التكملة والذيل على درة الغواص
للشيخ العلامة أبي منصور موهوب بن أحمد
ابن محمد بن الخضر الجواليقي
رحمه الله تعالى آمين
تحقيق وتعليق
عبد الحفيظ فرغلي علي القرني
1 / 835
الجواليقي
هو أبو منصور موهوب بن أبي طاهر أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي البغدادي.
ولد عام ٤٦٦ هـ من أسرة بغدادية - في مدينة بغداد - وفيها شب ونشأ وتتلمذ على علمائها، ومن أبرزهم - في ذلك الوقت - أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي، الإمام المشهور، شارح ديوان الحماسة بثلاثة شروح، وشارح ديوان المتنبي والمفضليات وقصيدة "بانت سعاد" ومقصورة ابن دريد، وقصيدة اللمع في النحو لابن جني، وشارح كتاب نهاية الوصول إلى علم الأصول، كما فسر القرآن الكريم، وغير ذلك من الأعمال الجليلة التي تدل على علم واسع ومعرفة شاملة ونبوغ فريد.
فمن حس الحظ الجواليقي أن تتلمذ على التبريزي.
وكان الجواليقي عند حسن ظن أستاذه، فآثره الأستاذ وفضله على غيره من التلاميذ لما عرف فيه من طموح وتوق إلى العلم وإقبال عليه بشغف.
ودأب الجواليقي على تلقي العلم حتى نبغ فيه، وخلف أستاذ على كرسي فقه اللغة بالمدرسة النظامية بعد موته.
وطارت شهرة الجواليقي كما طارت شهرة أستاذه من قبله، وتحلق حوله التلاميذ من كل مكان، يجنون شهي الثمر من علمه وأدبه.
وكان الجواليقي أثيرا لدى الخلفاء والأمراء، حتى لقد أصبح إماما للخليفة المقتفي بالله يصلي به الصلوات الخمس، وألف له كتابا في العروض.
1 / 837
وله مع علمه وأدبه شجاعة يقمع بها الخصوم، فمما ذكره ابن خلطان في ذلك أن التلميذ الطبيب وكان ملازما للخليفة أراد أن يفحم الجواليقي ففحمه الجواليقي، ذلك أن الجواليقي حين حضر وقت الصلاة دخل على الخليفة كالعادة وكان معه ابن التلميذ، فقال الجواليقي: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله تعالى.
فقال ابن التلميذ - وكان نصرانيا-: .. ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ. فلم يلتفت إليه الجواليقي وقال للمقتفي بالله: يا أمير المؤمنين، سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية، وروى خبرا في صورة السلام، اقتنع به الخليفة، وانكسر له ابن التلميذ.
وكانت للجواليقي همة في العلم لت تعرف الكلل، وإذا سئل عن شيء يجهله لا يتوانى عن البحث عنه حتى يعرف. سأله سائل مرة قائلا: سمعت بيتين من الشعر ولم أفهم معناهما، وأريد أن تعرفني معناهما وأنشد:
(وصل الحبيب جنان الخلد أسكنها ... وهجره النار يصليني بها النارا)
(فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة ... إن لم يزرني وبالجوزاء إن زارا)
فقال له: هذا شيء من معرفة علم النجوم وسيرها لا من صنعة أهل الأدبي.
وبعد انصراف الشاب آلى على نفسه ألا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير الشمس والقمر. ولم يزل الجواليقي جادا في ذلك حتى أتقنه.
ومضى الجواليقي في طريق العلم قارئا ومعلما ومؤلفا حتى ترك من بعده ثروة علمية طائلة منها: شرح أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب أسماء الخيل وفرسانها عند العرب، وكتاب المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم، وهو تفسير للكلمات الأعجمية في اللغة العربية.
وهذا الكتاب الذي بين أيدينا .. ذيل درة الغواص .. الذي أتم به عمل الحريري في درته .. وقد سمي بكتاب التكملة فيما يلحن فيه العامة.
وله تلاميذ نجباء منهم أبو البركات الأنباري العالم الجليل صاحب الكتاب الجليل نزهة الألباء في طبقات الأدباء.
1 / 838
وترك من أولاده العلماء ابنه إسحاق بن موهوب، وأخاه إسماعيل بن موهوب، وكلاهما عالم جليل وأديب خطير ترجم لهما ياقوت الحموي في معجم الأدباء، كما ترجم لهما صاحب كتاب إنباه الرواة بإنباه النحاة.
وقد توفي الجواليقي سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ببغداد.
1 / 839
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، توكلت على الله.
