يسيران بين البساتين وكان المأمون في الذهاب في الظل والأشجار من ضوئه وناحيته والقاضي في الشمس فلما رجع أراد القاضي يحيى أن يستمر في الشمس والمأمون في الظل فانتقل المأمون إلى الشمس وقال للقاضي انتقل إلى الظل فدعا له وقال بل أنت أولى يا أمير المؤمنين أن تكون في الظل وكون المماليك تحت ظل أمير المؤمنين يكفي فقال له بل العدل يقتضي أن تكون أنت في الظل وأنا في الشمس لأن في الذهاب أنا كنت في الظل وأنت في حر الشمس ولم يزل عليه حتى نقله إلى الظل ومشى هو في الشمس وليعلم أن هذه الشريعة المطهرة وردت بالعدل وهو الوسط من الأمور مثلا النصارى لا يتحامون الحائض أيام حيضها ولا فرق عندهم بين الحائض وغيرها واليهود يجتنبونها رأسا بحيث لا يواكلونها ولا يشاربونها ولا يضاجعونها ولا يساكنونها فجأت الشريفة المحمدية بما هو وسط بين ذلك فيوأكلونها ويفعلون معها جميع الأمور إلا قربان ما تحت الازار • وفي بعض الملل على العامل القصاص لا غير وفي بعضها الدية لا غير • وملة الإسلام كل مشروع فيها • وعلى هذا قال الله تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذين يجدونه مكتوبا
68ظ
عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث والإعلال التي كانت عليهم • واعلم أن العدل يدخل به أكثر الصفات المحمودة كما أن الصبر يدخل في جميع الطاعات • والعدل في التواضع لمن يخالط الناس إذ لا بد من مخالطتهم أن لا يرى لنفسه مقدارا فوقهم فيسمى إذ ذاك متكبرا • ولا يمتهن نفسه بينهم بحيث ينقصها حقها فيسمى إذ ذاك ذليلا ومستحقرا ومتضعا • وليبغ بين ذلك سبيلا • والعدل في ذلك سلوك أمر بين التكبر والضيعة • والعدل في الشفقة ولين الجانب أن لا يتجاوز الحدود في أجرائها ومراعاة أمر الله تعالى به من اتباع شرائعه فيسمى إذ ذاك علو أو استكبارا ولا يقص عن ذلك شيئا بحيث يفوت شيء من إقامة حد • أو أمر بمعروف • أو نهي عن منكر • فيسمى إذ ذاك ركاكة ورخاوة مثلا من يستحق العفو لا يضربه • ومن يستحق الضرب لا يقطعه • ومن يستحق القطع لا يقتله • ومن يستحق القطع والقتل لا يعفوا عنه بل يحري أمور الشرع • وأحكام الله تعالى على ما ورد به الشرع الشريف ويروي أن جعفر بن محمد دخل على الرشيد وقد استخفه الغضب فقال له يا أمير المؤمنين إنك إن كنت لا تغضب إلا الله فلا تغضب له أكثر من غضبه لنفسه يعني أنه حد لكل شيء فلا تتجاوز حدوده وهذا من باب جوامع الكلم وقيل ينبغي للملك أن لا يصفح عن ثلاثة أولهم من يفسد في الحريم • الثاني من ينازع في الملك • الثالث من يفشي سره • وعلى كل حال فالإنسان ليس في إجراء حدود الله تعالى أشفق على عباده منه • والعدل في الإعطاء والإمساك أيضا أن لا يتجاوز حدود الجود للإعطاء • ولا يقصر إلى التفتير في المنع • قال الله تعالى والذين إذا اتفقوا لم يسرفوا ولم يفتروا وكان بين ذلك قوما وقال تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا
69و
وقد مر أن مجاوزة الحد في الإعطاء يسمى إسرافا وتبذيرا • ومجاوزة الحد في المنع يسمى بخلا وشحا • وفصل ذلك • ولكن هذا إنما يكون إذا وضعت الأشياء في غير محلها • أو تجاوز ذلك من لا تصل يده كل وقت إلى ما يريده • فإذا وصلت يده إلى شيء أتلفه وبزره وأسرف فيه • وأما الملوك والسلاطين فمهما أجازوا ومهما انعموا فهو دون همهم وخاصة إذا وضعوا الأشياء في محلها وكانت همتهم معروفة إلى الخير والصلاح • واصطياد قلوب الأولياء • بالثبات على المحبة والولاء • وقلوب الأعداء بقلبها إلى الوفاق والوفاء • واصطناع المعروف مع العلماء والفضلاء فإذا كان كذلك فلا سرف عندهم • كان بعض الملوك والأكابر يعطي العطاء الجزيل • والجوائز الوافرة • والهبات السنية • فقال له بعض خواصه لا خير في السرف • فقال له لا سرف في الخير • انظر إلى هذا الجواب ما أحسنه وأوصنه هذا يسمى في علم البديع بالعكس • ونظيره في القرآن قوله تعالى لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن • وقال تعالى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وقوله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل • وقال أبو تمام قصيدة فقيل له لم لا تقول ما يفهم فقال لم لا تفهمون ما يقال • وقلت في مرااة26 الأدب • يعذب قلبي إن فيه وفاكم27 • وفاؤك فيه أن قلبي يعذب • وناهيك بهذه الخصلة الشريفة موقعا العظيم مصدرها وموردها التي هي إحدى قواعد المملكة • وثمرة حدائق السلطنة • وتاج الحكومة وجمالها • بها تعنوا الوجوه • وتذل الرقاب • وتخضع الجبابرة • وتشرق الأحرار وتصطاد قلوب الأولياء والأعداء • ويحسن لها الذكر والثناء • ويملك بها القريب والبعيد • ويسود بها الخامل والغريب • وكم كافر أسلم • ومسلم ارتد • والعياذ بالله تعالى لأجل حطام الدنيا • فيا لها خصلة يترك بسببها الإنسان دينه • الذي يبذل
69ظ
نفسه دونه • وأحوج خلق الله تعالى إلى هذه الخصلة النبيلة • الملوك والسلاطين لأنهم أفقر خلق الله تعالى إلى عطف القلوب عليهم • وصرف الوجوه إليهم • وقد حكى أن بعض ملوك ما وراء النهر جهز ولده في سرية إلى بعض الجهات فكأنه كان يتعاطى في طريقه الاستراحة والترفه مع الإمساك وحب المال فأرسل إليه أبوه يقول له يا ولدي بلغني أنك تقيم في مرحلة يومين وإنك بالليل تنزع ثيابك • وتنام على فراش وثير • وتقتر على حاشيتك • وهذا لا يصلح لمن تحمل سياسة الرعية • وتقلد أمانة الحكومة • اعلم يا ولدي أن الناس على قسمين حاكم ومحكوم • وأمير ومأمور • وسلطان ورعية • أما السلطان والأمير والحاكم فلهم عن الجاه والسلطنة • والأمر • والنهي • وقهر الحاكمية • وبسط اليد في الناس • كيف ما اختاروا مع ما تحمل عليهم من تحمل المشاق والكلف • والدخول تحت أعباء الإبالة • وتعب القيام بأمور السياسة • والتصدي لمصالح الناس • وحفظ العباد والبلاد • وأما الرعية فلهم ذل المحكومية وربط جيد الانقياد • بحبل السمع والطاعة • والمسير في قيد التسليم والإذعان • مع مالهم من توسد فراش الراحة • والالتحاق بشمول الأمن • والاشتغال بأسباب الترفه تحت ظل الخمود • فاختر من أي القسمين تكون إما من قسم الملوك فيختار تحمل التعب والمشقة في حفظ ممالكك ليلا ونهارا مع عزة التحكم ورفعة التسلط • وبسط اليد واللسان • في الأموال والأبدان • وأما أن يكون من قسم الرعايا فيختار الراحة والترفه ولذة العيش مع ظل الانقياد والمحكومية وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لا ينام لا ليلا ولا نهارا فقيل له في ذلك فقال إن نمت بالنهار أضعت الرعية وان نمت في الليل أضعت نفسي • فإذا كان الأمر كذلك فيكفي الملوك والسلاطين عزة الملك وسورة الحكم وكون
70و
يدهم باسطة • وكلمتهم نافذة • في الأرواح • والأنفس • والأموال • فمهما اتفقوا على رعايا من مال فهو بالنسبة إلى ما هم فيه من عز السلطنة • وجلالة الملك • وأبهة الحكومة • وبسط اليد • ونفوذ الكلمة • في الأمر والنهي • وبلوغ الأمل من الأموال • والأرواح • وانتشار صيت الهيبة • والعزة • والحرمة • شرقا وغربا • وانقياد الأولياء • وقهر الأعداء • فهو شيء يسير حقير • والمال بالنسبة إلى عبد الملك كلا شيء • مدح أبو دلامة الخليفة فقال له اعطيك على قدر همتك أو على قدر همتي فقال على قدر همتي يا أمير المؤمنين فأمر له بخمسين ألف دينار فقيل له لم لا طلبت على قدر همة أمير المؤمنين فقال لو قلت ذلك لما وفت الدنيا بقدر همته • فإن المال يزاد أما لغرض أو عرض أو مرض • وفي أمثال الترك الدرهم الأبيض لليوم الأسود وهذا لا يخلوا عن نوع مشقة وحصول تعب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لكم ولا مرآي لكم صغره أمرهم وعليهم كدره • كان اسما بن خارجة رحمة الله عليه يقول ما أحب أن أود أحدا عن حاجة لأنه إن كان كريما أصون عرضه وإن كان لئيما أصون عنه عرضي • والعدل في الحزم أن يكون الفكر مصيبا والتأمل في عواقب الأمور على الوجه المرضي وإذا بولغ في ذلك وجاور حده سمي وسواسا وسوء ظن وإذا أهمل قطعا سمي استخفافا وعدم مبالاة • وهذا كما قيل في جواب من سأل عن الربا والإخلاص فقال العمل لأجل الناس شرك والترك لأجلهم رياء • والإخلاص أن يعافيك الله منهما • والعدل في الشجاعة أن يتبصر الإنسان مواقع القتال • ومجال النزال • والنضال • ويتأمل كيفية الدخول في الحروب • والخروج منها • فإن كان للقتال مجال أخذ في أسبابه وإلا انتظر وقته من غير غفلة عنه فإن التخلف عن القتال مطلقا يسمى ضررا وجبنا • والإقدام فيه مطلقا من غير تبصر في عواقبه وكيفية الخروج عنه يسمى
70ظ
تهورا وطيشا • وكم القى التهور والطيش وعدم المبالاة خلقا في المهالك • ولولا عدم التبصر والتأمل في العواقب • وقطع النظر عن كيفية الخلاص من أمور الحرب ما دخل العسكر المتوجه من حلب في شهور سنة ثلث وأربعين وثمانمائة بعد قضية بكري برميش العاصي وهم خوشكلدي دوادار الشريف الملكي الظاهري بحلب المحروسة ومن معه من تراكمة الأمير أيلوك بن رمضان متولي مصيصة وأدرنه وتلك النواحي كما سيذكر في موضعه • وذلك أن شخصا من أمراء التركمان يقال له موسى بن قرا لما عصي بكري برميش نائب حلب في سنة إثنين وأربعين خرج معه وعصى وكان يعبث ويفسد فلما أمكن الله تعالى من بكري برميش وقتل المنافقون والمخالفون وكفى الله المؤمنين القتال استمر بن قرا على بغيه وعصيانه إذ لم يبق له وجه يقابل به المواقف الشريفة لأن الخائن خائف فكان يعبث هو وجماعته في تلك النواحي فتوجه نحوه الشريفة خوشكلدي كما ذكر وأرسلوا إلى بواب سيس وطرسوس وتلك البلاد والي بن رمضان أن يلاقوهم إلى جهة عينوها • ثم توجه العساكر الحلبية صحبة خوشكلدي فدخلوا مضائق تلك الجبال والأوعار ولم يفتكروا في كيفية الخروج فاستعد لهم بن قرا المذكور قبل ملاقاة العساكر وحين وصلوا إلى باب الملك من عقبه بغراص احتوشتهم التراكمة من رؤس28 تلك المضائق والجبال فرموهم بالسهام والحجارة والمقاليع فقتلوا منهم جماعة ونهبوهم حسبما أرادوا وهذه القضية نظير قضية العساكر التي جهزها الملك الظاهر برقوق رحمه الله في أول ولايته إلى سولي بك بن دلغادر فكمنوا لهم في المضائق ونهبوهم وعروهم فرجعوا إلى حماة في أبشع سورة كل هذا من عدم التأمل في العواقب وقد قيل لسيف الدين خالد بن الوليد رضي الله عنه ما بالنا نراك في بعض الأوقات تهجم على عساكر الأعداء غير مبال بهم قلوا وكثروا ولا تلتفت
71و
إلى من معك هل يتبعك أن ينجدك • ونراك في بعض الأوقات تحجم عن القليل من الناس وتتوارى منهم حتى كأنك أجبن خلق الله فما السبب في ذلك فقال انظر إلى مصادر الحرب قبل مواردها • فإن كان مصدرها هنئا والخروج منها غير مشق ولجتها إذا لجدال مجال • وإن كان الأمر بالعكس احجمت وانتظرت الفرصة • وهذا كما قيل • شعر • فهياك والأمر الذي إن توسعت • موارده ضاقت عليه مصادره • وحاصل الأمر أن جميع الصفات يدخلها العدل وهو صفة بين الإفراط والتفريط • فالإفراط مجاوزة الحد فيها • والتفريط التقصير عنها والإنسان لا يخلوا في حال من الأحوال • من صفة من الصفات • فمهما اقتصد في تلك الصفة فهو عامل فيها بالعدل • وإن جاوز في ذلك الحد فهو مفرط • والا فهو مفرط • وقالت الحكماء للإسكندر عليك في كل الأمور بالاعتدال فإن الزيادة عيب والنقصان عجز • وفي الحديث خير الأمور أوساطها • ولهذا قيل ينبغي للإنسان أن يتعلم من كل علم مقدار ما يحتاج إليه مثلا من علم الطب ما يعرف به مزاجه • ومن علم التفسير والقرآن ما يقدر أن يتكلم به في كتاب الله تعالى لفظا ومعنى ومن علم الحديث ما يعرف به صحيحه وسقيمه • ويضبط به اقسامه ومعرفة رجاله • ومن علم الكلام ما يصحح به دينه ويقيم به اعتقاده ويقينه • ومن علم الأصول ما يقدر به على استنباط الأحكام • ومعرفة أدلة الحلال والحرام • ومن علم الفروع ما يحكم به أصناف العبادات وأنواع العادات • وطريقة العقود • وإقامة الحدود • ومن المعقول ما يقوم به فكره ومن علم الأدب ما يتقن به دقائق الكلام • ومن النحو ما يقيم به لسانه ومن العروض ما يفرق به بين موزون الكلام من غيره • ومن علم مكارم الأخلاق
71ظ
ما يكسب به الذكر الجميل • والثناء الجزيل • إلى سائر العلوم • ومن الحرف ما يحصل به القوت الحلال • وقيل إن أبا حنيفة رضي الله عنه كان إذا جاء طالب علم ليقرأ عليه سأله فإن كان له حرفة يستغني بها عن الاكتساب بالعلم وعن سؤال الناس تقيد به وعلمه وإن لم يكن له سبب يقيم به أوده يأمره لولا باشتغاله بما يحصل له به القوت ثم يشغله بالعلم الشريف فقيل له في ذلك فقال العلم إنما هو لأجل الآخرة وتحصيل الثواب وكل علم يجعل وسيلة إلى اكتساب الدنيا فهو وبال على صاحبه فينبغي على كل أحد وخاصة العلماء أن لا يستعملوا العلم إلا في اكتساب ما عند الله تعالى وقيل ينبغي أن يتعلم الإنسان من علم السباحة • والرمي • والركوب • ولعب • الرمح • والخط • وغير ذلك من الصنائع بحيث أنه إذا تكلم بشيء من ذلك بحضرته يكون فيه مشاركة وإلمام وبهذا قال • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموا حتى السحر • وقال الشاعر • • علمت الشر لا للشر لكن لتوقيه • • ومن لم يعرف ال • خير من الشر يقع فيه • الا يستنكف من له بصيرة من تعلم أي علم كان وخاصة إذا كان العلم له شرف وتمييز على غيره من العلوم • قال بعض الوزراء لابنه يا بني تعلم العلم والأدب فلولا العلم والأدب لكان أبوك في السوق حمالا • وللنوق جمال • فبالعلم والأدب ركبنا أعناق الملوك • ولم يخلق الله تعالى في جميع المخلوقات خلفا قابلا لاكتساب الكمالات • وتعلم جميع العلوم • وتحصيل الدقائق والحقائق غير الإنسان والعاقل من تنبه لهذه الدقيقة وجعلها دستور أموره في الدنيا والآخرة • ومما يجب على الملوك من إجراء قواعد العدل الذي يحي الحق ويميت الباطل تفقد أحوال الخاصة من خدمهم ورؤس29 الجند وبطائن الاتباع فيعتبرون
72و
ولا أخلاقهم وشيمهم وصفاتهم وافعالهم فيقربون من يستحق التقرب • ويطردون من يستأهل الطرد والإبعاد • ولا يركنون إلى خائن ولا شره • ولا يعتمدون على كذوب ولا يصغون إلى جهول ولا حسود ولا يستشيرون سيئ الخلق • ولا دنيء النفس فإن هذه الأمور هي ملاك أمرهم • حكي عن الملك ازدشير أنه ذكر له رجل حكيم متضلع من علوم الحكمة • وتزكية النفس • وتهذيب الأخلاق • وإنه يصلح لمجالسة الملوك • ويستفيدوا منه • ويتكسبوا من حكمه وعلومه • فدعاه فلما جالسه رأى منه من العلوم أكثر ما كان معه فلما حضر السماط شرع يأكل بنهمة تامة وحرص كامل فقال ازدشير إن هذا لا يصلح لخدمة الملوك فإنه شره وإذا أكل هذا بحضرتي على هذا الطريقة فكيف يصنع من الأحوال في غيبتي وطرده • ويعلم من هذه الحكاية أن الذي يجالس الملوك يجب عليه أن يراقب أحوال نفسه على أدق الدقائق ولا يسامح نفسه بأدنى شيء في التقصير من خدمتهم • وقد قيل من بنى أمره على العدل ملك قلوب رعيته • ومن قام بالجود لم يملك منهم إلا التصنع وكانت قلوبهم عند من يملكها • والعدل هو الاستواء والاستقامة • قال الله تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا • وقال سبحانه وتعالى فاستقم كما أمرت ومن مات معك • وهاهنا مسائل فقهية كلها مبنية على العدل منها الوضوء والعدل في أن لا يقصر عن ثلاث مرات ولا يتجاوز إلى أكثر منها إلا بطريقة ولا يسرق في صب الماء ولا يفتر • والعدل في الصلوة أن تأتي بها على الأوجه الأكمل الأحسن كالمبادرة إليها في أحسن أوقات أدائها بجماعة من الصف الأول عن يمين الإمام مع الخشوع والخضوع وحضور القلب وتعديل أركانها بل تعديل الأركان عند أبي يوسف والشافعي رضي الله عنهما فرض إلى سائر ما هو مبسوط في كتب الفقه وغيرها • ومراعاة الأدب فيها • والعدل في الصوم
72ظ
أن لا يتناول فوق الغداء المعتاد ولا يواصل والعدل في الزكاة أن لا يخرج فيها ما يكره من رديء المال كما قال تعالى وتجعلون لله ما تكرهون على قول وكما قال عز وجل ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا من تغمضوا فيه • ولا تكلف جابي الصدقات المذكي إلى المال الغال عملا بقوله عليه الصلاة والسلام واتق كرائم أموالهم • والعدل في الحج أن لا يمادي في الإنفاق ولا يتغالى كما يفعله أبناء الزمان وأكابره • ولما حج عمر رضي الله عنه قال كم بلغت نفقتنا يا يرفا قال ثمانية عشر دينارا يا أمير المؤمنين قال ويلك اجحفنا بيت مال المسلمين ولا يقصر عن نفسه بحيث يصير كلا على الناس وهكذا أمور النكاح قال الله تعالى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالملعقة • وقال تعالى أعدلوا هو أقرب للتقوى وهو واجب عند القومان سنة عند القدرة عليه • مكروه عند العجز عنه • مستحب عند استواء طرفيه • وكذلك سائر المعاملات مع الناس مبناها كلها على قانون عدل الشريعة المطهرة • قال الله تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط والقسط هو العدل وحاصل الأمر أن العدل هو قوام كل فضيلة كما أن الصبر هو أساس كل خصلة جميلة • وقد ذكر في التفسير الكبير الإمام فخر الدين الداري رحمة الله عليه عند تفسير قول الله تعالى أن الله يأمر بالعدل والإحسان هذا القول ما بسط من هذا فليطالع به • ولما خص الله سبحانه وتعالى مولانا السلطان خلد الله سلطانه • ولوضح على العالمين عدله وبرهانه • بجميل الصفات وشريف النعوت والسمات • التي ذكرت في هذا الكتاب خصه أيضا من ذلك بسلوك طريق العدل في جميع ذلك فما تم خصله من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم
73و
ومن العبادات والعادات الأوله منها من فضل الله الحظ الأوفر وهو واقف فيها على سنن العدل والاستقامة • فليتأمل ذلك غير أن الله تعالى زاده على ذلك كله إن وفقه للعم بقوله عليه الصلاة والسلام تخلقوا بأخلاق الله ومن جملة أخلاق الله تعالى معاملة عبيده بفضله وكرمه • فلو عاملنا الله تعالى بعدله هلكنا كذلك مولانا السلطان يعامل جميع الرعايا والخلق بفضله وجوده فاسأل الله تعالى أن يعامله بفضله وكرمه • وجوده واحسانه • في الدنيا والآخرة لأن الجزاء من جنس العمل • وقد قيل السلاطين ثلاثة سلطان ينتصف لنفسه من رعيته • ولا يتنصف لرعيته من نفسه • وهذا أحطهم مرتبة • وسلطان ينتصف لنفسه من رعيته • وينتصف لهم من نفسه • وهذا وسط بينهم • والثالث سلطان ينتصف لرعيته من نفسه • ويترك حقه لهم فلا ينتصف لنفسه منهم وها أعلاهم منزلة • وأرقاهم درجة • وذلك هو مولانا السلطان خلد الله ملكه وأجرى في بحار السعد فلكه • فليتأمل ذلك • ومع كون مولانا السلطان أشفق على رعيته من الوالدة على ولدها إذا رفع بين اياديه الشريفة قضية فيها حد من حدود الله تعالى فهو أصلب خلق الله تعالى وأشدهم غضبا وقياما لله تعالى في ذلك • ومن جملة ذلك ما برزت مراسيمه الشريفة من عرب ىلي الذين كانوا نهبوا الحاج الغزاوي في أوائل سنة إثنين وأربعين • وذلك أنه لما توفي الملك الاشرف في أواخر سنة أحد وثمانمائة استطال كل من في قلبه غش ونفاق ومديده بالتعدي والظلم واغتنم فرصة الفترة وعلم أن الأمراء والرؤس مشتغل بعضهم ببعض فتصدى الحجاج الذين كانوا انفردوا من القافلة المصرية إلى غزة جماعة من عرب ىلي فأخذوهم ونهبوهم وقتلوا منهم وأسروا حريمهم وفعلوا معهم ما هو مشهور عنهم فأسرها مولانا السلطان في نفسه حتى لاحت له فرصة فأرسل
73ظ
فأرسل إليهم سودون المحمدي مع طائفة من عساكر الإسلام فأوغلوا في طلبهم وكان معهم من أمراء العرب أمير الكرك والينبع الأمير صخر • والأمير عقبة • وطائفة من بني عقيل فلم يزالوا وراءهم ينقبون عليهم ودخلوا في بلاد العرب مداخل لم يكن وطئها أحد من عساكر الإسلام قط حتى ظفرا بطائفة منهم فجاؤوا بهم في شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة فبرزت المراسيم الشريفة أن لحرب عليهم ما أمر الله تعالى به في سورة المائدة من قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض فسمروهم ودخلوا مصر مسمرين • وكان لهم يوم مشهود وذلك يوم الإثنين حادي عشرين شهر رجب ثلث وأربعين • وسكن بذلك رعبة قلوب الناس • مع أنه خلد الله تعالى دولته • وأيد صولته • مقتص أثار باقي المفسدين من العرب المذكورون وغيرهم من المفسدين • ليجري عليهم أحكام عدله الشريف • فاسأل الله تعالى أن يظفره بكل مخالف ومنافق • ويعطف عليه الإخلاص في طاعته كل ذي قلب سليم موافق • وسر مع الله صادق • وهذا الذي ذكرته في هذا المختصر هو قطرة من بحر • وذرة من جبل فاني لم أتشرف بتقبيل الأرض • والمثول بين يدي المواقف الشريفة الأمدة يسيرة نحوا من ثلاثين يوما • وذلك في رجب وشعبان المبارك سنة ثلث وأربعين فما أسعدها أياما كانت فبرزت المراسيم الشريفة أني ألازم الحضرة • الشريفة ما دمت بمصر كليمه • فامتثلت ذلك واغتنمت هذه السعادة فكنت أشاهد من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والهمم السلطانية • والسجايا الملوكية • في هذه المدة اليسيرة ما لا يمكن ضبطه ولا يجد ولا يحصر • ولا يسعه • ديوان ولا دفتر • غير أنه يستدل بذلك على سائر الصفات الشريفة • والشمائل المنيفة • المذكور ذلك في الآية الشريفة • والحديث الكريم • أما ما في الآية الشريفة
74و
وهي قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل الآية فقال المفسرون العدل التوحيد والإنصاف والإحسان مكارم الأخلاق • او أداء الفرائض • وهاتان الخصلتان ملكتان لمولانا السلطان • وايتاء ذي القربى فمولانا السلطان بسط الله عدله • وأدام فضله وفصله يؤتي أولي القربى وغيرهم • وصدقاته قد عمت القريب والغريب • وينهي عن الفحشاء الزنا والمعاصي • والمنكر الشرك • وما لا يعرف شرعا ولا سنة • والبغي الظلم ومولانا السلطان أبعد الناس عن هذه الخصال فهو متشبث بأذيال هذه الآية الكريمة مقتف أوامرها • أبعد الناس عن زواجرها • وقد تبين ذلك مع أنه مشاهد محسوس ولا يحتاج النهار إلى دليل • وأما ما في الحديث الكريم • فهو الإمام العادل وقد تبين معنى العدل وكونه عاما في جميع الصفات المحمودة • وكون مولانا السلطان رحم الله عاقبته • وأدام دولته وعاقبته • هو المختص بها دون سائر الملوك والسلاطين • وهو الشاب الذي كان نشأ في عبادة الله تعالى كما مر بيانه • والرجل المتعلق قلبه بالمساجد حتى كان له في وسط داره الشريفة مسجد أينما سكن يصلي فيه هو وجماعته ومماليكه بحيث لا يخل بالصلوة في جماعة • وأما صدقاته فظاهرها قد بلغ أقطار الأرض شرقا وغربا وباطنها لا يعلمه إلا الله تعالى وهو أكثر من ظاهرها • وقد مر بيان هذا كله مستدلا عليه بالدلائل الحسية • وأما أصحابه وإخوانه في الله تعالى من الصلحاء والعباد • والزهاد • والأحبار • والأبرار • وأرباب القلوب • فأكثر من أن يحصوا • وناهيك بالشيخ القطب الكبير • فريد الدهر • وأحد العصر علما وعملا الشيخ علاي الدين محمد البخاري تغمده الله تعالى برحمته • وأسكنه بحبوحة جنته • فإنه كان من أكبر أصحابه • وأعظم أحبابه • وأما ذكره الله تعالى في الخلوات • وتضرعه بين يديه • وخشوعه وخضوعه • والانقياد لأوامره • والبكاء من خشيته • فذاك أمر يعرف ببديهة العقل • فإن الظاهر عنوان الباطن وقد ظهر صلاح الظاهر
74ظ
بحيث لا يخفي وأما ميل النساء إليه • ودعاءهن إياه فجماله البديع • وحسن هيئته • ومكارمه • وأخلاقه • يقتضي أكثر من ذلك • غير أن تقواه وورعه وعفته • وما جبل عليه من خشية الله تعالى وخوفه • وعظيم هيبته التي نشأ عليها • وفكره في العواقب أقوى حاجز • وأمنع صارف له عن ارتكاب ذلك المحظور • فالذي ينبغي أن يتيقنه ويتحققه ذو اللب والفكر الصحيح • والعقل الرجيح أن مولانا السلطان خلد الله تعالى سلطانه وصانه عما شأنه • صار جميع الصفات العلية • والشمائل السنية • التي اشتمل عليها هذا الحديث الكريم • كما حوى جميع الصفات الجميلة المذكورة في الآية الشريفة من العدل • والإحسان • وإيتاء ذي القربى • والانتهاء عن الفحشاء • والمنكر • والبغي قيل جمع أنو شروان الحكماء فقال قد أطال الأولون في وصفه تدبير الملك وأحب أن يجمعوا إلى أصول سياسة الملك في كلام قليل فاجتهدوا أياما ثم اختصروا أصول السياسة واتفقوا في ذلك على سبع كلمات وهي العالم بستان سياجه الشريعة • الشريعة سياسة يخدمها الملك • الملك راع يعضده الجيش • الجيش أعوان يكفلها المال • المال رزق تجمعه الرعية • الرعية أحرار مستعبدها العدل العدل مألوف وبه قوام العالم والسلام • هذا ما أملاه لسان العلم بطريقة الاستعجال • وتوزع البال • وأرجوا من الله تعالى أن أحرر من تلك الدلائل القاطعة • والبراهين الساطعة • ما يثلج الصدر • ويبلغ القصد ويملأ عدة مجلدات • باقيا على مر الزمان إن شاء الله تعالى • فصل مما يحتاج إليه الملوك والسلاطين مما هو قوام السلطنة وعماد المملكة ونظام أمور الايالة والسياسة إنما ذكرت هذا الفصل لتتم الفائدة • وتتوخى العائدة • والله الموفق
75و
فمن ذلك اتخاذ الوزراء الأكفاء • والجلساء الأتقياء الناصحين للملك المشفقين على الرعية قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام واجعل لي وزيرا من أهلي هرون أخي اشدد به ازري • واشركه في أمري • كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا • إنك كنت بنا بصيرا • وقال في مكان أخر وأخي هرون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردا أن يصدقني إني أخاف أن يكذبون فقال تعالى مجيبا سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا • والملوك وإن جل مقدارهم • وارتفع محلهم • وتناهى عقلهم • فلا غنى لهم عن وزير نصوح • ومباشر شفوق • وعامل كاف أوامر السلطنة • وحمل أعباء الايالة والسياسة • وتحمل أمور الرعايا • وضبط الممالك شرقا وغربا • وحفظ الجوانب والأطراف • ثقيل يحتاج إلى أعوان ومساعدين بل أعلى السلاطين يحتاج إلى أدنى الغلمان • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه • وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه • والمعصوم من عصمه الله تعالى • قال أبو جعفر المنصور ما أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة أعفاء صلحاء لان الملك له سرير وكما أن السرير له قوائم أربع لا يقوم إلا بها كذلك أمر الملك لا يقوم إلا بأربعة بهؤلاء الأربعة فإن نقص واحد منهم أو كان فيه خلة سوء كان كالنقص الذي يحدث في قوائم السرير • العيب والخلل الذي يقع فيه • أحدهم قاض لا يأخذه في الله لومة لائم • الثاني صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي الثالث صاحب خراج يستقضي ولا يظلم الرعية فان السلطان غني عن ظلم الرعية • ثم قال الخليفة الرابع وعض على اصبعه وتأوه مرارا قيل من هو يا أمير المؤمنين قال صاحب يريد يبلغ خبر هؤلاء على الصحة • وإذا اختار الملك وزيرا ومعتمدا فليكن مثل أحد هؤلاء • قال ازدشير لكل ملك
75ظ
بطانة • ولكل بطانة بطانة • حتى يجتمع بطائن المملكة • فإذا كانت بطانة الملك على الصواب كانت جميع بطانتهم على الصواب • فيجتمع جميع الرعية وعامة الخلق على الصواب • وإذا كانت بطانة الملك على غير الصواب كانت بطانتها أيضا كذلك فتفسد إذ ذاك عامة الرعية • وقيل مثل الملك الخير والوزير السوء الذي • يمنع الناس خيره • ولا يمكنهم من الوصول إليه ولا الدنو منه ويقف في طريقهم كمثل الماء الصافي العذب الذي كل أحد يحتاج إلى الشرب والاستقامة منه • لكن فيه تمساح • وفي طريقه أسد فلا يقدر أحد على الدنو منه وإن كان سابحا وظمأن وقيل مثل الملك مثل الطبيب • والرعية كالمرض • والوزير كالواسطة • بين المرض وطبيبها • فإن وصف الوساطة المرض على ما هو عليه شخص الطبيب العلة ووصف لها دواء يليق بها فشفي العليل وذهبت العلة • فإن الطبيب لا يصف الدواء إلا على حسب ما يوصف له العلة ويشخصها • وإن ذكر له الواسطة العلة • ووصف المرض على خلاف ما هو عليه • أما لغرض وأما لجهل منه • فلا شك أن المريض يتلف لان الطبيب يصف الدواء على حسب ما أنهي إليه قديما يصف شيئا يقوي العلة • ويكون سببا لهلاك المريض • فعلى هذا ينبغي أن يكون الوزير الذي يختاره الملك صدوقا أمينا دنيا خاليا عن الأغراض • عارفا بطريق الوزارة • وينبغي للملك أيضا أن لا يهمل أمر الرعية رأسا ولا يسلم أمرها إلى رأي الوزراء بتابل يتفحص بنفسه أحيانا عن أمور الرعية كالطبيب الذي يتفقد أحوال المرض بنفسه • ولا يكتفي بوصف الواسطة علة المرض • وهذا نوع من الحزم واليقظة وبرأة الذمة • وخلاص النفس بين يدي الله تعالى يوم القيمة قال أنو شروان لا يتم الملك أمره حتى يرفع نفسه عن كل عيب ويكون له جليس مأمون الغيب • وخادم ناصح الجيب • وقيل لا يطمع المتكبر في الثناء
