تبدي عجبها: يعملوا كده في بلد الخلافة؟ - خلافة إيه؟ إنتي متعرفيش حاجة. لما «استامبول» اتهدت في الزلزال وجم يشيلوا الناس من تحت الأنقاض لقوا الرجالة والستات لابسين في بعض كده. يتخلل أصابع يده اليسرى بأصابع اليد اليمنى. - هم مش مسلمين؟ - الإسلام كان أيام الرسول والخلفاء الراشدين. يحكي لنا عن الرسول وأمانته. وعن «عمر بن الخطاب» وعدله. وعن «علي بن أبي طالب» وولديه.
أسأله إذا كان قد اشترك في ثورة 19. يقول: أمال. كنت أسيب الديوان مع الموظفين. نترص فوق عربات الكارو ونلف الشوارع واحنا بنهتف ضد الإنجليز وبحياة «سعد زغلول».
تسأله «فاطمة»: إنت شفت بلاد كتيرة يا سيدي؟ يقول: مش كتير. احكي لنا يا سيدي. يقول: حاحكيلك، ناوليني القلة الأول. تهب واقفة وتتناول إحدى القلل الثلاث الموضوعة في صينية على حافة سور البلكونة لتبرد. يكرع منها ويتنهد راضيا. يطلب منها أن تتأكد من امتلاء القلتين الأخريين. تحمل إحداهما إلى الداخل لتملأها. تعود فتضعها في الصينية بين حبات الليمون والخيار.
يسترخي أبي في جلسته. يشعل سيجارته السوداء. يقول: أول مرة كانت للسودان مع الجيش. كانت «أم نبيلة» الله يرحمها معايا. وكانت حبلة في «نبيلة». نزلنا في بيت من بابه. الدنيا حر ولعة. أدور على حد يساعدنا في فك العفش. مفيش. شفت اتنين رجالة لابسين أبيض وممددين تحت شجرة. كل واحد ساند على كوعه وبيلعبوا «السيجة». واحد منهم كان بيمضغ حاجة في بقه وسنانه سودة زي الفحم. ناديت عليه: يا زول. ولا حياة لمن تنادي. سمعت صراخ «أم نبيلة». جريت لقيتها لازقة في الحيطة. وشها أصفر وعنيها على ربطة قماش مفكوكة وحشرة صغيرة. عقربة زبانها مرفوع. جيت أدوسها. مطلتهاش. جريت على الحيطة وخرجت من الشباك. «أم نبيلة» اترمت في حضني. سقيتها كوباية مية. بقينا ننام جوة الناموسية ونحط علب صفيح مية تحت عمدان السرير.
تضع «فاطمة» يدها على صدرها وتبسط ساقيها: حق الواحد ميتغربش. يفضل في بلده. - إنت فاكرة هنا كان أمان؟
يحكي لنا عن «القرعة» وكيف كان الناس يتهربون من التجنيد. الفقراء يصيبون أنفسهم بعاهات. في العين أو الذراع أو الساق. أما الأغنياء فيشترون حريتهم بالمال. يدفعون «البدلية». وعندما تتجمع لدى موظفي القرعة يصبحون هدفا للصوص.
يهوي بالطاقية أمام وجهه: كنت أنام والطبنجة تحت المخدة. هي وكيس الفلوس. في ليلة صحيت على صوت رجل فوق السقف. أخدت الطبنجة من تحت المخدة. وقمت بشويش. وقفت في الضلمة وزعقت بقوة وجراءة: مين هناك؟ محدش رد. فات ربع ساعة ولا صوت. بعد شوية طلع الفجر فرجعت نمت.
تتطلع إليه «فاطمة» مبهورة: ياه. دا انت قلبك جامد قوي يا سيدي. يستطرد قائلا إن الطرق أيضا لم تكن آمنة. وخاصة في الصعيد. في الليل تكمن الرباطيات على جوانبها . يكون راجعا من سهرة في بيت المأمور أو وكيل النيابة. الدنيا ضلمة كحل. يده تقبض في حزم على كيس النقود وعيناه تفتشان في الظلام. - كان نظري وقتها ستة على ستة. مرة اتصبت برصاصة. يشير إلى أثر جرح في جبهته بين عينيه. - ومرة انضربت بسكينة. يدير رأسه ليرينا أثر جرح مائل في قفاه.
أسأله: ولسه عندك المسدس؟ - لا. الإنجليز كانوا بيلموا السلاح فخبيته في جنينة الفيلا. الظاهر خال «نبيلة» اللي كان عايش معانا سرقه وباعه.
يرين علينا الصمت. يقول بعد لحظة: المهم الواحد يعرف إزاي يتصرف. مرة كنت راكب التروماي. طلع اتنين. واحد وقف على السلم من اليمين. والتاني نط من الشمال. سألني عن الساعة. اشتبهت في إنهم نشالين. مديت إيدي في جيبي وطلعتها مقفولة. عملت إني بابص فيها. وقلت له الوقت بالتقريب. اللي على اليمين راح ضاحك وقال لزميله: سيبه يا جدع. باين عليه من أهل الصنعة.
ناپیژندل شوی مخ