قال الشيخ الإمام "أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي" ﵀":
هذا تكملة ما تغلط فيه العامة، وهي حروف ألفيت العامة تخطى فيها، فأحببت التنبيه عليها، لأني لم أرها أو أكثرها في الكتب المؤلفة فيما تلحن فيه العامة.
فمنها ما يضعه الناس غير موضعه، أو يقصرونه على مخصوص وهو شائع.
ومنها ما يقلبونه ويزيلونه عن جهته.
ومنها ما ينقص منه ويزاد فيه وتبدل بعض حركاته أو بعض حروفه بغيره.
واعتمدت الفصيح من اللغات دون غيره، فإن ورد شيء مما منعته في بعض النوادر فمطروح لقلته زرداءته.
فقد أخبرت عن "الفراء" أنه قال: واعلم أن كثيرا مما نهيتك عن الكلام به من شاذ اللغات ومستنكر الكلام لو توسعت بإجازته لرخصت لك أن تقول: رأيت رجلان، ولقلت: أردت عن تقول ذاك، ولكن وضعنا ما يتكلم به أهل الحجاز وفصحاء أهل الأمصار، فلا يلتفت إلى أن قال: يجوز فإنا قد سمعناه،
1 / 843
إلا أنا نجيز للأعراب الذي لا يتخير، ولا نجيز لأهل الحضر والفصاحة أن يقولوا: السلم عليكم، ولا جيت من عندك وأشباهه مما لا تحصيه من القبيح المرفوض وما توفيقي إلا بالله.
أولا: مما يضعه الناس في غير موضعه:
١ - متى يقال البارحة ومتى يقال الليلة؟ .
فمما تضعه العامة غير موضعه قولهم - فيما بين صلاة الفجر إلى الظهر: فعلت البارحة كذا وكذا، وذلك غلط، والصواب أن تقول فعلت الليلة كذا إلى الظهر، وتقول بعد ذلك: فعلته البارحة إلى آخر اليوم.
والصباح عند العرب من نصف الليل الآخر إلى الزوال، ثم المساء إلى آخر نصف الليل، وكذا روي عن "ثعلب" ﵀.
ومما يشهد بصحة ذلك ما روي عن النبي ﷺ أنه قال: "من فاته شيء من ورده أو قال جزئه من الليل فقرأه ما بين صلاة الفجر فكأنما قرأه من ليلته". وقال ﷺ ذات ليلة في دعائه: فحمى أو طاعون، فلما أصبح قال له إنسان من أهله: يا رسول الله لقد سمعتك الليلة تدعو بدعاء. وعنه ﷺ أنه كان إذا قعد بصلاة الغداء يقول: "هل رأى أجد منكم الليلة رؤيا؟ ". وقال "لبلال" عند صلاة الفجر: "يا بلال، خبرني بأزجى عمل عملته منفعة في الإسلام، فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة".
1 / 844
٢ - لا يقال بعد الغروب: فعلت اليوم كذا
ومن ذلك قولهم في الغروب: فعلت اليوم كذا وكذا، ولك غلط، والصواب أن يقال: فعلته أمس الأحدث، لأن مقدار اليوم طول الشمس إلى غروبها، فإذا غربت الشمس فقد ذهب اليوم ومضى.
٣ - مدى صحة وصف الأيام بالبيض
ومن ذلك قولهم: الأيام البيض، فيجعلون البيض وصفا للأيام كلها، والأيام كلها بيض، والصواب أن يقال: أيام الليالي البيض، لأن البيض وصف لها دون الأيام، فيحذف الموصوف وهو الليالي ويقيم الصفة مقامها وهو البيض، ويضيف الأيام إليها.
والليالي البيض الثلاثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة، وسميت بيضا لطلوع الشمس من أولها إلى آخرها.
أسماء الليالي عند العرب
والعرب تسمي كل ثلاث من ليالي الشهر باسم، فتقول: ثلاث غرر، وغرة
1 / 845
كل شيء أوله: وثلاث نفل لأنها زيادة على الغرر، وثلاث تسع لأن آخر أيامها التاسع: وثلاث عشر لأن أو أيامها العاشر وثلاث بيض لأنها تبيض بطلوع القمر من أولها إلى آخرها، وثلاث درع لاسوداد أوائلها وابيضاض سائرها، وثلاث ظلم لإظلامها، وثلاث حنادس لسوادها، وثلاث دآدى لأنها بقايا، وثلاث محاق لإمحاق القمر أو الشهر.