76و
ولا الخبء في كثرة الصديق • ولا السيئ الأدب في الشرف • والشحيح في البر • ولا الملك المتهاون الضعيف الوزراء في بغا الملك • وكما يستدل على كمال عقل الملك برسوله يستدل على ذلك بوزيره • ومدبر مملكته • وانشد مخارق بين يدي المأمون شعر• • وإني المشتاق إلى ظل صاحب • يروق ويصفوا إن كدرت عليه • • عذيري من الإخوان لا إن جفوته • جفاني ولا إن صرت طوع يديه • فقال ويحك يا مخارق خذ نصف الخلافة واعطني هذا الإنسان • وكان الملوك والخلفاء المتقدمون لكثرة ما يتفحصون عن أمور مباشريهم وخاصتهم قد استطردوا من ذلك إلى الإحاطة بجميع أحوال رعاياهم وقد مر حكاية الحجاج مع الصيرفي والآية الكبرى في ذلك كان المأمون حتى قيل إنه كان له سبعمائة عجوز تدخل بيوت الناس وتتفحص عن أمورهم وتأتيه بأخبارها ليلا ونهارا • ولما نزل عبد الله ابن جعفر رضي الله عنهما بمكة بات بها ليلة ثم أصبح فقال يا أهل مكة عرفنا خياركم من أشراركم في ليلة واحدة قال وكيف ذلك قال كان معنا أخيار وأشرار فنزل خيارنا على خياركم • وشرارنا على شراركم • فوضح لنا الأخيار من الأشرار وينبغي للملك مهما أمكنه أن لا يستعمل الخونة ولا الذمة أعداء الدين كان عمر رضي الله عنه يقول لا تستعملوا اليهود والنصارى فإنهم أهل رشا في دينهم ولا تحل الرشا • وقدم أبو موسى على عمر رضي الله عنهما وكان عاملا على البصرة واستأذن لكاتبه وكان نصرانيا فقال له عمر رضي الله عنه قاتلك الله وضرب بيده على فخذه وقال وليت نصرانيا على المسلمين والله سبحانه وتعالى يقول يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم ومنكم فإنه منهم إلا الحدث حنيفيا فقال يا أمير المؤمنين لنا كتابة وله دينه فقال
76ظ
لا أكرمهم إذ أهانهم الله • ولا أعزهم إذ أذلهم الله • وال أدينهم إذ أقصاهم الله • دخل بعض الكبراء • على بعض الخلفاء • فوجد عنده ذميا يكتب • وكان الخليفة يقرب ذلك الذمي ويميل إلى كلامه فأنشده الداخل شعر • • يا ملكا طاعته ديننا • وحبه مفترض واجب • • إن الذي شرفت من أجله • يزعم هذا أنه كاذب • وأشار إلى الذمي وقال سله يا أمير المؤمنين عن ذلك فسأله لم يجد به بدا من أن يقول هو صادق فاعترف بالإسلام • وقد علم من هذا أنه ينبغي للملوك والسلاطين أن لا يقربوا أعداء الدين لحال خاصة الأطباء والحساب • فقد قيل • شعر • كل العداوة قد يرجى الصلاح لها • إلا عداوة من عاداك في الدين • سئل بزرجمهر ما بال ملك آل ساسان خرج منهم بعدما كانوا في قوة وبسط يد • ووفور عدد وعدة • وتطاول سلطان • وعدم مخالف وشدة أركان المملكة • فقال لأنهم قلدوا كبار الأعمال • صغار العمال • وأنشد شعر • لله در انوشروان من رجل • ما كان أعرفه بالوغد والسفل • نهاهم أن يمسوا عنده قلما • وان يدل هو إلا حرابا بالعمل • وكما ان كل سلاح له محل كل رجل من الكفاية له محل في تولية الأعمال • والمراءة لا تصلح لكفاية عمل • ولا لحفظ سر • فضلا عن ساسة الملك • ولما مات كسرى بلغ موته النبي صلى الله عليه وسلم فسأل من ولي مكانه فقالوا ابنته بوران فقال لن يفلح قوم اسندوا أمرهم إلى امرأة فاختل أمرهم • قال المأمون ما فتق علي في مملكتي فتق قط إلا كان سببه جور العمال حكاية
77و
كان بعض الخلفاء شديد البأس • وكان له عامل جائر لا يقدر أحد أن يخاطب الخليفة من أمره لكونه يميل إليهم فاستعملوا في أمره نديما للخليفة حاذقا ففي بعض الليالي أرق الخليفة واستدعى النديم ليشاغله بطرف الأحاديث والأخبار فوجد فرصة للتعرض بخبر العامل فقال إن بومة بالبصرة خطبت لابنها بنت بومة بالكوفة فقالت بومة الكوفة أريد صداقها قريتين من خراب القرى فقالت بومة البصرة أما الآن فلا أقدر على ذلك لأن البلاد على أيام أمير المؤمنين خلد الله معدلته كلها عامرة لكن إن كان عليك مهل فاصبري نحو سنة فإنه إن دام على البلاد ولاية فلان عاملها فإني أعطيك لو شيئت مائة قرية خرابا كما تريدين وتشتهين قال فاستيقظ الخليفة بهذا الكلام وأخذ في التفتيش عن أمر الوالي وعزله • وكان عمر رضي الله عنه إذا استعمل عاملا اشترط عليه أن لا يركب البراذين • ولا يلبس الرقيق • ولا يأكل النقي • ولا يتخذ حاجبا • ولا يغلق بابا عن حوائج الناس • ولا أغراضهم ولا أعمالهم • ويقول له إنما استعملتك لتقضي بينهم بالعدل • وتعمل مصالحهم • وتصلي بهم • وكان إذ أقدم الوفد عليه سألهم عن حالهم وعن أشعارهم وعن أحوال أميرهم هل يدخل على الضيف • ويعد المريض • فإن قالوا نعم حمد الله وإلا عزله • قيل إذا ولي السلطان العمال الظالمين مثل من استدعى الذئب الغنم • وربط الكلب العقود ببابه • وإن العامة تشتم الحجاج • والخاصة تلوم عبد الملك بن مروان لأنه هو الذي استدعاه • قيل شعر • ومن يربط الكلب العقور ببابه • فعقر جميع الناس من رابط الكلب • وينبغي للملك إذا حصل له الوزير الناصح • والعالم الشفوق • والخادم المعين له على ما أولاه الله تعالى بالدين والأمانة • وخلوص الطوية • والشفقة على الخلق • فينبغي إذ ذاك أن لا يبقى مجهودا في استعطاف خاطره بأنواع
77ظ
المبرات • والمشرة في المهمات • فإن المشورة من أقوى الدواعي على استجلاب خواطر حاشية الملك • وتطيب قلوبهم • وبذلك النصيحة له • في المشورة فوائد جمة لا تخفى على ذي البصيرة الصادقة • والرأي الثاقب • والفكر الصائب • قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وشاورهم في الأمر • ولما أراد الله تعالى خلق آدم عليه الصلاة والسلام استشار الملائكة • والقصة مشهورة • وفوائدها مذكورة • قال تعالى والذين استجابوا لربهم • وأقاموا الصلاة • وأمرهم شورى بينهم • مدحهم الله تعالى بالتشاور وقرن الشورى بالاستجابة له وبإقامة الصلوة • وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول لأصحابه اشيروا علي وسئل عليه الصلاة والسلام عن الحزم فقال أن تسترشد • ولما قصد بالأحزاب كان فيهم عيينة بن حصين • والحرث بن عوف • فأرادا منه ثلث ثمار المدينة على أن يرجحا بمن معهما من غطفان فقال حتى أشاور السعود سعد بن معاذ • وسعد بن عبادة • وسعد بن فزارة • رضي الله عنهم فأشاروا أن لا يعطيهم • فعمل بمشورتهم فانجح • وكذلك في بدر لما نزل عليه الصلاة والسلام بأدنى ماء قال الحباب بن المنذر يرسول الله أرأيت هذا المنزل منزلا أنزلكه30 الله تعالى ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة فقال صلى الله عليه وسلم بل هو الرأي والحرب والمكيدة فقال الحباب ليس هذا بمنزل فانهض يرسول الله بالناس حتى نأتي أدنى منزل من القوم فننزل على مائه ثم نفور ما وراءه من القلب والآبار ونعمل لك حوضا فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون فقال صلى الله عليه وسلم لقد اشرت بالرأي فنهض عليه الصلاة والسلام بمن معه وسار حتى أتى أدنى ماء القوم فنزل عليه وفعل ما أشير عليه فانجح وقال على كرم الله وجهه في المشورة سبع خصال
78و
استشاط الصواب • واكتساب الرأي • والتحفظ من السقطة • وحرز من الملاحة • ونجاة من الندامة • والفة بين القلوب • واتباع الأثر • مع أن عليا كرم الله وجهه كان مستبدا برأيه ولما ولي الخلافة استشار في أمر معوية رضي الله عنهما فقيل استمر به وأقره نحو مدة شهر ثم أعزله فأبى ثم بادره بعزله فلم يجبه إلى ذلك وكان من أمرهما ما كان وسببه الاستبداد بالرأي وقال لقمان عليه السلام لابنه يا بني اجعل عقل غيرك لك قال وكيف قال استشر في حوائجك • وفي حكم الهند الملك الحازم يزداد برأي الوزير حزامة كما يزداد البحر من ماء الأنهار وينال بالحزم والرأي والمشورة ما لا يناله بالجند والعساكر • ولم يزل حزمة الرجاء وذوو العقول من الأكابر يستحلون مرارة قول النصحاء كما يستحلي الجاهل المساعدة على الهوى • وقال عمر رضي الله عنه رحم الله أمرءا أهدى إلى عيوبي وكان يقال من أعطى له بعالم يحرم أربعا من أعطي الشكر لم يحرم المزيد • ومن أعطي التوبة لم يحرم القبول • ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة • ومن أعطي الاستشارة لم يحرم الصواب • وقيل خير الرأي خير من فطيرة • وتأخيره خير من تقديمه • وهذا بحسب مساعدة قضاء الله تعالى وقدره • فائدة جليلة في المشورة ذكر في جامع الحكايات أن منصور الخليفة كان يختشي الملوك على ملكهم وكان لا يجد سبيلا إلى قتلهم • وكان من عمه عبد الله بن علي ابن عبد الله بن عباس • ومن بن عمه عيسى بن موسى بن علي أشد خوفا فأكمل الفكر في إهلاكهما • وكان بن عمه عيسى واليا على الكوفة فدفع المنصور عمه عبد الله بن علي إلى عيسى وأمره بقتله فلما أراد أن يقتله تفكر في أمره وكان يونس بن فروة الكاتب صديقا له فعرض عليه هذه القضية واستشاره فيماذا يفعل فقال له يونس لا تفعل ولا تؤذه فإن ذلك يتطرق إليك
78ظ
فقال أخشى من المنصور فقال احبسه عندك في مكان حتى لا يطلع عليه أحد الا الله تعالى وتعالى31 انت بنفسك أمره بحيث لا ينقل إليه أحد الطعام والشراب غيرك واكتم قضيته على جميع الناس إلى أن تتيقن من أمره ما يفعل الله تعالى وقل للخليفة أنك امتثلت أمره فإنه يختلج في خاطري أن لهذا الأمر شأنا سيظهر وعلى كل حال إن أبقيت عليه واضطررت إلى قتله فتقدر على ذلك ولا تقدر على غير ذلك إذا قتلته فامتثل ما أشار به يونس وأخفي أمره عن جميع الخلق • ثم إن المنصور حج ورجع فاجتمع عنده أعمامه وبنو أعمامه من بني العباس وبني هاشم • ثم إنه طلب من عيسى عمه عبد الله بن علي على رؤس32 الأشهاد فتقرب إليه وقال له سرا أنت ما أمرتني بقتله وامتثلت أمرك في الوقت الفلاني فصاح وقابله بالتكذيب وأنكر واستشاط وقال مجاهرا أنا أمرتك بقتله يا فاعل يا تارك ثم أنه استثبه في الإقرار بقتله • فلما تحقق ذلك منه صاح وأعماه واحمى صدورهم عليه ثم رفعه إلى بني عمه وقال دونكم فاقتصوا منه فإني لم آمر بقتله فتعلقوا فيه فسحبوه وخرجوا به من عند المنصور وذهبوا به ليقتلوه به فلما جردوه واحضروا الجلاد وهو يستشفع بهم واحدا بعد واحد ويتالى أنه أمر بقتله وهم لا يقبلون ذلك فلما تحقق منهم أنهم يقتلونه قال لهم إنه عندي حيا واحضره إليهم وسلمهم إياه فخجل المنصور ونجا عيسى من القتل وذلك ببركة المشورة • ثم إن المنصور حبس عبد الله بن علي في بيت أساسه من علم الملح ثم أرسل عليه الماء فلما ذاب الملح سقط عليه فارتدم تحته • ومما يحب على الملك والسلطان إذ أشاور في أمر جماعته وخواصه في قضية يريد اخفاها أو أراد أن يفشي إليهم سرائر يد كتمه عن غيرهم أن ينفرد بكل واحد منهم على حدة ويبدي ذلك إليه لأنه أخفى • للسر • واحزم للرأي • وأقرب إلى السلامة • وأسلم عاقبة • ولأنه ربما يفسر ذلك
79و
فيتوصل إلى معرفة من أفشاه منهم • ومثل هذا حكاية وقعت للمأمون مع الفضل ابن سهل فإنه لما أحسن منه بما يكرهه أراد قتله فشاور في ذلك خمسة أنفار من خواصه لا يحضرني أسماؤهم لطول العهد • واستكتمهم هذه القضية فبلغت فضلا فجاء إلى المأمون واعتذر وأراد أن يتلافى أمره فيها فغالطه المأمون وقبل عذره ثم أنه قتل في الحمام • والحكاية مشهورة • ولم يدر المأمون الذي نقل ذلك إلى فضل من أولئك الخمسة من هو منهم • وندم على انه لم يفرق بينهم في مشورته تلك إلى أن قتلهم واحدا بعد واحد وهلك الأربعة بجريرة الخامس • ثم بعد ذلك اطلع المأمون على من أفشى سره ولكن لم يفده شيئا • وإذا اعتنى الملك والسلطان شأن أحد من خواصه وقربه دون غيره فالواجب عليه أن يعرف قدر هذه السعادة ويشكر هذه النعمة • ويحفظ شرط هذه المرتبة الرفيعة • فلا يبقى من أنواع الصدق والإخلاص شيئا إلا وبذله من طاعة مخدومة امتثالا لقوله تعالى اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم • ولقول النبي صلى الله عليه • وسلم الدين النصيحة وكرر ذلك فقيل لمن يرسول الله فقال لله ولكتابه • ولرسوله • ولأئمة المسلمين • ولعامتهم • فالنصح لله تعالى تنزيهه عما لا يليق بجنابه تعالى وتقدس • والقيام بما يليق به من التعظيم • والخشوع والخضوع قولا وفعلا واعتقادا • وموالاة لأوليائه • ومعاداة لأعدائه • والنصيحة لكتابته تلاوته ليلا ونهارا • وتأمل معانيه • وتدبر فحاويه • والعمل بما فيه والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم إحياء سنته الكريمة • والذب عن شريعته والنصيحة لأئمة المسلمين • وهم أولوا الأمر والحكام معاونتهم على ما تحملوا من أحمال المشاق وكلف ما لزمهم من القيام بحقوق العباد ومصالح العامة والخاصة وحفظ البلاد • وإقامة حدود الله تعالى • وإجراء أحكامه • وذلك تنبيههم
79ظ
عند الغفلة • وارشادهم عند الهفوة • وتعليمهم ما جهلوا • وتحذيرهم ممن يريد بهم سوءا وإيصال أخبار الناس إليهم من غير غرض ولا غيبة بحيث يتفكروا في مصالح الخلق وسد خلتهم عند الحاجة • ودفع الشر عنهم • وكيد الأعداء بكل ما يمكن • وجمع القلوب على محبتهم من الغريب والقريب إلى غير ذلك • والعمدة في ذلك الجهد في إصلاح أخرتهم أكثر من الجهد في إصلاح دنياهم فقد قيل من أحبك نهاك • ومن أبغضك أغواك • النصيحة للمسلمين الشفقة عليهم • والإحسان إليهم • وتوقير كبيرهم • ورحمة صغيرهم • وتفريج كزبهم • واسعافهم بأنواع الخير • وكف الشر والأذى عنهم قولا وفعلا مهما أمكن • فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال الخلق كلهم عيال الله فأحبهم إليه انفعهم لعياله • وقال على كرم الله وجهه إن لله تعالى عباد أخلقهم لحوائج الناس آلي على نفسه أن لا يعذبهم بالنار فإذا كان يوم القيامة وصنعت لهم منابر من نور يحدثون الله والناس في الحساب • وقال عليه الصلاة والسلام من يسئ مع أخيه في حاجة فناصحه فيها جعل الله بينه وبين النار يوم القيامة سبع خنادق ما بين الخندق والخندق ما بين السماء والأرض انظر كيف اشترط عليه الصلاة والسلام المناصحة والأحاديث في هذا كثيرة والنصح لأولى الأمر من الملوك والسلاطين فرض على كل مسلم لان بصلاحهم صلاح العالم وروى معاذ رضي الله عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم قال ثلاث لا نعل عليهن قلت من هم قال مسلم العمل لله • ومناضح ولاة الأمر • والاعتصام بجماعة المسلمين • والنصيحة هي أكد سنن الأنبياء والمرسلين • الداعين إلى جناب رب العالمين • فإنهم عليهم الصلاة والسلام بذلوا المجهود في النصح لأممهم فصلى الله وسلم شرف وكرم • وقحم وعظم • من بلغ الرسالة • وأدى الأمانة • وصدق الدعوة • ونصح الأمة • وجاهد في الله حق جهاده • وعبد الله حتى أتاه اليقين • وبإبلاغ الأنبياء والرسل
80و
عليهم الصلاة والسلام ورد النص وشهد الله تعالى في كتابه الكريم • قال الله تعالى ونصحت لكم وقال ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم وقال يا قوم لقد أبلغت لكم رسالات ربي ونصحت لكم وقال صلى الله عليه وسلم العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة ربه فله أجره مرتين • نكتة نحوية النصح يتعدى تارة بنفسه يقال نصحته ويتعدى تارة باللام يقال نصحت له والشكر كذلك يقال شكرته وشكرت له وإذا تكفل الإنسان بإيصال الخير ودفع الشر فلا بد له من صدق الحديث واستعمال شيء من الأمثال فلنختم هذا الفصل بنبذة في الصدق والأمثال • ثم نشرف فيما نحن بصدده من التاريخ السعيد • اعلم أن الله تعالى مدح الصدق والصادقين في عدة مواضع من كتابه الكريم • وحث على الصدق فقال تعالى يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين • وقال الصابرين الصادقين والقانتين • وقال لغالي ليجزي الله الصادقين بصدقهم وقال تعالى يوم ينفع الصادقين صدقهم وقال أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون • انظر إلى ما في هذه الآية الكريمة من اسم الإشارة الدال على التعظيم وبعد المشار إليه في علو المرتبة وقال صلى الله عليه وسلم إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا • وإذا كان الصدق من الأخلاق المحمودة فضده وهو الكذب من الأخلاق المذمومة • وقال الله تعالى إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون • وقال صلى الله عليه وسلم وإن الكذب يهدي إلى الفجور • وإن الفجور يهدي إلى النار • وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا قال صفوان بن سليم قلنا يرسول الله أيكون المؤمن جبانا قال نعم قال أيكون المؤمن بخيلا قال نعم قيل أيكون كذابا قال لا • ذكر في جامع الحكايات إن رجلا أتى أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه فقال يا أمير المؤمنين إنني مبتلي بمعاصي كثيرة ولا أقدر 80ظ
على تركها مرة واحدة بل أريد أن اندرج إلى تركها شيئا فشيئا لا توصل بذلك إلى الانقلاع عنها فمرني بشيء أبدأ بتركه حتى أعاهدك عليه أن لا أفعله فقال لا تكذب فعاهده أن لا يكذب ثم ذهب فجاز في طريقه على جماعة كان يتعاطى معهم شرب الخمر فدعوه إلى ما كانوا اعتادوه منه فتوجه إليهم ثم افتكر أنه إذا سئل عن شربه الخمر فإن أقر يلزمه الحد وإن أنكر فقد نقض ما كان عاهد الله عليه عند علي رضي الله عنه فامتنع عن ذلك فلما جاوزهم صادف امرأة كان بينه وبينها شيء فدعته نفسه إليها فافتكر ما كان افتكره في شرب الخمر وامتنع عن ذلك واستطرد منه إلى جميع المناهي فتركها على الوجه الذي ذكر • وعلم من ذلك أن الكذب ذمام المعاصي • وكان ذلك من مكاشفة على كرم الله وجهه ورضي عنه وببركة مشورته • واعلم ان الكذب حرام في جميع الملل وقد أباحه الشارع صلى الله عليه وسلم في مسائل مذكورة كالإصلاح بين الناس • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الكذاب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نهى خيرا أو غير ذلك • ذكر الشيخ سعدي الشيرازي رحمه الله في كتابه المسمى بكلستان أن بعض الملوك كان له عدو جاهدا على إيصال جميع الكروه إليه ولا يرضى منه إلا بإزهاق نفسه وذهاب ملكه • وكان ذلك يداريه ما أمكنه وهو لا يزداد الا عتوا وفسادا فكان يتطلبه ويجتهد أن يظفر به لأنه لم يترك من أنواع الشر والإيذاء شيئا إلا وفعله معه إلى أن أمكن الله تعالى به وظفر الملك به فلما مثل بين يديه سجد شكر الله تعالى إذا ظفره به وامر بضرب عنقه فلما أيس من الحيوة وأحضر الجلاد وشرع في الشتم والسب وبالغ في الكلام بما لا يليق إذ لم يبق بعد الموت موت فقال الملك ماذا يقول هذا الفاعل الصانع فتقدم وزير كان بطانة خير وواسطة حسنة فقال ما يقول ما أحسن العفو عند القدرة • وما أولى بالملك أن يجعل العفو شكرا لظفره بالأعداء • ولا زالت
81و
الأصاغر تتوقع مراحم الملوك • ولم يزل يقل صن هذا النوع حتى رق الملك واتسع صدره وأمر بإطلاقه وكان أحد الوزراء الذين هم بطانة السوء حاضرا وهو معاكس للوزير المتقدم فلما سمع ذلك اغتنم الفرصة وقال لا ينبغي أن يتكلم الإنسان في حضرة مخدومه إلا الصدق عدو لم يترك من أنواع الشر والفساد شيئا إلا وتعاطاه وقد أمكن الله تعالى منه وحضر وتكلم في مثل هذا المقام بكلام يثلب عرض مولانا الملك ويقول السوء من القول كيف يجوز أن يسكت عنه فضلا أن يبرز كلامه في قالب الدعاء والثناء ويطلب له الرفق والخلاص يا مولانا الملك إنما قال كذا أو كذا وتناول عرض مولانا الملك فلما قال ذلك تكدر خاطر الملك وتغير حاله ثم قال والله لكذب هذا الوزير خير عندي من صدقك يا قليل الخير أن هذا استرضاني وطلب صفاء خاطري وانشراح صدري وطيبة قلبي وخلاص ذمتي من دم ربما كان غير مرتب ومستحق وإصلاح ذات البيت • وتخليد ذكري بجميل الصفات • وإنما انت الذي كدر وقتي • ووزع خاطري • أما أنا فقد عفوت عنه فلا أرجع في خير أسديته • وأما أنت فلقد سقطت من عيني وإن كنت صادقا لكن انت صاحب غرض • وأما هذا الوزير فلقد أثبت في جهتي حقوقا لا أستطيع أراها وإن كان كذب فإن كذبه أحسن من صدقه غيره • وحاصل هذه الحكاية أنه وإن كان الكذب حراما لكن قد يقع له موقع يستعمل فيه مثل هذا الموقع الذي مر لكن إذا جعله الإنسان دينا وعادة وفي مكان لا يفيد سوى الإثم فهو حرام قطعا وقد اشتهر في لسان العوام إنهم يقولون الكذب ما خلقه الله وهذا كلام باطل وهو مذهب أهل الاعتزال لأن الله تعالى خالق كل شيء ومقدر الخير والشر وقيل الكذب قبيح ومن الملوك أقبح وهذا قول صحيح لأن الكذب إنما يكون إذا وقعت ضرورة تلجئ إليه والملك والسلطان ليس له ضرورة تدعوه إلى الكذب فإنه لم يكن فوق يده يد فلا ضرورة داعية إلى الكذب اللهم إلا أن يكون في ذلك رعاية
81ظ
مصلحة فيحتاج إذ ذاك إلى التورية والإبهام • قال صلى الله عليه وسلم قلما يخرج إلى غزوة إلا وري عنها بغيرها وقال في المعاريض مندوحة • وقال عليه الصلاة والسلام الحرب خدعة • والملك قد يحتاج إلى ذلك أحيانا فلا بأس به • وأما إذا جعل ذلك عادة وديدنا فلا • وكثيرا ما كان تيمور يستعمل المعاريض والتواري في كلامه من ذلك أنه لما اشترط على أهل رمن أنهم يخرجوا له ثقل السلطان الملك الناصر فرح وأثقال الأمر أو يعطون مال الأمان لا يتعرض لدمشق بسوء وإنه آمن أهل دمشق على هذا الشرط من الخراب والأسر والريق وسائر أنواع الأذى وقد بنى في مملكته بما وراء النهر مدينة صغير سماها دمشق وهي عن سمرقند مسيرة يوم إنما كان يعني عنها ثم حلف على ذلك فاطمأن الناس وركنوا إلى هذا القول ثم كان من أمره ما كان وفي الحديث الصحيح أن أهل الغار إنما نجوا بعد أن انطبقت عليهم الصخرة ببركة صدقهم الله تعالى • وقال الله تعالى من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى بجنة ومنهم من ينتظر فمدحهم ثم قال ليجزي الله الصادقين بصدقهم • وفي الحديث الشريف أيضا حديث كعب بن مالك ورفيقيه هلال ابن مرة • ومرارة بن الربيع • رضي الله عنهم • وفيه قد علمت يا بني الله إنني إن أخبرتك اليوم تقول تجد علي فيه وهو حق قال أرجوا فيه عفو الله • وإن حدثتك اليوم حديثا ترضي عني فيه وهو كذب أوشك أن الله تعالى يطلعك علي والله ما كنت أسهر ولا أخف حاذ أمني حين تحلفت فقال أما هذا فقد صدقكم الحديث إلى أن قال وفينا نزلت يأيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين فقلت يرسول الله إن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا • ثم قال فما أنعم الله على نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدقته أنا وصاحباي وأن لا يكون كذبنا فهلكنا كما هلك غيرنا وأني لأرجوا أن لا يكون الله تعالى أبلى أحد في الصدق
82و
مثل الذي ابلاني ما تعمدت الكذب بعد وإني لأرجوا أن يحفظني الله فيما بقي • وناهيك المثل السائر من صدق نجا وإذا نجا من صدق فقد هلك من كذب والدليل على هذا قصة الأقرع والأبرص واللذين هلكا بسبب كذبهما • والأعمى الذي نجا ببكرة صدقه كان طاهر بن الحسين واليمينين من أمراء المأمون توجه في عسكر • وكان يقول إن جاسوسا واحدا يفعل من النكاية ما لا يفعله الجيش الكثير • فينبغي أنه إذا ظفر بجاسوس أن لا يبقى عليه • وكان يجول هو بنفسه ويدور حول العسكر ففي بعض الأوقات ظفر برجل من قبل عدوه فقال له ما أنت قال جاسوس فقال أنت مجنون أم عاقل قال عاقل قال ما اسمك قال زيد قال من أين جئت قال من عسكر عدوكم قال فبماذا جئت قال لأتجسس أخباركم • وأتفحص عن أحوالكم • وانظر عددكم وعددكم • قال فلم لا تخفي نفسك كما يفعله الجواسيس قال لأني ما أقول إلا الصدق ولو كان فيه تلافي ولا تعمدت كذبا قط • قال فإذا كان كذلك فلم لم تبعث مخدومك غيرك قال لأنه يعتمد على كلامي وخبري دون غيري فعجب منه وحمله إلى منزله ثم دعاه وقال له يا زيد أطلقك أم أقيدك واحتفظ عليك قال ذاك على رأيك قال أخاف إن أطلقتك أن تهرب قال لا تشك في هذا قال فإن أمنتك تهرب قال لا قال اذهب فأنت آمن بشرط أن لا تهرب ولا تذهب إلا بإذني قال قبلت قال نعم ثم قال له توجه إلى العسكر الذي لنا وتفحص أحوالهم وانظر إلى عددهم وعددهم ثم عد إلي ففعل فقال له ماذا رأيت قال عددا كثيرا وجما غفيرا وعدة سابقة • وأهبة بالغة • قال عساكرنا أكثر أم عساكركم • قال كل كثير والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء • قال إني وهبتك لصدقك فاذهب وانصر مخدومك فكان نجاة ذلك الرجل في صدقه • ونقل عن الحجاج أيضا أنه أتى بطائفة من الأسرى فأمر بضرب أعناقهم فبيناهم يضرب أعناقهم إذ نادى واحد منهم فقال يا حجاج لا تقتلني فإن لي عليك حقا قال ما هو قال إني كنت في جماعة من عسكرنا فرأيتهم يتناولونك
82ظ
بسوء فقلت لهم كفوا عن هذا الكلام وامسكوا عن سب الحجاج فإنه قد ولي عليكم وفي الجملة هو من ولاة الأمور فلا تذكروه بسوء فثبت بذلك لي عليك حق لأني رددت غيبتك فقال بمجرد قولك قال ربما التقي شاهدا فنظر في الأسرى وأشار إلى واحد منهم وقال هذا شاهدي لأنه كان حاضرا هذا الكلام ومشاهدا هذه القصة فسأل الحجاج ذلك الرجل واستشهده فقال نعم وشهد بذلك فقال له الحجاج فأنت رددت غيبتي معه كما فعل هذا قال لا قال لم قال لأني كنت لا أحبك فلم أذكرك بخير ولا شر قال فأمر بإطلاق الإثنين هذا لصدقه وهذا لحقه • وقيل حقيقة الصدق أن تصدق في موضع لا ينجيك منه إلا الكذب • فصل في الأمثال • من أمثاله عليه الصلاة والسلام الحرب خدعة • ولا يجني على المرء إلا يده • الشديد من غلب نفسه عند الغضب • ليس الخير كالمعاينة • المجالس بالأمانة • البلاء موكل بالمنطق • بذل البر صدقه • الأعمال بالنيات • الحياء خير كله • أعجل الأشياء عقوبة البغي • الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من كثير • نية المؤمن خير من عمله • استعينوا على الحاجات بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود • المكر والخديعة من النار • من غشنا ليس منا • المستشار مؤتمن • الندم توبة • الدال على الخير كفاعله • حبك الشيء يعمي ويصم • العارية مؤداة • الإيمان قيد الفتك • المنفعة توجب المحبة • والمضرة توجب • البغضاء • والمضادة توجب العداوة • والمتابعة توجب الالفة • والصدق يوجب الثقة • والأمانة توجب الطمأنينة • والعدل يوجب الفرقة • وحسن الخلق يوجب المودة • وسوء الخلق يوجب المباعدة • والانبساط يوجب المؤانسة • والانقباض يوجب الوحشة • والكبر يوجب المقت • والتواضع يوجب المقه • والجود يوجب الحمد • والبخل يوجب الذمة • والتواني يوجب التضييع • الجد يوجب رجاء الأعمال • والتهاون يوجب الحسرة • والحزم يوجب السرور • والغدر يوجب الندامة • والحذر
83و
