تجربه ښځینه
التجربة الأنثوية: مختارات من الأدب النسائي العالمي
ژانرونه
ما إن بلغت ناصية الشارع حتى رأيت تامارا. كانت تتقدم ناحيتي، غارقة في التفكير، وهي تضرب حذاءها ذا الرقبة بسوط الركوب. تسمرت في مكاني عاجزة عن الحركة، واقتربت هي دون أن تلمحني. ورغم عذاب الخوف والحزن، لم أتمالك نفسي من التطلع بفضول إلى وجهها. أردت أن أرى كيف تبدو عندما تظن أنها بمفردها . بدا لي أقل صلابة، مستغرقا في تفكير حاد، بومضة عذوبة فوق الوجنتين. أكانت تفكر بي؟ كاد يغشى علي عندما تخللت شعرها بأصابعها، كما تفعل عادة. وأخيرا، عندما أصبحت على مبعدة عشر ياردات أو أكثر، استقرت عيناها فوقي. لم تجفل، وواصلت تقدمها بنفس المشية المتمهلة وهي تنظر إلي. تمنيت أن أهرب، أو أغوص في باطن الأرض، لكني لم أستطع حراكا. كنت مسمرة لصق الحائط بفعل قوة غامضة. وخطر لي أنها قد تلطمني على وجهي بسوطها، لكن هذا الخاطر لم يمدني بالقوة على الحركة. مرت بي دون أن تنبس بكلمة، وهي تنظر إلي كأني أحد المارة المجهولين، ثم اتجهت إلى المدرسة. ورنت مسامير نعلي حذائها فوق الحجارة بصوت واضح مجرد من أي شفقة. سمعت صرير البوابة، ثم اختفت. بقيت في مكاني، في ناصية الشارع، الذي كان ما زال غارقا في الظلمة، أسفل ضوء المصابيح المضطرب. وبعد دقائق ظهرت، ممتطية صهوة بلزاك، وانطلقت نحو السهل دون أن تلتفت لتتبين ما إذا كنت في مكاني ما زلت.
همت على وجهي طيلة الصباح في الناحية، مثل كلب ضال، تأخذني البغتة عندما يدخل أحد الجياد الحظائر أو يخرج منها، على أمل أن ألمحها، متوارية عن أنظار هوارد، الذي قيل له ولا شك إنها لا ترغب في رؤيتي مرة أخرى. لكني لم ألمح لها أثرا. فلا بد أنها مضت إلى جانب السهل، ملتفة حول البلدة، بحذاء السور والميناء، كي لا تصادفني. انتهى كل شيء فعلا.
اتجهت إلى منزلي. كنت قد غادرته في السادسة صباحا، وبقيت في الشوارع المتربة حتى الظهر. ولهذا كنت في حال تعسة، متسخة، منهكة، وبلا أمل. تمنيت أن أصاب بمرض خطير يهدد حياتي. وعندئذ تأتيني تامارا تائبة، لتنحني فوق فراشي وتغمغم: «اغفري لي! لم أقدر حبك حق قدره!» وبهذه التخيلات تمكنت من هدهدة حزني حتى بلغت المنزل، حيث يمكنني أن ألجأ إلى فراشي وأبكي كما أشاء.
وجدت جدي في غرفة المائدة، جالسا فوق مقعد من الدمقس، أحمر اللون، وساقاه الطويلتان ممددتان أمامه، وفي فمه غليون.
يعيش الآن جدي، الذي كان صائد سمك في شبابه، متقاعدا برفقة شقراء في الأربعين من عمرها، يدعوها بمدبرة منزله. كان عكر المزاج، غير مبال بنظافته أو هندامه عن عمد، ساخطا على بطالته الإجبارية (بعد أن فقد ذراعا في حادثة)، يزدري ابنه الذي ارتقى في المراتب الاجتماعية إلى مكانة «صاحب عمل». لهذا كان يجد لذة خبيثة في مضايقة أبي بين الحين والآخر، بإغارة على منزلنا يعقبها دائما شجار عنيف. «حسنا! جئت أخيرا، أليس كذلك؟ اعتقدت أنكم هجرتم المنزل كما تفعلون دائما عندما ترونني قادما. لكم طريقة خاصة في الترحيب بالمرضى والمعوقين! أين رينيه؟»
أجبت متلعثمة: «أظنه خرج.» فقد حالت دهشتي دون ابتكار عذر ما؛ إذ كنت على يقين أن أبي هرب عندما علم بمقدم أبيه.
