ألهاكم التكاثر .
اللغة عندنا نغم يطير بنا عن أرض الواقع، يصعد بنا إلى اللانهائي المطلق، وإن شئت فاختر لنفسك أي كتاب شئت من عيون تراثنا الأدبي، واقرأ مقدمة المؤلف، والأرجح جدا أن تجد نفسك في أحبولة عجيبة من ألفاظ وتراكيب، خيوطها سحرية تصرفك عما يراد بها من معنى، لتعكف على النغم والجرس، إنك تقرأ سطرا كما تقرأ سطرين كما تقرأ عشرين سطرا، فإحساسك هو أنك واقف مسمر القدمين في مكان واحد، لا تتقدم من فكرة إلى فكرة، إنما هو دوران في لا شيء، فمن الجائز - بل لعله من المؤكد - أن ذلك الضرب من الكتابة كان يتفق ومزاج من لم يرد أن يعمل شيئا، فهو في فراغ يملؤه بالزخارف، لكنه ضرب من الكتابة لا يصلح أداة في عصرنا تصل بين كاتب وقارئ فيما يراد عمله بالنسبة إلى أوضاع الحياة اليومية الجارية. •••
لقد أسلفت لك ملاحظة عن الفرق بين ضربين من الكلام: ضرب منهما يتصل بالواقع الذي يتحدث عنه اتصالا مباشرا، كقولنا: «الكويت تقع على الخليج العربي». وضرب آخر يصل جزءا من الكلام بجزء آخر دون أن يكون لأي من الجزأين أو للجزأين معا شأن بدنيا الواقع. وضربت لذلك مثلا قول القائل: «إن ركوب البحر أمتع من ركوب الطائرة، ولما كانت الطائرة أسرع من السفينة، كانت المتعة غير متوقفة على السرعة»، فمثل هذا الكلام قد يوهم بأن في الأمر تفكيرا، لكنه في الحقيقة «كلام في كلام» لا يعني شيئا ، يوضح لك ذلك أن تقول نقيض هذا الكلام فلا يتغير في العالم شيء، كأن تقول: «إن ركوب الطائرة أمتع من ركوب البحر، ولما كانت السفينة أبطأ من الطائرة، كانت هنالك علاقة بين السرعة ومتعة السفر»، فأنت هنا بإزاء تركيبتين كلاميتين، لا تستطيع أن تصف إحداهما بصواب والأخرى بخطأ؛ لأنه لا صواب ولا خطأ في أمثال هذه التركيبات اللفظية التي تبني كلاما على كلام، وانعدام الصواب والخطأ فيه علته أنها لا تقول عن دنيا الأشياء شيئا، فلا المتكلم أفاد ولا السامع استفاد، هو نطق صوتي ينتقل من فم إلى أذن، وانتهى الأمر.
وإني لأزعم - راجيا أن أكون قد أخطأت فيما أزعم - أن نسبة ضخمة من اللغة التي نتداولها في كتاباتنا الأدبية هي من هذا القبيل الأجوف، لا يقدم حياتنا خطوة إلى أمام.
إن ألفاظ اللغة تتصاعد في درجات متفاوتة من التركيب والتعميم، فقولك «إسماعيل» قد يصعد ليصبح «رجلا»، وهذا بدوره قد يصعد ليصبح «أمة» ثم يصعد ليصبح «إنسانية». وواضح أنك كلما صعدت من مدارج التعميم والتجريد بعدت عن الواقع الملموس، ولا ضير في ذلك، فالعلوم كلها تعميمات مجردة تبعد عن الواقع الملموس بعدا شديدا، لكن هنالك حالتين من الصعود، حالة تندرج من أرض الواقع الحسي إلى سماء التعميم المجرد، تدرجا لا تنطمس فيه الدرجات، بحيث يستطيع الصاعد أن يعود فينزل إلى الأرض مرة أخرى درجة درجة. فلو سألت عالما عن قانون علمي: كيف تبين أنه قانون صحيح ينطبق على الواقع؟ أخذ بيدك هابطا من تعميم القانون إلى وقائع الأرض المشهورة التي كانت في الأصل نقطة البداية. غير أن هنالك حالة أخرى أمرها غريب، هي حالة يقفز فيها الإنسان إلى ألفاظ عامة مجردة، دون أن تكون هنالك الرابطة التي تربطها بوقائع الأرض، كقولك - مثلا - «خلود»، هذا معنى عام غاية التعميم، مجرد أقصى التجريد، ولا بأس في ذلك، لولا أن من يستخدمه يغلب ألا تكون عنده الحلقات الوسطى الموصلة بينه وبين الجذور الأرضية التي منها نبت ونما، وإذن فالكلمة في هذه الحالة رنين أجوف لا يفيد صاحبها علما.