يوجب العذر • واصابة التدبير يوجب بقاء النعمة • وبالتأني تسهل المطالب • وبلين المعاشرة تدوم المودة • وبخفض الجانب تأنس النفوس • وبسعة الخلق يطيب العيش • والاستهانة توجب التباعد • وبكثرة الصمت تحصل الهيبة • وحسن المنطق يوجب الجلالة • وبالنصفة يكثر التواصل • والافضال يعظم القدر • وبصالح الشيم تذكوا الأعمال • وبالاحتمال للمؤن تتوفر السدد • وبالحلم عن السفهاء يكثر الأنصار • عليهم • وبالوفق والتودة يحصل اسم الكرم • وبترك ما لا يعني يتم الفضل • وبحسن السياسة تملك الرقاب • والفظاظة تخلع ثوب القبول • ومن دناء الهمة الحسد على النعمة • والنظر في العواقب نجاة • ومن لم يحلم يندم • ومن يصبر يغنم • ومن سكت يسلم • ومن خاف حذر • ومن اعتبر أبصر • ومن أبصر فهم • ومن فهم علم • ومن أطاع هواه ضل • ومع العجالة الندم • ومع التأني السلامة • زارع البر يحصد السرور • وصاحب العاقل مغبوط • وصديق الجاهل تعب • إذا جهلت فاسأل • وإذا زللت فارجع • وإذا أسأت فاندم • وإذا ندمت فاقلع • وإذا افضلت فاكتم • وإذا منعت فاجمل • وإذا أعطيت فاجزل • وإذا غضبت فاحلم • من بداك ببره • فقد شغلك بشكره • والمدوة تبع العقل • الرأي تبع التجربة • من قنع شبع • من اعتزل نجا • من اعتصم بالله هدى • الحلم شرف • الصبر ظفر • المعروف كنز • الجهل سفه • الأيام دول • الدهر غير • المرء منسوب إلى فعله ومأخوذ بعمله • اصطنع المعروف تكسب الحمد • أكرموا الجليس يعمر ناديكم • أنصفوا من نفوسكم يوثب بكم • إياكم والأخلاق الدنية فإنها تضع الشرف • وتهدم المجد • وفي حكم الهند شر المال ما لا ينفق منه • وشر الإخوان الخاذل • وشر السلاطين من يخافه البريء • وشر البلاد الممحل • قيل شر الملوك من يجبن عن الأعداء • ويتقوى على الضعفاء • ويبخل عند الإعطاء • وقد قيل
83ظ
لا تحمل ظنك ما لا يطيق • ولا تعمل عملا لا ينفعك • ولا تغتر بامرأة • ولا تثق بمال وإن كثر • وقال ازدشير لابنه يا بني الملك والدين اخوان ولا غنا لأحدهما عن الآخر فالدين أس والملك حارس • وما لا أس له فمهدوم • وما لا حارس له فضائع • يا بني اجعل حديثك مع أهل المراتب • وعطاياك لأهل الجهاد • وبشرك لأهل الدين • وسرك لمن عناه ما عناك • بشرط أن يكون أهل العقل • لا ظفر مع بغي • ولا صحة مع نهم • ولا ثناء مع كبر • ولا شرف • مع سوء الأدب • ولا بر مع شح • ولا عفة مع حرص • ولا ولاية مع عدم فقه • ولا سؤدد مع انتقام • ولا ثبات ملك مع تهاون وجهالة • وزراء • قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المغافر جار ملازم أن رأى حسنه سترها وإن رأى سيئة أذاعها • وامرأة إن دخلت عليه لسكنتك • وإن غبت عنها لم تأمنها وسلطان إن أحسنت لم يحمدك • وإن أسأت قتلك • فاسأل الله تعالى أن يديم دولة سلطاننا إن أحسنت لفاض عليك سجال نعمه • وإن أسات تلافاك بلطائف حلمه وكرمه • وهو مولانا السلطان الملك الظاهر • وأسبغ عليه نعمه الباطنة والظاهرة • وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة • برحمته وفضله • وكرمه وطوله • أمين يا رب العالمين • تم الجزء الأول من التأليف الطاهر النجم الزاهر • في شيم الملك الظاهر • القائم بنصرة الحق • أبي سعيد جقمق • خلد الله تعالى • سلطانه • ويتلوه في الجزء الثاني ابتداء ولاية مولانا السلطان • خلد الله سلطانه • وأوضح على العالمين برهانه
84و
• الجزء الثاني من التأليف الطاهر • فصل في ابتداء ولاية مولانا السلطان وذكر الحوادث في مدته • خلد الله تعالى سلطانه • وأوضح على • العالمين برهانه • كان الملك الأشرف أبو النصر برسباي رحمه الله حصل له ضعف في شهر رمضان سنة أحد وأربعين وثمانمائة • وسببه أنه كان في منتزه فكأنه تناول من المأكول ما حصل لي به تخمة وزلق الأمعاء وتولد له من ذلك ضعف المعدة ولم يزل يتزايد به إلى أن ضعفت قوته • وكانت الأطباء يترددون إليه ويعالجونه • وكان هو يتوهم أن الطبيب في يده الشفاء ويمكنه أنه يعافي ويشفي فإنه كان غتميا مح لا يعرف شيئا وإنما كان الله تعالى ملكه وساعده الحظ فلما رأى عجزهم وإن معالجتهم إياه لا يفيده شيئا كما قيل شعر • وإذا المنية انشبت أظفارها • الغيت كل تميمة لا تنفع • ساءت أخلاقه وضاق ذرعا • وتحقق أن الأطباء يقصرون في معالجته وإلا فما بالهم لا يعافونه ولا يشفونه • فما وسعه غير أنه أمر بهم فوسطوا منهم اثنين العفيف وزين الدين خضر • ولما أيس من الحيوة دعا الأكابر من الأمراء والقضاة وسائر أعيان مصر وكان قد جهز طائفة من الأمراء إلى حلب مع العساكر منهم الأمير قرقماز أمير كبير • واركماء الدوادار الظاهري • ويشبك المشد • وجانم أخوه وهو أمير أخور • وخواجه سودون وغيرهم • وكان قد جهز الأمير الكمالي بن البارزي إلى الشام نقضا القضاة الشافعية • وكان مولانا السلطان إذ ذاك أتابك العساكر المنصورة الإسلامية فاسند الملك الأشرف وصيته
84ظ
إلى مولانا السلطان وذلك لما كان يعتقده من دينه وصلاحه وعفافه وتقواه وفوض أمر ولده سيدي يوسف إليه ولقب نظام الملك وأمر جميع الأمراء والأكابر والرؤساء والقضاة والخاصكية من مماليكه وغيرهم أنهم يكونون تحت أوامره وأن لا يخرجوا عن ربقة طاعته وكتب بذلك كتابا وسلم إليه ولده • وتوفى عصر يوم السبت ثالث عشر ذي الحجة سنة أحد وأربعين وثمانمائة وكان قد تولى في سنة خمس وعشرين وثمانمائة فأخذوا في تجهيزه • ودفن بالتربة التي انشأها خارج باب المحروق بالصحراء تحت القبة • ثم إن مولانا السلطان خلد الله دولته شرع يتعاطى مصالح المسلمين على الوجه الأشد الأحسن ونصب سيدي يوسف مكان والده ولقبه الملك العزيز • وطارت القصاد بذلك إلى الأطراف الممالك • واستمر مولانا السلطان يصعد كل يوم إلى القلعة ويباشر ما هو بصدده من تعاطي مصالح الإسلام والمسلمين فكان منزله إذ ذاك في مكانه المعهود تحت الكبش فأشار الناس عليه أنه يسكن في القلعة فأبى وقال لا أحدث شيئا ولا أبدي ولا أعيد في قضية حتى تأتي الأمراء والعساكر فإن رؤس33 الأمراء وأكابرهم معهم فإذا قدموا ورأوا شيئا واتفقوا عليه تابعناهم فيه فوصل خبر وفاة الملك الأشرف إلى الشام في العشر الآخر من ذي الحجة وولاية ولده وإن الأمور صالحة فخطبوا باسمه واستمر ذلك • ثم إن الأجلاب من الممالك الأشرفية شرعوا يستطيلون على الناس وذلك لما كان فيهم من عدم التربية وتهذيب الأخلاق فإن الملك الأشرف لم يسلك بهم طرق التربية والتأديب كما كان عادة الملوك المتقدمين والسلاطين الماضين من أقرائهم في المكاتيب أولا ثم تربيتهم على الترويج إلى أن يحصلوا شيئا يقومون به دينهم ويعلموا به في الجملة مالهم وما عليهم من أنور المعاش والمعاد وإنما أقامهم في الخدمة من أول الأمر وهم
85و
كالحطب فخولهم في النعم وقال أن مماليكي لا تحتاج إلى شيء من العلم والقران والأدب وإنما المقصود منهم أن يحرس الإنسان بهم نفسه ويتوصل بهم إلى أغراضه فلما مات رفعوا رؤسهم34 قال الله تعالى إن الإنسان ليطغي إن رآه استغنى والجاه والمال قد أطغى الخلق وأضل العقلاء والعلماء فضلا عمن لا عقل ولا دين له ولا أدب ولا يقين فلما كشف الله تعالى اسنادهم ومخدومهم عنهم طغوا وبغوا وزادوا ما كانوا عليه من الفظا والغلاظة والظلم والعدوان وشرع كل من كان ساكنا منهم في محله أو جاره يستطيل على جيرانه ويهيم بمد يده إلى أولادهم وحريمهم والاعتداء عليهم بكل ما تصل إليه يده من الشر فجعل الناس يرفعون شكواهم لمولانا السلطان نظام الملك لأنهم لا ينتهون بقاضي ولا يسمعون شفاعة شفيع • ولا يخاطبون من يقابلهم إلا بالسيف والدبوس ومولانا السلطان خلد الله ملكه رقيق الحاشية • لين العريكة • فكان يزجرهم عن هذه الخصال الذميمة والأفعال القبيحة • بالحسنى ويلاطفهم بالأقوال الطيبة • ويتلافاهم بالمواعظ والتذكير فلا يفيد ذلك شيئا • وكانوا ينحصرون منه • ويعضون عليه الأنامل من الغيظ • فشرع يستميلهم بالمال ففرق عليهم جملا مستكثرة من الأموال • وكان الملك الأشرف أيضا قد فرق عليهم جملا من الأموال قبل موته فلم يزدهم ذلك إلا طغيانا وعتوا وتصوروا أن ذلك إنما فعل معهم خوفا منهم واستمروا منحصرين من مولانا السلطان حيث لم يسامحهم فيما هم عليه من ارتكاب المحظورات ولم يطلق عنانهم في ميادين اللهو والفساد فكان حصرهم في أيام مولانا السلطان أكثر من حصرهم في أيام الملك الأشرف مع أنهم كانوا يؤملون أن بموت الملك الأشرف يتسع لهم المجال في نيل أغراضهم الفاسدة فجاء الأمر على خلاف ما أملوا واستمر الأمر من حين مات الملك الأشرف وهو من أواخر ذي الحجة إلى قريب منتصف
85ظ
صفر سنة اثنين وأربعين • فاقتضى رأيهم المعكوس أن يرفعوا مولانا السلطان من البين ويخلوا لهم الجو لأن رؤوس الأمراء غائبون • وما عندهم أحد شديد البأس في الله إلا مولانا السلطان فاتفقوا على ذلك يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمم نوره ولو كره الكافرون فاجمعوا كيدهم أنهم يلبسون السلاح يوم الخدمة ويتأهبوا لذلك إذا صعد إلى القلعة • وكان من رؤسائهم أقجة باي • وحكم خال الملك العزيز • وعلي باي • واينال • وغيرهم • وكان يوم الخدمة الخميس سادس عشر صفر سنة اثنين وأربعين وثمانمائة فاستعدوا لذلك وألبسوا جماعتهم السلاح والدروع ولبسوا وأخذوا حذرهم وأسلحتهم • فاخلف الله كلمتهم • وفرق جماعتهم • وألقى في قلب اينال الأشرفي منهم أن توجه إلى مولانا السلطان وقال إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك وأخبروه بما بجميع ما جمعوا عليه من الكيد وأضمروه لمولانا السلطان من المكر والشر وقال لا تركب اليوم فلم يركب ذلك اليوم وخيب الله تعالى سعيهم وعرف مولانا السلطان لاينال هذه الفضيلة وجازاه عليها لكن ما ساعده الحظ وسيأتي حكاية أمره إلى آخره • وهذا كما قيل صحبة الأشرار كالجرة الفخار • يسرع إليها الانكسار • ولا تقبل الانجبار • ولما خاب أملهم • وضل سعيهم • وفشا أمرهم • فلم يسعهم إلا الخروج والعصيان والتجاهر بالعداوة والطغيان • وإظهار التمرد والعدوان • فاغلقوا باب القلعة واستعدوا للحصار • إذ الملك العزيز عندهم وهم في القلعة فتوجه إليهم مولانا السلطان • وركب معه من أسعده الله تعالى ووفقه للخير منهم المقر الشرفي بكري بيردي الموزي البكلمشي • وقرا خواجه الحسني • ومنبك حاجب الحجاب • واسنبوغا الطياري • ودولت باي وكلهم أمراء مقدمون • وغيرهم من الأمراء والرؤساء والاتباع • وأرسل لهم مولانا السلطان يقول لهم مالكم عصيتم
86و
وما ظهر لكم منا ما يوجب الخروج علينا • نفض اليد من الطاعة • ومفارقة الجماعة • أهكذا أوصاكم أستاذكم • وبهذا عهد إليكم فتعللوا بعلل باردة فحاصرهم ذلك اليوم ويوم الجمعة ويوم السبت ثامن عشر صفر المذكور وهم يتناوشون القتال فأشار بعض الأمراء على مولانا السلطان أن يقطعوا عنهم الماء ليضطروا فينزلوا فلم يأذن بذلك وقال إن في القلعة الفقراء والضعفاء والعجز من النساء والأطفال وغيرهم فإذا قطعنا الماء عن هذه البغاة فأول من يتضرر بعدم الماء أولئك الضعفاء وربما لا يفيدنا ذلك شيئا فإن هؤلاء ظلمة أقوياء لا يعجزون عن تحصيل الماء • ويحصل الضرر والعطش للضعفاء والفقراء • فما نستفيد من ذلك أكثر مما نأثم • بل نتوكل على الله تعالى • ونلقي مقاليد أمورنا إلى أنامل إرادته وتدبيره • ونسبح في مجاري قضائه وتقديره • إلى أن يحكم بيننا وهو خير • الحاكمين • فذهب بعض الأمراء إلى سبيل أمير المؤمنين من غير أن يكون لمولانا السلطان بذلك شعور وقطعه عنهم • وبعض الأمراء نقب عليهم نقبا وجعل يناوشهم الحصار والقتال • إلى أن عجزوا واضطروا • والمؤمن من اكتفى بغيره فما وسعهم إلا الانقياد • والنزول إليه • والمثول بين يديه • فبعد ثلاثة أيام نزلوا ومناديلهم في رقابهم فلم يزدهم على الكلام الحسن • والخلق الحسن • واستجلاب خواطرهم • وتطمين قلوبهم • وقال لهم يا أولادي أنتم أسأتم إلى أنفسكم وشوشتم عليكم وعلى غيركم • ثم أنه ذهب بهم إلى بيته وأقامهم في منزل فسيح مليح عنده وقال كونوا ضيوفي ووكل بهم من يحتفظ بهم • واستنظر بهم • الأمراء • فإنه ما أراد بذلك الاستبداد برأيه • فلما سمع المقر السيفي سودون من عبد الرحمن كافل المملكة الشامية كان بموت الملك الأشرف • وكان في اسكندرية توجه إلى القاهرة في البحر فتوفي في الطريق وهو قادم • ولما بلغ العساكر
86ظ
المتوجهة إلى حلب أن الملك الأشرف توفي قفلوا راجعين وتوجهوا إلى الديار المصرية وجهزوا خواجه سودون إلى القدس الشريف وتعاطى أمر ذلك السيفي قرقماز فإن خواجه سودون المذكور كان شريرا فاجرا فخافوا أن يثير فتنة والأجلاب الأشرفية كانوا منتظرين قدوم الأمراء استظهروا بهم • وكان السلطان الملك الأشرف جانم معهم وهو عم الملك العزيز فتوقعوا أنه إذا وصل إلى القاهرة تعصبوا معه واشتد كل منهم بالأخر فيكون لهم ظهرا وعضدا • ورأسا ويدا • فإنه هو أيضا كان من الأجلاب لأنه قدم إلى البلاد الإسلامية وهو كبير السن قد عسا لكن لما كان أخا السلطان تولى المناصب العالية إلى أن صار أمير أخور وصار له كلمة نافذة وما صار أحد يقدر أن يدافعه فيما تسول له به نفسه • ولا يخالفه في حيوة أخيه فمهما كان يقتضيه فكره المعوج • ورأيه الفاسد • يفعله سواء كان حقا أو باطلا • وكان كأخيه رائدا مع الرشا والبرطيل وكل من كان معه ذهب كان عنده هو المسلم • وكل من رشاه وبرطله في قضية كان هو صاحب الحق • وكان الناس قد ألفوا ذلك منه فكان لا يأوي إليه إلا كل مبطل • ولا يستنصر به إلا كل مزور ومبرطل • وكان يساعدهم بالباع والذراع • ولما وصل الأمر إلى القاهرة تلقاهم مولانا السلطان نظام الملك بالاحترام التام • والإحسان والإكرام • على جاري عادته • وقدمهم في الأمور والقضايا وفعل معهم ما يليق لحشمته • وتقتضيه همته العلية • ورأيه السعيد • فما وسع قرقماز إلا أنه صار من جهته • انحاز إلى ظله وفيئته • وأمر قرقماز في الحال فقبضوا على الأجلاب جميعهم • وعلى جانم أيضا وشتت شملهم شغربغد فجهز بعضا منهم إلى اسكندرية • وبعضا أفناهم وأعدمهم • وتقلدهم في ذمته كيف ما اختار وشرع يتعاطى الأسباب • ويصرف الأمور كما يريد • ومولانا السلطان لا يزيد
87و
على مداراته • ومداراة الكبير من الناس والصغير • والإحسان إلى المعرفة والغريب وحسن المعاملة مع الخلق أجمعين مع الاشتغال بمعاملة الله تعالى وعدم الغفلة عما فيه رضاه • واتباع أوامره • واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم • وكان في خاطر قرقماز أشياء لم يبدها لأحد ولكن دلت عليها افعاله وحركاته فلم يتمها الله تعالى له • فأراد أولا أن يتعاطى أمر الأجلاب وغيرهم حتى إذا أصفا له الوقت تمكن من مولانا السلطان كما يريد ويختار فرد الله تعالى كيده في نحره • واشبهت حكايته حكاية البستاني التي رأيتها في جامع الحكايات وهي ما حكي أن رجلا كان له بستان ففي بعض السنين أقبلت الفاكهة وزادت خيراته فخرج البستاني يوما لطلب حاجة والبستان مملوء من الفواكه والنعم • فلما رجع وجد في البستان أربعة أنفس قد دخلوا البستان وتناولوا من فواكهه ما اختاروا واوسقوا أردانهم وما معهم من الفاكهة وهم ما بين آكل وجالس وراقد غير مكترثين به ولا مبالي بأحد أحدهم جندي والثاني شريف والثالث فقيد والرابع متسبب فما وسعه إلا أنه ترحب بهم وبسط وجهه ويده إليهم بالبشر والمعروف إذ هم أربعة وهو واحد وقيل ضعيفان يقلبان قويا فكيف بأربعة أقوياء فاستعمل الحيلة في إيقاعهم ووصوله إلى ما يريد منهم فأقبل عليهم بوجه طلق • ولسان ذلق • وقال أهلا وسهلا ومرحبا إن هذا اليوم ليوم سعيد ونهار مبارك حيث حلت بمنزلنا أقدام المخاديم الكريمة وإن هذه لنعمة غير مترقبة ثم أتاهم بشيء من خيار الفاكهة وجعل يباسطهم ويمازجهم ويمازحهم فلما اطمأنوا إليه وركنوا إلى أقواله سأل كل واحد منهم عن صنعته وما يتعاناه من حرفة فأخبره كل منهم عن حاله وأمره فسكت ساعة ثم قال أما الأمير وأشار إلى الجندي فإنه مالك رقابنا
87ظ
ومتحكم في أموالنا وأرواحنا • بواسطة أنه يحوطنا بسيفه • ويرد عدونا عنا بصولته • ويتعاطى أسباب حفظنا • وحفظ أولادنا وأموالنا بنفسه • ويجعل روحه وقاية لنا وأما الشريف فإنه من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولولا جده لكنا ضلالا في بيدا الجهالة والكفر • فنحن الآن في بركته وبركة جده • ثم قال الله تعالى قل لا اسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى • وأما سيدنا الفقيه فإنه مرشدنا لمعالم ديننا • وهو السراج للوصول إلى يقيننا • فإذا شرفونا بأقدامهم ورضوا أن نكون من خدامهم • فلهم الفضل وعلينا أنواع الشكر لله تعالى على حصول هذه النعمة • وأما أنت يا رابعهم فمن أذن لك في الدخول إلى بستاني فقل لي ألك على دين هل بعتني شيئا برأسماله • هل حابيتني في بيع وشراء • هل بيني وبينك ما يقتضي هجومك على مالي • فلم يتكلم أحد من الجماعة معه • ثم أنه ربطه ربطا محكما وشد وثاقه وجلس ساعة وهو يتعاطى اللطافة والظرافة • ثم التفت إلى الفقيه وقال له أنت مغني المسلمين • وعالم بمناهج الدين • وعلى فتواك مدار الإسلام • والفاظك الفارقة بين الحلال والحرام • فأخبرني يا عالم الزمان أبو حنيفة رضي الله عنه أفتاك أن تدخل بستاني • أم الشافعي رضي الله عنه أرشدك • أم عندك دليل على إباحة أموال الناس للفقهاء • والهجوم إلى غير بيتك • ما سمعت قول الله تعالى يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها • إلى أن قال فإن لم تجدوا فيها أحد فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإذا فعلت أنت هذا فبالطريق الأولى أن يتابعك غيرك • ومن الأجناد والرؤساء والسادات • ولا عتب على الجهال إذا فعل هذا العلماء والمفتون • ثم إنه شده شدا محكما وطرحه وصبر ساعة • ثم اشتغل بالشريف وقال له يا شريف أما الأمير فله أن يتحكم في أموالنا وأرواحنا وأولادنا كيف ما اختار إذ سيفه
88و
سياج نفوسنا • وصولته حائط حياطتنا • ووجوده أمان لنا من أعدائنا • وأما أنت فمن أين لك أن تدخل إلى ما لا يحل لك الدخول إليه جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بهذا • أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أباح لك ذلك • أسلافك تقدموا إليك بهذا • أفتاك أحد بالفسحة فيه • وإذا كنت أنت لا تتحامى عن الحرام ولا تسلك مسلك أسلافك الطاهرين • في اتباع الحق والتنزه عن الشبه • وأموال الناس • فما يفعل غيرك • ثم أنه أوثقه شدا • وأحكمه ربطا • فلم يبق إلا الجندي وحده فانتصف منه وربطه • ثم إنه أشبعهم ضربا وسبا حتى اشتفى صدره • ورفعهم إلى الحاكم وأخذ منهم ثمن ما أخذوه من فاكهة بستانه وهكذا كان قصد الأمير قرقماز أنه يرفع الأجلاب من البين حتى إذا خلا له الجو مد يده وصال كما يختار وقد فعل ذلك فرد الله تعالى كيده في نحره وذلك لما علم الله تعالى وأراده الإسلام والسلمين من الخير والجبر فأهلك أعداءه على يد أعدائه ثم أهلك أعداءه • ونظير هذه الحكاية أيضا ما رأيته في جامع الحكايات في باب من انتصف من عدوه بعدوه وهي حكاية أوردها على لسان الحيوانات قيل إن فأرة كان لها مأوى في بعض البساتين فخرجت يوما لطلب الرزق فجأت حية فرات مكانا مهيأ فدخلت فيها فوجدته مكانا يصلح لسكناها فسكنته وفي المثل يقال أظلم من أفعى قالوا من ظلمها إنها لا تحفر بيتا ولا تتعب نفسها في اتخاذ مسكن • ولا يحتفل بذلك • وإنما حيث ما وجدت سكنا دخلت فيه وأوت إليه واستقرت وذلك لجبروتها وتعديها • فلما رجعت الفأرة إلى مأواها وأرادت أن تدخل رأت الحية قد استقرت فيه فخرجت هاربة وعلمت أنها لا طاقة لها بمقاومة الحية فتوجهت إلى ملك الفأر ووقفت في موضع الخدمة وقالت إني في خدمتك ورق عبوديتك وقد قضيت عمري في ذلك
88ظ
وأبي كان في خدمة أبيك • وجدي في خدمة جدك • ولم تزل أسلافي في خدمة أسلافك ولم يصدر قطعا منا لكم سوى الطاعة والمناصحة وموالاة أوليائكم • ومعاداة أعدائكم وإنما نحن سالكون سنن طاعتكم • وسائرون تحت لواء أوامركم لأجل حادث يحدث لنا • أو أحد يتعدى علينا • فنستكشف ذلك بقوتكم • ونستدفعه بشوكتكم • إذ ثمرة خدمة العبد مولاه • هذا وقد حدث اليوم لي أمر عظيم وخطب جسيم • فجئت استكشفه بسلطانك فقال وما هو قالت خرجت أطلب الرزق من وطني فلما رجعت لقيت حية قد دخلت إلى وكري • وأوت إليه • وأنت تعلم أني لا طاقة لي بها • فادفعها عني بقوتك وجندك • فقال لها ملك الفأر أنت فرطت في أمرك وتركت وطنك سائبا حتى وضع غيرك يده عليه • أوما علمت وسمعت أن حارس القلعة ينبغي أن يكون زمنا أو مقعدا لئلا يخرج من سكنه • وليتم ملازما له فإذا قصرت أنت في أمرك فلا تلومي غيرك • فإن المفرط أولى بالخسارة • قالت هذا الجواب لا يفيدني ولا أملي منك هذا • وما فائدة خدمتي وإخلاصي لك • إذا استصرخت بك واستنصرت وقت حاجتي بقوتك وخذلتني ولم تأخذ بيدي • قال لا شك أنني إذا قمت معك ونصرتك • أن تتوجه الحية أيضا على ملك الحيات وتستصرخه فلا يجد بدا من القيام بنصرتها وقضاء حاجتها • فيقع إذ ذاك بيننا العداوة ويجري بيننا وبينهم الشر والفتن • وربما استطردت هذه الحركة إلى محاربة ومقاتلة • ونحن لا طاقة لنا بقتال الحيات ومعاداتهم فإنه يذهب في هذا الأرواح ومع هذا هل يحصل المقصود أو لا يحصل فالذي أراه أن تتركي هذا الوطن وتحتسبيه عند الله تعالى وتطلبي لك سكنا غير ذلك فقالت هذا وطني وسكني ومرباي ومنشأي ورثته عن آبائي وأجدادي ومالي فراغ عنه لابد لي منه • فقال والله ما إلى معادات الحيات سبيل ولا خطر لي أن ألقي نفسي وعسكري
89و
في شيء لا طاقة لي به ولا تتعبي نفسك فلما أيست الفأرة منه رجعت وهي خائبة أخذت في اعمال الحيلة وقالت ما بقي في هذا القضية غير تعاطيها بالفكر الصحيح والرأي الصائب • ثم توجهت نحو سكنا فوجدت الحية قد خرجت فأرادت أن تدخل ثم افتكرت فقالت إن الحية قد اعتادت وعرفت هذا المكان فلا بد أنها تعود إليه فإذا وجدتني فيه فلا شك أن تهلكني وذهاب السكن بالنسبة إلى زوال النفس أهون فإنه قيل بعض الشر أهون من بعض • ثم دارت الحية35 يمينا وشمالا فوجدت الحية قد نامت تحت شجرة ورد وهي مطوقة فأسرعت إلى مكان عال ونظرت وإذا البستاني قد سقي البستان وتعب ثم نام تحت ظل شجرة وهو مستلق على قفاه فأقبلت نحون وعلت صدره ودست ذنبها في أنفه بحيث أنها ألمته فاستيقظ مذعورا ونظر أيمن وأيسر فرأها فعلم أن ذلك منها فقصدها فمشت غير بعيد ثم وقفت وأطمعته في نفسها فقصد نحوها فتوجهت نحو الحية ووقفت فأخذ العصا وتبعها فصارت تمشي رويدا وتقف وهو يتبعها حتى وصلت به إلى الحية وأوقفته عليها فلم رأى الحية بادر إلى قتلها فانفلتت الفأرة ودخلت وكرها فانتصفت بعدوها من عدوها • وفي أدعية العرب اللهم ضبعا وذئبا • قال الشاعر • • تفرقت غنمي يوما فقلت لها • يا رب سلط عليها الذئب والضبعا • قيل إن الغنم إذ تسلط عليها الضبع والذئب فإنها تسلم وذلك إن كلا منهما يشتغل بصاحبه ويمنعه إلى الوصول عن الغنم فتسلم الغنم وكذلك اشتغل كل من أعداء مولانا السلطان بالآخر حتى تفانوا وكفى الله المؤمنين القتال • قلت شعر • وتشتت الأعداء في أراءهم • سبب لجمع خواطر الأحباب •
89ظ
ولما فرغ من أمر الأشرفية والأجلاب شرع الأمير قرقماز يتعاطى أمور المملكة بأسرها وكان إذ ذاك اينال الحكمي نائب الشام • وتكري برميش • نائب حلب • والمقر السيفي جليان نائب طرابلس • وقانباي الحمزاوي نائب حماة • وطوخ نائب غزة • وطوغان نائب القدس • واينال الأجرود نائب صفد • وكان مولانا السلطان يرسل الإنعامات الوافرة • والخلع السنية لهؤلاء النواب • يستعطف خواطرهم • ويستهل قلوبهم • ويحملهم على اجتماع الكلمة • ويتقاضى حوائجهم • ويتعاطى قضاها • ذكر إشارة قرقماز على مولانا السلطان بالولاية ثم إن قرقماز قال لمولانا السلطان يا مولانا نظام الملك إن أمور الناس لا تكاد تستقيم ما دام هذا الطفل موجودا أعني الملك العزيز فإن المماليك الأشرفية والأجلاب لو بقي منهم واحد وهذا الطفل منتصب لكان الصداع والشر قائما ويجعلونه وسيلة إلى المخالفة والعصيان • وأما هو فلا يقدر على الاستبداد بفصل القضايا • تعاطي أمور المسلمين • والقيام بمصلحة السلطنة • والأجلاب لا يريدون غيره فالرأي عندي أن ترفعه من البين • وأنت بحمد الله من خيار المسلمين • وما ترك وشمائلك مشهورة ومشكورة فأريد أن تلي هذا المنصب لحسم مواد الشر والفتن • فقال له مولانا السلطان معاذ الله إن هذا الفكر لم يخطر لي ببال • وما عهد إلي على هذا الشرط • ولا أوصي إلي بهذه الطريقة • وماذا يقول الناس في • وما بقي من العمر • وربما ننسب إلي تقصير • وتضييع العهد • الذي قال الله تعالى فيه واوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا36 • وإذا كنا نحن متفقي الكلمة • مجتمعي القلوب • متحدي الآراء • فما عسى أن يفعل المخالف معنا • فقال قرقماز هذا والله هو عين الصواب فأدرك
90و
المسلمين فإنك ردؤهم • وإن لم تفعل هذا يكن فتنة في الأرض وفساد كبير فقال له مولانا السلطان أما إذ عزمت على خلع الملك العزيز وتولية غيره فأنت أولى بهذا الأمر من كل أحد فإنك أثبت قدما وقدما • فقال له لا أتأمر على جماعة فيهم مثلك ولا فرق بيني وبينك إذ كلنا سواء في عمل مصالح المسلمين ولا زال يحرضه على هذا الأمر ويحسن له هذا الرأي السعيد ويتكفل له بالقيام بأمره وكفاية ما فيه من تحمل المشقة والمؤنة حتى غلب على رأيه • ثم أنه في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة إثنين وأربعين وثمانمائة جمع قرقماز الخليفة والقضاة الأربعة والأمراء ورؤساء المباشرين كالقاضي زين الدين عبد الباسط • وكل من يشار إليه • ويعول عليه • في أمور العقد والحل • والتولية والعزل • وعرض عليهم هذا الرأي وما فيه من الفوائد • وما في إهماله من تضييع المصالح وتوليد المفاسد فكل منهم وافق عليه بطيبة نفس وانشراح صدر وخلعوا الملك العزيز وولي الخليفة مولانا السلطان وبايعه • وحكم القضاة بصحة ذلك ونفوذه ثم تابع الأكابر والرؤساء من الأمراء والكبراء في المبايعة • ورضي بذلك الأكابر والأصاغر ودقت به البشائر • وطيروا القصاد إلى أطراف الممالك وسائر البلاد وألبسوا فيرون (...) وأرسلوا إلى جميع النواب خلعا ومراسيم بذلك وابتهجت الدنيا • وبسط مولانا السلطان يده الشريفة على جاري عادتها إلى الصدقات والمبرات • وأنواع الإحسان والخيرات • تعاطى ذلك قولا وعملا • وتمهدت أمور الممالك • ولما أثبت الأمير قرقماز بهذه الخصلة عند مولانا السلطان يد أقومه على سائر الناس وجعله أتابك العساكر الإسلامية • وأذن له في فصل الحكومات في بيته على خلاف عادة من تقدمه من الأتابكية وكان لا يصدر أمر إلا عن رأيه • ولا يتعاطى تولية ولا عزلا إلا بمشورته • وكأن مولانا
90ظ
كان هو الألة معه وهو الحاكم المتصرف وكل قليل يخلع عليه الخلع الفاخرة • ويقدم له الخيول المسومة • ويفيض عليه الانعامات السنية • له ولأحفاده ولخدمه • وكل من هو من جهته • وأرسل على الشام يطلب المقر الاشرف القضائي الكمالي بن البارزي عظم الله تعالى شأنه يستدعيه • فتجهز في أسرع وقت • وتوجه إلى الديار المصرية يوم الإثنين سلخ شهر ربيع الأول سنة اثنين وأربعين واربعمائة واستمر الأمر على السداد إلى يوم الثلاثاء ثامن شهر ربيع الآخر • • ذكر عصيان قرقماز • ثم إن قرقماز ركب يوم الأربعاء تاسع شهر ربيع الآخر وحضر إلى الخدمة بالقلعة على جاري عادته وبعد الخدمة أراد الانصراف فرسم مولانا السلطان فألبسوه خلعة ملوكية • وقدم له فرس من جياد الخيل بسرج مغرق وكنبوش فنزل إلى بيته • وهو منشرح الصدر فاجتمع عليه جماعة من الأشرفية والمؤيدية وغيرهم وحرضوه على الركوب على مولانا السلطان • وشن العصا وإظهار العصيان والمخلفة وذلك من غير موجب فلم يجيبهم إلى شيء من ذلك فألحوا عليه وحسنوا له هذا الرأي المعكوس فما وسعه إلا أجابتهم والركوب معهم فألبس جماعته وحاشيته العدة الكاملة وركب واجتمع عليه طائفة من الأمراء والأجلاب وبقية الأشرفية والمؤيدية ومن لا خلاق له في الدين ولا حساب مع المسلمين • وزعق النفير وضرب الطبل وتوجهوا إلى صوب القلعة • ومولانا السلطان أبعد ما يختلج في خاطره أن قرقماز يعصى عليه أن يخرج عن طاعته أو يخالف أمره إذ قد فارقه في هذه الساعة وهو منشرح البال • مغمورا في الانعام والأفضال • هو وحاشيته وقد تفرقت الأمراء والحاشية واستراحوا في بيوتهم • ومولانا السلطان في القلعة وقد دخل الحريم ولم يكن عنده أحد حتى ولا من خواصه فلم يفجاءهم37