٤ - الفرق بين الطوارق والجوارح
ومن ذلك قولهم في الدعاء: نعوذ بك من طوارق الليل وطوارق النهار، وهو غلط، لأن الطروق الإتيان بالليل خاصة، ولهذا سمي النجم طارقا. قال الله تعالى: ﴿والسماء والطارق﴾ [الطارق: ١].
والصواب أن يقال: نعوذ بالله من طوارق الليل وجوارح النهار؛ لأن "أبا زيد" حكى عن العرب: جرحته نهارا وطرقته ليلا. قال الله تعالى: ﴿وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار﴾ [الأنعام: ٦٠].
1 / 846
٥ - الفرق بين العام والسنة
ومن ذلك العام والسنة لا يفرق عوام الناس بينهما، ويضعون أحدهما موضع الآخر، فيقلوون لمن سافر في وقت من السنة إلى مثله أي وقت كان: سافر عاما، وذلك غلط.
والصواب ما أخبرت به عن "أحمد بن يحيى" ﵀ أنه قال: السنة من أي يوم عددتها فهي سنة، والعام لا يكون إلا شتاء وصيفا، وليس السنة والعام مشتقين من شيء، فإذا عددنا من اليوم إلى مثله فهو سنة، يدخل فيه نصف الشتاء ونصف الصيف، والعام لا يكون إلا صيفا وشتاء، ومن الأول يقع الربع والربع والنصف والنصف، إذ حلف لا يكلمه عاما لا يدخل بعضه في بعض، إنما هو الشتاء والصيف، فالعام أخص من السنة، فعلى هذا نقول: كل عام سنة وليس سنة عاما.
٦ - معنى التوتر
ومن ذلك قولهم: تواترت كتبي إليك، يعنون اتصلت من غير انقطاع، فيضعون التواتر في معنى الاتصال، وذلك غلط.
وإنما التواتر مجيء الشيء ثم انقطاعه ثم مجيئه، وهو تفاعل من الوتر وهو الفرد يقال: واترت الخبر أتبعت بعضه بعضا وبين الخبرين هنيهة. قال الله تعالى:
1 / 847
﴿ثم أرسلنا رسلنا تترا﴾ [المؤمنون: ٤٤]. أصبها وترى من المواترة، فأبدلت التاء من الواو، ومعانه منقطعة متفاوتة لأن بين كل نبيين دهرا طويلا، وقال "أبو هريرة": لا بأس بقضاء رمضان تترى أي متقطعا، فإذا قيل: واتر فلان كتبه فالمعنى تابعها وبين كل كتابين فترة.
٧ - القدوم والبرام
ومن ذلك قولهم: هذه قدور برام، يعنون بالبرام الحجارة، وذلك غلط. إنما البرام جمع برمة، وهي القدر من الحجارة، كما تقول: جلة وجلال، وعلبة وعلاب، والصواب أن تقول: برام الجحارة، أو تقول: برام فيعلم أنها من الحجارة، لأن البرمة لا تكون إلا من غير الحجر، وتجمع البرمة على البرام والبُرم والبَرم قال "طرفة":
(ألقت إليك بكل أرملة ... شعثا تحمل منقع البرم)
وقال آخر:
1 / 848
(والبايعات بشطي نخلة البرما)
٨ - معنى كلمة ظريف
ومن ذلك قولهم: فلان طريف، يعنون به أنه حسن اللباس لبقه، ويخصونه به، وليس كذلك، إنما الظرف في اللسان والجسم. أخبرت عن "الحسن بن علي" عن "الخزاز" عن "أبي عمر" عن "ثعلب" قال: الظريف يكون حسن الوجه وحسن اللسان. الظرف في المنطق والجسم ولا يكون في اللباس.
قال "ابن الأعرابي": فلان عفيف الطرف نقي الظرف. قوله: نقي الظرف يعني البدن، وقال "عمر" ﵁: إذا كان اللص ظريفا لم يقطع. معناه إذا كان بليغا جيد الكلام أحتج عنن نفسه مما يسقط الحد.
1 / 849
والفعل من هذه الكلمة ظرف يظرف طرفا، فهو ظريف، والجمع ظرفاء، ولا يوصف بذلك السيد ولا الشيخ، إنما يوصف به الفتيان الأزوال والفتيات الزولات.
وقال "ابن الأعرابي": الظرف في اللسان والحلاوة في العينين والملاحة في الفم والجمال في الأنف.
وقال "محمد بن يزيد": الظريف مشتق من الظرف وهو الوعاء، كأنه جعل الظريف وعاء للأدب ومكارم الأخلاق.