وكلما كثرت كلمات كهذه في اللغة التي يستخدمها كاتب أو تستخدمها مجموعة ثقافية من الناس، ازدادت درجة الترجيح عندنا أن ذلك الكاتب، أو هذه المجموعة من الناس، إنما يسبح - أو تسبح - في سمادير، لا تطعم جائعا ولا تروي ظمآنا ولا تكسو عاريا. وإني لأزعم - راجيا أن أكون مخطئا فيما أزعم - بأن نسبة ضخمة مما نقوله ونكتبه هو من هذا القبيل، وأحسب أني لست بحاجة إلى تنبيه القارئ إلى أنني بهذا لا أقصد أحاديث الناس في حياتهم اليومية، فالحمد لله أن هؤلاء الناس في حياتهم اليومية يعرفون كيف يتفاهمون بلغة دالة على واقع، وإنما أقصد من يقطنون في منازل الثقافة العليا - أو هكذا يظنون.
إنه لا يغيب عني أن نهضتنا الحضارية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين - أو قل إلى يومنا هذا - قد صحبتها بالضرورة نهضة في مجال اللغة، فذلك أمر محتوم في دورات التطور لا مفر منه، لكنني ألاحظ أن النهضة اللغوية قد أخذت مجريين مختلفين، أما أحدهما فطريق سلكه فريق من الناهضين أرادوا باللغة أن تنافس العامية في وسيلة أدائها، وأما الطريق الآخر فهو الذي سلكه فريق ظن أن النهوض باللغة إنما يكون بإحياء القديم وكان الله يحب المحسنين.
وعندي أن الأمل المنشود هو أن تتطور اللغة بحيث تحقق شرطين: أن تحافظ على عبقريتها الأدبية أولا، وأن تكون أداة للتوصيل لا مجرد وسيلة لترنم المترنمين، ثانيا: وبغير هذه الثورة في استخدامنا للغة فلا رجاء أن تحقق لنا الوسيلة الأولية التي ندخل به مع سائر الناس عصر التفكير العلمي الذي يحل المشكلات. (ب) من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء
التحول انتقال من حال إلى حال، وأول الخطأ أن نوجه أنظارنا إلى حال المبتدأ، أو أن نوجهها إلى حال المنتهى، مع أن مرحلة التحول هي الواقعة بين حالين: حال المبتدأ وحال المنتهى. ومن هذا الخطأ في النظر تتفرع الأخطاء، منها أن نقيس الأمور بمعيار الماضي، أو أن نقيسها بمعيار المستقبل الذي سوف يكون، غاضين النظر عن الحاضر الذي هو كائن، حاضر الانتقال والتحول، فكأنما الحاضر التحولي هو مرحلة المراهقة في أعوام الإنسان الواحد، فلا هو الطفل الذي كان ولا هو الرجل الذي سوف يكون. وأفدح الخطأ في النظر إلى سلوك المراهق، أن نرده إلى طفولة خرج من طوقها، أو أن ندفع به إلى نضج الرجولة التي ما زالت بالنسبة إليه على مرمى البصر البعيد.
عصر التحول هو عصرنا، فالسفينة تتحرك به بين شطين، ولو غفلنا عن هذه الحقيقة الأولية زاغت أبصارنا إلى ماض تركناه، أو شطح بنا الخيال إلى مستقبل مأمول لا نملك بعد وسائله، فإذا كانت الأولى التوت أعناقنا، وتحولنا إلى أصنام من الملح، كالذي ألم بقوم لوط إذ لووا أعناقهم لينظروا إلى الوراء أسفا وحسرة، وإذا كانت الثانية أصابنا كساح كالذي يصيب الطفل حين يرغمه أبواه على المشي قبل أن تستقيم ساقاه وتقويا.
ناپیژندل شوی مخ