91و
إلا والخيل قد أقبلت والطبول تضرب والمدينة قد تخبطت أعلاها على أدناها والصياح قائم من كل جانب فلم يجترئ أحد أن يخبر مولانا السلطان بذلك حتى هجم واحد إلى عند باب الستارة وصاح يا مولانا السلطان مالك قد أهملت أمر نفسك ألا تسمع هذا العويل والصياح فخرج مولانا السلطان وتفحصوا عن ذلك فإذا الدنيا مخبطة والبغاة قد أظهروا ما في قلوبهم من المرض ففي الحال اجتمع عند مولانا السلطان شرذمة قليلة وطائفة نبيلة • ثم إن الأمراء ورؤوس الأجناد ركبوا وتوجهوا نحو القلعة فإذا قرقماز ومن معه واقف فحال بينهم وبين القلعة فوقفوا معه في الرميلة وكان تمراز أمير أخور بباب السلسلة واستمرت الأمراء واقفين مع قرقماز كأنهم من حزبه حتى أمكنتهم الفرصة توجهوا إلى القلعة وانقلبوا على قرقماز • وكان إذ ذاك وقد توجه مولانا السلطان إلى • (...) المشرق على الرميلة ومعه جماعته واجتمع زعر القاهرة من وراء قرقماز فنادوا لهم من القلعة يا زعر المال لك والروح لمولانا السلطان • ثم أقبلت القدماء والمشايخ من المماليك الظاهرية واستمر قرقماز ومن معه في الوسط الزعر من صوب • والمماليك الظاهرية من صوب • وصدقوا الله الطعن والضرب • ولم تلتفت الزعر لا إلى مال ولا سلب واشتد الحرب وحمي الوطيس • والتقت الرجال بالرجال • فلم يمض إلا اليسير حتى انزل الله النصر للعساكر السلطانية • والعصابة المحمدية • فخذل قرقماز وطائفته الطاغية الباغية • وكان في العساكر السلطانية شخص يدعى حكم المصارع فقبض عليه قرقماز وذبحه من غير موجب ولا ذنب • ثم لم يسع الفئة الباغية إن ولت الأدبار • وعلاها الذل والانكسار • وهرب قرقماز وتفرقت جماعته شذر مذر • فلا حاجته قضى • ولا على صديقه أبقي • وتوجه إلى غائط له فاختفى فيه • وفي يوم الجمعة حادي عشر شهر ربيع الأول
91ظ
أرسل يطلب الأمان ويستدعي المقر الأشرف الناصري ولد المقام الشريف • والمقر الزيني عبد الباسط فتوجها إليه • فتمثل معهما بين يدي المواقف الشريفة • ولم يكن له مجال للاعتذار • ولا له متشبث ولا متعلق فيما ارتكبه فأرسل إلى اسكندرية وادعى عليه بأشياء مخالفة للشرع الشريف • وموجبة لإراقة دمه • منها البغي والخروج عن طاعة ولي الأمر • ومنها حركات وأقوال يترتب عليها موجبات الكفر ومنها إراقة دم حكم المصارع بغير ذنبه • وثبت كل ذلك عليه بالشرع الشريف وطلب القصاص منه فحكم بإراقة دمه فأجرى عليه حكم الله تعالى في اسكندرية ولما توجه الركاب الكريم الكمالي إلى القاهرة ورد الخبر بعصيان قرقماز ومخالفته فحصل لأهل الشام تشويش لا يعلمه إلا الله تعالى خوفا على مولانا المشار إليه لئلا يحصل له في الدرب نكد من أهل البغي والعدوان • او ربما يخرج قرقماز من الديار المصرية بتصادقهم في الدرب فيحصل لهم منه الضرر • ولم يزل الناس في اضطراب وشغل خاطر حتى وصل خبر سلامتهم وإنهم وصلوا إلى مقصدهم في خير وعافية فحصل السرور والانشراح بذلك وتولى المقر الكمالي وظيفته القديمة على عادته وهي كتابة السر الشريف وابتهجت المماليك الإسلامية بكمالها ولله الحمد ذكر ابتداء عصيان اينال الحكمي نائب الشام وبكري برميش نائب حلب • ولما بلغ خبر قرقماز الشام وحلب وسائر الممالك سكن رعب مولانا السلطان وهيبته قلوب الناس وسر بذلك كل من في قلبه شيء من الإسلام وأما الطغاة والبغاة فإنهم ازدادوا رجسا إلى رجسهم • ومرضا على مرضهم بمصر وما سواها من البلاد • وظهرت علامات النفاق من المنافقين • ووجد الحساد والبغاة للطعن مجالا فأطالوا لسانهم بالسوء من القول وراسل المنافقون
92و
من المصريين نائبي حلب والشام إذ قد انقطعت أمالهم من رأس يكون لهم بمصر فلم يجدوا إلا مراسلة هؤلاء النواب • فأما نائب حلب بكري برميش فإنه أبرز سخيمته وجاهر بالعداوة والتمرد وأظهر العصيان والطغيان • وشرع يستطيل على الرعية وعلى التجار • وأذى الكبير والصغير • ومديده إلى الحواصل السلطانية • وأما نائب الشام فإنه أضمر في نفسه ما هو عليه وشرع يتملق ويترقق ويخفي في نفسه ما الله مبديه • وأخذ يستخدم المماليك البطالة وأولاد الناس • ولقد كنت يوما في المنيبع عند المقر البهائي بن حجي عظم الله تعالى شأنه فجاء محمد الاستدار وجعل يشكوا ما فيه من الشدة والضيق فسئل عن سبب ذلك فقال كانت الجامكية ستين ألفا فصارت ثمانين ألفا قيل وفيما ذلك قال إن ملك الأمراء يريد زيادة المستخدمين والمماليك ويطلب منا ما لا يعطيهم وقد ضقت ذرعا وما أدري ما أعمل وجعل محمد الاستدار المذكور بسبب ذلك يستطيل على الناس ويفتق عليهم أنواع المظالم ويفتح أبواب الشر فكان الناس معه في شدة عظيمة وما كان يرفع لخزانة اينال دينارا ولا درهما إلا ويأخذ لنفسه أضعاف ذلك ولكن الله تعالى لطيف خبير وكان المقر الناصري سيدي محمد بن محك تغمدهما الله تعالى برحمته بالقاهرة فكان يتلافا قضايا النواب مهما أمكنه • وكان رحمه الله واسطة خير ومقصد نجاح فتعاطى أسباب إصلاح الأمور فإنه كان قد وقع في أفواه الخاص والعام أن نائب الشام سيعصي أو عصى والعامة لسان الفلك وكانوا يقيسون أمره على أمر نائب حلب ولكن ما كان أحد يجترئ على إشهار هذا الكلام • وكان نائب الشام اينال منتظرا قدوم المقر الناصري المشار إليه حتى يبني ما يريده من الأمور على ذلك • • ذكر مراسلة المصريين نائبي الشام وحلب •
92ظ
واستمر المنافقون من المصريين يراسلون نائبي الشام وحلب وكان من جملة ما أرسلوا اليهما أن هذا يعنون مولانا السلطان قد خالف الوصية المسندة إليه وقبض على ابن استاذنا الذي هو السلطان وهو الملك العزيز مع أنه رجل فقيه صوفي لا يصلح للسلطنة ولا لإقامة شعائر الرئاسة وصحبته دائما مع الفقهاء والعلماء والفقراء ولا يحترس كما كان غيره يحترس من الملوك والسلاطين • ولا يتمم هيبة الملك • ولا ناموس السلطنة • ونحن نريد لنا سلطانا يقيم حرمة الملك والسلطنة على عادة الملوك والسلاطين • ويقدم الترك والأمراء على من سواهم • وقد رأيتهم كيف فتك بإخوتنا من الأشرفية • وبرؤوس الأمراء • فإن صبرتم على هذا فقد أهنتم أنفسكم وأهنتمونا • وربما يتعدى إليكم منه ما تكرهون • وإن وافقتمونا على شيء فنحن منتظرون لما تبرز به مراسيمكم • ومتكفلون بجميع ما تشيرون به • فإنا نقدر ان نوقع به فعلا كيف ما أردنا لأنه يمكن التوصل إليه في كل وقت • وإيقاع الفعل به من غير مشقة • فلا ننها ونوافي رد الجواب • وتأملوا في هذه القضية وعواقب الأمور بعين البصيرة والفكر الصحيح • وردوا الجواب سريعا • وإذا رضينا أن تكونوا لنا رؤوسا وظهورا • أفلا ترضون أن نكون لكم خدما وأعوانا • وفيما يدهمكم ويهمكم جندا وانصارا فواعدوهم على ذلك • ذكر عصيان نائب حلب بكري وبرميش وكسره وقتله وكان خير بكري وبرميش قد بلغ إلى القاهرة فإنه كان على أيام الملك الأشرف ذا تهور وتعد وفجور وظلم واستمر على ذلك فلما ولي حلب وأبعد عن الديار المصرية لم يتغير عن سجيته القديمة من الظلم والتعدي مع أن الملك الأشرف كان له عليه اعتماد وكان ذلك كان بواسطة معرفة قديمة أو سابقة أكيدة وكان الأمراء يكرهونه ويكرههم لأنه كان من التراكمة وما كان من جنسهم ولم
93و
يكن أيضا عنده مداراة يستهل بها خواطرهم فلما توفي الملك الأشرف لاح عليه إمارات العصيان ولما بلغ خبره الديار المصرية أرسل إليه مرسوم شريف ملكي ظاهري أن يتوصل إلى القاهرة فوصل المرسوم مع القاصد يوم الثلاثاء خامس عشرين شعبان سنة إثنين وأربعين بحضوره إلى الأبواب الشريفة • فلما وصل القاصد ورأى من نائب حلب إمارات العصيان لم يجسر أن يظهر المرسوم فتوجه إلى نائب القلعة السيفي خطط واجتمع به ليلة الجمعة تاسع عشرين شعبان فطلب القضاة والأمراء لقراءة المرسوم عليهم ليلا فلم يحضروا واعتذروا بأنه ربما يصل الخبر إلى بكري برميش فيضرهم وينكد عليهم ولعل ذلك أن يأخذ حذره ويفشوا الخبر إذ أحضروا واجتمعوا في غيبته فما وسع نائب القلعة إلا أنه رمي على بكري برميش من القلعة بعد العشاء الاخوة وأظهر معاداته وصاحوا على أنه عاص وباغ وركب الأمراء كلهم وتوجهوا إلى القلعة واختبطت الناس فركب بكري برميش وخرج من دار السعادة وحال بين الأمراء وبين القلعة واجتمع على جماعته وجماعة من المشاة وتفرقت أراء الأمراء وأخذ كل واحد منهم يجتهد في خلاص نفسه فتوجه السيفي بردي بك العجمي والأمير قطج صوب باب ىانقوسا فإذا هو مقفل فجاء شخص يدعى صاروخان ومعه الفأس فضرب القفل فكسره وفتحوا الباب وخرجوا طالبين البلاد الحموية فتوجهوا إليها وتوجه المقر السيفي سودون النوروري أمير التركمان بحلب وأمير دوادار السلطان بها إلى صوب البيرة وكان مدة نائبا بها على زمان الملك الأشرف فوصل إليها واستولى عليها وحصنها بأنواع العدد من جحف وقسي وأسلحة وغير ذلك نقله إليها من قلعة المسلمين وأخذ بكري برميش من تلك الليلة من محاصرة القلعة وعمل المدافع والمكاحل وجد في المحاصرة واستدعى بني عمه واخوته من التراكمة ورفقائه من البلاد فاجتمعوا إليه •
93ظ
ذكر الحيلة التي فعلها نائب حلب ورد الله تعالى كيده في نحره ثم إن بكري وبرميش أعمل الحيلة في أخذ القلعة ولكن ما تم أمره • ولا استب فكره • فحاق به سوء مكره • ورد الله كيده في نحره • وذلك أنه أرسل بن عمه مع جماعة من خواصه في خفية إلى من يعرف باب السر من القلعة والسرداب الواصل إليها مع واحد له دالة على الأمناء والحفظة بباب السر من البوابين والمقدمين • والتمس منهم أن يجتمعوا بالمقدم والبواب • ويرغبوهم بالأموال ليفتحوا لهم باب السر • فاجتمعوا بهم وبذلوا لهم الأموال الجزيلة حتى رضوا ووافقوهم على ذلك وأعطوهم مائة وستين ألف درهم • ثم واعدوهم على وقت • فذهب واحد منهم وأخبر نائب القلعة بذلك فبعد أن استكتمه القضية أرسل يطلبهم واحدا بعد واحد حتى تكاملوا عنده ثم قررهم فأقروا على أنفسهم وعلى كل من معهم فلما تحقق ذلك أمر بصلب جماعة منهم على شرفات القلعة ووضع المقدم في المنجنيق ورمى به إلى بكري برميش فلما تحقق أن سعيه ضل حصل له من النعم والهم ما لا مزيد عليه وجد في محاصرة القلعة وأخذ في عمل المدافع والزحافات والمكاحل • واستمر ذلك من أول شهر رمضان وإلي ليلة العشر فتقاتلوا تلك الليلة من العشاء إلى الصباح • ولما أسفر الفجر وكان جماعة بكري برميش قد كلوا وأضناهم التعب والسهر تفرقوا إلى أماكنهم وذلك يوم الثلاثاء عاشر شهر رمضان المبارك وهو ثاني يوم عصى فيه اينال الحكمي في الشام ولما تفرق جماعة بكري برميش نزل أهل القلعة ورموا الزحافات وما كان أعده إلى الخندق وكسروا ما أمكنهم كسره وخرجوا جميع ما كان عمله بكري برميش وساعدهم على ذلك جماعة من عوام الناس واجتمع طائفة كثيرة من أهل البلد وأكثروا الغوغاء فلما بلغ البغاة ما فعله أهل القلعة وأهل البلد اجتمعوا ووضعوا أيديهم في العوام وجرحوا منهم وقتلوا منهم •
94و
ذكر قيام أهل حلب علي بكري برميش وخروجه من حلب مذموما مدحورا • فعند ذلك أخذت أهل حلب الحمية على عادتهم وكبر الناس عليهم يدا واحدة وتنادوا الغزاة يا مجاهدين • في أعداء الله الباغين • وتناولوهم بالحجارة والسهام وأصناف السلاح ورجموا بكري برميش وجماعته • وطائفة البغي كما فعلوا مع بن قصروة • وبن كبك التركماني • لما عصي في حلب في أواخر سنة أربع وعشرين وثمانمائة في ولاية الملك الظاهر تتر رحمه الله • وانزل الله تعالى نصره على المسلمين قولي بكري وبرميش المخذول ومن معهم الدبر وأخذهم الذلة والانكسار • فلم يسعهم إلا الخروج إلى خارج البلد • ولما ولي الدبر أخذ الناس فيهم قبضا ونهيا • وقتلا وسلبا • فخرجوا من باب انطاكية على أسأم طالع • وأنحس تقويم • فوصلوا إلى الميدان • ونزل أهل القلعة وساعدوا العوام على ما عم فيه وقبضوا على من قدروا عليه من عساكر البغي وكفى الله المؤمنين القتال واغلقوا أبواب المدينة وتضام المسلمون وتحصنوا واحذوا حذوهم وأسلحتهم • واتم بكري برميش يوم في الميدان • وكان قد قرب قفل من حلب من بلاد الروم فنهبهم بكري برميش وجماعته وأخذوا قماشهم وبضاعتهم ودوابهم • وكان ذلك من علامة خذلانه وكسره • ولما دخل الليل قصد بلاد شيزر وطلب بن سقلسين فأتى إليه وأواه • وكان ذلك من جملة خطائه فإن الملك الأشرف ومولانا السلطان الملك الظاهر ما فعلا مع بن سقلسين ما يقتضي عصيانه والخروج عن الطاعة لكنه أخطأ ولزم غلطه فاستمر بكري برميش عند بن سقلسين مدة أيام • • ذكر توجه بكري برميش إلى طرابلس • ثم ان بكري برميش ضم التراكمة وحشد واجتمع عليه جماعة من المفسدين
94ظ
فاقتضى رأيهم التعيس أن يتوجهوا إلى طرابلس • وكان نائبها إذ ذاك المقر الأشرف السيفي جلبان وكان إذ ذاك وقد عصي نائب الشام وراسل بكري برميش فلما توجه بكري برميش إلى طرابلس كان المقر السيفي جلبان فيه كفاية للتراكمة غير أنه إختشى أن يلاقي عليه نائب الشام اينال فيبقى بين عدوين وضعيفان يغلبان قويا فأخذ على الساحل إلى الأمراء المجتمعين بغزة وسيأتي ذكرهم فوصل بكري برميش إلى طرابلس فدخلها ونهب ما بها من أموال وثقل ولم يكن قصده عمارة البلاد فإنه تركماني ونهب بيوت الأمراء والأكابر وفرق العسكر السلطاني وعاثوا وأفسدوا كما يختارون فإنها كانت فرصة فساد كفرصة يونس الرماح • ولما قضوا مأربهم من الفساد في طرابلس واجتمع عليه التراكمة واطمأنوا إذ لم يوجد أحد قاومهم هيئوا أمرهم وعرضوا عساكرهم والتف عليهم بن سقلسين المذكور وعلي باردين اينال وبن غيمان من تراكمة طرابلس ورجعوا إلى حلب وحاصروها نحوا من ستة وعشرين يوما وهم حوالي البلد يعيثون ويعثون • وأرسل بكري برميش إلى بن قزمان • وإلى موسى بن قرا التركماني القصاد والخيول المسومة • والخلع الفاخرة • وطلب منهم الحضور فأجابهم موسى بن قرا وتخبطت • البلاد الشمالية بأسرها • وعانت المفسدون في سهلها وجبلها بكمالها • وكانت من أقبح الفتن • وأبشع الشرور • فسبحان اللطيف الخبير • ذكر ما فعله الأمين سليمان بن دلغادر من الخير في هذه • الوقائع • ثم إن الأمير سليمان بن دلغادر لما بلغه هذا الأمر من سعادته وإرشاد الله تعالى إياه أن استعمل فكره الصائب • وكان مولانا السلطان من قديم الزمان محسنا إليهم كما هو محسن إلى غيرهم شعر • • والخير أبقى وإن طال الزمان به •
95و
وكان بين الدلغادرية • وبين هؤلاء التراكمين البغاة كان عداوة سوء موروثة مع أن الدلغادرية لم يصدر منهم عصيان قط غير أن في بعض الأوقات كانوا يخافون على أنفسهم لأن الحرمة السلطانية أدامها الله تعالى وأقامها باسطة فكانوا يتأبون عن الحضور إلى المواقف الشريفة فإذا توجه إليه أحد من العساكر المنصورة ما كانوا يقابلون ولا يشهرون في وجوههم سيفا بل كانوا يتحصنون في الجبال والأماكن الوعرة • فأراد الأمير سليمان المذكور أن يكافئ بعض الصدقات الشريفة السلطانية السالفة فاهتم لذلك وبذل جهده • واستقصى في الذب عنها • والقيام بحقوقها ما أمكنه • فعرض جماعته من الدلغادرية • واستدعى الرؤوس من أصحابه وهو الأمير اشلماس بن كبل والأمير أحمد بن بن بوزجا • والأمير عثمان بن كندز المرحوم أيلوك بن رمضان فأجابوه واتفقوا أنهم يكونون يدا واحدة • ويمشون على بكري برميش ويراسلون الأمراء والعساكر السلطانية • والنواب المقيمين على الطاعة الشريفة • لعل الله يرزقهم بياض الوجه عند مولانا السلطان ففعلوا ذلك وتوجهوا فلما أحس بهم المخذول بكري ديرمش لم يسعه إلا الهرب منهم والتوجه إلى البلاد الحموية فإنه كان أجبن من صافر • وكان هيئة بلا فحوى • وصورة بلا معنى • فارتحل من مرج دابق وأخذ على شرقي حلب إلى حماه • وهو مع ذلك يكاتب اينال الحكمي ويراسله ولا يجترئ على المجيء إليه • والاجتماع به • لأنه لم يكن بينهما جهة جامعة إلا العصيان وإنما هو تركماني • وذلك جركسي • وبينهما مباينة أكيدة • فكان يخاف منه غير أنه كان يراسله بسبب العصيان • وأكد الخوف منه أنه لما سمع أنه عصى • وقبض على الأمراء • ثم أنه أطلقهم ولم يتعرض لهم بسوء • زاد ذلك إنكاره وخوفه منه • وقال ربما يكون عصيان اينال الحكمي من أجلي حتى يقبض علي ويتوجه بي عنه السلطان ويرفع ما صدر منه بسببي فلم يزد علي المراسلة والكاتبة والمصادقة من بعيد
95ظ
إلى أن قضى الله عز وجل فيه ما يريد وانكسر اينال الحكمي • وتوجهت العساكر المنصورة إلى بكري برميش وفر منهم وقتل كما سيأتي بيانه مفصلا بعد قضية اينال واستمر يكاتب اينال جهارا وكان اينال قبل أن يظهر العصيان يباطنه بالمراسلة ويغريه على العصيان ويكاتب المنافقين من المصريين • ذكر اينال الحكمي ومبدأ عصيانه وما كان يبدوا منه • من امارات المخالفة • ثم إن سودون الخاصكي وهو أخوا38 اينال قدم إلى الشام قبل أن يعصي أخوه وذلك بعد أن قتل قرقماز وجاء على يده مراسيم شريفة • وخلعة فاخرة سنية • وأموال جمة من دنانير عديدة • وفي ضمن التوقيع الشريف بعد التلطف والترفق له أن يكون مطلق التصرف • مبسوط اليد في الممالك • يولي من يشاء • ويعزل من يختار • فليس فوق يده يد • فتصور أن ذلك إنما يفعل معه خوفا منه • وإنما كانت الأمور في مبادئها ومولانا السلطان نصره الله نصرا مؤزرا • إنما فعل ذلك على جاري عادته الشريفة من تلافي خاطر الكبير والصغير • فلما وقف اينال على هذه التلطف والمكاتبة الحسنة لم يتمالك نفسه فصرخ وقال مصرحا يا مسلمين كيف يحل من الله يخلع الملك العزيز بن استاذنا • وتقتل اخوتنا • وخوشد اشينا • ثم بعد ذلك يفعل باغتنا الأمير قرقماز ما يفعل • ويقتل شر قتلة • بعد إذلاله وإهانته • أليس كان ملكا • أما كانت تحفظ حرمته • وإذا فعل هذا بالملوك العظام • أيش يبقى للناس قدر غير أن اينال لم يظهر عصيان • وكان كلما ورد مرسوم شريف تلقاه بالقبول وقابله بالتعظيم التام • والتوقير والاحترام • وأظهر الطاعة والانقياد على الرسم المعتاد • ثم إنه اتفق مع أخيه سودون بأمور وجهزه إلى القاهرة ورد جواب المراسيم بأنه مقيم على الطاعة • وفي باطنه أمور وشرور ردها الله في
96و
نحره • ثم اينال شرع يستخدم كما من ذكره ويأخذ أهبة العصيان • وانتشر بين الخاص والعام أنه عاص • والعامة لسان الفلك • ثم أنه استشار نائب القلعة السيفي فارس في عمل مكحلة فأشار عليه بذلك فجمع النحاسين والاستادين وشرع في عمل ذلك في الاصطبل • وكان قد حضر إلى دمشق استأذن من حلب فاستعملوه في عمل المكحلة مع بن قطلوبك النحاس وغيره • وكان المقر المرحوم الناصري سيدي محمد بن مبحك في مصر • وكان اينال منتظرا قدومه ليبني ما يفعله من الخروج والعصيان على ما يرد على يديه فورد المرحوم الناصري المشار إليه يوم الخميس خامس شهر رمضان المذكور واجتمع باينال يوم الجمعة وكان على يده خلعة فاخرة سنية • لا يمكن أعلى ولا أغلى منها • وإنعامات ملوكية • وفرس لائق بالملوك كامل العدة • ومن الذهب النقد على ما نقل أربعة عشر ألف دينار إلى غير ذلك فأوصلها المقر الناصري لاينال • وكان المقر الناصري من أولاد الملوك وممن قد انفرد بالوجاهة • والحشمة • والرئاسة • ويمن الرأي • وقبول الكلام • وحسن المداراة مع الكبير والصغير • وطلبه الخير لعامة المسلمين • والسعي في أنواع البر والمعروف • وإغاثة الملهوف • واحياء ما دثر من الصدقات والأوقاف وبذل المجهود في كل ما يتصور من أنواع البر والإحسان • والقرب من الناس • واللطف • وحسن الخلق • وقلة الطمع • والكف عما في أيدي الناس • إلى غير ذلك وكان يقول الحق ولا يخاف إلا الله تعالى • ولا يأخذه في الله لومة لائم ولهذا صار مقبول القول عند الكبير والصغير • ولما اجتمع باينال خلا به وقال يا مولاي ملك الأمراء إن الناس يقولون كلاما • أنا أكبرك أن أفوه به في حضرتك وأعيذك بالله منه فإن رسمت لي قلته قال قل يا امير فلا بأس قال حاشا لله أن ننسب على مخالفة وعصيان الله الله يا مولانا ملك الأمراء اتشفع
96ظ
إليك بالله الذي لا إله إلا هو وبالجناب الرفيع • وبسائر الأنبياء والمرسلين • والملائكة والمقربين • وأتشفع إليك بك أن لا تحرك ساكنا • وانظر إلى الدماء التي أريقت في حلب بسبب عصيان هذا التركماني فإن كان زل به القضاء ورجع إلى أصله وما جبل عليه من الفساد الذي لا يمكنه أن يخفيه فعقل مولانا ملك الأمراء وحشمته أعظم وأجل من ان يوافقه ويظهر عليه اسم العصيان • والبغي • والمخالفة • قط ما ورثت على أحد خير إنما فائدتها ذهاب النفوس • وإراقة الدماء • وتمزيق المال • واستجلاب غضب الله تعالى وسخطه • ودمار العباد • وخراب البلاد • ثم إنه قبض على ذيله وعض عليه وكشف رأسه بين يديه فقال اينال معاذ الله يا مولانا الأمير أن يصدر مني شيء يضر المسلمين • وأرجوا من الله أن لا يكون إلا ما يرضيك • • ذكر مجاهرة اينال بالعصيان • ثم لما حصل اينال على المال وانتهى أمره فما كان ينتظره من قدوم الناصري سيدي محمد بن مبحك لبس الخلعة يوم السبت سابع شهر رمضان وأوكب من قبة ىلغا ودخل إلى دار السعادة في أبهة تامة • وعظمة كاملة • والسمع يوقد بين يديه والناس تدعوا له • ثم أمر أن تجتمع الأمراء وجميع المباشرين يوم الإثنين لاستماع المراسيم الشريفة بحيث أنه لا يتخلف منهم أحد • وأرسل إلى الجناب السيفي فارس أمير نائب القلعة يستشيره فيما أراد فأجابه بالسمع والطاعة واجتمع به ليلا وأتى بمفاتيح القلعة وقال له أنا مملوكك وممتثل أوامرك السعيدة فإن استمررت بي فانا لك كما تحب • وإن أحببت أن تولي من اخترت فالأمر إليك فقال بل استمر على ما أنت عليه فإنك امين وناصح • • ذكر أمير قاني صو • ثم إن قاني صو الذي كان نائب سيس وصار من المقدمين في الشام كان في الجهة القبلية فكأنه ظفر برجل معه كتاب إلى المصريين أن اينال عصى فقبض عليه وأتى به إلى اينال
97و
وقال له أنت غافل والناس يسعون في دمك وقد اشتهر عنك اسم العصيان ففيهم قعودك وتوانيك • وكان ذلك ليلة الإثنين فأجمع رأيه على العصيان ولما كان يوم الإثنين تاسع شهر رمضان سنة إثنين وأربعين وثمانمائة • أمر مماليكه وحاشيته فأفرغوا عليهم سابغ الدروع والسلاح وأخذوا أهبتهم وحذرهم وأوكب النائب وركب الأمراء والمباشرون وجاؤا39 إلى دار السعادة فلما عزموا على الدخول قال اينال الجشماني للحاجب الكبير برسباي بالتركي هي اغاكير ما يعني لا تدخل فإن النائب قد أضمر سوء فلم يلتف إلى كلامه ونزل ودخل إلى دار السعادة فرجع اينال المذكور • وقانباي البهلوان أمير كبير • ومغلباي الجقمقي • والطنبغا الشريفي إلى منازلهم • ودخل من سواهم من الأمراء مع الحاجب إلى دار السعادة • وكان المباشرون قد حضروا قبلهم إلى دار السعادة فحين حصلوا داخل الباب أغلقوا الأبواب وأمسكوا الحاجب وقبضوا على جميع من كان دخل من الأمراء والمباشرين عن أخرهم • ولم يفلت من الأمراء غير الأمير يونس أحد الأمراء المقدمين فإنه لم يكن حضر ذلك اليوم بل كان قد ركب إلى مكان يشتري فيه قصيلا لخيله فلما سمع الهيعة استمر مارا على وجهه إلى صوب القاهرة ولم يرجع إلى بيته فاجتمع مع الأمراء بغزة واستمر معهم • وكان ممن لم يحضر من المباشرين المرحوم الناصري بن أبي والى استادار المقام الشريف فحين حصل الأمراء في قبضة النائب اختبطت الدنيا ووقع النهب والغارة في خيولهم وهرب كل من الأجناد والمماليك إلى بيته واختفى • ثم في هذا اليوم بل في هذه الساعة حضر قانباي بهلوان • اينال الجشماني • والطنبغا المذكور إلى دار السعادة طالعين وفي رقابهم المناديل واستسلموا • فلما تحقق كل الناس أن الأمور قد صارت لم يريده اينال ونائب حلب فإن الدنيا ما تخبطت خباطا يمكن الإنسان تلافيه ولا انقلبت انقلابا يقدر الانسان ان يتداركه ولكن الله سلم فسبحانه من فارج
97ظ
الهم وكاشف الغم • ما اخفى لطفه • وما أحسن تداركه وكشفه • ثم أن اينال أعطى الخلعة والفرس الذين جاء بهما المقر الناصري بن مبحك رحمه الله لقانباي المذكور واحتفظ على من قبض عليه من الأمراء • وحاجب الحجاب برسباي • وجعلوا يتفقدون أرباب • الوظائف • ومن له خبز واقطاع وسائر الأجناد • فكل من كان حاضرا عندهم صار منهم ومن لم يكن حاضرا عندهم توجهوا إلى بيته وتفحصوا عنه وأحضروه شاء أو أبى وإلا نهبوه فما وسع الناس إلا الانقياد والإطاعة • والمثول عنده بالسمع والطاعة • ذكر وصول هذا الخبر المزعج إلى القاهرة وسائر البلاد وكان واحد من مماليك حاجب الحجاب برسباي واقفا على فرسه خارج باب دار السعادة فلما وقعت هذه الخبطة فبمجرد ما سمع الخبر استمر على ظهر فرسه سابقا على وجهه أخذا نحو مصر فوصل إلى اللجون فرأى الأمير حجكبوغا متوجها نحو شاهرخ في الرسالة من جهة مولانا السلطان فأخبره الخبر لوى راجعا إلى الرملة والقدس ووصل الخبر إلى الرملة يوم الأربعاء بعد العصر حادي عشر شهر رمضان • وكان طوغان نائب القدس في الرملة على غير أهبة فبمجرد ما بلغه الخبر ركب وتوجه إلى القدس ولم يلو على أحد فتخبطت البلاد • وخاف الكبير والصغير • هجوم العشران • وصار الناس في شدة لا يعلمها إلا الله تعالى انقطعت الدروب • ذكر وصول هذا الخبر إلى غزة وذكر ما جرى في غزة من الأمراء • ووصل الخبر إلى غزة يوم الخميس ثاني عشر شهر رمضان فهرب حاجبها الأبوغا إلى صاحب صوب العريش • وكان نائبها طوخ فجمع الأمراء ومن تحت يده من الجند ورجع الأبوغا يوم الجمعة إلى غزة واجتمعوا بالقضاة وشرع النائب بها يحلف الأمراء ويستوثق منهم أن يكونوا يدا واحدة مع العصابة السلطانية ثم أمر فأحضر
98و
القاضي شمس الدين بن الأعسر الشافعي فحلفهم ووصل الخبر إلى القاهرة في العشر الأوسط من شهر رمضان فتخبطت وكثرت الأراجيف والخباط ورفع المنافقون أيديهم وألسنتهم بالسوء • وكان قبل ذلك وصل الخبر بعصيان نائب حلب وخياطة • ذكر ما وقع في صفد بسبب هذا النكد • فلما بلغ هذا الخبر القلق إلى صفد وكان نائبها اينال الأجرود أرسل إليه نائب القلعة يقول له قد وقع من الأمر ما علمت وأما أنا فلا أخرج عن طائفة الحق وفرقة الهدي • وأنا مع العصابة السلطانية • فإن كنت معي فأنت مخدومي وتاج رأسي ولك أريد أن استوثق منك فأرسل أولادك إلى القلعة فلنا ما لهم وعلينا ما عليهم ويكون يدا واحدة إلى أن ينجلي هذا الغبار وإن لم تجهز حريمك إلى القلعة أو تظهر العصيان مع من عصى فاخرج من البلد بحيث لا يحصل لكل واحد ضامن رفيقه بؤس ولا ضرر وإن أبيت بحيث أنك لا تؤمنا ولا تتركنا فلا نقدر على المجاورة مع كون الأنفس فيها الضغائن فلا بد أني أناوشك الحرب وأرمي عليك فقال له إني مع السلطان ولا أخرج يوما عن رتبة الطاعة وأجهز أولادي إلى القلعة ليكون خاطرك مطمئنا وفعل كذلك واطمأن بحمد الله ذلك الجانب وبلغ هذا الخبر إلى غزة يوم الجمعة ثالث عشر شهر رمضان • وكنت إذ ذاك في غزة متوجها إلى القاهرة فأبلغت هذا الخبر إلى القاهرة إلى مخدومنا القاضي الكمالي بن البارزي فكان من أسر الأخبار وأحسنها • ثم إن نائب القلعة المقر السيفي فارس شرع في تحصين القلعة ونقل ما كان محتاجا إليه من الأهبة والعدة والذخيرة والسلاح ونشر العزيز • واستمر على ذلك مدة • وظاهره مع اينال وباطنه مع الظاهر وأرسل إلى اصطبل قاضي القضاة الشهابي عطر الله تعالى شأنه ونهب خيله وقماشه
98ظ
