مقدمة المترجم
أصل هذه القصة أحدوثة، وما أصغرها من أحدوثة، جرت على الألسنة في إيطاليا وتداولتها نقلا عنها سائر الأمم: محصلها أن فتاة ذات مال وافر وجمال باهر وعقل كالكوكب الزاهر، كان قد مات عنها أبواها، فخطبها إلى نفسها ملك مراكش وأمير أراغون في جملة النبهاء ممن خطبها. ولكنها مالت إلى شاب رقيق الحال من مسقط رأسها ومن بني جنسها، استدان المال الذي أنفقه في الزلفى إليها بضمان صديق له فقير مثله، رهن لليهودي الذي أقرض ذلك المال رطلا من لحم صدره. فاستخارت الفتاة الله في مستقبلها، وناطت أمرها بثلاثة صناديق: ذهبي وفضي ورصاصي، جعلت في الأول منها جمجمة ميت، وفي الثانى رأس هزأة أبله، وفي الثالث رسمها، فمن اختار من الخطاب الصندوق الذي فيه رسمها أصبحت له حليلة. وقد جاء في هذه الحكاية ما يجيء عادة في كل حكاية من أمثالها: أن حبيب الفتاة هو الذي ألهم الصواب، ففرحت به، واحتالت لإنقاذ صديقه من تبعة ضمانه لليهودي، بأن تزيت بزي عالم قانوني، وقضت على المرابي.
طالع شكسبير هذه الأسطورة من أساطير السذج في تلك الأيام، فما أجالها إجالة في ذهنه المبتدع حتى بدأ بها فصورها جملة في أحسن ظروف الحياة زمانا ومكانا على كل وجوهها، وقيد أوابد الشكل من كل نواحي الفن وفي كل مراميه، جامعا في ذلك كافة بين المبكي والمضحك جمعا خلابا غريبا، مازجا ما يغضب وما يرضي أو ما يسوء وما يسر مزجا رائعا عجيبا.
اقرأ رعاك الله هذه القصة على النحو الذي نحاه شكسبير في جعلها حكاية عن الحقيقة تتبين عجبا عجابا. وأي عجب عجاب كإخراجه من تلك الأنقاض المتداعية المتدابرة غير المتماسكة أنقاض الأسطورة العتيقة صرحا أيدا مشيدا ليس في جملته ولا في تفصيله إلا أفانين صادقة من الحوادث الإنسانية بمقدماتها ونتائجها التي هي أبدا قديمة وأبدا جديدة.
الآن أصبحت تلك القصة ولا موضع فيها لسؤال السائل عن شيء يتمم ما فيها من الدروس، ولا محل فيها لتمني من يتمنى علة صحيحة لحديث مسوق، أو لفظة مناسبة لمقام ذي بال، أو عبارة أو إشارة كان يحسن أن توجد في مكان معلوم.
فإذا فرغنا من النظر إلى جملة القصة فهلم نقلب الطرف في التفصيل المعنوى: خذ الأشخاص وتبين كنه كل منها تر آية شكسبير الكبرى: آية تعمقه إلى كنه الإنسانية في كل حي من أحيائها على اختلاف البيئات، ما تتصور حادثة إنسانية شعرية، معطيا إياها من الجدة والندورة ما صيرها من خرافة عامية تقصها العجائز على أحفادها وحفائدها إلى رواية تمثيلية من أسمى الروائع التي جادت بها قرائح المبدعين في هذا الفن.
ثم طفق يهيئ أجزاءها ويرتب مشوقاتها ويصل بالأسباب الفكرية الدقيقة ما بين أوائلها وغاياتها، وههنا يجد المطالع شخصا يتمثل به كل قصد بحيث لو بحث في الإنس كلهم عن أجمع من هذا الشخص لمقومات الصفة التي أراد المؤلف أن يظهره متصفا بها لما وجد أتم مما هو في تقدير شكسبير.
وما بالك بعد هذا بالكساء اللفظي الذي كانت أزواج تلك المعاني خليقة أن تكتسى به! إن المعجم على ضخامته وسعته الطائلة لمتضائل ومتقارب الجوانب ومتحفز الأصداء للإجابة بين يدي شكسبير، كالطبيعة بأسرها حين يصور، أو كالنفس الإنسانية في أقصى حدودها جلالة أو دقة حين يتخيل، أو كالقلوب المتأثرة الخفاقة حين ينصت إليها ويجمع من حساتها مادة حكمه ليقرر.
ما ازددت قراءة لمنظومة من منظومات هذا الرجل، قصيدة فذة كانت أم رواية، سؤالا في عرض محادثة بين شخصين أم جوابا، كلمة جد ألقى بها في ملامة أم كلمة مزاح، إلا ازددت له إكبارا. وناهيك منه بشاعر سمت به العبقرية إلى أوج جلالها، جعل القصة التمثيلية مجالا غير محدود للوصف، فبين بها أحوال النفس على اختلافها، وقلب وتعدد المناشئ والصفات، وتنوع المعايش والمكروهات والمشهيات. تجد الطمع فتقول لا يصور بأدق من هذا، تجد الجبن فتقول لو تمثل رجلا لكان هذا، تلمح الحقد فتقول كأنني بفلان وفلان وفلان وقد كشف كل عن جزء من الحقد الذي في قلبه فاجتمع من الثلاثة الأجزاء هذا النوع التام من الحقد بل النوع الأتم، وهكذا الحكم في كل ما تصدى شكسبير لإظهارة بمظهره البشري.
إذا بلغ الوفاء من الصديق للصديق أسمى مبالغه التي شهدناها، أو جاءنا بسيرها التاريخ من عهد أرسطاطاليس الذي يؤثر عنه تحبيذ أرقى معنى في معاني الوداد، فهل يزيد شيئا على ما جعله شكسبير في نفس «أنطونيو» من معجزة الوفاء وأجراه على لسانه من بديعها؟
ناپیژندل شوی مخ