٩ - علام تطلق كلمة العصارة؟ .
ومن ذلك قولهم للخمر: عصارة، وإنما العصارة ما تحلب من الشيء المعصور، وكل شيء عصر ماؤه فهو عصير، والماء عصارة. قال "امرؤ القيس":
(كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حناء بشيب مرجل)
وقال الآخر:
(إن العذارى قد خلطن للمتي ... عصارة جناء معا وصبيب)
وقال آخر - أنشدنيه "أبن بندار" عن "ابن رزمة" عن "أبي سعيد" عن "ابن دريد" [قال "ابن بري" لأبي القيس بن الأسلت]:
1 / 850
(والعود يعصر ماؤه ... ولكل عيدان عصارة)
وقال "جرير":
(أنت ابن برزة منسوبٌ إلى لجأٍ ... عند العصارة والعيدان تعتصر)
وقال أيضًا يهجو "الفرزدق":
(لحا الله ماءً من عروقٍ خبيثةٍ ... سقت سابياء جار فيها مخمرا)
(فما كان من فحلين شر عصارة ... والألم من خوض الحمار وكميرا)
حوض الحمار لقبٌ كان "الغالب وكميرا اشتقه من الكمرة.
وقال أيضًا يهجو "التيم":
(يا تيم خالط خبث ماء أبيكم ... يا تيم خبث عصارة الأرحام)
ولا يلتفت إلى ما سواه.
1 / 851
١٠ - معنى كلمة السوقة
ومن ذلك السوقة. يذهب عوام الناس إلى أنهم أهل السوق، وذلك خطأ، إنما السوقة عند العرب من ليس بملك، تاجرًا كان أو غير تاجر بمنزلة الرعية التي يسوسها الملوك، وسموا سوقةً لأن الملك يسوقهم فينساقون له ويصرفهم على مراده، يقال للواحد: سوقة ولاثنين: سوقة، وربما جمع: سوقًا. قال "زهير":
(يطلب شأو امرأين قدما حسنًا ... نال الملوك وبذا هذه السوقا)
وقال أيضًا:
(يا جار لا أرمين منكم بداهيةٍ ... لم يلقها سوقةٌ قبلي ولا ملك)
وقالت "حرقة بنت النعمان":
(بينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقةٌ نتنصف)
فأما هل السوقة فالواحدة منهم سوقيٌّ، والجماعة سوقيون.
١١ - [مطلب اليقطين]
ومن ذلك اليقطين. تذهب العامة إلى أنه القرع خاصةً، وليس كذلك. إنما
1 / 852
اليقطين كل شجرٍ انبسط على وجه الارض ولا يقوم على ساق، مثل القرع والقثا والبطيخ ونحو ذلك.
١٢ - القول في ذات
ومن ذلك قول المتكلمين في صفة الله تعالى: الذات، قال "ابن برهان": وذلك جهلٌ منهم لا يصلح إطلاقًا هذا في اسم الله تعالى لأن أسماءه - جلت عظمته - لا يصح فيها إلحاق تاء التأنيث، ولهذا امتنع أن يقال فيه: علامة - وإن كان أعلم العالمين. فذات بمعنى صاحبة تأنيث قولك "ذو" كما أن النسب إلى ذو ذووي. أخبرنا بذلك "أبو زكريا" "عنه".
١٣ - محسات لا محسوسات
وكذلك قولهم: المحسوسات أي المعلومات خطأ أيضًا، والصواب أن يقال: المحسات؛ لأنه يقال: أحسست الشيء وحسست به، فأما المحسوسات فمعناها
1 / 853
في اللغة المقتولات، يقال: حسه إذا قتله.
وكذلك قول العامة: حس في معنى سمع ووجد غلط. تقول: أحسن إذا وجد، فأما حس فقتل، وحس الدابة بالمحسة، وحس النار إذا ردها بالغضا على جبز الملة، وحس اللحم إذا وضعه على الجمر.
١٤ - معنى الخروع
ومن ذلك الخروع تذهب العامة إلى أنه نبتٌ بعينه، ويفتحون خاءه فيخطئون في لفظه ومعناه، وإنما الخروع كل نبت يتثنى، أي نبتٍ كان، ولهذا قيل للمرأة اللينة الجسد: خريع. ومنه حديث "أبي سعيد الخدري" رحمة الله عليه: "لو سمع أحدكم ضغطة القبر لخرع" أي انكسر وضعف.
وليس في كلام العرب شيءٌ على فعول بكسر الفاء إلا حرفان: خروع وعتود، وهو اسم واد وموضع.