وجميع ما وجده له وذهبوا به إلى القلعة ثم إن اينال الحكمي رسم أن يردد ذلك كله إلى مولانا قاضي القضاة كما كان فامتثل واستمر الأمر والمباشرون مضيقا عليهم يوما واحدا • ذكر ما فعله اينال مع أمراء الشام يوم عصيانه ثم ان اينال احضر الأمراء والمباشرين وحلفهم أنهم يكونون معه يدا واحدة على السراء والضراء وأن لا يعدلوا عن الملك العزيز يوسف بن رسباي ولا يخرجوا عن طاعته فحلفوا له فأطلقهم وخلع عليهم ولم يكن معه على الإخلاص إلا قاني صو • ومسروق • وتنم • وجماعة أوباش • وقبضوا على جميع المباشرين • ومنهم مولانا وسيدنا قاضي القضاة برهان الدين بن جحي كاتب السر • والقاضي جمال الدين ناظر الجيش • وأما بن أبي والي فإنه اختفى فأرادوا نهب بيته فما وسعه إلا أنه ظهر وحضر • واستعانوا به على ما هم فيه من طرح السكر وطلبوا من كل هؤلاء جملا من الأموال إلى أن لاحت للمقر الشهابي ابن جحى فرصة فخرج من غير درب إلى صوب صفد ثم توجه إلى غزة ووصل خبره إلى القاهرة فورد عليه مرسوم شريف بأنه مخير بين ثلاثة أمور أن يقيم عند الأمراء بغزة • أو يتوجه إلى القدس الشريف حتى تنجلي هذه الغبرة أو يتوجه إلى القاهرة فتوجه إلى القاهرة ووصل يوم الأحد العشرين من شهر شوال فقوبل بالاحترام والاكترام التام • ولم يزل بها حتى تمهدت الأمور • وانقضت الشرور • وقتل اينال فتولى وظيفتي قضاء الشافعية • وكتابة سر الشام • وباشر ذلك أيام السيفي اقبغا التمرازي • وأما القضاة فإنهم لم يتعرض أحدهم بمكروه • وكان مولانا السلطان قد ولى وظيفة القضاء للشيخ برهان الدين الباعوني لما بلغه عنه من الخبر وانقطاعه إلى الله تعالى فلم يقبل الشيخ برهان الدين ذلك لكونه قد اسن وقد ذكر ذلك مشبعا في أول هذا الكتاب فوليها الشيخ تقي الدين بن قاضي شهبة
99و
لأنه كان عالم البلد ومولانا السلطان خلد الله سلطانه لم يقصد في المناصب إلا أهلها فلما لم يقبل ذلك الشيخ برهان الدين ولاه مولانا السلطان شيخ نور المذكور من غير سعي ولا كد مع أن الشيخ نور المذكور كان قد حج وعاهد الله تعالى على ما ذكره مرارا في المحافل على رؤوس الأشهاد أنه عند الحجر الأسود والبيت العظم وعند الروضة الشريفة عاهد الله تعالى أن لا يقبل القضاء ولا يلي وظيفة لا الحكم لا أصالة ولا نيابة ما دام حيا وكان عهد الله مسؤولا فلما جاءه القضاء كأنه نسي العهد أو حمله حب الرئاسة على قبوله فقبله • ولما رفع الباغون أيديهم بالعصيان • وتعلقوا بأذيال الخلاف والعدوان • خطب القاضي نور المشار إليه باسم الملك العزيز وأرسل إلى سائر الجوامع يأمر الخطباء بذلك • وذلك أن عنده أنه إذا مات أنسان وله وظيفة فإنها ميراث لولده سواء كان أهلا لها أو لم يكن وسواء أقيمت شعائرها أو لم تقم • • ذكر من جاء إلى اينال من العشران • ثم أن اينال أرسل إلى التراكمة والعشران والمقدمين يستدعيهم إلى الحضور فحضر إليه محمد بن القاق • وأحمد بن الحوراني • ومحمد بن الحنش • وبن عبدان • وغيرهم من العرب والتراكمة • ولما تخلص الأمراء من مخاليبه بسلام أخذوا يدبرون مصالحهم ويحتالون فيما يكون فيه خلاصهم فإن مثل هذه الفنن يجير اللبيب فيها • ويضطرب آراؤه • ولا يهتدي فيها إلى سبيل إلا من عصمه الله تعالى وكانوا يركبون معه ويدارون منه ويداهنونه ولا يتقطعون عن خدمته فشرع في طرح السكر على الناس وتعاطى ذلك استاداره محمد مع حضور المرحوم الناصري بن أبي والي وجمال الدين ناظر الجيش والأصل في ذلك استاداره وإنما كانوا هؤلاء معه كالآلة فكان المسلمون في شدة عظيمة بسبب ذلك ومشقة
99ظ
لا يعلمها إلا الله تعالى من مصادرة • وطروحات • ووقوف حال وعصيان • وغير ذلك وانقطعت اسبابهم • من أنهم في مواسم الحج • وزمان معائشهم • ورواج ما أعدوه من السنة إلى السنة • ولك الله تعالى له تصريف في عباده • وانقطعت أخبار مصر عن الشام • وأخبار الشام عن امصر • بواسطة انبثاث المفسدين • وانتشار العشرات من العرب والفلاحين وشرعت الناس يتفوهون بأشياء وأخبار ما انزل الله بها من سلطان كما هو دأبهم وديدنهم كل هذا ونائب القلعة السيفي فارس مجهد في تحصين القلعة وأحكامها بالعدد والعدد • والقيام بحفظها • والتيقظ ليلا ونهارا • منتظر لمن يكون الدولة وعلى من تكون الدائرة • وعلى كل حال فإنه لم يغفل عن نفسه • واستمر ذلك إلى أواخر شهر رمضان • والناس في حصر وشدة • ذكر ما وردت القاهرة من الأخبار والطالعات • ثم في يوم الأربعاء ثاني شوال قدم من القاهرة شخص يدعى زين الدين عمر الكردي ومعه مطالعات إلى نائب القلعة وإلى حاجب الحجاب والأمراء تتضمن بسبهم والتشنيع عليهم • وأنواع التقريع والتوبيخ • لكنهم لم يقوموا على اينال يدا واحدة ولا منعوه ولا رعوه • فإن الأمور بحمد الله تعالى مستقيمة • وعن قريب تصل العساكر المنصورة • وإنه كان الواجب عليهم أن يحوجوا إلى خروج عساكر من القاهرة • فإن اينال وحده وهم الجم الغفير يعجزون عنه • وكيف لم يرم عليه نائب القلعة فساعة وقوفهم على المرسوم الشريف يثبون عليه ويكونون يدا واحدة • ولا يخورون ولا يجبنون عنه • ولا يضعفون ولا يستكنون • وإن نائب القلعة يرمي عليه ولا يتوانى عنه • ويعمل في ذلك جهده ما استطاع • ويحتفظ بالقلعة كما ينبغي • فإن هؤلاء بغاة يجب على كل أحد قتالهم • والوثوب عليهم • فأصل زين الدين المذكور المطالعات إلى أربابها
100و
وإلى نائب القلعة • وكان قد أتى في هيبة منكرة • وحلية مغيرة • وكان أعقبه شخص يدعى فارس مملوك السيد علاء الدين نقيب الأشراف كان قد توجه إلى القاهرة ورجع ومعه مطالعات إلى سائر النواب والأمراء فغير حليته ودخل في صورة مزين يهودي حتى وصل إلى صفد وغيرها وقضى أربه كما أراد • ذكر وثوب الأمراء على اينال ورمي نائب القلعة وخروجه • من البلد • فأرسل نائب القلعة إليه يقول له اخرج من دار السعادة وإلا رميت عليك فإني جاءني مرسوم بذلك ولا يمكن مخالفته • ولا التهاون في امتثاله • فانتقل إلى القصر الأبلق • وليلة الخميس ثالث شوال نودي من أعلى القلعة أنه من كان مع الملك الظاهر فإنه يحضر لقتال اينال الحكمي فإنه باغي عاصي فحضر الامراء يوم الخميس وهم برسباي الحاجب الكبير • وقانباي بهلوان • واتابك العساكر الشامية • واينال الجشماني • والطبغا الشريفي • ومغلباي الجقمقي • وتمراز المويدي • وغيرهم من أمراء الشام • والطبلخانات • والعشراوات • بخواص اربعمائة نفس • ووقعوا مستعدين كاملي العدة • والسلاح عند سوق الخيل • على أنهم يقاتلوا اينال • ويقابلوه فركب اينال من الميدان • ومعه قاني صو • وولده محمد • ومسروق • ونتم • وجماعتهم وهم شرذمة قليلة نحو من أربعين نفسا • فوقفوا عند مدرسة بكري برميش • ثم أن محمد بن قاني صو اشرع رمحه نحوهم وحده • وتبعه أمير سلاح اينال وتبعهما نحو من ستة أنفار لا غير فولت الأمراء الدبر هاربين بين نحو باب الفرج من غير ضراب ولا طعان • فلحقهم محمد بن قاني صو • وقبض على دوادار قاني باي • وقنطر جماعة منهم برسباي الحاجب • والطنبغا الشريفي • واختبطت العساكر • ثم إن الطنبغا الشريفي هرب • واختفى في المرتفق الذي هو داخل باب الفرج
100ظ
ورجع بن قاني صو ومعه دوادار قاني باي فجاء الأمراء الهاربون إلى باب القلعة وأرادوا أن يدخلوا القلعة فما مكنهم نائبها السيفي فارس • وشرع يعنفهم • ويشنع عليهم • ويقول ما لكم وما دهاكم • ألستم رجالا تفرون من صبي وحده • فعل الله بكم وصنع يا لاشات ها أنا أحمي القلعة فاحملوا أنتم واحموا أبواب المدينة • أليس فيكم سديد • اليس منكم رجل رشيد • فأخذتهم الغيرة • واقتسموا أبواب البلد • وجعل فارس يرمي على جماعة اينال من القلعة • وأرسلوا على أحد منهم مكحلة فكادت تقتله فتراجعوا • ونزل اينال في الميدان • وأخذ قاني باي باب الفرج • ومغلباي • وتمراز باب الجابية • وحاجب الحجاب برسباي باب الصغير • وأمين الطاري باب شرقي • وباقي الأمراء بباقي الأبواب • فجاء قاني صو على اينال وقال له قم فما في التواني فائدة فانهض حتى ننتصف من أعدائنا • فركبوا وتوجهوا إلى باب الجابية ومعهم جماعة من العوام والأوباش فوصلوا إلى العرصة بباب الجابية • وذهب قاني صو إلى باب الصغير وأخذوا في المحاصرة والمعاملة بباب الجابية • وفيه مغلباي وتمراز • وتقدم الزعر إلى الباب فكسروه بالفؤوس والأطبار • وهجموا على المدينة يدا واحدة • والتقت الرجال بالرجال والخيل بالخيل • ومدت العوام أيديهم بالحجارة والمطارق فولت الأجناد الدبر قدامهم فلما سمع الحاجب بأخذ باب الجابية ترك باب الصغير وأخذ نحو القلعة موليا فصارت العبيد والأوباش من الناس يعبثون ويشلحون من ظفروا به فلحق عبد من العبيد الحاجب فضربه بحطبة فشجه ووقعت عمامته عن رأسه فخطفها العبد وقصده مرة ثانية فقال له قسم أيش تريد خذ العمامة وخليني ولما سمع أمير الطاري ما جرا للعسكر وأنهم كسروا باب الجابية وأخذوا المدينة عنوة ترك باب شرقي وهرب ودخل إلى بيت نصراني وقال له خذ ثيابي لك حلال وأعطني شيئا من قماشك البسه فما رضي النصراني وكأنه خاف على نفسه فما وسعه أن شلح ثيابه
101و
ورمى بها واختفى هو في مكان فوجدوه فقبضوا عليه واتوا به إلى اينال فلم يقل له شيئا وأطلقه ورد عليه ما كان أخذ منه • وهذه الحكاية أعني حكاية أمين الطاري هو حكاها عن نفسه • ثم إن الأمراء اجتمعوا عند باب القلعة واستفتحوا فلم يفتح لهم فتذللوا له وتمسكنوا وتشفعوا إليه بكل شيء فلم يسمح لهم بالدخول إلى القلعة وقال أقيموا مكانكم وأنا أذب عنكم وانضح بالنبل والمدافع فاستمروا حواليها في حر الشمس إلى أن أكلتهم الشمس وهم حيارى أذلاء فرحمهم وفتح لهم الباب البراني فدخلوا ولبثوا بين الأبواب ورجع اينال إلى الميدان • واستمر لا يبدي ولا يعيد • غير أنه في بعض الأوقات يكرب ويسير إلى باب الميدان من القصر ويتعاطى أمر المكحلة التي افرغها حتى تمت • وشرع جماعة من البغاة مثل جماعة بن الجنش والتراكمة الدركارية يتوجهون إلى القلعة ويتناوشونها الحرب • وأحرقوا باب الحديد • وصاروا يتلطوا في الجسر والأسواق التي حوالي القلعة ويتترسوا وراء العابر التي هناك فما وسع نائب القلعة إلا أنه أمر بإحراق ما حول القلعة حتى ينكشف لهم قدامها • فأحرقوا عمارة الأخناي لجسر الزلابية • والسقطيين • والقيسارية على محل يصنعون فيها الخيم إلى صوب مدرسة بكري برميش • وناحية تربة أرغون شاه غربا • ومن الجسر إلى رأس سوق القشاشيين شرقا • واستمرت الأمراء في القلعة بين الأبواب • وقصد البغاة من العشران والتراكمة نهب بيوت الامراء وحريقها • والفتك بمن يتعلق بهم ولكن الله سلم • فمنعهم اينال • ولم يزالوا كذلك من ثالث شوال سنة اثنين وأربعين واربعمائة إلى آخره • والناس قريبا وغريبا في أشد ما يكونون من الحصر • أما قريبا فمن المصادرة وطلب ثمن السكر والتراسيم والعقوبات • واستطالة المفسدين • ومن هو مجبول على الفسق والفساد فإنها قامت أسواقهم • ونفقت بضائعهم • وهي العيب والفجور • والفسق والفساد • وأما غربيا فالتجار والحجاج القادمون من بلاد العجم والروم والديار البعيدة ولقد
101ظ
كان قدم في تلك السنة من وفود الحاج خلق لا يعلمهم إلا الله لما بلغهم تولية مولانا السلطان خلد الله سلطانه • فصادفهم هذه المحنة في أيام استعدادهم • وعلم مصالحهم • وتهيئة أسبابهم • إلى التوجه على الحجاز الشريف • فكانوا في شدة لا يقدر قدرها وكانوا في شدة أقوى من شدة أهل البلد • وسيأتي تفصيل ما جرا لهم • ذكر ما جرى في الديار المصرية ونواحيا في أثناء هذه • الحوادث وقبلها • ولما توفي الملك الأشرف وانتصب الملك العزيز رفعت عرب الصعيد رؤوسها وهزت يدها بالتعدي • إلى أن اشتغل مولانا السلطان بالولاية وجرى ما مر ذكره جهز مولانا السلطان المقر الأشرف السيفي يشبك المشد وصحبته جماعة من الأشرفية وغيرهم على العرب والمذكورين وجرى بينهم مواقعات وتحزبت العرب واستمر العسكر المنصور في تلك النواحي لسد تلك الثغور وحفظ هاتيك الأطراف ولئلا يحدث شر وفتنة • وقد كانت المماليك الأشرفية لما أجمعوا على إثارة الفتنة وذلك لما كان مولانا السلطان نظالم الملك في ولاية الملك العزيز من جملتهم طوغان الزردكاش الأشرفي فكأنه لم يوافقهم على ذلك • وتم على ما هو عليه من وظيفته • فلما وقع الخباط في البلاد الحلبية • والممالك الشامية • وطال الشر والفساد • تخبطت الديار المصرية أيضا كما مر • واختلفت الآراء • وتصادمت الأهواء • ونجم الشقاق • وظهر النفاق • ومولانا السلطان ثبته الله بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة مشغول بما هو الأهم • ومكب على التوجه إلى حضرة ذي الجلال والإحسان البالغ • والإنعام العام إلى الخاص والعام • ولم يهمه شيء سوى أحوال الحجاج الذين قدموا من بلاد العجم والروم وقد تركوا أوطانهم وأولادهم • ثم أخذ في تهيئة العساكر إلى طرف الشام • فإن النواب الذين كانوا
102و
تجمعوا بغزة وهم نائب طرابلس المقر الأشرف السيفي جلبان • والسيفي اينال الأجرود نائب صفر • ونائب الرملة القدس طوغان • والسيفي يونس أحد المقدمين بالشام وغيرهم من المطيعين • وعساكر المسلمين • أرسلوا يستحثون العساكر فإنهم كانوا خافوا على أنفسهم • وعلى البلاد أن يتوجه إليهم اينال • فتتخبط البلاد • ويزداد الفساد • ولو فعل ذلك لحصل فساد كبير ولكن الله سلم • وتقيد بمحاصرة القلعة • وما قدر أن يترك عسكر الشام وراءه ولقد كنت بغزة متوجها إلى الديار المصرية فقال لي جماعة من أهلها وعسكر المسلمين إذا وصلت إلى القاهرة فقل لمن يسمع كلمته أنهم يتداركون العباد والبلاد بالعساكر المنصورة • فلما وصلت إلى القاهرة أبلغت هذه الرسالة لمخدومنا المقر الكمالي بن البارزي بسط الله ظله وأكدت ذلك عليه فتعين لنيابة الشام المقر المرحوم انبغا التمرازي • وجلس مولانا السلطان بنفسه الكريمة • وعرض العساكر المنصورة • وغيره من الأمراء ورؤوس الجند من اقتضاه رأيه الشريف • وأمره السعيد • وأضاف إليه من المماليك السلطانية • من تفرس في الصدق والنصح والفروسية • وانتظرا قدوم العيد حتى يخرجوا بعده • • ذكر خلاص الملك العزيز وهروبه من السجن • ولما خلعوا الملك العزيز كان مولانا السلطان تكفل أمره واختشى من حادث يحدث عليه فإن جماعة منهم قرقماز أشاروا على مولانا السلطان يأمر في حق الملك العزيز فقال معاذ الله أن أوصل إليه مكروها أو سوءا أو آذن في ذلك ولا خطر لي يوما من الدهر أن ألقى الله تعالى بأذى طفل لم يترتب عليه شيء ثم وكل به من جماعته وذوي الشفقة عليه من يثق به ليطمئن خاطر الجانبين • ومولانا السلطان من قديم الزمان مفوض أمره إلى الله تعالى فكان الجماعة الأشرفية كان بينهم وبين من يحتفظ بالملك العزيز مواضعة أنهم يطلقونه وأرغبوهم • وكان له طباخ يدخل إليه
102ظ
المأكول • وكانوا يتعاطون نقب الحائط الذي ظنوا أن له منه خلاصا وفي الجملة كانوا يتعاطون أسباب ذلك بكل ما يمكنهم فإن البغاة كانوا عمالين فيما هم فيه من الفساد والطبع الردي ما يمكن إصلاحه فإنه لا تبديل لخلق الله • وما كان لهم متشبث إلا الملك العزيز ليتلفوا عليه • ويتسلقوا بسببه إلى أغراضهم الفاسدة • ونيل مأربهم الكاسدة • فيقيمونه صورة • وحجة يتمسكون به • وفي بغيهم وفسادهم • وغيهم وعنادهم • فبذلوا مجهودهم وارتقبوا الفرصة إلى ليلة العيد فبينما الناس مشغولون بالإفطار • ومهتمون بأمور العيد • وقد اخذتهم سهوة وغفلة كما قلت شعر • • واللص ليس له دليل ساتر • نحو الذي يبغي كنوم الحارس • عمد المرتقبون لتلك الفرصة فانتهزوها • وتوصلوا بالطباخ إبراهيم الذي يدخل إليه الطعام • فلما أدخل عليه الطعام ألبسه خلقان المرقدارية • وحمل خافقية أو شيئا مما يتعلق بالطباخين • وخرج من الأبواب في صورة صبي من صبيان الطباخين واستمر ذاهبا إلى عند اينال الأشرفي الذي كان أخبر مولانا السلطان أول الأمر بكيد الأشرفية • وما أضمروه إليه من السوء والإيقاع به إذا صعد إلى القلعة يوم الخميس للخدمة • وقد ذكرت ذلك في أول هذا المجلد • وحصل بذلك عند مولانا السلطان زيادة قرب واعتماد فكان يركن إليه • وعينه لإمرة الحج • وأفاض عليه من سابغ الإنعام ما لا يحصى • فلما وصل الملك العزيز إلى اينال المذكور اضطربت آراؤه • وتحير إذ ما أمكنه إخفاء ذلك عن العلوم الشريفة • ولا سمحت نفسه بإلقاء ولد استاذه في شيء يكرهه فتحير • وليته أطلع العلوم الشريفة على ذلك في وقته فإن مراحمها ما تقتضي أن توصل إلى الملك العزيز شيئا يكرهه يوما من الدهر • ولا عهد ذلك عنها • ولكانت مرتبته تزيد أضعاف ما كانت ولكنه افتكر عاقبة ذلك وإن كان فكرا حسينا غير أنه قدر الله وما شاء فعل فما وسعه إلا أنه
103و
اختفى ففي الحال شاع الخبر أن الملك العزيز خلص من السجن وهرب • فماجت الدنيا وحارت الخلائق • وازدادت الأمور اضطرابا • وتضاعفت المحن وزلزل المؤمنون زلزالا شديدا • وأعلنوا الكلام السوء • وبالغ العدو والحسود في الطعن • وتفاقمت الأهوال وتعاظمت الأحوال • ومولانا السلطان ثبت الله تعالى أركان دولته • وشيد بنيان صولته ثابت الجنان كما مر • • ذكر ما صنعه طوغان الزردكاش • هرب ضوغان الزردكاش من ساعته وخرج نحو الصعيد على الهجن إلى طرف المماليك الأشرفية الذين جهزهم مولانا السلطان صحبة السيفي يشبك المشد فوصل إلى [...] وقد اعيت راحلته فقال للمقدم [...] إني توجهت في شغل السلطان وقد كلت راحلتي فأعطاه هجينا غيره فتوجه إلى المماليك المذكورين ولم يدر أحد أين توجه طوغان حتى جاء ناس من [...] فأخبروا بما صنعه مع المقدم مع أنه كان قد توجه في طلبه ناس إلى الجوانب فلم يدركوه فلما وصل إليهم قال لهم إن بن استاذكم الملك العزيز قد تخلص من السجن واستولى على الملك • وقد قويت شوكته وضعف مخالفه • وقد قطع النيل إلى الجيزة • وإن اينال نائب الشام استولى علي الشام وممالكها • ونائب حلب استولى على الممالك الحلبية • وكلهم من جهة الملك العزيز فلا تلبثوا حتى تلحقوا به • وقلب الدنيا أعلاها على أدناها •وكان فيهم من له أدنى مسكة وفكر • وقليل تدبروا تعقل • فقالوا له نحن بالأمس كنا عزمنا على شيء وشركناك فيه فلم توافقنا عليه وخالفتنا • والآن جئت تخبرنا بخبر تفخذنا • ولا نعلم صدقك من كذبك • ثم إنهم اجتمعوا مع رؤسائهم وذوي أراءهم • عند السيفي يشبك المشار إليه وعرضوا عليه القضية • فخاف إن خالفهم أن يقع بينهم فتنة وشر فقال أنا واحد منكم فمهما رأيتم فيه من المصلحة تبعتكم فيه • فقالوا نقبض على طوغان • ونتردى
103ظ
في الأمر فقضوا عليه وقالو إن كان الأمر كما تقول فلا يضرك قبضنا عليك وإن كان بخلاف ما أنهيت فقد بيضنا وجهنا وفعلنا ما يجب فعله ثم قبضوا عليه وتوصلوا راجعين واتصلت من جهتهم الأخبار مختلفة • فمن قائل إنهم عصوا • وقبضوا على السيفي يشبك ورجعوا وهم على العصيان • ومن قائل إنهم مقيمون على الطاعة • وإنما رجعوا التلافي أمور المسلمين • ولنصرة مولانا السلطان • واختلفت الآراء في أمرهم • فبرزت المراسيم الشريفة بتجهيز المقر السيفي اسنبوغا الطياري • وكان إذ ذاك دوادار المقام الشريف • وعليه أمور الحل والعقد في الديوان • فإن المقر السيفي أركماز كان ضعيفا • فرسم له أن يتجهز ويقطع النيل إلى الجيزة مع الأهبة والعدة الكاملة ينتظر قدوم المذكورون • فإن كانوا صالحين قابلهم بما يليق بهم • وإن كانوا غير ذلك كفا المسلمين شرهم • وكان مستعد الرد كيدهم وأخذ الحذر منهم • فوصل الخبر عنهم بما ذكر وأنهم مقيمون على ما يرضي الخواطر الشريفة فسكنت بحمد الله تعالى هذا الفتنة وأجرى على طوغان المذكور ما كان يستحقه من الجزاء والنكال وكانت هذه الواقعة نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين • ثم إن الأمور استمرت مضطربة لفقد الملك العزيز وطلب هو واينال شرقا وغربا • وبرا وبحرا • واختلفت الأقاويل فيه على عادتها • فمن قائل إنه توجه إلى الصعيد وظهر كذب هذا الخبر بقدوم هذا العسكر الصعيدي • ومن قائل إنه توجه إلى الشام حتى بولغ أنهم رأوه على هيئة كذا • في موضع كذا • ومن قائل مختف في مصر حتى يخرج مع الحاج • وبعد خروج الحاج قيل إنه خرج مع الحجاج • ومن قائل إنه مختف في مصر وحصل بسببه على بعض الناس شدة وتضييق • لكن لما كانت الأمور مفوضة إلى قضاء الله وقدره جاءت بحمد الله سبحانه وتعالى على حسب المراد • ولله سبحانه وتعالى الحمد على نعمه التي لا تحصى •
104و
ذكر بروز العساكر المنصورة صحبة المقر السيفي اقبغا التمرازي إلى الشام • ثم إن القصاد تتابعوا من النواب والعسكر المقيم بغزة يستحثون العساكر والنجدة فتجهز المقر المرحوم السسيفي اقبغا التمرازي وقد تعين لنيابة الشام كما ذكر وصحبته المماليك الذين انتخبهم مولانا السلطان وهم ألف مملوك ومعهم الاستعداد التام وعليهم امارات النصر لائحة • وروائح السعد والظفر فائحة • وكل مؤمن ومخلص يدعوا لهم بالنصر والفلاح • واليمن والنجاح • فخرجوا من القاهرة يوم السبت ثاني عشر شوال المبارك سنة اثنين وثمانمائة • حتى وصلوا إلى غزة واجتمعوا بالنواب المقيمين بها والمذكورين آنفا • وتوجهوا إلى الشام وأرسلوا إلى العشران والمقدمين فجاء إليهم محمد بن عبد القادر من جبل نابلس وشبانه بن سليمان • وبن مشاق ومن معهم فتقدموا • ووصل الخبر إلى الشام أن العساكر المنصورة وصلت إلى الرملة وهم متوجهون إلى الشام فتجهز اينال لاستقبالهم فبلغوا إلى الخربة ثم خرج اينال لم يدر أحد أين توجه هل خرج لاستقبالهم أم خرج هربا منهم أم يريد أن يدور من ورائهم فصار الناس يتفوهون بأشياء • وكان خروجه يوم الثلاثاء تاسع عشرين شوال المذكور ولم يجسر أحد من الأمراء يخرج وراءه ثم في يوم الأربعاء انتخت الأمراء المقيمون بالشام وخرجوا صوب القبيبات يتجسسون الأخبار وعلهيم السلاح التام والأهبة الكاملة فتراءى لهم غبار فولوا الادبار منهزمين من غير أن يلوي أحد على أحد ويلتفت أحد لأحد ودخلوا المدينة وقصدوا القلعة فلم يفتح لهم نائب القلعة الباب وعيرهم بما فعلوا فاستمروا حول القلعة والبيمارستان وتلك النواحي وهم مشتتون فقال في ذلك بعض الناس تمرغت الحمارة • فثارت الغبارة • هربت الإمارة •
104ظ
ذكر تلاقي العساكر المنصورة مع اينال وكيفية الواقعة • وكسرته وخذلانه • ثم في يوم الأربعاء المذكور تلاقى العسكران بالقرب من قرن الحارة وكان في الجاليش من العساكر المنصورة المصرية محمد بن عبد القادر ومشايخ البلاد صحبة السيفي طوغان نائب القدس فلاقاهم اينال فحطمهم فولوا على ادبارهم وكان وراءهم سائر النواب المذكورين صحبة السيفي اقبغا فوصلوا بالجاليش وتقدم اينال الأجرود نائب صفد • وطوخ ماري نائب غزة • فمشى اينال الحكمي عليهم فكسرهم وقنطر نائب غزة طوخ بعد أن قاتل قتالا عظيما فعروه وسيبوه وانكسر غالب العسكر المنصور المصري كل ذلك والمماليك السلطانية لم يصلوا بعد فوصل العسكر الطرابلسي وفيهم المقر السيفي بجلبان نائبها • وكان قد عين لنيابة حلب فقاتلوا قتالا شديدا وكان له دوادار يدعى سبور غتمش العجمي من الأبطال المعدودة • والفرسان المشهورة فتقدم وقصد اينال فابتدره قاني صور وضربه بالطبر فقتله او قتله اينال الحكمي على ما قيل رحمه الله وتقدم أيضا مملوكان أخران كانا من فوارس الأبطال وقاتلا حتى قتلا لم أعلم أسماءهما • ثم أقبل المقر المرحوم اقبغا التمرازي بمن معه من العسكر المصري فتقدم إليهم اينال الحكمي بمن معه وبذل مجهوده فيهم وصال وجال وانتسب وقال انا اينال فسار لا يقصد جهة إلى حطمها فصاروا معه في كر وفر ثلث مرات ثم إنه أنكى فيهم ووصل إلى أقبغا التمرازي • وكان شيخا مسنا غير أنه كان من الفرسان فحطمه اينال ثلث مرات إلى أن قال هي أغا مروت وصار يهشم الرماح • ويجندل الأبطال • ويذل كل من العسكرين جهده وصد العسكر المصري الضراب والقتال ونصح الله ورسوله • غير أن اينال الحكمي استظهر عليهم وردهم على أعقابهم • وبلغت اشدة غايتها • وأخذت الفتنة
105و
نهايتها • وأحاط بالعسكر الكسر • ووقع النهب فيهم والأسر • وأيسوا من الحياة • وإذا بالمماليك السلطانية • والعصابة الظاهرة الظاهرية • مع قرا خواجا بدرت كالبدور • وخرجت من وراء التل من جهة الشرق بالنصر والحبر • والفتح قائدهم والنجح رائدهم • والقضاء مرشدهم • والقدس مساعدهم • فشرعوا نحوه في ظلمة تلك الغبرة اسنه • كأنها نجوم الهدي في الدجنة • فأقبل إليهم كالأسد الغضبان • والنمر الحردان • وقابل وقاتل • وحاول وجاول • وأخذ الراية بيديه • وفعل ما وصلت قدرته إليه • إلى أن كل ساعده • وقل مساعده • وبردت همته • وسقط حوله وقوته وتراجعت رجاله • وجندلت أبطاله • ونهبت أثقاله • وتحولت أحواله • فولي الأدبار وقد بار • وعلى رأسه غبار عثار • وخبره بالانكسار ثار • وصيت نصر العساكر الإسلامية إلى الأقطار طار • وإلى الافاق بالانتصار صار • فأخذ من قبطي الغوطة موليا نحو الشرق حتى وصل إلى حرستا فاختفى هناك في مكان وهو وحيد لم يكن معه أحد وقد قتله الجوع والتعب • والخوف والنصب • فأعطى شخصا يدعى ابن حريكة شيئا يشتري له به شيئا يأكله وأخبره أنه اينال الحكمي واستكتمه امره واستوثق منه أنه لا ينم عليه • ولا يعلم به سوى بكري بردي مملوك القاضي شهاب الدين بن الكشك الحنفي فإن أولاد اينال وبعض ما كان يخاف عليه كان مودعا عند بكري بردي المذكور • ثم نقلهم على ما قيل عند الخواجا بن الوىق فأسرع القاصد إلى بكري بردي وأخبره الخبر فخاف على نفسه وعلم أن هذه القضية لا يمكن اخفاؤها ولا كتمها وكان السيفي جانبك دوادار السيفي برسباي صاحب الحجاب صديقا له فتوجه في الحال إليه وأعلمه بصورة القضية فمن فوره ركب وذهبا وأخذا معهما جماعة قليلة وتوجها إلى حرستا ونزلوا عليه نزول القضاء المبرم فحين رآهما أيقن بنزول البلاء • وحلول القضاء • فهاش عليهما فضربه ركاب كان معهما
105ظ
فشجه • ثم تكاثروا عليه وقبضوه وأخبروا نائب القلعة بذلك فنزل من ساعته من القلعة وتوجه لاستقباله فوافاهم قريبا من مسجد القصب وهو مجروح فنزل إليه وقبل ركبته وتسلمه منهم ومشى في خدمته إلى ان أدخلوه القلعة المنصورة وذلك قبيل الظهر يوم الخميس المبارك ثاني ذي القعدة الحرام سنة إثنين وأربعمائة لطيفة ذكر أن اينال المذكور رأى مناما فقصه على بعض الناس فقال له يدل على أنك تدخل القلعة راكبا لكن على الحالة التي ذكرت وقضاها الله سبحانه وتعالى عليه • ونظير ذلك ما رأيته في كتاب جامع الحكايات في باب الحرص والشره إن شخصا كان حريصا على الرئاسة وجمع المال والترفع يود أن لو وصلت يده إلى حطام الدنيا وتوسع فيها فكان يبذل مجهوده ويكدح ليلا ونهارا ويكد نفسه ويتعب بدنه وروحه فرأى مناما قصه على معبر فقال له لكن البشارة فإنك ترث ميراثا يكون محمله ثقيلا ففرح بذلك وابتهج وتصور أن ذلك يبلغه إلى ما يريده من الترفه ففي العيش والتوسع في الدنيا ثم افتكر في أنه إذا ورث وكثر ماله لا بد له من دار واسعة • ومنزل فسيح • يترفه فيه • ويضبط ماله من معلقات • وربما يكون له دواب ومواش فأدى رأيه إلى أن اشترى قطعة أرض بالدين وأنشأ فيها عمارة واستدان شيئا واشترى به حمارا ينقل عليه التراب والأحجار • وشرع يستعمل ذلك الحمار • ويبذل جهده وغلب عليه حرصه إلى أنه صار لا ينام الليل ولا يسكن بالنهار • وذلك الحمار معه في أشد ما يكون من التعب والجوع والنصب والشقاء يقاسي مالا يعلمه إلا الله وهو أيضا في غاية الشدة • ونهاية الكد والشقاء • وقد استبطأ الميراث • ولم يكن معه شيء يطعم الحمار فمات حماره من الجوع والتعب • والهزال والنصب • فحمل بردعته على ظهره وجاء بها إلى منزله • فصادف العبد في طريقه فصب عليه وشكي حاله إليه • وقال له يا أخي كنت عبرت لي مناما أن أرث ميراثا وقص عليه القصة
106و
