أحيطت بدعوى المهانة كالحجامة والحياكة وغيرهما، ثم يقف المؤلف مدافعا عن مثل هذه الحرف بما يورده من أحاديث وآثار؛ كذلك فإن من السذاجة أن يقف المرء ليجيب: هل كان في عصر الرسول خياطون، وهل كانت الخياطة بدعة؛ أقول:
لم يقصد المؤلف شيئا من ذلك- فيما أعتقد- وإنما رأى أنه يستكمل ضروب النشاط في مجتمع العهد النبوي إذا هو عرّف بهذه الحرف والصنائع وبمن كان يتولاها.
إن الايحاء الذي يستمده قارىء «تخريج الدلالات» بأن المؤلف في النهاية ينتهي إلى «إجلال» ضروب الممارسات التي تحدّث عنها، لأنها مورست في عهد الرسول، يجب ألا يقلل من شأن الكتاب، فالكتاب حلقة في سلسلة من كتب معاصرة تحدثت عنها في غير هذا الموطن: منها مقدمة ابن خلدون ورسائل لسان الدين ابن الخطيب في السياسة والشهب اللامعة لابن رضوان وواسطة السلوك لأبي حمّو- وربما ظهر غيرها- وكل تلك الكتب صورة لتفتح العبقرية المغربية تحت أضواء التاريخ، لتمثل تنظيرا وتطبيقا لفكر سياسي أصيل، وظهور هذه الكتب في عصر واحد، يومىء إلى جيشان فكريّ خاصّ؛ فإذا كان ابن خلدون يستمد من مفهومه للتطوّر آراءه في الدولة وفي السياسة، وإذا كان ابن رضوان يستعيد النهج الأخلاقي التطبيقي في سياسة الدول، وإذا كان أبو حمو يعتمد التجربة الواقعية «الوصولية» مسلكا لتسويغ طموحه، فإن الخزاعي يوحي لأول وهلة بالعودة إلى الأصول: كل هذا الذي نراه من نظم أقرّه الإسلام منذ البداية، ولذلك فنحن في تطبيقه لا نخرج عن ما رسمه ذلك الدين. ولقد يفهم من موقف الخزاعي أنه لا يؤمن بالتطور، ولكن ذلك غير صحيح، فإن إيمانه الضمني بالتطور هو الذي يدفعه للبحث عن الحقائق في بدايات نشأتها في ظل الإسلام. وإن اتكاءه على الحديث الصحيح- بعد القرآن- يدلّ على أنه كان يؤمن بأن نواة كل نظام موجودة في أقوال الرسول وأفعاله. ومهمته أن يقتنص الأخبار ويقيدها، فيحدثنا مثلا أن الجيش في زمن الرسول كان يتألف من ميمنة وميسرة وقلب وساقة ومقدمة، ويبهرك بهذا الخبر الذي يجد سنده في السير والأحاديث، وتلك هي غايته، ولا دخل له بأي تغيير حدث في نظام الجيش بعد ذلك، وهل كان ذلك التغيير مما يقره الرسول لو شاهده؛ وهو يحدثنا بأن الشفاء كانت في زمن عمر تتولى الإشراف على السوق، أي تؤدي وظيفة المحتسب، ولكنه لا يتساءل أبدا عن مدى ما يمكن أن تتولاه المرأة من خطط، وهل تستطيع أن تتجاوز وظيفة المحتسب إلى غيرها من
1 / 12