قال: «بالطبع! لو لم يفعل لدهشت! لقد تلفنت هذا الصباح لأقول إني قادم ولم تكوني بالمنزل. لو كنت «لخرجت» أنت الأخرى ولا شك.» لم أعبأ بإنكار ذلك لأني لا أصغى عادة لما يقوله. كنت ما أزال أرى تامارا تقترب مني دون كلمة، تبدو لا مبالية، كما لو أننا لم نلتق، ولم نتبادل الحب .. وفكرت فجأة: لعلها لم تحبني مطلقا. لعلها كانت تتسلى وحسب، لتملأ فراغ بعد الظهر الطويل. ربما كانت تهزأ بي منذ وقت بعيد. كلا، لم يكن هذا ممكنا. كانت حنونا معي ورقيقة، أحيانا. ذات يوم أحضرت لها زهورا فقالت في رقة بالغة: «يجب ألا تفعلي هذا أيتها الطفلة العزيزة الغبية.» وفي مرة أخرى طلبت مني أن أسجل قائمة كبيرة من الكتب لأقرأها. وتذكرت شيئا. قالت لي ذات مرة، ونحن مستلقيتان جنبا إلى جنب فوق أريكة غرفة المعيشة: «هذه هي المرة الأولى، يا أعز الناس، التي أشعر فيها بالسكينة منذ جئت إلى هذا المكان.» كانت تدعوني بأعز الناس لديها، بواحتها الصغيرة في الصحراء. أجل، لقد أحبتني فعلا، لا شك في هذا. وأراني إلى جوارها مرة أخرى، نتمشى، ونقرأ سويا، وقد أشرق وجهها بالبهجة، وأرى من جديد يديها الجميلتين تسحقان أعقاب السجائر فوق المائدة، أو تحيك في حرص بالغ، كأنها ملاح يصلح شراعا. أوه، وجهها، دائما وجهها ... لكن كيف يسعها، لو كانت تحمل لي أقل قدر من الحنان، أن تعاملني بهذه القسوة، وتتظاهر بأنها لم ترني، ولا تلتفت لتتبين ما إذا كنت ما أزال هناك، تائبة هدها الحزن ... أجل، كنت أنا التائبة! فمهما حاولت إقناع نفسي باني لست مذنبة في شيء، كنت نادمة في أعماقي على انصرافي المفاجئ وكلماتي الغاضبة.
ومرة واحدة، بصورة فظة، منطقية، غير متوقعة، مثل شعاع ضوء، خطرت لي فكرة: إنها لم تحرم علي العودة! أنا التي فرضت على نفسي الحرمان بنفسي! لماذا لم أدرك منذ ذلك اليوم البغيض، أني أستطيع العودة إلى مسكنها؟ لأني تصورت أنها ستأخذ بجدية كلماتي القاطعة، بأني لن أزورها مرة أخرى. عندما فهت بتلك العبارة، شعرت أني نطقت بحكم إعدامي، وكانت تعاستي، التي تمخضت عن عبارة «لن أرى تامارا مرة أخرى على الإطلاق.» من الحدة بحيث حالت بيني وبين أن أدرك، خلال الأسبوعين الماضيين، أني أنا، وليست هي، من قالتها. إذن ... لعلها انتظرت عودتي؟ وربما كانت تعيسة مثلي، لكن كبرياءها منعتها من اتخاذ الخطوة الأولى؟ ربما ما زالت تحبني! هذا الأمل، الذي انتعش، في نفس اللحظة التي اعتقدت فيها أن كل شيء قد ضاع، رفع معنوياتي إلى السماء. كل شيء الآن يمكن تفسيره. لقد انتظرت عودتي طوال أسبوعين، ولهذا تجاهلتني بدافع من غضبها المشروع. كانت غاضبة مني لأني تركتها، ولعلها ظنت أني لم أعد أحبها، مثلما ظننت أنا أنها لم تعد تحبني. فهمت كل شيء، وصفحت عن كل شيء، واغتفرت كل شيء. حتى العنف الذي مارسته معي، وأثار حفيظتي، بدا لي الآن مشروعا. لعلها ظنت أني عازفة عن إمتاعها، أو أني أشعر بالعار من صحبتها، أو ... أيا كان الأمر، كنت على استعداد لمغادرة المائدة، والاندفاع إلى رمبار دي بيجوين، لأحيط عنقها بساعدي، وأحدثها عن مدى حبي لها، وعن تعاستي، وعجزي الغبي عن الفهم. لكن ما كان بوسعي أن أترك جدي، الذي جلس هناك، يأكل في صمت، صورة مجسمة للاستياء.
أكل بشراهة، ومسح شاربه عدة مرات؛ لأنه كان طويلا يتخلل الحساء. لكني كنت أتأمله في سماحة. كنت مذهولة من غبائي، ومعاناتي المروعة نتيجة شيء لا وجود له. وبدأت أشعر بالسعادة لأني عانيت إلى هذه الدرجة، طالما أنه لم يكن ثمة مبرر، وطالما أني، بعد ساعة، إذا لم تكن تامارا بالخارج، سأستمتع مرة أخرى بالسعادة التي خلت أني فقدتها إلى الأبد، وستكون سعادتي أكثر لأني قادرة الآن على تبين مداها.
نظرت إلى منكبي جدي الكبيرين، ويده الوحيدة، وقد بدا ضخما، تعوزه رشاقة الحركة والتعبير، مثل وحش غريب، ووجهه المغضن، وعينيه الصغيرتين الرماديتين الحذرتين، وأدركت فجأة أني عاجزة عن كتمان ما بقلبي:
ناپیژندل شوی مخ