إلى إن قال فمات حماري وهذه بردعته قد أثقلتني فقال له المعبر يا أخي منامك ليس بمنام يوسف الصديق عليه السلام ولا رؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام وعلى تقدير أن يكون صحيح التعبير فيها قد ورثت البردعة • وهذا الذي قدر الله لك أن ترثه فلا تغالب القضاء والقدر • وإن أردت أن تسعد نفسك بيدك فهذا أمر لا يصعد معك فمن غالب القضاء غلب • ومن ناهب الزمان سلب • ومن لم يرض بما قدر الله تعالى وقسمه له قبل خلقه تعب والسلام • ذكر دخول العساكر المنصورة إلى الشام ثم إن العساكر المنصورة صحبة المقر السيفي المرحوم اقبغا المرازي نائب الشام دخلت يوم الجمعة ثالث ذي القعدة الحرام بالهيبة الكاملة • والسرور التام • والنصر والنجح • وقد انكشفت بحمد الله تعالى الغموم • وانجابت الهموم وهرب قاني صو • وتفرقت البغاة • وتشتت شمل الطغاة • وحملت المنافقون هم اينال • وتشوش عامة الأوباش • وصاروا في هرج ومرج بسببه • والحاصل أنه انسر كل صديق صادق • وانهم كل زنديق منافق • • ذكر مراسلة شيخ العرب بليان • وكان حاجب الحجاب برسباي أرسل إلى بليان شيخ الكرك مطالعة أن يجمع العشران وما تحت يده من المسلمين والروافض والنصارى وجميع جماعات البر ويحضر معهم إلى الشام • وأرسل المطالعة إلى الصارم مقدم الزيد أني ليوصلا إلى شيخ الكرك • فاطلع على ذلك اينال الحكمي فأرسل إلى الصارم المذكور وأتى به ليلا وصلبه تحت القلعة ظلما وعدوانا ولكن اتصل هذا الخبر إلى بليان فأمر من تحت يده من العشران المسلمين والنصارى فاجتمعوا وأجمعوا أمرهم وكيدهم ثم انتظروا قدوم العساكر المنصورة فلما قربت توجهوا إلى الشام غير أنهم عاثوا
106ظ
في البلاد ومدوا أيديهم إلى ما وصلت إليه من حريم الناس وأولادهم وطغوا وبغوا واستطالت النصارى على فلاحي المسلمين وتعدوا طورهم وكانوا نحوا من سبعة آلاف نفس فلما عزمت العساكر المنصورة على الدخول دخل بليان أيضا في اليوم المذكور بمن معه من العشران المسلمين والنصارى فصاروا يعتدون على الناس ويعبثون كما ذكر وفعلوا ذلك أيضا في القبيبات • وكان أهل الشام يكرهون بليان لكونه رافضيا وكان هو أيضا يكرههم وجرى له مع أهل السنة والعشران أمور وحكايات وقضايا ووقعات • يطول شرحها • فحين أمكن الله تعالى من اينال والناس مغتمون بقضيته وصلت العساكر المنصورة • وأقيل بليان المذكور في حضرته وطائفته الملعونة وهم على ما هم عليه من التعدي • مد أيدي البغي إلى الناس • فما وجد الناس لبرد غليلهم • وشفاء غليلهم من جهة اينال • الا سب الرافضة • وتناولهم بالشتم واللعن وكان السيفي فارس نائب القلعة على باب الجابية منتظرا قدوم العساكر المنصورة • فسل واحد من الرافضة الدبوس على واحد من العوام فشتمه نائب القلعة فرد عليه فقال نائب القلعة يا مسلمين عليكم بالرافضة لكم المال والروح فارحموهم فرحموهم وأخذوا في تشتيتهم • والخوض في دمائهم • فكبروا تكبيرة واحدة ارتجت لها الأرض وقتلوا ولده حزبان وهرب ولداه علي وموسى • واخذ بليان على السريجة من باب الجابية • وتوجه لا يدري إلى أين يذهب فسد الله تعالى الطرق في وجهه فرجع بعدل فضل إلى المزة • وصار أينما توجه يصادف الخلق ومعهم الحجارة والعصي فقبضوا عليه من طريق المزة بزقاق يقال له زقاق الماء وأرادوا أن يوصلوه حيا إلى المدينة فخافوا أن يخلص من أيديهم فقطعوا في الحال رأسه وأخذوه على رأس عصا وذلك قبل صلاة الجمعة وكان رجل فلاح معه حمل شيخ على حماره فقال معاشر المسلمين والله إني رجل فقير وقد جمعت هذا الشيخ لأبيعه
107و
وأتوسع به أنا وعيالي ولكن جعلته لله في حب الصحابة وأبي بكر وعمر فأحرقوا جسد هذا الرافض الخنزير به ففعلوا ذلك وأحرقوا جثته وجاؤوا برأسه على القلعة فقال لهم نائبها ما أصنع به افعلوا به ما بدا لكم فطافوا به بعد صلاة الجمعة على قصبة وهم ينادون هذا جزاه وأقل جزاءه من يبغض الصحابة • ويسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهم • وفي أثناء ذلك مد الناس أيديهم إلى العشران والطوائف التي كانت مع بليان وتتبعوهم فجعلوا يفرون من بين أيديهم فكان أدنى جعيدي وحرفوش يقف في طريق جماعة منهم وهم كاملون العدة شاكوا السلاح والخيل الطيارة السوابق فيرميهم عن خيلهم ويسلبهم أسلابهم • ويجرحهم ويقتلهم كيف ما يختار • والقى الله تعالى المذلة والكسرة عليهم فقتل منهم طائفة • وتجرحت جماعة وما نجا منهم إلا السادة • والقادة • واشتغل المسلمون بحكاية بليان وجماعته عن قضية اينال • وكانت وقائع تسر كل مؤمن وتغم كل منافق وطاغي وهمدت الفتن وطغيت نيران المحن • واستمر اينال في القلعة ولما دخل المقر السيفي اقبغا إلى الشام دقت البشائر واطمأنت الخواطر • وطيرت إلى أطراف الأفاق بطائق السعد والبشارة • على الخصوص إلى القاهرة • إلى يوم الإثنين العشرين من ذي القعدة المذكور وورد مرسوم شريف بإجراء • أحكام الله تعالى على اينال قصاصا بدم الصارم رئيس الزبداني فقدم ومن جهات • اخر فامتثل ذلك بالسمع والطاعة وذهب برأسه إلى القاهرة فوصل إليها وثمانمائة ولا تحقق الكر السنا إلا بأهله ذكر توجه العساكر المنصورة إلى حسم مادة الخارجي بكري ديرمش وكيفية قتله • ولما قبض على اينال ورفع إلى القلعة المنصورة وحبس بها لم تلبث العساكر المنصورة أن استعدت وتوجهت إلى صوب حلب لقطع دابر التراكمة وحسم 107ظ مادة الطائفة الطاغية الظالمة وكان قد علم هو أيضا أنه مكسور ومأخوذ ومقتول ومنبوذ • فإن الدمار قد حل بأكبر منه • والبوار قد شمل الأشجع والأمثل • وهو بالنسبة إلى اينال الحكمي لاشيء • ولان أموره من أول الزمان كانت معكوسة ورايات أرائه منكوبة منكوسة • وكان نازلا على حماه كما ذكر فحين سمع أن العساكر المنصورة توجهت إليه • أحاط به البلاء وتراكمت المصائب عليه • فلم يقاتل فضلا أن يواجه ويقاتل • فطلب لنفسه الخلاص • ولغلت ولات حين مناص • فتوجه إلى التراكمة السارجية • فقبل أن يصل العساكر المنصورة الشامية والمصرية • تبعته العساكر الحلبية ومن معهم • صحبة المقر السيفي سودون النوروزي الملك الظاهري • وهو إذ ذاك أمير التراكمة بالممالك الحلبية • وأمير دوادار السلطان بالممالك المذكورة • بيردي بك العجمي الملك الظاهري • وقطج الظاهري • وغيرهم فقبضوا عليه باليد من غير تعب ولا مشقة • وانقل عنه جنده وحاشيته وسلبت نعمته وحشمته • إذ قابل نعمة الله بالكفران • فلم يبق بيده من ذلك الذبح سوى الخسران • ثم أتوا به إلى حلب وسلموه إلى نائبها السيفي حطط • وكتبوا بذلك إشهادات أنه تسلمه منهم • وبادروا بإرسال النجابة والمبشرين إلى المواقف الشريفة • وأطراف البلاد • والممالك الإسلامية بهذه الأخيار • وماتضمنته من مسرة الأخبار • ومضرة الأشرار • إلى أن برزت المراسيم الشريفة • أن يجازي بما ارتكبه من الأفعال ويجهر على رفيقه اينال • وكذلك يفعل بأخيه في ملطيه • وذلك في ذي الحجة سنة اثنين وأربعين وثمانمائة • فامتثلت المراسيم الشريفة • وعمت الدنيا شرقا وغربا هذه البشائر اللطيفة الظريفة • الحمد لله على نعمة التي لا تحصى • ومننه التي فاتت الحصر والإحصاء • وصلى الله على سيدنا محمد واله وصحبه وسلم • وحسبنا الله ونعم الوكيل •
108و
تتمة ما جرى في أثناء هذه الوقائع في مصر والشام على الحجاج وغيرهم وكيف وجد الملك العزيز يوسف برسباي ولما وقع هذا الخباط في الممالك وهرب الملك العزيز وتخبطت الدنيا واضطربت • واهتزت الفتن ودبت • حتى كأن السماء على الأرض انقلبت • لم يحمل مولانا السلطان نصره الله نصرا عزيزا • غير هم الحجاج ولا التفت إلى ملك ولا إلى سلطنة فإنه كان وقت الحج قد قرب والناس تسامعت بولاية مولانا السلطان فأقبل من سائر الأطراف • والأكناف خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى وخاصة من أعيان العجم وخراسان • وأكابر الروم وممالك بن عثمان • وكان منهم الأمير الكبير المجاهد المرابط • المناغر الغازي إسحاق بك ضابط أحد ثغور الروم • وله قدم ثابت • وقدم في إبادة الكفار والفتوحات • وتجهيز السوايا • وحفظ عساكر المسلمين • وثغور الموحدين فأقبل في عدد كثير • وجم من أعيان تلك البلاد غفير فقدم الشام وأرسل هدايا فاخرة ملوكية • تليق بحشمته إلى الأبواب الشريفة فقوبل بأضعاف ذلك وتوجه على القدس الشريف • وضع مصروفا كثيرا • وكان منهم أيضا قاضي سمنات • من ممالك خرسان • السيد الشريف عميد الملك أخو إمام المقام الأشرف السيفي شاهرخ • ومعه جماعة من أعيان التجار وأعاظم الأعاجم بتلك البلاد ومنهم الشيخ الجليل قطب تلك البلاد [...] [...] فتوفي في الرجعة من درب الحجاز واستصحب في محفة إلى دمشق فدفن بها وغيرهم من الأكابر والأعيان والتجار جماعة لا يحصون كثرة فلما وقع هذا الخباط والعصيان تشوشت خواطرهم • وتكدرت ضمائرهم • إذ هم غرباء تركوا أوطانهم وفارقوا أولادهم وإخوانهم • فزاد هذا كسرا على كسرهم • وصغيرا على صغيرهم • وأما مولانا السلطان فإن ضميره الشريف لم يكن فيه سوى
108ظ
إعلاء كلمة الله تعالى بتعاطي أسباب الغزاة ومحاربة أعداء الله • وتمهيد درب الحجاز الشريف ولم يل مصالح المسلمين والسلطنة إلا لهذين الأمرين فقط • وقد مر بيان ذلك وذكره ولما وقع ما وقع جعل يندب ويقول يا ليت هذا العصيان كان بعد خروج الحجاج وليتهم صبروا حتى فرغ وفد الله من أمرهم فإنهم قد قدموا من بلاد بعيدة وقاسوا أهوالا ومشقة شديدة ترى كيف يكون حالهم • وماذا يبلغ البلاد الشاحطة • إذا قيل إن بلاد الشام الذي هي مهبط رحال الأنبياء عليهم السلام • ومحط رحال الاولياء رضي الله عنهم • وباب طريق الحج • قد وقع الخلاف والعصيان • بين أمرائها وكبرائها • وكل منهم يدعى الإسلام • وقد رفع فيهم البغاة أيديهم • وبغى بعضهم على بعض فأي حرمة تبغي لنا ولبلادنا يغتنم الولي ويلهث الحسود والعدو • وماذا يبغى لنا من الحرمة والعزة بين الملوك والسلاطين • إذا اختلفت آراءنا • واصطدمت أهواءنا • ثم يبكي ويتأسف • ويتلهف ويتضرع إلى الله تعالى ويقول هذا تقدير الله سبحان من لا يسأل عما يفعل • ومع هذا فإن الخواطر الشريفة والاعتقاد الصالح الشريف كان متمسكا بالاعتماد على الله تعالى خاضعا لما يرد من الفتوحات الغيبية والمساعدات الإلهية • منتظرا لما عوده الله تعالى من الفرج القريب • واللطف العجيب • فسبحان من يظهر قدرته • وينشر رحمته • وهو الولي الحميد • ثم إنه دنا وقت الحج والملك العزيز لم يوقف له على عين ولا أثر • ولم يسمع له بكيفية حال ولا خبر • ذكر خروج الحاج المصري من القاهرة • ثم إن الحاج المصري خرج يوم السبت تاسع عشر شوال المبارك من السنة المذكورة إلى البركة • وكان قد عين لإمرة الحاج اينال الأشرفي المذكور وبرزت له من الصدقات الشريفة من الهجن والنفقة وسائر ما يحتاج إليه من الاستعدادات
109و
اللائقة بالملوك • ولما وقعت قضية الملك العزيز واختفى اينال المذكور كما ذكر أخذ ما وجد من ذلك وأعطى للمقر السيفي تاني بيك أمير حاجب الحجاب بمصر كان ثم نائب القلعة المنصورة فتهيأ إلى الحجاز الشريف والأمور على ما هي عليه ورحل من البركة يوم الأربعاء ثالث عشري الشهر المذكور• ويوم الجمعة خامس عشرينه ورد نجاب بقبض شاهين وياقوت الأشرفي ورجعوا بهم من عجرود • ويوم الثلاثاء تاسع عشرين شوال ورد نجاب آخر وقبضوا سرور الطواشي الطرباي وحصل له إهانة وفتشت أحماله ورجعوا به فقال في أثناء ذلك وهو يبكي يا سيدي يرسول الله أنا قصدت زيارتك والتوجه إليك فعاقني عنك من افترى علي ونزل بي ما ترى فإن كنت بريء الساحة فأنت شفيعي ووسيلتي إلى الله فلا تحرمني زيارتك • وإن كنت غير ذلك فها أنا ألاقي جزاءي • وتضرع تضرعا رق له الناس • ولم يوجد في أحماله إلا قمصان وأشياء أعده للتصدق بها على الفقراء بالحرمين الشريفين فقط من أمتعة وغيرها فذهب به ثم في ثاني يوم رجع سرور المذكور إلى القافلة وهو منشرح الصدر • وذكر أن الملك العزيز وجد مع مملوك له يقال له ازدمر وإن المقر الأشرف • الناصري ولد المقام الشريف أخذه وتوجه صحبته إلى بين يدي المواقف • الشريفة وحصل له الجبر التام • وانشراح الصدر • فحصل للناس السرور • واستبشروا برجوع سرور إليهم وتفاءلوا بذلك • ثم في العقبة انقطعت الأخبار في يوم الخميس ثاني عشرين ذي القعدة والحاج في الينبع ورد نجابه مأخوذين في دارين البقر ذكروا أنه كان معهم مطالعات أخذت منهم وإن اينال الأشرفي وجدوه وأرسلوه إلى اسكندرية ووصل الحاج إلى مكة المشرفة يوم السبت ثالث ذي الحجة وصل المبشر إلى مكة وهو أمير أخور وعلى يده خلعة شريفة سلطانية لسلطان مكة وأخبر أنهم كسروا اينال الحكمي وقبضوا
109ظ
عليه • وإن المقر السيفي أقبغا التمرازي استقر نائب الشام • فدقت البشائر • وتباشرت الحجاج • كان عندهم أعياد • وحصل لهم السرور والفرح وانشراح الصدر بما لا مزيد عليه بنيل المقصود من جهات عديدة • فإنهم خرجوا من مصر وهم في شدة عظيمة وبلاء شديد • وقد تركوا أوطانهم وأولادهم • ولا يدرون الأمور تصير إلى ماذا فلما ورد هذا المبشر تكاملت أفراحهم • ودعوا من تلك الأماكن الشريفة لمولانا السلطان بالنصر • وبقاء الأيام • ولم يزالوا كذلك حتى قدم الوفد الشامي فأخبروهم الخبر فإن الركب الشامي أيضا خرج والأمور لم تنفض ولم تنجلي عن تحقيق شيء فحصل لهم من السرور والحبور ما لا يمكن عده ولا حصره • وتضاعفت الأدعية لمولانا السلطان في تلك الأماكن الشريفة • واستجاب الله سبحانه وتعالى منها • فإن الله تعالى أكرم من أن يرد قاصده خائبا • وخاصة في تلك الأماكن الشريفة • وإن شدة أهل الشام كانت أقوى بالنسبة إلى شدة أهل مصر • ولم يزالوا كذلك إلى أن قضوا مناسك الحج • وكانت الوقفة يوم الجمعة والسبت فتضاعفت الأدعية في هذين اليومين العظيمين لمولانا السلطان • وتضرعوا إلى الله تعالى بكشف البلاء عنهم • ومآل القضية إلى ما فيه خيرتهم وصلاحهم وصلاح أمور المسلمين • ونصر مولانا السلطان وكسر أعدائه • ولقد شاهدت أمارات الإجابة من كرم الله تعالى • وحاشا كرم الله تعالى أن يخيب من سأله • وخاصة في ذلك المقام الشريف والأماكن المفعمة • لا سيما ومعهم الغرباء والصلحاء ومن ترك أولاده • وأحبابه وأوطانه • وقصد باب مولاه متدرعا أكفانه • وقد صادف في الشام من الشدة والبلاء ما لا مزيد عليه • ثم لم يمكنه التصبر حتى ينظر مآل القضية إلى ما ذا فما وسعه إلا الأخذ في الأهبة والتوجه إلى الحج • وخاطره مشوش وفكره موزع • وعيشه منكد • وقلبه مكسور • فاستجاب الله تعالى بكرمه إليهم دعاهم
110و
فلم يرجعوا إلا والأمور بحمد الله تعالى في البلدين مصر والشام قد عادت إلى أحسن ما كانت هذا ما يتعلق بالركب المصري ذكر أمور حجاج الشام • ومن معهم من الأعجام والأروام • وأما ما يتعلق بحجاج الشام • ومن معهم من الأعجام والأروام • فإنه لما عصى اينال الحكمي في شهر رمضان تخبطت أمور الناس وصاروا في مصادرات • واراجيف وخباطات • واستطالت الظلمة المعتدين • وفرع محمد الاستادار أنواع الظلم على الناس فتعطلت اسبابهم ومعايشهم • وتخبطت أحوالهم وكسدت • بضائعهم • التي كانوا أعدوها من السنة إلى السنة للحجاج كما مر ذلك • وكانوا في حصر وضيق لا يعلمه إلا الله تعالى • وإذا كان أهل البلد كذلك فما ظنك بالغرباء المساكين وكان الأمير إسحاق المذكور قد توجه إلى القدس الشريف فزاره ورجع فلما تخبطت أمور الناس • وكان له قاصد توجه إلى الأبواب الشريفة ورجع إليه بأحسن جواب • وأيمن خطاب • مع إنعامات وافرة • وصدقات متكاثرة وكان الأمير إسحاق قد عزم على أن يصنع في طريق الحجاز من أنواع البر والصدقات أشياء عظيمة فإنه في بلاد الروم كان له مدة مديدة • قد حصل فيها من الغنائم والفيء أموال الكفار شيئا لا يعلمه إلا الله تعالى فكان قصده ينفق ذلك كله في طريق الحج بحيث أنه تكفل لكل من كان معه من التجار والأعيان أن لا يصحب أحد منهم معه زادا ولا راحلة • وأن يصحب معه من الزاد الحلو والحامض • والآن الأطعمة المفتخرة ما يعجز عنه أمثاله من الملوك • ويكتري من الماء مائة جمل للسبيل خاصة خارجا عن الماء الذي له ولجماعته • فلما وقع العصيان تشوش خاطر الكبير والصغير وكان قد تعين لإمرة الحاج سيدي رجب بن قرا وبرزت المراسيم الشريفة
110ظ
له بثلاثة آلاف دينار لعمل مصلحته من الذخيرة الشريفة فمنع ذلك اينال الحكمي فقال الناس أن السنة لا يخرج من الشام ركب • وتشوشت الخواطر • وتنكد عيش الغرباء • وكان الأمر كما رسم به مولانا السلطان فإنه حصل للحاج وخاصة الغرباء غاية النكد والتشويش لك بعناية مولانا السلطان فرح الله تعالى وكشفه ولله الحمد فاجتمع الناس الغرباء إلى الأمير إسحاق • وشكوا ضرورتهم إليه • فأرسل إلى اينال يقول نحن ناس غرباء • قد جينا من بلاد بعيدة قاصدين اذا بغرض العمر • وقد تكلفنا من المشاق والنفقة ما يخفي عن علمكم الكريم • ومعنا أناس وجم غفير • وعدد عديد • وقد انصبنا الأبدان والرواحل ولا يمكننا التأخر • وقد ظهر من تقدير الله تعالى وقضائه ما لا يخفي • وكانت المراسيم الشريفة السلطانية • برزت لأمير حاج بشيء يستعين به على عمل مصالحه • والقيام بما هو بصدده • وحصل له عائق عن صرف ذلك إليه فإن اقتضى رأيكم فأنا أقوم بذلك من مالي وصلب حالي • ولا أكلف أحدا إلى ما قيمته الدرهم الواحد غير أن المقصود من مراسيمكم أن تنادوا لحجاج بلادكم بالخروج على جاري عادتهم بحيث أنه لا يشوش على أحد منهم فإنهم يخافون من حواشيكم • وحاشاكم أنتم من ظلم الرعية • وإنما يختشون من أحد يتسلط عليهم أو يتسبب لهم في إيذاء • وأنا أشفع عندكم فيهم • وإن أردتم من أحد منهم شيئا فأنا أقوم به كل ذلك ليكونوا رفقاءنا فإنا لو قدرنا على التوجه إلى الحجاز الشريف وحدنا فعلنا ولكن لا بد من مرافقة القافلة الشامية لأنا غرباء لا نهتدي لسلوك طريق الحج إلا مع من يعرف دربته وطريقه لأن سفر الحج لا يشبه بسائر الأسفار وفي الجملة مهما رسمتم فعلنا ومهما طلبتهم بذلنا • ولكم الفضل إذ لو بذلنا جميع ما في أيدينا لنيل هذا المقصود كنا نحن الرابحين • والمتوقع من صدقاتكم العزيزة • أن لا تخيبوا سؤالنا • ولا تمنعونا قصدنا • فعند ذلك سمح اينال بخروج الحاج • وكان رجب بن قرا مختفيا
111و
فنادى له بالأمان • والظهور في ظل الراحة والأمن • وأخذ الناس في عمل مصالحهم وتهيئة أسبابهم • إلى الطلوع إلى الحجاز الشريف • ولم يخرج غالبهم إلا مختفيا هاربا من محمد الاستادار • فإنهم كانوا في مصادرات وطروحات • فاجتمعوا في خان بن ذي النون وأصابهم فيه من الأمطار والأحوال ما لا يعلمه إلا الله تعالى • وخرج الركب الشامي في أرغد عيش • غير أن الناس كانوا منكدي العيش • مشوشي الخاطر • ولكن الله تعالى لا يضيع من قصده • ولا يخيب من سأله • فحجوا حجة مباركة هنيئة ورجعوا • فوجدوا البلاد على أحسن حال • وأنعم بال • ولله الحمد • • ذكر خبر الملك العزيز • وكان من أمر الملك العزيز أنه لما خرج من القلعة وتوجه إلى اينال الأشرفي كما ذكر واختفى اينال ووقع الخباط استمر الطلب له حتى خرج الحاج وكثرت الأقوال فيه فمن قائل إنه توجه إلى الصعيد ومن قائل إنه توجه إلى الشام ومن قائل إنه منتظر خروج الحاج حتى يخرج معهم ومن قائل إنه مختف في مصر واضطربت الأحوال • كاضطراب الأقوال • حتى خرج الحاج • وقالت الناس أنه معهم • وأرسل وراء شاهين وياقوت ورجعوا بهما • ثم رجعوا بشرور الطراباي كما ذكر • وإنما كان مختفيا في مصر يتردد فيها بالليل ويضرب اللثام • مع بعض مماليك من مماليكه • ويمشي في الأزقة في هيئة مغيرة • حتى شاع خبره • وسمع به واحد من الأمراء • كان يأوي إلى زقاقه فرقبه ليلة من الليالي وهي من أواخر شوال سنة اثنين وأربعين وإذا به قد مر مع مملوك يقال له أزدمر كأنه كان لألته أم من جهته وهو في هيئة فقيه وتحت ابطه كتاب فصاح ذلك عليه وقال له من أنت فلم يرد عليه فتبعه فهرب منه واختفى في بيت فلم يزل يتتبع أثاره حتى ظفر به وأتى به من باب السلسلة بعد عشاء الأخرة وأخبروا البواب أنهم وجدوا الملك العزيز فأخبروا المقر الأشرف الناصري
111ظ
سيدي محمد فأخذه وذهب به إلى المواقف الشريفة فإذا مولانا السلطان واقف يصلي واشتهر وشاش بين الحاضرين أن الملك العزيز وجد وأعلن بهذا الكلام وصرح به • ومولانا السلطان مشغول بالله تعالى لم يرفع لذلك طرف • ولم يتقيد بشيء من ذلك حتى أتم الصلاة على أحسن حالاتها • وأتم أركانها • ولما فرغ من الصلاة وأحضروا الملك العزيز بين يديه وقال له بأحسن ملاطفة يا ولدي ماذا رأيت منا وما فعلنا معك من الإساءة والأذى • حتى شوشت على نفسك وعلى الناس ثم أمر بإكرامه وإعزازه كما كان وأرسله إلى مكان محتفظا عليه مما يؤذيه • استقرت الأمور بحمد الله تعالى على أحسن حال • وأيمن40 بال • واستقر في نيابة الشام المقر السيفي اقبغا التمرازي • إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى في شهر ربيع الأول من شهور سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة كما سيأتي في حوادثا • وفي نيابة حلب المقر السيفي جلبان نائب طرابلس إلى أن انتقل إلى نيابة الشام بعد السيفي أقبغا المذكور وصار مكانه بحلب قانباي الحمزاوي انتقل إليها من طرابلس واستقر مكانه المقر السيفي برسباي أمير حاجب الحجاب بالشام كان • وفي حماه المقر السيفي بردي بك العجمي • وفي غزة طوخ مازي إلى أن توفي إلى رحمة الله تعالى واستقر مكانه طوخ • وفي نيابة صفد اينال الأجرود • وفي نيابة القدس طوغان • ذكر الحوادث في سنة أحد وأربعين وثمانمائة نقلت في تاريخ الشيخ الإمام العلامة تقي الدين المقريزي أبقاه الله تعالى في مصر في أول شعبان سنة اثنين وأربعين وثمانمائة أن الملك الأشرف كان قد حصل له ضعف في سنة أحد وأربعين وثمانمائة • قلت وكان في سنة أربعين وثمانمائة رسم أن لا يلبس أحد قبعا أحمر ولا يجلب إلى مصر وينهب من كان عنده شيء من ذلك وأمر بإشهار المناداة في ذلك وتعطلت أرباب ذلك الصنف وتجاره
112و
ورسم في هذه السنة أيضا أن لا تخرج امرأة من بيتها وشدد في ذلك بحيث أنهم كانوا يؤذون النساء إذ لقونه في الشوارع • وتعطلت غالب معائش الناس والتجار لأن بيعهم وشراؤهم كان مع النساء • وساءت أخلاق الملك الأشرف • وحصل في سنة أحد وأربعين طاعون في القاهرة فاتفق أن امرأة مات لها ولد بالطاعون وكان واحدها فوجدت عليه فلما جهزوه وأخرجوه من الدار ليضعوه في التابوت أرادت أمه الخروج وراءه فمنعوها للمرسوم المتقدم من تشييعه فحملها الوجد وقلة الثبات على الصعود إلى أعلى الدار وألقائها نفسها إلى الأرض فماتت فرق لها الناس ودعوا على من اضطرها إلى ذلك • وخرجت امرأة أخرى إلى أمرهم اضطرت إليه فصادفها دولت خواجة متولي الحسبة • وكان ظالما فصاح بأعوانه أن يأخذوها ويأتوه بها ليضربها فقبضوا عليها فدهشت ووقعت مغشيا عليها وذهب عقلها من شدة الخوف فشفع بعض الناس فيها فتركت وانصرف المحتسب عنها فحملت إلى دارها وقد اختلت وفسد عقلها فمرضت مدة • وفي يوم الجمعة تاسع شوال سنة واحد وأربعين رقى الخطيب بالجامع الأزهر المنبر وخطب واسمع الناس وجلس الجلسة المعهودة بين الخطبتين فأطالها ثم قام وجلس واستند إلى جانب المنبر قدر ما يقرأ القارئ ىبع حزب والناس منتظرون قيامه إذ قال قائل مات الخطيب فارتج الجامع وضج الناس وتأسفوا وأخذوا في البكاء واختلت الصفوف وبادر الناس إلى المنبر إذ قام الخطيب ونزل عن المنبر ودخل المحراب وأوجز في الصلوة من غير جهر بالقراءة • ثم من بعد الصلوة قدمت عدة جنائز فصلى عليه واضطرب الناس في أقوالهم • فقال قائل إن الجمعة ما صحت وتقدم وصلى الظهر أربعا وأتم به جماعة فلما فرغ قام جماعة وأمروا المؤذنين بالشدة فأذنوا ورقى واحد المنبر وخطب خطبتين ونزل وتقدم ليصلي فمنعوه وأتوا بالإمام الراتب فتقدم وصلى
112ظ
الجمعة فلما انقضت الصلوة وثب آخرون وصاحوا بأن هذه الجمعة الثانية لم تصح وأقاموا لصلاة الظهر • وتقدم واحد وصلى بهم الظهر أربع ركعات • فاتفق في هذا اليوم الواحد بالجامع الأزهر أربع خطب • وصلاة الجمعة مرتين • وصلاة الظهر مرتين • وانصرف الناس وكل طائفة تخطى الأخرى • ونظير الناس متفاد لأعلى السلطان وزواله بإقامة خطبتين في مكان واحد • وهبت ريح باردة حتى ظن اكثر الناس أنهم ميتون ولو قدر موت الخطيب على المنبر لهلك جماعة كثيرة من الوهم • وكان الملك الأشرف في سادس هذا الشهر قد استقل من مرضه وخرج إلى خليج الزعفران وكان يوم الثلاثاء فاستمر إلى آخر النهار وفرق فيه مالا على الفقراء فتزاحمت الفقراء على تفرقة ذلك ورموه عن فرسه فاستشاط السلطان وطلب سلطان الحرافيش وشيخ الطوائف ورسم أن يمنعوا الجعيدية من الكدية والشحاذة ورسم أنه من وجد منهم وهو يشحذ فإنه يستعمله في الحفير فلم يبق من الشحاذين إلا العميان والزمني وأرباب العاهات فزادت الأدعية عليه بزوال ملكه فأصبح يوم الأربعاء سابع شوال وقد انتكس ولزم الفراش وتزايد مرضه غير أنه كان يظهر التجلد وينشد بلسان الحال • • بتجلدي للشامتين أريهم • إني لريب الدهر لا اتضعضع • ولسان القضاء والقدر يجيبه • • وإذا المنية انشبت اظافرها • الغيت كل نميمة لا تنفع • وكان يخلع على الأطباء ويركب وهو مصغر اللون • ساقط القوة • إلى أن عجز عن القيام • في ليلة الأربعاء المذكور • وفشا الموت في الدور السلطانية • وفي أولاده وخطاياه وجواريه • وجواري نسائه • وفي الخدام والمماليك السلطانية بالقلعة • وسكان الطباق وسكان القلعة • وفي سائر الناس بالقاهرة ومصر وما بينها • وانتشر إلى بعض بلاد الصعيد • وبلاد الواحات • والفيوم • وبعض بلاد الجرف بالشرقية
113و
وخرج المحمل يوم الإثنين تاسع عشرة • وأميرهم اقبغا الناصري أحد الطبلخاناه فمات ابنه وابنته في هذا اليوم • وجماعة ممن خرج إلى الحج • وفي الغد وبعده • وفي سادس هذا الشهر ثارت العشران بالشام • وقتل فيها محمد بن منصور • وقتل على ما قيل من العشران ما ينيف على ألف نفس • وكانت الصقعة أتلفت فواكه دمشق وكانت وقعت يوم العيد والناس في حلق العيد • فبينا الدنيا كالعروس تنجلي ما بين أشجار خضرة وأزهار ونضرة • فهبت عليها نسيمة باردة • في لحظة واحدة • كما قال الله تعالى فجعلناها حصيدا كان لم تغن بالأمس • فما خرج الناس من صلوة العيد إلا والأشجار كأنها فحمة يابسة • ثم في يوم الخميس ثاني عشرة خلع على الأطباء بأن السلطان قد تعافى في يوم الجمعة سار الحاج من البركة • ويوم السبت رابع عشره رسم السلطان بتوسيط الأطباء الذين خلع عليهم • وهما العفيف رئيس الأطباء • وزين الدين خضر • وذلك لاستبطائه العافية وحرصه على الحيوة • وظنه أنهم يقدرون على شفائه • وإنهم يقصرون • أو أنهم أساؤوا التدبير وأخطأوا في علاجه • وذلك لسوء أخلاقه • وضيق عطفه • أو لجهله • وقلة فهمه • فإنه كان عميما فج لا يعرف شيئا وإنما ساعدته الأقدار • فكان يتصور أن الطبيب يقدر يشفي ويعافي • ولما رأى عجزهم • أو أنهم لا يعافونه ولا يشفونه • فدعا بوالي القاهرة عمر ابن سيفا فحضر وللسلطان جالس بين يديه جماعة من خواصه • منهم صلاح الدين محمد بن نصر الله كاتب السر • وصفي الدين جوهر الخزندار وغيرهم • وفيهم العفيف • وزين الدين خضر • فلما حضر الوالي أمره أن يأخذ العفيف ويوسطه بالقلعة فأقامه ومضى به • ثم نظر إلى خضر وأمره أن يوسطه أيضا فأخذ الآخر فجعل يصيح وقام أهل المجلس وصاروا ما بين مقبل رجله • وما بين مقبل الأرض • وهم يتضرعون إليه في العفو فلم يقبل وبعث واحد بعد واحد يستعجل الوالي في توسيطهما وهو يتباطأ رجاء
113ظ