١٥ - معنى البقل
ومن ذلك البقل. تذهب العامة إلى أن ما يأكله الناس خاصةً دون البهائم من
1 / 854
النبات الناجم الذي لا يحتاج في أكله إلى طبخ، وليس كذلك.
إنما البقل العشب، وما ينبت الربيع مما تأكله البهائم والناس.
قال الشاعر:
(فلا مزنةٌ ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها)
وقال آخر:
(قومٌ إذا نبت الربيع لهم ... نبتت عداوتهم مع البقل)
وقال "زهير":
(رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينًا لهم حتى إذا أنبتت البقل)
وقال أبو "دؤاد":
(مثل عير الفلاة صعلكة البقل ... مشيحٌ بأربع عسرات)
يقال منه بقلت الأرض وأبقلت، لغتان فصيحتان، إذا أنبت البقل وابتقلت الإبل وتبقلت إذا أرعته.
قال "أبو النجم" يصف الإبل:
1 / 855
(تبقلت في أول التبقل ... بين رماحي مالك ونهشل)
والفرق بين البقل ودق الشجر أن البقل إذا أرعي لم يبق له ساق، والشجر يبقى له سوق وإن دقت، وكذلك يجعلون الحشيش ضربًا من رطب العشب، وإنما الحشيش يابس العشب كله ولا يقع على شيءٍ من الرطب، ورطب العشب يدعى الرطب بضم الراء والخلا جميعًا والكلأ يجمعهما.
١٦ - معنى الصلف
ومن ذلك الصلف، تذهب العامة إلى أنه التيه، والذي حكاه أهل اللغة في الصلف أنه قلة الخير. يقال: امرأةٌ صلفة: قليلة الخير لا تحظى عند زوجها، وقد صلفت صلفًا إذا لم تحظ عنده، ورجلٌ صلف أي قليل الخير، ومن أمثالهم: "رب صلف تحت الراعدة".
١٧ - معنى البهنانة
ومن ذلك البهنانة، تذهب العامة إلى أنها ذم، ويعنون بها المرأة البلهاء، وليس كذلك، إنما البهنانة صفة تمدح بها المرأة، يقال: امرأةٌ بهنانة إذا كانت ضاحكةً متهللة، وقيل: هي الطيبة الرائحة الحسنة الخلق السمحة لزوجها، وقال "ابن الأعرابي" في قول "الشاعر":
(ألا قالت بهان ولم تأبق ... نعمت ولا يليق بك النعيم)
1 / 856
أراد بهانة، وتأبق: تأثم.
١٨ - معنى المتفتية
ومن ذلك المتفتية، تذهب العامة إلى أنها الفاجرة، وليس الأمر كذلك، إنما المتفتية الفتاة المراهقة. يقال: تفتت الجارية إذا راهقت فخدرت ومنعت من اللعب مع الصبيان، وقد فتيت تفتية. يقال: لفلانة بنت قد تفتت أي تشبهت بالفتيان وهي أصغرهن.
ويقال للحدثة: فتاة، وللغلام فتى. قال "القتيبي": ليس الفتى بمعنى الشاب والحدث وإنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال.
١٩ - راب لا مربوب
ومن ذلك قولهم للكثير الأشعال: مربوب، وذلك قلب للكلام، والوجه أن يقال: رابٌّ، فأما المربوب فهو المصلح المربي، قال الشاعر:
1 / 857
(يعطى دواء قفي السكن مربوب)
ويقال: سقاء مربوب إذا متن بالرب، يقال: رب فلان ولده يربه، ورب صنيعته يربها ربًا إذا أتمها وأصلحها، فهو رب ورابٌّ، قال الشاعر:
(يرب الذي يأتي من العرب إنه ... إذا سئل المعروف زاد وتمما)
والرب ينقسم ثلاثة أقسام:
مالك، يقال: هو رب الدابة ورب الدار، وكل من ملك شيئًا فهو ربه.
وربُّ، سيد مطاع، قال تعالى: ﴿فيسقي ربه خمرًا﴾ أي سيده.
وربُّ [أي]، يقال: رب الشيء إذا أصلحه ..
ولا يقال بالألف واللام لغير الله تعالى.
٢٠ - الساقي والمسقي
وكذلك قولهم لساقي الماء: شارب، وهو قلبٌ للكلام، إنما المسقي الشارب وصاحب الماء الساقي، ومثله قولهم لضرب من المشموم: الشمام والشمامة، فيجعلونه للمفعول، وإنما الشمام والشمامة بناء للفاعل للمبالغة ولا يكون للمفعول.
1 / 858