أن يقع العفو عنهما • فلما طال الأمر بعث السلطان من أشد أعوانه وأغلظهم وأمره أن يحضر توسيطهما • فخرج بعد أن أغلظ الوالي في القول • فقدم العفيف واستسلم وثبت فوسط قطعتين بالسيف • وقدم خضر فجزع جزعا شديدا • وجعل يدافع عن نفسه وصاح • فتكاثروا عليه • ووسطوه توسيطا شنيعا لتلويه واضطرابه • ثم حملا إلى أهليهما ذلك • ولم يعرف بمثل هذه الحادثة • وتزايد المرض بالسلطان من يومئذ إلى يوم الخميس تاسع عشريه • أيس من الحياة فاستدعى الأمير الكبير جقمق العلاء الأتابك ومن تأخر من الأمراء المقدمين • وقال لهم انظروا في أمركم وخوفهم مما جرى بعد المؤيد شيخ من اختلاف أمرائه وتلافهم • وطال الكلام وتصدعوا على غير شيء ولم يبروموا أمرا ولا عقدوا عقدا • ثم أهل ذي القعدة بيوم السبت والناس في شدة عظيمة من مرض السلطان والأرجاف بموته ساعة فساعة • وموت مماليكه حتى لقد مات منهم نحو الألف • ومات من الخدام الخصيان مائة وستون ومن الجواري بدار السلطان نحو من ذلك • ومن الخطايا سبع عشرة ومن أولاد السلطان ذكورا وإناثا سبعة عشر • وشمل الطاعون عام بيوت القاهرة • ومصر وما بينهما • فما من بيت إلا وفيه ميت أو مريض • وكذلك بلاد الشام من الفرات إلى غيره • وخرج قفل من القاهرة إلى الشام فمات إلى أن وصل إلى العريش منهم نحو سبعين إنسانا • وأكثر مع كساد البيعات • وتعطيل الأسواق والمعاملات • إلا ما يحتاج إليه الموتى • وصاروا كما قال المعمار • ومات من لا عمره ماتا • غير أن الموت تناقص لما أهل هذا الشهر • ووصل الخبر أن العساكر المجردة إلى ابلسيين وصلت إليها • • ذكر العهد لولده •
114و
وفي رابعه عهد السلطان إلى ولده المقام الجمالي يوسف وذلك أنه لما تزايد المرض • قال عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط • للأمير صفي الدين جوهر الخزندار • عن أمر المقام الجمالي • وأشار عليه أن يفاوض السلطان في وقت خلوته به أن يعهد إليه بالسلطنة من بعد وفاته • ويحسن له ذلك فراقب الفرصة إلى أن قال له السلطان يا جوهر حرر لي جملة ما يتحصل من الأوقاف على أولادي ففعل ثم وجد فرصة للكلام فأعلمه بما أشار به القاضي زين الدين عبد الباسط من العهد إلى المقام والجمالي فأعجبه ذلك وأمر باستدعائه فلما حضر سأله عما ذكر له جوهر عنه فأخذ يحسن ذلك ويقول في هذا اجتماع الكلمة • وسد باب الفتن • وعمارة بيوت السلطان • ومصلحة العباد • وعمارة البلاد • ونحو ذلك من القول • فأجاب إلى ذلك ورسم باستدعاء الخليفة • والقضاة والأمراء • والمماليك • وأهل الدولة وحضورهم في غد • فمضى عنه القاضي زين الدين ونزل إلى داره بالقاهرة • وأرسل إلى المذكورين • والأعيان • أن يحضروا بكرة النهار • بين يدي السلطان • وتقدم إلى القاضي شرف الدين أبي بكر الأشقر نائب كاتب السر بكتابة العهد إلى المقام الجمالي فأعجبه ذلك وأمر باستدعائه فلما حضر سأله عما ذكر له جوهر عنه فأخذ يحسن ذلك ويقول في هذا اجتماع الكلمة وسد الفتن • وعمارة بيوت السلطان • ومصلحة العباد • وعمارة البلاد • ونحو ذلك من القول • فأجاب إلى ذلك ورسم باستدعاء الخليفة والقضاة • والأمراء المماليك • وأهل الدولة وحضورهم في غد • فمضى عن القاضي زين الدين • وبذل إلى داره بالقاهرة • وأرسل إلى المذكورين والأعيان أن يحضروا غدا بكرة النهار بين يدي السلطان وتقدم إلى القاضي شرف الدين بن أبي بكر الأشقر نائب كاتب السر بكتابة العهد إلى المقام الجمالي وذلك أن القاضي صلاح الدين محمد بن نصر الله كاتب السر لما وسط العفيف
114ظ
وحضر • تغير مزاجه • واشتد جزعه • إلى أن حم في ليلة الجمعة • ونزل من القلعة ولزم الفراش • وظهر الطاعون مواضع في بدنه • وجعل مرضه يتزايد • فبادر القاضي شرف الدين • وكتب العهد ليلا • وأصبح الجماعة في يوم الثلاثاء • وهم بالقلعة وذلك رابع الشهر فأخرج السلطان إلى مقعد يشرف على الحوش وقد وقف به الأمير خوش قدم الطواشي مقدم المماليك • ومعد جميع من بقي من المماليك السلطانية سكان البطاق بالقلعة • وجميع من هو أسفل القلعة من المشتراوات والمستخدمين وجلس الخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو الفتح داود • وقضاة القضاة الأربع على مراتبهم • والأمير الكبير جقمق العلاء أتابك العساكر • ومن تأخر من أمراء الألوف • والمباشرون ما عدا كاتب السر فإنه شديد المرض • ثم قام القاضي زين الدين عبد الباسط • وفتح باب الكلام من عهد السلطان من بعد وفاته لابنه المقام الجمالي بالسلطنة • وقد حضر مع أبيه فاستحسن الخليفة ذلك وأشاد به فتقدم القاضي شرف الدين الأشقر بالعهد إلى بين يدي السلطان فأشهد السلطان على نفسه بأنه عهد إلى ولده الملك العزيز جمال الدين أبي المحاسن يوسف من بعد وفاته بالسلطنة • فأمضى الخليفة العهد • وشهد بذلك القضاة • ثم إن السلطان التفت إلى مقدم المماليك وكلمه بالتركية والمماليك تسمعه كلاما طويلا ليبلغه عنه إلى المماليك وحاصله أن اشتراهم ورباهم وإنهم أفسدوا فسادا كبيرا عدد فيه ذنوبهم وإنه تغير من ذلك عليهم وما زال يدعوا الله عليهم حتى هلك منهم من هلك في طاعون سنة ثلث وثلثين ثم اشترى بعدهم طوائف ورباهم فشرعوا أيضا في الفساد كما فعل أولئك الهالكون بدعائه وإنه قد وقع فيكم الطاعون فمات منكم من مات وقد عفوت
115و
عنكم • وأنا ذاهب إلى الله وتارك ولدي هذا وهو وديعتي عندكم وقد استخلفته عليكم فاسمعوا له وأطيعوه • ولا تختلفوا فيدخل بينكم غيركم فتهلكوا • وأوصاهم أن لا يغيروا على أحد من الأمراء • وان يبقوا الأمر المجردين على أمر يأتيهم • ولا يغيروا نواب الممالك • فاشتد عند ذلك بكاؤهم وبكى الحاضرون أيضا • قيل إن اينال مشد الترسخانة كان واقفا فنظر إليه الملك الأشرف وقال إن كان يقع خلف بين ممالكي وعسكري ويهلكون فهذا يكون سببا لذلك وكذا جرى • ثم أقيم السلطان وأعيد إلى فراشه وقد كتب الخليفة بإمضاء عهد السلطان وشهد عليه فيه القضاة بذلك ثم كتب القاضي شرف الدين الأشقر اشهاد على السلطان بأنه جعل الأمير الكبير جقمق العلاء قائما بتدبير أمور الملك العزيز • وأخذ فيه خط الخليفة بالإمضاء • وشهادة القضاة عليه بذلك فألصقه بالعهد وانقضوا جميعهم • وفي هذا اليوم أنفق في المماليك السلطانية كل واحد مبلغ ثلاثين دينارا فكان جملتها مائة وعشرين ألف دينار وفيه خلع على بكري بردي أحد أتباع التاج الشويكي واستقر في ولاية القاهرة عوضا عن عمر بن سيغا أخي التاج فإنه مرض بالطاعون من أخر نهار الجمعة وفي يوم الجمعة سادسه وطلع إلى القلعة فلما مثل بين يدي السلطان أمر به فخلع عليه واستقر به في كتابه السر عوضا عن ولده صلاح الدين محمد وقد توفي فنزل في موكب جليل على كل رائع بقماش ذهب أخرج له من الاصطبل السلطاني • وخلع معه على نور الدين علي بن السويفي واستقر في حسبة القاهرة عوضا عن دولت خواجة وقد مات في أول الشهر • وفي هذا الشهر أتلف الجراد بضواحي القاهرة كثيرا من المقات كالخيار والبطيخ • والقثاء • والقرع • ووقع الطاعون في الغنم والدواب • ووجد
115ظ
في النيل سمك كثير طافيا قد مات من الطاعون • ذكر خبر عساكر ابلسيين • وفي حادي عشره رحل الأمر المجردون من ابلسيين • ومعهم نواب الشام وعساكرها من غزة إلى الفرات • وجميع تركمان الطاعة • وتوجهوا في جمع كبير يريدون آق شهر حتى نزلوا عليها وحاصروها • وفي يوم السبت خامس عشره اشتد مرض السلطان وحجب عن الناس فلم يدخل إليه أحد من الأمراء المباشرين عدة أيام سوى الأمير اينال شاد التراسخانة • والأمير على باي • والأمير صفي الدين جوهر الخزندار • والأمير جوهر الزمام • فإذا صعد القاضي زين الدين عبد الباسط • والمباشرون إلى القلعة • أعلمهم هؤلاء بحال السلطان • هذا والأرجاف يقوى والأمراء والمماليك السلطانية في حركة • وقد صاروا فرقا مختلفة الأمراء والناس في تخوف من وقوع الحرب • وقد ودعوا ما في دورهم • وأخفى كل من أهل الدولة أولاده ونساءه خوفا من النهب • وأهل النواحي بالصعيد والوجه البحري قد نجم النفاق فيهم • وخيفت السبل شاما ومصرا • وقد تناقصت عدة الأموات بالقاهرة • ومصر من أهل هذا الشهر كما تقدم • وفي أخريات هذا الشهر هجم على المسجد الحرام سيل عظيم ملا الحرم من غير تقدم مطر بمكة • ذو الحجة الحرام أهل يوم الإثنين والفأس بديار مصر في قلة الخدم في عناء وجهد • فإنه مات بالقاهرة ومصر وما بينهما من مدة شهر رمضان وشوال وذي القعدة زيادة على مائة ألف إنسان معظمهم الأطفال • وأكثر الأطفال البنات • ويلي الأطفال في كثرة من مات الرقيق • وأكثر من مات من الرقيق الإماء بحيث كادت الدور أن تخلوا من الأطفال والإماء والعبيد • وكذلك جميع بلاد الشام بأسرها • وأما السلطان فإنه حدث له مع سقوط شهوة الغذاء • مدة أشهر
116و
ومع انحطاط قواه ما ليخوليا فكثر هذيانه وتخليطه • ولولا أن الله تعالى أضعف قوته لما كان يؤمن مع ذلك من إفساد شيء كثير بيده • إلا أنه في أكثر الأوقات غائب فإذا أفاق هذي وخلط • وصار العسكر في الجملة قسمين قسم يقال عنهم أنهم قرانصة41 وهم الظاهرية • والناصرية • والمؤيدية • وكلمتهم متفقة على طاعة الملك العزيز وإن يكون الأمير الكبير جقمق العلاء نظام الملك كما قرره السلطان • وإنهم لا يصعدون إلى القلعة خوفا على أنفسهم من المماليك الأشرفية • والقسم الآخر المماليك الأشرفية سكان الطباق بالقلعة • ورأيهم أن يكون الملك العزيز مسيدا بالأمر وحده وأعيائهم الأمير اينال شاد السراسخانة • والأمير بخشي باي أمير أخور ثاني • والأمير علي باي خازندار • والأمير معل باي الجقمقي استادار الصحبة • والأمير قرقماز قريب السلطان • وهذه الطائفة الأشرفية مختلفة بعضها على بعض فلما اشتهر امر هذين الطائفتين • وفشت المقالة عنهما • قام عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط في لم هذا الشعث • وإطفاء هذه النائرة • ليصلح بين الفريقين • ووافقه على ذلك الأمير اينال شادا السراسخانة • فاستدعى سكان الطباق من المماليك إلى الجامع بالقلعة • وأرسل إلى القضاة • فلما تكامل الجمع بإزائهم حتى اذعنوا إلى الحلف • فتولى تحليفهم القاضي شرف الدين الأشقر نائب كاتب السر على الإقامة على طاعة الملك العزيز • والاتفاق مع الأمير الكبير جقمق • وأن لا يتعرض أحد منهم لشر • ولا فتنة • ولا يتعرضوا لأحد من الأمراء المقيمين بديار مصر • ولا إلى الأمراء المجردين • ولا إلى كفلاء ممالك الشام • في نفس • ولا مال • ولا رزق • فلما حلف الأمير اينال • والأمير علي باي • والأمير تمرباي الدوادار • وعامة المماليك حلف القاضي زين الدين عبد الباسط أنه يكون مع الفريقين • ولا يباطن طائفة على أخرى ثم قام الجميع وقصد القاضي زين الدين دار الأمير الكبير جقمق ومعه
116ظ
عدة من أعيان الأشرفية حتى حلفه وحلف بعده من بقي بديار مصر من الأمراء • ثم نزل بعد ذلك الأمير اينال • ثم الأمير علي باي إلى الأمير الكبير جقمق • قبل كل منهما يده فابتهج بهما • وبالغ في إكرامهما • وسكنت تلك النائرة ولله الحمد • ويوم الأربعاء عاشره وهو عيد النحر خرج الملك العزيز فصلى صلاة العيد بجامع القلعة • وقد صعد إلى خدمته بالجامع الأمير الكبير جقمق • ومن عداه من الأمراء • ثم مشوا في الخدمة بعد الصلاة حتى جلس على باب الستارة • وخلع على الأمير الكبير • وعلى من جرت عادته بالخلع في يوم عيد النحر • ونزلوا إلى دورهم فقام الملك العزيز ودخل وذبح • ونحر الضحايا بالحوش • هذا وقد توالت على السلطان نوب الصرع مرارا • وتخلت قواه حتى صار كما قيل شعر • • لم يبق إلا نفس خافت • ومقلة إنسانها باهت • • يرثى له الشامت مما به • يا ويح من يرثى له الشامت • حتى مات عصر يوم السبت ثالث عشره • السلطان الملك العزيز جمال الدين الملك العزيز يوسف • أبو المحاسن • ابن الأشرف برسباي • أقيم في الملك بعد أبيه وذلك أن السلطان لما مات نادر القاضي زين الدين عبد الباسط • والأمير اينال الشاد • والأمير علي باي • والأمير تمرباي الدوادار • وقد اجتمعوا في القلعة • وبعثوا في الحال استدعوا الخليفة مع القاضي شرف الدين الأشقر • وبعث القاضي زين الدين بعض غلمانه في طلب القضاة • فأتوا جميعا ودخلوا • ودخل الأمير جوهر الزمام • فاخرج بالملك العزيز إلى باب الستارة فاجلس هناك • وطلب الأمير الكبير جقمق وبقية الأمراء • ونزل المماليك من الطباق فلما تكامل جمعهم • وحضر الوزير •
117و
وكاتب السر • وناظر الخاص • فوض الخليفة السلطنة للملك العزيز • وأفاض عليه الشريف الخليفتي • وولده السيف • وقد بقي لغروب الشمس نحو ساعة • وعمر السلطان إذ ذاك أربعة عشر سنة وسبعة أشهر فقام من باب الستارة وركب فرسه • ورفعت القبة والطير على رأسه • وقد حملها الأمير الكبير وساروا الكل مشاة في ركابه حتى عبر إلى القصر فجلس على تخت الملك وسرير السلطنة • وقبل الأمراء وغيرهم الأرض له وقرا العهد بالسلطنة الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله كاتب السر فخلع علي الخليفة • وعلى الأمير الكبير • وعلى كاتب السر • وخرجوا من القصر • وقد غسل السلطان الملك الأشرف برسباي وكفن واخرج بلا جنازة من الدور إلى باب القلعة فوضعت هناك وتقدم قاضي القضاة شهاب الدين أبوا الفضل أحمد بن حجر الشافعي رضي الله عنه فصلى بالناس عليها قبيل الغروب وشيع الأمراء والأكابر والمماليك الجنازة حتى دفن بالتربة التي انشأها خارج باب المحروق بالصحراء تحت القبة وقد اجتمع من الناس ما لا يحصيهم إلا الله تعالى والناس في بيعهم وشرائهم مشغولون بالقاهرة • مطمئنين في أمن ورعة • وسكون • على عادتهم • ونودي بالأمان والاطمئنان • والبيع والشراء • وإن ترحموا على الملك الأشرف • والدعاء للملك العزيز جمال الدين أبي المحاسن • وإن النفقة يوم الإثنين مائة دينار لكل واحد من المماليك • فازداد الناس أمن وطمأنينة • ولم يكن شيء مما كان يتوقع ويخاف منه من الشر ولله الحمد • وفي يوم الأحد رابع عشره اجتمع أهل الدولة عند قبر السلطان للصحة • وكان القراء قد باتوا عنده يتناوبون القراءة ليلتهم أجمع فختموا القرآن العظيم ودعوا • ثم انفض الجمع وأقام القراء عند القبر سبعة أيام وفيه عملته الخدمة السلطانية بالقصر وحضر الأمين الكبير وسائر أهل الدولة
117ظ
على العادة • فزاد السلطان الخليفة جزية الصابوني على ما بيده • وكتبت فيه البشائر إلى البلاد الشامية • وسائر أعمال مصر • بسلطنة الملك العزيز • وفي يوم الإثنين خامس عشره جلس السلطان بالحوض في القلعة وعنده الأمراء والمباشرون • وابتدى في تفرقة النفقة على المماليك لكل واحد مائة دينار وفيه توجه اينال الأحمدي المعروف بالفقيه بالعشارة إلى البلاد الشامية وعلى يده مع الكتب للنواب كتب الأمراء المجردين وفي سادس عشره تكملت النفقة على من بقي وفيه قدم مراد بك رسول الأمير حمزة بكري قرا يلوك صاحب ماردين وامتد وصحبته شمس الدين القطماوي ومعهما هدية • وكتاب يتضمن دخوله في طاعة السلطان • وإنه أقام الخطبة وضرب السكة في ماردين وما هو تحت ولايته باسم السلطان الملك الأشرف • وجهز الدنانير والدراهم المضروبة بالسكة السلطانية • وعلى يد شمس الدين القطماوي كتب الأمر المجردين بذلك وسبب ذلك أن الأمراء لما قدموا حلب كاتبوا حمزة المذكور واستمالوه إلى طاعة السلطان وإنه يقدم عليهم ليرى ما يسره فأجاب بالطاعة وأقام الخطبة وضرب السكة وجهز هديته • وما ضربه من المال • ولم يقدم فرضوا بذلك منه • ولم يتفق وصول ذلك إلى بعد موت السلطان فأكرم الرسل وأعيد الجواب مع تشويف وخلعة للأمير حمزة المذكور • وفيه خلع على الأمير طوخ مازي بنيابة غزة وكانت شاغرة فقد مات نائبها ثم يوم السبت عشريه وقع بين حكم الخاصكي خال السلطان • وبين الأمير اينال الشاد • مفاوضة آلت إلى شر • وسبب ذلك أن التحدث والكلام في أمور المملكة صار من ثلاثة أنفس الأمير الكبير جقمق نظام الملك • والقاضي زين الدين عبد الباسط • والأمير اينال المذكور • وأما السلطان فإنه
118و
صغير لا يتكلم بشيء • فأنكر حكم على اينال أمره ونهيه • فيما يتعلق بأمور الدولة • وكونه أقام بالقلعة • وصار يبيت بها • فغضب منه اينال ونزل إلى داره • وكان هذا ابتداء وقوع الخلف الذي آل إلى ما سيأتي ذكره • وفيه تجمع كثير من المماليك تحت القلعة • وأرادوا أن يفتكوا بالقاضي زين الدين عبد الباسط فلما نزل من القلعة أحاطوا به • وجرت منهم مقاولات بينهم وبينه أغلظوا فيها عليه • ولم يقدروا على غير ذلك • فلم يصل إليه منهم مكروه • وخلص منهم إلى بيته • وفي هذا الشهر الذي قبله فشات بالإسكندرية • ودمياط • وفوه • ودمنهور • وما حول تلك الأعمال فمات بها عالم كبير • وتجاوزت عدة من يموت بإسكندرية كل يوم مائة إنسان • في يوم السبت سابع عشرية ابتداء بالنداء على النيل فزاد خمسة أصابع • وجاءت القاعدة خمس أذرع • وثلاثا وعشرين إصبعا • واستمرت الزيادة كل يوم ولله الحمد • وفيه أنعم بإقطاع السلطان على الأمير نظام الملك جقمق بعد ما سئل السلطان في ذلك فأبى ثم غلب عليه حتى أخرجه له • وأنعم بإقطاع الأمير جقمق على الأمير تمراز القرمشي رأس نوبة أحد المجردين • وأنعم بإقطاع الأمير تمراز على الأمير تمرا باي الدوادار • وانعم بإقطاع الأمير تمر باي على الأمير علي باي • وانعم بإقطاع طوخ بازي نائب غزة على بخشي باي أمير أخور ثاني • وأنعم بإقطاع الأمير بخشي باي علي يولخجا الساقي رأس نوبة • وأنعم بإقطاع يول خواجة وإمرته وهي امرة عشره علي قاني باي الجركسي • وخلع على الأمير اينال واستقر دوادار عوضا عن الأمير تمر باي •
118ظ
ويوم الأحد ثامن عشريه خلع على علي باي واستقر شاد الشراسخانة عوضا عن الأمير اينال الوادار • وفي يوم الإثنين تاسع عشريه خلع على سيف الدين تمر داش أحد المماليك الأشرفية واستقر في ولاية القاهرة عوضا عن بكري بردي التاجر • • ذكر ما أولاه المماليك • وفيه تجمع كثير من المماليك تحت القلعة وأحاطوا بالأمير الكبير نظام الملك جقمق عند نزوله من القلعة من الخدمة السلطانية إلى جهة بيته ليوقعوا به فتخلص منهم من غير سوء هذا والقاضي زين الدين عبد الباسط في عناء شديد من جهة المماليك • ذكر أخبار العسكر المجردون إلى صوب أزريكان وقدم الخبر بان العسكر المجرد لما قصد مدينة اقشهر تلقاهم السلطان أحمد ابن قلج أرسلان صاحب تلي حصار وقد رغب في الطاعة السلطانية وسار معهم حتى نزلوا مدينة اقشهر في أول ذي الحجة فهرب متملكها حسن الايناقي في ليلة الثلاثاء ثانيه إلى قلعة برداش فملك العسكر المدينة وقلعتها وقبضوا على عدة من أعيانها • وبعثوا سلطان أحمد بن قلج أرسلان مع عسكر فملك قلعتي فارس وتمشلي فأقروه على نيابة السلطنة وصاروا لمحاصرة حسن بقلعة برداش ففر منها إلى قلعة برطلش فنزل بها الأمير قرقماس أمير سلاح وحاصرها وأخذها في ثامن عشره بعد محاصرتها بضعة عشر يوما ثم هدمها حتى سوى بها الأرض وقد فر منها حسن الأنباقي ثم سار الأمير قرقماز بمن معه من بقية العساكر يريدون ازريكان فقدم عليهم أمير زاده بن يعقوب بن قرا يلوك رسولا من أبيه يعقوب صاحب ازريكان وكاخ وقد خرج من ازريكان ونزل كاخ وقدم
119و
مع ام زاده زوجة أبيه • وعدة من القضاة وأعيان ازريكان • يسألون العفو عن الأمير يعقوب • وإعفائه من قدومه إليهم • وأن يجهز لنيابة السلطنة بازريكان الأمير جهانكير • بن ناصر الدين • علي بيك • بن قرا يلوك • فأجيبوا إلى ذلك كله • وخلع على الأمر أمير زادة ودفع إليه خلعة لأبيه الأمير يعقوب • وفرس بقماش ذهب وأعيد وصحبته الأمير جهانكير • وقد خلع عليه بنيابة ارزيكان • وساروا وقد جهز إلى ارزيكان بالأمير سودون النوروزي دوادار السلطان بحلب ومعه نائب دوركي • ونائب بهنسا فتسلموا ارزيكان بلا مانع وأقاموا بها • ثم توجه القاضي معين الدين عبد اللطيف بن القاضي شرف الدين ابي بكر بن الأشقر كاتب السر بحلب فحلف أهل ارزيكان بالإقامة على طاعة السلطان • ثم سارت العساكر من أقشهر في ثاني عشره فنزلت على ارزيكان وعسكروا هناك فخرج إليهم أهلها وباعوا واشتروا عليهم ما أرادوا منهم • وفتحت أبواب المدينة والعساكر • يدخلون ويخرجون للمعاملة من غير ضرر ولا نهب واستمروا على ذلك إلى آخر الشهر • ذكر بعض أخبار المغرب • وقدم الخبر بان الملك البرتقال صاحب مدينة شلب من الأندلس سار يريد مدينة طبخة فنزل على سبتة في المحرم ومضى فيها وهي بيده في البر والبحر ومعه فيما يقال ثمانية عشر ألف رام وستة آلاف فارس حتى نزل على طبخة فحاصرها مدة شهر إلى أن اتته جموع المسلمين من فاس • ومكناسه • وأصيلا • في شهر ربيع الآخر فكانت بينهم وبين البرتقال من النصارى حروب عظيمة نصر الله تعالى فيها جيوش المسلمين وقتل فيها نحو من الثلاثين من النصارى والتجأ باقيهم إلى محلتهم فضايقهم المسلمون فطلبوا الأمان على أن يسلموا المسلمين مدينة مسبته ويفرجوا عن سبعمائة أسير • ويدفعوا ما بأيديهم من آلات الحرب للمسلمين فآمنوهم وبعثوا
119ظ
رهائن على ذلك فصار المسلمون يأخذون النصارى ويوصلونهم إلى اسطولهم بالبحر فحسد أحمد اللحياني القائم بتدبير مكناسه الأزرق • وهو أبو زكريا يحيى بن زيان ابن عمر الوطاسيعي • القائم بتدبير مدينة فاس • وقتل عدة من النصارى ورحل فحنق النصارى من ذلك وحطموا على المسلمين حطمة قتل فيها جماعة وخلصوا إلى • اسطولهم • وبقي بن ملكهم في يد المسلمين • فلما وصلوا إلى بلادهم لم يرض أكابرهم بتسليم سبته للمسلمين • وبعثوا فداء بن الملك بمال • فلم يقع بينهم وبين المسلمين اتفاق فقبض المسلمون على الرسول وحبسوه مع بن ملك النصارى المرتهن عند صالح ابن حمو بطبخة • فيقول المكثر أن الذي قتل من النصارى في هذه الوقعة خمسة وعشرون ألفا وغنم المسلمون منهم أموالا كثيرة ولله الحمد • • ذكر من مات بالطاعون • مات بالطاعون في هذه السنة خلق كثير لا يعلمهم إلا الله تعالى في بلاد الشام ومصر وحلب • وما بين ذلك • ومن أهل الأرض طرأ • وكان قد وصل الطاعون إلى هذه البلاد • من بلاد الشرق • والحطا • وما وراء النهر إلى الدست • وإلى بروسا وسائر بلاد الروم • ثم وصل إلى الشام • ووصل إليها من حلب • ثم تنقل إلى مصر والقاهرة • ثم إلى اسكندرية • والصعيد • وما سوى ذلك من البلاد • فممن له شهرة بالقاهرة سعد الدين بن كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب حكم ناظر الخاص بن ناظر الخاص يوم الخميس سابع عشر شهر ربيع الأول منها عن نحو ثلاثين سنة • وكان من المترفين المنهمكين في اللذات المنغمسين في الشهوات • وصلى عليه السلطان الملك الأشرف ودفن بالقرافة وفي يوم الخميس ثامن عشر بل تاسع عشر الحجة الحرام فيه توفى أخوة المقر الجمالي ناظر الجيوش المنصورة والخواص الشريفة وما مع ذلك • وكان رحمه الله في زمانه
120و
عظيم الدولة بل عزيز مصر • ومات تمراز المؤيدي خنقا بالإسكندرية ثالث عشرين ربيع الآخر رباه المؤيد صغيرا إلى أن تغير عليه ونفاه إلى طرابلس فتنقل بعد موته ثم تنقلت به الأحوال حتى صار نائب صفد على زمان الأشرف ثم عزل عنا السوء سيرة وأعطى أمريه في دمشق • وكانت المزة في إقطاعه وكان الشيخ علي الدين البخاري رضي الله عنه ساكنا بها فكان تمراز يتعدى عليهم وكانوا يتجاهون عليه بالشيخ وربما تشفعوا إليه بالشيخ • الحوادث في السنة الأولى من سلطنته وهي سنة 823 • فيها توفي الأمير صفي الدين جوهر الجلباني الحبشي الزمام المعروف باللألاء في يوم الأربعاء ثالث عشرين جمادي الأول وعمره نحو ستين سنة تخمينا • وكان من رؤوس الخدام حشمة وعقلا • وزينا وكرما • وهو صاحب المدرسة • والدار بالمصنع بالقرب من قلعة الجبل • وفيها توفي قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان البساطي • المالكي قاضي قضاة الديار المصرية • وعالمها في ليلة الجمعة ثالث عشر رمضان • ومولده في المحرم سنة ستين وسبعمائة • ومات وقد انتهت إليه الرئاسة في المعقول والمنقول • وبرع في ذلك وافي ودرس • وولي نيابة الحكم عن بن عمه جمال الدين البساطي • ثم استقل بوظيفة الفضل نحو عشرين سنة إلى أن مات • وفيها قتل الأمير قرقماس الشعباني الأتابكي بثغر الإسكندرية قيل أنه هو الذي أحدث جلوس النقباء على باب الداوادار الثاني حين وليها في أوائل الدولة الأشرفية وحكم بين الناس ولم يكن ذلك بعادة أن الدوادار الثاني
120ظ
يحكم بين الناس وولي الدودار الثانية بعد موت الأمير جانبك الأشرفي • وفيها توفي الشريف أحمد بن عجلان المكي الحسني بن بيد لما فارق أخاه الشريف بركات • وفيها توفي صاحب بلاد اليمن الملك الظاهر عبد الله بن الأشرف إسماعيل ابن علي • بن داود • بن يوسف • بن عمر • بن علي • بن رسول التركماني الأصل اليمني في سلخ رجب • وكانت مدة ملكه اثني عشر سنة وأقيم بعده في ملك اليمن الأشرف إسماعيل • وله من العمر نحو العشرين سنة فأتتنا السيرة وسفك الدماء وقتل الأمير برقوق التركي القائم بدولتهم في عدة أخر من الأتراك أمر النيل القديم خمسة أذرع وثلاثة وعشرون اصبعا مبلغ الزيادة مسبقة عشر ذراعا وعشرون إصبعا • • الحوادث في سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة • وفيها توفي الأتابك اقبغا التمرازي نائب الشام بها فجأة وهو على ظهر فرسه في يوم السبت سادس عشر ربيع الآخر • وفيها توفي قاضي قضاة حلب علاء الدين علي بن محمد • بن مسعد • بن محمد • بن علي • بن عثمان الحلبي الشافعي • قاضي حلب • وعالمها • ومؤرخها • المعروف بابن خطيب الناصرية في ليلة الثلاثاء تاسع ذي القعدة بحلب ومولده سنة أربع وسبعين وسبعمائة • وكان إماما عالما بارعا في الفقه والأصول والعربية • والحديث • والتفسير • وافتى • ودرس بحلب سنين • وولي قضاها وقدم القاهرة غير مرة • وله مصنفات فمنها كتابه المسمى بالمنتخب • في تاريخ حلب • ذيله على التاريخ بن العديم وكان به صمم خفيف •
121و
• الحوادث في سنة أربع وأربعين وثمانمائة • فيها توفي الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير صارم الدين إبراهيم بن الأمير الوزير منجك اليوسفي بدمشق في خامس عشر ربيع الأول وهو في عشر السبعين • وفيها توفي شيخ الإسلام • وقاضي القضاة • محب الدين أبو الفضل أحمد ابن الشيخ جلال الدين نصر الله بن أحمد • بن محمد • بن عمر الششتري الأصل • البغدادي • الحنبلي • قاضي قضاة الديار المصرية • وعالم السادة الحنابلة في زمانه • وكانت وفاته في خامس جمادي الأولى بالقاهرة وهو قاض وولي بعده القضاة بدر الدين محمد بن عبد المنعم البغدادي • وفيها توفي الأمير علاء الدين الطن بغا المرقبي المؤيدي أحد أمراء الألوف بالديار المصرية في عاشر رجب • وكان من كبار مماليك المؤيد شيخ من أيام جنديته • وفيها توفي القاضي شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن رسلان البلقيني الشافعي المعروف بالعجمي قاضي المحلة في رابع عشر جمادي الأول وكان من افاضل قضاة الشافعية • وفيها توفي الأمير صفي الدين جوهر الزمام • والخازندار المعروف بالقنقباي في ليلة أول شعبان • ودفن بمدرسته التي انشأها بجوار جامع الأزهر قبل أن تتم وله من العمر سبعون سنة واستمر على وظيفتي الزمامية والخازنداريه إلى أن مات من غير نكبة ولم يخلف مالا له جرم بالنسبة لمقامه فعظم ذلك على الملك الظاهر فإن السلطان كان في عزمه أن يأخذ ماله بوجه من الوجوه وفطن جوهر لذلك وأدركته منيته ومات من غير أن يعلم أحدا بماله وكان جوهر المذكور عفيفا • دينا • عاقلا • مدبرا • سيوسا •
121ظ
فاضلا يقرأ القرآن الكريم بالسبع وله صدقات ومعروف وكان من عقلاء الخدام رحمه الله • وفيها توفي شرف الدين أبو بكر بن سليمان الأشقر المعروف بابن العجمي الحلبي الأصل • والمولد • والمنشأ • المصري الدار • والوفاة • نائب كاتب السر • الشريف بالديار المصرية • تاسع رمضان • وهو في عشر الثمانين وكان رجلا عاقلا • سيوسا • عارفا • بصناعة الإنشاء • قام بأعباء ديوان الإنشاء عدة سنين • وخدم عدة ملوك • وكان مقربا من خواطرهم محببا إليهم • وفيها توفي الشيخ العالم نور الدين علي بن عمر بن حسن • بن حسين • بن علي • ابن صالح الجرواني الأصل • ثم التلواني الفقيه الشافعي العالم المشهور في ثالث عشرين ذي القعدة • وكان والده من بلاد المغرب • وسكن جروان وهي قريبة من أعمال المنوفية • فولد له بها ابنه نور الدين هذا بعد سنة ستين وسبعمائة فنشأ بها ثم انتقل إلى تلوانة فعرف بالتلواني • ولما قدم القاهرة وطلب العلم ولازم شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني • وأجازه بالفتوى والتدريس وتصدى للإقراء والتدريس • وانتفع به جماعة من الطلبة • وولي عدة وظائف دينية وتداريس عديدة • منها مشيخة الركنية • ثم تدريس قبة الشافعي رضي الله عنه بالقرافة • وكان دينا • خيرا • جهوري الصوت • وفيه كرم وأفضال وهمة عالية • أمر النيل القديم ستة أذرع • وأربعة أصابع • مبلغ الزيادة عشرون ذراعا واحد وعشرون إصبعا • الحوادث في سنة خمس وأربعين وثمانمائة فيها توفي الخليفة المعتضد بالله أبو الفتح دواد بن الخليفة المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن المعتضد بالله • أبي بكر بن الخليفة المستكفي بالله •
122و
أبي الربيع سليمان الهاشمي العباسي المصري في يوم الأحد رابع عشر شهر ربيع الأول بعد مرض تمادى به أياما • وحضر السلطان الصلاة عليه بالمومني • ودفن بالمشهد النفيسي • وكانت خلافته تسعة وعشرون سنة وأياما • وتولى الخلافة بعده أخوه شقيقه المستكفي بالله سليمان بعهد منه إليه وكان المعتضد خليقا للخلافة سيد نبي العباس في زمانه • وكان كريما عاقلا • حليما متواضعا • دينا • خيرا • حلو المحاضرة • كثير الصدقات • والبر • وكان يحب مجالسة العلماء والفضلاء • وله مشاركة مع فهم وفطنة • وفيها توفى الشيخ الأديب المعروف بابن الدين في مستهل ربيع الأول بالوجه البحري قيل إنه مدح النبي صلى الله عليه وسلم مما ينيف على عشرة آلاف قصيد • وفيها توفى الشيخ الإمام العالم المحدث • عمدة المؤرخين • ورأس المحدثين • تقي الدين أحمد بن علي • بن عبد القادر • بن محمد • بن إبراهيم • بن محمد بن عبد الصمد • البعلبكي الأصل • المصري المولد • والوفاة المقريزي الحنفي • ثم الشافعي • قيل إن نسبه متصل بالخلفاء الفاطميين • وكانت وفاته في يوم الخميس سادس عشر شهر رمضان • ودفن في يوم الجمعة بمقابر الصوفية خارج باب النصر • قيل إن قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني • ذكر وفاته في يوم الجمعة التاسع والعشرين من شعبان وهو وهم • وكان مولده بالقاهرة • وبها نشأ • وتفقه على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه وهو مذهب جده لأمه الشيخ شمس الدين بن الصائغ • الحنفي ثم تحول شافعيا بعد مدة لأمر اقتضى ذلك • وكان إماما • بارعا • مفننا • ضابطا • يميل إلى الحديث • والعمل به • حتى نسب إلى مذهب الظاهرية • وكان فيه تعصب
122ظ
على السادة الحنفية • عرف ذلك من مصنفاته • وليس في التعصب فائدة • وفيها توفي قاضي اسكندرية قاضي جمال الدين عبد الله بن الدماميني المالكي السكندري بها في رابع ذي القعدة • وكان مشهورا بالسماحة • إلا أن بضاعته في العلوم كاسدة • امر النيل القديم عشرة أذرع ونصف • مبلغ الزيادة عشرون ذراعا • وخمسة عشر إصبعا • وكان الوفاء سادس عشرين أبيب • الحوادث في سنة ست وأربعين وثمانمائة • وفيها توفي الشيخ عباده ولقبه نور الدين بن علي بن صالح • بن عبد المنعم ابن سراج • بن نجم بن فضل الزرزاي الفقيه المالكي • شيخ السادة المالكية • وكانت وفاته في يوم الجمعة سابع شوال • وصلى عليه الشيخ مدين بجامع الأزهر وكان صاحبه ولم يخلف مثله علما ودينا • وكان مولده في جمادي الأول سنة ثمان وسبعين وسبعمائة ببلدة زرزا • وطلب العلم • وسمع الحديث • واشتغل على علماء مصر • حتى برع في الفقه والأصليين • والعربية • وأفتى • ودرس • واشتغل سنين كثيرة • وانتفع به الطلبة • وسئل بالقضاء بعد موت العلامة شمس الدين البساطي فامتنع فألح عليه السلطان بالولاية • والأمة بها غصبا • فلما رأى تصمم السلطان على ولايته • وإنه لا يستطيع دفعه قال حتى أستخير الله وفر من يومه من القاهرة واختفى ببعض الأماكن إلى أن ولي السلطان القاضي بدر الدين بن التنسي فلما بلغه ذلك حضر إلى القاهرة بعد أيام كثيرة وهذا شيء لم يقع لغيره في عصرنا هذا فإننا لا نعلم من سئل بالقضاء وامتنع امتناعا حقيقيا غيره • والذي يدل على ذلك اختفائه • وأما المتمنع صورة فقد يقع ليقال ثم إذا ألح عليه يقبل مع شروط يشرطها على السلطان مع علمه
123و
أنها لا تتم له وقد شاهدنا ذلك في زماننا واستمر الشيخ عباده بعد ذلك سنين إلى أن توفى في التاريخ المذكور رحمه الله تعالى • وفيها توفى قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز • بن العز • البغدادي • الحنبلي قاضي قضاة الحنابلة بالديار المصرية ثم بدمشق • وفيها مات في أخر هذه السنة وولى قضاء السادة الحنابلة بعده بدمشق بن مفلح • وكان القاضي عز الدين فقيها • دينا • متقشفا • عديم التكلف في ملبسه • ومركبه • مع دهاء ومعرفة تامة • ولما ولي قضاء الديار المصرية صار يمشي في الأسواق لحاجته • ويردف عبده على بغلته • وأشياء من هذا النسق • وكان جميع ولايته رضي الله عنه من غير سعي • وفيها توفى الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله بن حسن بن محمد الأركوي الأصل ثم الفوي • كاتب سر الديار المصرية • وناظر جيشها • وخاصها • والوزير بها • ثم استادار • ثم محتسبا • في يوم الثلاثاء سلخ ربيع الأول • ودفن بتربته بالصحراء بعد أن كبر سنة • واختلط عقله • وكان مولده بفوة من المزاحميتين في ليلة الثلاثاء ثالث عشر ربيع الأول سنة ست وسبعين وسبعمائة • وبها نشأ وباشر في عدة جهات • ثم انتقل إلى القاهرة • ولا زال يترقي حتى ولي الوظائف المذكورة ثم صودر ونكب غير مرة وكان أكولا • وفيها توفى الأمير سيف الدين تغري بردي البكلمشي المؤدي الدوادار الكبير في حادي عشر جمادي الأخرة بعد مرض طويل وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المومني ودفن بتربة طيبغا الطويل الناصري حسن • وطيبغا الطويل هو أستاذ بكلمش • وبكلمش أستاذ تغري بردي • هذا وقد تقدم أنه ولي الدوادارية الكبرى بعد عزل الأمير أركماس الظاهري ومن يوم ولي هذه الوظيفة عظم
123ظ
ونالته السعادة • وعمر مدرسته التي بالشارع الأعظم بصليبة جامع أحمد بن طولون وكان يتفقه ويكتب الخط بحسب الحال • ويعف عن المنكرات والفروج وعنده شجاعة وإقدام • وبخل • وفحش • في لفظه • وجبروت • وسوء الخلق • وحدة مزاج • إلا أنه كان مشكور السيرة في أحكامه • وينصف المظلوم من الظالم • ولم يسمع رسالة مرسل كائن من كان فعد ذلك من محاسنه • وكان رومي الجنس وهو يدعى أنه تركي الجنس • وفيها توفي الأمير ناصر الدين محمد بك بن دلغادر صاحب بلستين بابلستين • وهو حمو الملك الظاهر جقمق في أوائل جمادي الأخرى • وقيل قتل على فراشه والأول أصح وكان كثير الشر والعصيان على الملوك • أمر النيل القديم ثمانية أذرع • وخمسة أصابع • ومبلغ الزيادة عشرون ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا • الحوادث في سنة سبع وأربعين وثمانمائة فيها توفي الشيخ الإمام العالم الرباني الصوفي شمس الدين محمد بن الشيخ بدر الدين حسن الحنفي بزاويته خارج القاهرة بالقرب من سوق السباعين بحكر طقزمر الناصري في أوائل ربيع الأول وهو حدود الثمانين • ودفن بالزاوية المذكورة وكان دينا • خيرا • فقيها • عالما • مسلكا • كان يعط الناس وكان لوعظه أنس • ورونق • ولكلامه وقع في القلوب • وأفنى عمره في العبادة • وطلب العلم وإطعام الطعام • وبرأ الفقراء • والقادمين عليه • وكان محظوظا من الملوك ولهم فيه اعتقاد • ومحبة زائدة • وتردد إليه الملك الظاهر ططر إليه ونالته منه السعادة في أيام سلطنته • وفيها توفي الشيخ الإمام العالم العلامة زين الدين أبي بكر بن إسحاق • بن
124و
خالد الكختاوي الحنفي المعروف بالشيخ باكير شيخ الشيوخ بخانقاه شيخون في ثالث عشر جمادي الأولى • وحضر السلطان جقمق الصلاة عليه بمصلاة المومني • ثم أعيد إلى الشيخونية فدفن بها • واستقر عوضه في المشيخة الشيخ العلامة جمال الدين بن الهمام وكان الشيخ باكير عالما مفيد الطلبة غير بحاث مع أقرانه من العلماء لثقل كان في لسانه • وكان مليح الشكل • منور الشيبة ظاهر اللون • وقورا • معظما • عند الخاص والعام • وكان مولده بمدينة كختا في حدود السبعين والسبعمائة وفيها توفي غرس الدين خليل السخاوي • ناظر الحرمين • القدس • والخليل • في العشر الأول من جمادي الأول وقد تقدم شيء من ترجمته عند توليته الحرمين الشريفين • وفيها توفى المقام الناصري محمد بن السلطان الملك الظاهر جقمق في ليلة السبت ثاني عشرين ذي الحجة بقلعة الجبل بعد مرض طويل • وصلي عليه من الغد بمصلاة باب القلعة وحضر والده السلطان جقمق الصلاة عليه • ودفن بتربة عمه جركس القاسمي المصارع • ومات وهو في حدود الثلاثين تخمينا وأمه خوند قراجا بنت الأمير أرعون شاه أمير مجلس الظاهر برقوق • وكان رحمه الله فقيها شاعرا • أدوبا • حليفا للإمارة • حسنة من حسنات الدهر • لم ير مثله في أولاد الأمراء ولا أولاد الملوك رحمه الله • أمر النيل القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا • مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا • الحوادث في سنة ثمان وأربعين وثمانمائة فيها كان الطاعون بالديار المصرية • وكان مبدأه في ذي الحجة سنة سبعة وأربعين وثمانمائة • وكان معظمه في المحرم وصفر ثم تناقص في أواخر
124ظ صفر ومات فيه خلق لا تعد • وفيها توفي الشيخ الواعظ شمس الدين الحموي خطيب الجامع الأشرفي بالعنبريين في ثالث ذي القعدة عن نيف وسبعين سنة تخمينا وكان يعظ الناس ويعمل المواعيد وكان له قبول من العامة والنساء • وكان نصيحا في خطبته • وفيها مات الطواشي فيروز الرومي الساقي الزمام بطالا في القاهرة في رابع عشر شعبان • ودفن بمدرسته التي أنشأها بالقرب من داره عند سوق القرب بالوزيرية • وفيها توفي الأمير حمزة بن قرايلك • واسم قرايلك عثمان بن طردغلي صاحب ماردين من دياربكر في أوائل شهر رجب • أمر النيل القديم ستة أذرع وخمسة عشر إصبعا مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا • الحوادث في سنة تسع وأربعين وثمانمائة فيها توفي قاضي القضاة شمس الدين محمد بن إسماعيل بن محمد الواني الشافعي الفقيه العالم معزولا عن قضاء دمشق في يوم الثلاثاء سابع عشر صفر بالقاهرة ودفن من الغد بالقرافة بعد أن صلى عليه قاضي القضاة شمس الدين القاياتي الشافعي وكان فقيها عالما عفيفا • وفيها توفي الأمير الكبير يشبك السودوني أتابك العساكر بالديار المصرية المعروف بالمشد في يوم الخميس ثالث شعبان وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المومني وتولى الأتابكية بعده الأمير اينال العلاي الناصري نقل من الدودارية الكبرى إلى الأتابكية دفعة واحدة • ثم منها ولي السلطنة على ما يأتي بيان ذلك • أمر النيل القديم خمسة أذ رع وخمسة عشر إصبعا • مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وتسعة أصابع •
125و
الحوادث في سنة خمسين وثمانمائة • فيها توفي قاضي القضاة شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن يعقوب القاياتي الشافعي في العشر الأخير من المحرم وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المومني ودفن بتربة الصوفية بالصحراء خارج باب النصر وقد تقدم شيئا من ترجمته عند ولايته • وفيها توفي القاضي بهاي42 الدين محمد بن قاضي القضاة نجم الدين عمر بن جحي الدمشقي المولد والمنشأ الشافعي ناظر جيش دمشق بخط بولاق بمنظرة على النيل في ثالث عشرين صفر وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المومني • ودفن بالقرافة الصغرى تجاه شباك الإمام الشافعي رضي الله عنه وهو في حدود الأربعين من العمر تخمينا • وكان شابا طوالا حميما جميلا • طويل اللحية جدا • كريما مفرطا في الكرم ومات وعليه جمل من الديون فقضى دينه من موجوده • الحوادث في سنة إحدى وخمسين وثمانمائة فيها في أول المحرم ولي قاضي القضاة علم الدين صالح بن البلقيني الشافعي قضاء الديار المصرية عوضا عن الشيخ شهاب الدين بن حجر رضي الله عنه بحكم عزله وفيها استقر أبو النحاس النحاس في وكالة بيت المال عوضا عن ولي الدين السقطي وقد تقدم ذكر توصل ابوا الخير المذكور على السلطان وسبب ترقيه وفيها أنعم السلطان على الأمير خشقدم الناصري المؤيدي بإقطاع حائر بك الأجرود وفيها في يوم الخميس قدم الشريف بركات بن الشريف حسن بن عجلان امير مكة المشرفة وكان الواسطة في دخوله في الطاعة وقدومه إلى السلطان القاضي شرف الدين موسى التتاي الأنصاري ونزل الملك الظاهر إلى لقائه بمطعم الطير بالريدانية وبالغ السلطان في إكرامه وقام ومشى إليه خطوات وأجلسه بجانبه
125ظ
ثم أخلع عليه وأحضر له فرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش وركب مع السلطان إلى أن ركب قرب من القلعة أذنه أن يتوجه إلى مكان أنزله به • وفيها ظهر الطاعون بالديار المصرية ودام أشهرا • الحوادث في سنة اثنين وخمسين وثمانمائة فيها تزايد الطاعون ومات جماعة كبيرة من أعيان الدولة وأمرائها • وفيها أخلع السلطان على الأمير جرباش الكريمي باستقراره أمير سلاح عوضا عن تمراز القومشي بحكم وفاته • وفيها خامس ربيع الأول استقر الأمير اشنبغا الطياري رأس نوبة النوب عوضا عن الأمير تمر باي التمر بغاوي بحكم وفاته • وفيها في سادس ربيع الأخر رسم بنفي يرعلي المحتسب العجمي ثم شفع فيه وفيها أخلع السلطان علي مملوكه إزبك من ططح باستقراره من جملة رؤوس النوب • وفيها سافر الأمير قانم التاجر رسولا إلى بن عثمان متملك بلاد الروم وفيها في ثاني عشر رجب استقر شيخ الإسلام شرف الدين يحي المناوي رضي الله عنه في قضاء الديار المصرية عوضا عن علم الدين صالح بن البلقيني بحكم عزله وفيها رسم السلطان للأمير زين الدين الاستادار في التكلم في الحسبة من غير أن يلبس لها خلعة وفي سابع رمضان اختفى السقطي فلم يعلم له مكان • وفيها حج بالناس أمير المحمل الأمير فيروز الزمام • وفيها استقر الأمير جانبك اليشبكي محتسب القاهرة مضافا لما بيده من الولاية وشد الدواوين والحجوبية • الحوادث في سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة •
126و
فيها توفى السيد الشريف سراج الدين عبد اللطيف الفاسي الأصل المكي المولد والمنشأ • الحنبلي قاضي قضاة الحنابلة بمكة ومات بها في أواخر هذه السنة وكان سيدا كريما متواضعا • رحل إلى بلاد الشرق غير مرة • وأقبل عليه شاه رخ بن تيمور لنك • وابنه صاحب سمرقند • وعاد إلى مكة بأموال كثيرة أتلفها في مدة يسيرة لكرم كان فيه وهو أول حنبلي ولي قضاء مكة استقلالا • وفيها توفي قاضي القضاة أمين الدين أبو اليمن محمد النويري الشافعي قاضي قضاة مكة وخطيبها في ذي القعدة عن نحو ستين سنة وهو قاض وكان فاضلا دينا خيرا فصيحا مفوها • كثير الصوم والعبادة • مشكور السيرة في أحكامه فردا في معناه • أمر النيل القديم سبعة أذرع وخمسة عشر إصبعا مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثلاثة أصابع • الحوادث في سنة أربع وخمسين وثمانمائة فيها كان الشراقي العظيم بأرض مصر والغلاء المفرض المتداول إلى سنة سبع وخمسين وثمانمائة وبلغ سعر القمح الأروب نحو ألفي درهم والحمل التبن سبعمائة درهم وفيها توفي الشيخ المعمر شمس الدين محمد بن الخطيب عبد الله الرشيدي الشافعي خطيب جامع الأمير حسين خارج القاهرة بحكر النوبي في يوم الجمعة حادي عشر شهر رجب سنة تسع وستين وسبعمائة وكانت له مسموعات كثيرة وحدث سنين وتفرد بأشياء وكان شيخا منور الشيبة فصيحا مفوها خطيبا بليغا • وفيها توفي الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم الدمشقي الحنفي المعروف بابن عرب شاه غريبا عن أهله وأوطانه بخانقاة سعيد السعداء في خامس عشر رجب ورحل إلى بلاد الروم في واقعة تمرلنك
126ظ
وترد إلى القاهرة وولي قضاء حماة وعدة وظائف وكان إماما بارعا في علوم كثيرة مفننا في الفقه • والعربية • وعلم المعاني • والبيان • والأرب • والتاريخ • وله محاضرة حسنة وكان متواضعا وكان ينظم الشعر باللغات الثلاث العربية • والفارسية والتركية • وفيها توفي القاضي زين الدين عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم الدمشقي الأصل والمولد • والمنشأ المصري الدار • والوفاة • بطالا بها في رابع شوال بداره بخط الكافوري وقت المغرب • ودفن من الغد بتربته التي أنشأها بالصحراء خارج القاهرة ومولده في حدود التسعين نشأ بدمشق • وخدم القاضي بدر الدين بن الشهاب محمود وبه عرف بين الناس • ثم اتصل بخدمة الملك المؤيد شيخ وهو على نيابة دمشق • ولازمه إلى أن قتل الملك الناصر • وقدم معه على القاهرة وسكن بالسبع قاعات وهو فقير • ولما تسلطن المؤيد قربه وأدناه وولاه نظر الخزانة فانتقل من داره إلى دار أخرى • ثم أخذ أمره في نمو • وعظم في الدولة • وعمر الأملاك الكثيرة • ثم أنشأ مدرسة بخط الكافوري تجاه داره • ثم ولي نظر الجيوش المنصورة بالديار المصرية • في الدولة الظاهرية ططر • بعد عزل بن البارزي • وتم في نظر الجيش سنين • وعظم في أوائل الدولة الأشرفية • ثم أخذ أمره عنده في أدبار • ثم ولي الوزر والاستاداريه وحبس وصودر وقاسا أهوالا كثيرة وقد ذكرنا ذلك في ترجمته فلم نحتج إلى إعادة ذلك • وفيها توفي الأمير أركماس الظاههري الدوادار بطالا بالقاهرة في ثامن عشرين شوال وسنه يزيد على سبعين سنة • وفيها توفي قاضي القضاة ولي الدين أحمد بن محمد بن يوسف السفطي الشافعي في مستهل ذي الحجة ودفن من الغد بعد أن مرض يوما واحدا كان أصله من سفط
127و
الحنا بالوجه البحري من أعمال القاهرة ونشأ بالقاهرة وحفظ عدة متون واشتغل بالعلم في مبادئ أمره • وناب في الحكم عن قاضي القضاة جلال الدين البلقيني مدة سنين ثم تنزه عن ذلك • وتردد للأكابر • إلى أن اتصل بالملك الظاهر جقمق وحظي عنده وولي عدة وظائف آخرها قضاء القضاة بالديار المصرية فسلط عليه أبو الخير النحاس فتكلم فيه عند السلطان وأبلغه ما يتفق منه مع الناس من قطع أرزاقهم والترسيم عليهم • والتشويش • ففعل به السلطان ما ذكرناه في ترجمته • وفيها توفي العلامة قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء محمد بن قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الشيخ الإمام العلامة ضياء الدين محمد • بن محمد • بن سعد • بن عمرو • بن يوسف • بن إسماعيل الصاغاني الأصل • المكي المولد • والدار • والوفاة ولي قضاء الحنفية بمكة • وافتى بها وصنف • ومولده في تاسع المحرم سنة تسع وتمانين وسبعمائة بمكة • وكانت وفاته في تاسع عشرين ذي القعدة • وولي القضاء بعده بمكة أخوه أبو حامد • أمر النيل القديم ستة أذرع وخمسة عشر إصبعا مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا • وسبعة أصابع وهي سنة الشراقي العظيم • الحوادث في سنة خمس وخمسين وثمانمائة فيها توفي الخليفة أمير المؤمنين المستكفي بالله • أبو الربيع سليمان ابن الخليفة المتوكل على الله • أبي عبد الله محمد بالقاهرة في يوم الجمعة ثاني المحرم وصلى الله عليه السلطان بمصلاة المؤمنين ومشى في جنازته إلى أن شهد دفنه وربما أراد حمل نعشه في طريقه • وكان سنه نحو الستين سنة وكانت خلافته تسع سنين وعشرة أشهر تقريبا • وكان دينا خيرا كثير الصمت منجمعا عن الناس بالكلية • وولي الخلافة بعده أخوه حمزة بغير عهد منه ولقب القائم بأمر الله وفيها توفي القاضي جمال الدين عبد الله بن هشام الحنبلي الفقيه أحد
127ظ
نواب الحكم العزيز بالقاهرة في العشر الأخير من المحرم • وكان فقيها فاضلا مشكور السيرة في أحكامه • وفيها توفي الرئيس مجد الدين عبد الرحمن بن الجيعان ناظر الخزانة الشريفة في تاسع عشرين المحرم بعد قدومه من الحجاز الشريف وخلف عدة أولاد من حوار بيض مسلمات وفيها توفي القاضي شمس الدين محمد بن زبالة الشافعي المصري الأصل والمولد قاضي قضاة مدينة الينبوع بها وكان له سمعة وصيت في تلك الأقطار ومولده خارج القاهرة بباب البحر • وفيها توفي خوندكار مراد بك بن عثمان متملك برصا وأعمالها من ممالك الروم بمملكته في سابع المحرم • وولي المملكة من بعده ولده السلطان محمد بن مراد بك ومات السلطان مراد بك وهو في أوائل الكهولية • وكان خير ملوك زمانه شرقا وغربا • أفنى عمره في الجهاد في سبيل الله • وفتح عدة فتوحات • وملك الحصون المنيعة على أنه كان منهمكا في اللذات • وفيها توفي الشيخ شمس الدين محمد المعروف بالكاتب الحنفي الرومي الأصل والمولد المصري الدار والوفاة في ثالث عشرين ربيع الأول بعد أن نال حظا من مصر لا سيما من الملك الظاهر جقمق فإنه عظم في دولته إلى الغاية ونالته السعادة وعد من الرؤساء ولم يكن لذلك أهلا • ثم الحظ قدره ونكت وصودر وادعي عليه بدعاوي عند القضاة اقتضت تعزيزه وحبسه بسجن الرحبة • وقاسى أهوالا كل ذلك بأمر السلطان الظاهر جقمق حين تغير عليه نكالا من الله • وفيها توفي الشريف هلمان بن وبير بن بحيار أمير مدينة الينبوع بها في أواخر جمادي الأول وتولى بعده إمرة الينبوع أخوه سنقر • وفيها توفي الشريف أميان بن مانع الحسني أمير المدينة الشريفة النبوية
128و
في جمادي الآخر وتولي امرة المدينة من بعده زبيري بن قيسي بن ثابت • وفيها توفي الأمير شهاب الدين أحمد • بن الأمير علي • بن الأمير أينال • اليوسفي الأتابكي أخذ مقدمي الألوف بالديار المصرية في ليلة الثلاثاء سابع عشرين ذي القعدة وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمنين • ودفن بتربة جده الأتابك اينال وله من العمر نحو خمسين عاما والي والده ينتسب الملك الظاهر جقمق • وفيها توفى السيد الشريف إبراهيم بن حسن بن عجلان الحسني المقبوض عليه مع أخيه عليه من مكة وحمل إلى القاهرة وحبس بالبرج من القلعة مدة طويلة ثم اخرج مع أخيه علي إلى ثغر دمياط فدام به بعد موت أخيه علي (إلى ثغر دمياط فدام به بعد موت أخيه علي)43 إلى أن مات في هذا التاريخ • وفيها توفي الأمير تمراز من بكتمر شاد جده المؤيد المصارع قتيلا بالحديدة من بلاد اليمن في خامس عشر رمضان وقد ذكرنا عصيانه وأخذه مال السلطان وما وقع مفصلا في أصل الترجمة • وفيها توفي قاضي القضاة شيخ الإسلام بدر الدين أبو الثناء محمد وقيل أبو محمد بدر الدين محمود بن القاضي شهاب الدين أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين بن يوسف ابن محمود العنيتابي المعروف بالعني الحنفي قاضي قضاة الديار المصرية وعالمها ومؤرخها في ليلة الثلاثاء رابع ذي الحجة • ودفن من الغد بمدرسته التي أنشأها تجاه داره بالقرب من الجامع الأزهر • ومولده بعينتاب في سنة اثنين وستين وسبعمائة • ونشأ بها وحفظ القرآن الكريم وتفقه بوالده وكان أبوه قاضي عينتاب وتوفي بها في شهر رجب سنة أربع وثمانين وسبعمائة • ثم رحل ولده القاضي بدر الدين بعد موته إلى حلب وتفقه بها على العلامة جمال الدين يوسف بن موسى الملطي الحنفي وغيره ثم قدم لزيارة القدس الشريف فلقي به العلامة علاي الدين بن العلاء بن أحمد
128ظ
ابن محمد اليرامي الحنفي شيخ المدرسة الظاهرية برقوق وهو أيضا كان توجه لزيارة القدس فاستقدمه معه إلى القاهرة في سنة ثمان وثمانين وسبعمائة وجعله من جملة الصوفية بالمدرسة الظاهرية • ثم قرره خادما به • ثم وقع له أمور يطول الشرح في ذكرها إلى أن عرف بين الطلبة • وفضل في علوم • وصحب الأمير بكم من عوض • والأمير قلمطاي العثماني الدوادار • وتغري بردي القودمي • إلى أن توفي الملك الظاهر برقوق في سنة إحدى وثمانمائة • ولي حسبة القاهرة في مستهل ذي الحجة من السنة بسفارة هؤلاء الأمراء عوضا عن الشيخ تقي الدين المقريزي • فمن يومئذ وقعت العداوة بينهما • ثم صرف عنها بعد أشهر ثم وليها بعد مدة مرة أخرى • ثم عزل عنها • ثم وليها • آخر ولايته لها الدولة المؤيدية • ولما تسلطن الأشرف برسباي صحبه وعظم عنده إلى الغاية وصار ينادمه ويقرأ له التاريخ من أيام السلف من الوقائع والأخبار • ويعلمه دينه كما يقرأ له التاريخ باللغة العربية • ثم يفسر له باللغة التركية • وكان فصيحا في اللغتين • وكان فقيها • أصوليا • نحويا • لغويا • بارعا في علوم كثيرة • وأفتى ودرس • وصنف التصانيف الكثيرة في كل فن • وانتفع الناس بذلك كثيرا وهي مشهورة • وفيها توفي السيد الشريف عفيف الدين أبو بكر محمد الأيكي العجمي الشافعي نزيل مكة المشرفة بمني في ثاني يوم من التشريق وحمل إلى مكة ودفن بها وكانت جنازته مشهورة وكان الناس في أمره وصلاحه على أقسام • أمر النيل القديم أربعة أذرع • وخمسة عشر أصبعا • مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع الحوادث في سنة ست وخمسين وثمانمائة فيها أخذ الغلاء في الخطاط من الديار المصرية وأعمالها •
129و
وفيها توفي الشيخ الإمام العلامة علاء الدين علي بن الشيخ قطب الدين أحمد القلقشندي الشافعي أحد فقهاء الشافعية في يوم الإثنين مستهل محرم • ودفن من الغد خارج القاهرة • ومولده بالقاهرة في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وسبعمائة ونشأ بها وحفظ عدة متون في مذهبه • وتصدى للاشتغال • وتولى عدة تداريس • ورشح لقضاء الديار المصرية • وفيها توفى الأمام المصري ناصر الدين محمد بن كول بغا الحنفي إمام المدرسة الأشرفية بالعنبريين في يوم الأحد تاسع عشر صفر وهو في عشر الخمسين ومات ولم يخلف بعده مثله في القرآات44 • وحسن التادي كان من الأفراد في القرآة45 في المحراب وكان أبوه من مماليك الأمير الطن بغا الجوباني نائب دمشق • وفيها توفي عظيم الديار المصرية وعالمها ورئيسها كمال الدين أبوا المعالي محمد ابن العلامة القاضي ناصر الدين • محمد بن القاضي كمال الدين • محمد بن عثمان • بن عثمان ابن محمد • بن عبد الرحيم • بن هبة الله البارزي • الحموي • الجهني • الشافعي • كاتب السر الشريف • بالديار المصرية • وبن كاتب سرها • وصهر السلطان الملك الظاهر جقمق بداره بخط الخراطين من القاهرة في يوم الأحد سادس عشرين صفر وحضر السلطان الصلاة عليه بمصلاة المؤمنين • ودفن عند والده بالقرافة الصغرى تجاه شباك الإمام الشافعي رضي الله عنه وكان عالما فقيها كريما سخيا • كان يضرب بكرمه المثل • وولي الوظائف الدينية بالشام ومصر • وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمته رحمه الله وفيها توفي الشيخ الإمام العالم العلامة طاهر بن محمد • بن علي النويري المالكي أحد فقهاء المالكية بالقاهرة في يوم الإثنين خامس شهر ربيع الأول وسنة نيف وستين تقريبا وكان إماما عالما • فقيها • دينا • صالحا • رحمه الله وفيها توفي الملك الكامل خلل بن الملك الأشرف الملك الأشرف أحمد بن الملك العادل
129ظ
سليمان صاحب حصن كيفا من ديار بكر قتيلا بيد ولده في شهر ربيع الأول وولي الملك من بعد ولده ولقب بالملك الناصر ودام في مملكة الحصن إلى شهر رمضان ووثب عليه بن عمه الملك حسن وقتله وتسلطن أخاه ولقب بلقب ابنة الملك الكامل • وفيها توفي الإمام العلامة زين الدين عمر بن الأمير سيف الدين قديد القلمطائي بمكة المشرفة في مجاورته في ثامن من عشر رمضان وسنة ثمان وستون سنة • وكان إمام عصره في النحو والعربية والتصريف وله مشاركة في فنون كثيرة وكان يتزيا بزي الأجناد ويتقلد في ملبسه ولم يتعاظم في أحواله ويركب الحمار مع عراقته في الرئاسة وتبحره في العلوم ولم يخلف بعده مثله في علم العربية والتصريف • أم النيل القديم خمسة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا • مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا واثني عشر إصبعا • تمت السيرة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه •على يد الفقير المعترف بالتقصير محمد بن جمال الدين بن • • محمد المتبولي الأنصاري وكان الفراغ • • من كتابتها في يوم الثلاثاء المبارك • • ثاني عشري محرم الحرام وصلى • • الله على سيدنا محمد • • وعلى أله وسلم • • تسليما •
ناپیژندل شوی مخ