فالخوارج - في عبارة الشهرستاني - هم كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين والأئمة في كل زمان. وأول من خرج على أمير المؤمنين جماعة ممن كانوا معه في حرب صفين، حين طلب إلى أمير المؤمنين الاحتكام إلى كتاب الله فيما بينه وبين معارضيه من خلاف، وكان أمير المؤمنين يريد إقامة الحق بالقتال، فخرج عليه هؤلاء الخوارج قائلين: القوم يدعوننا إلى كتاب الله، وأنت تدعونا إلى السيف؟! وحملوه على قبول التحكيم، وعلى أن ينيب عنه أبا موسى الأشعري في التحكيم، وكان مبدؤهم ألا حكم إلا الله، ويجمع الخوارج أيضا - كما يقول الشهرستاني - «على التبري من عثمان وعلي، ويكفرون الكبائر، ويرون الخروج على الإمام - إذا خالف السنة - حقا واجبا.»
وإن القول بتكفير المذنب مقترف الكبائر، ليدعونا إلى ذكر جماعة «المرجئة» الذين نادوا بألا يكون لأحد حكم على أحد في هذه الدنيا من حيث معصية أوامر الله أو طاعتها، بل ينبغي أن يرجأ الحكم إلى يوم الحساب، يوم يكون العبد بين يدي خالقه. وفي رأيهم أن يفسح الأمل أمام الإنسان في مغفرة، فلا تضر - مع الإيمان - معصية، ولا تنفع - مع الكفر - طاعة، كما كانوا يقولون. وإنا لنلمح في هذا القول من المرجئة موضعا من مواضع التعارض بينهم وبين المعتزلة (وسيرد ذكرهم بعد قليل)، الذين يرتبون على العدل الإلهي نتيجة ضرورية، هي ألا يعامل المؤمن والكافر على حد سواء، وذلك عندهم هو مبدأ «الوعد والوعيد». •••
ونود أن نقف وقفة أطول عند فرقة لها أهميتها البالغة، هي فرقة «الشيعة» وما يصاحبها من نزعة «باطنية » (على أن نلحظ هنا بأن النزعة الباطنية ليست مقتصرة على الشيعة وحدها)، فقد مرت بنا جماعات خرج على علي خروجا بلغ أحيانا إلى حد تكفيره؛ لأنه لم يقاتل من انصرفوا عن بيعته، وأما «الشيعة» فهم الذين شايعوا عليا وقالوا بإمامته وخلافته، نصا ووصية، سواء كان ذلك النص أو هذه الوصية قد وردت جلية أو خفية، وهم كذلك الذين اعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاد علي، وعندهم أن الإمامة ليست قضية مصلحية تناط باختيار العامة، لكنها قضية أصولية تعد ركنا أساسيا من أركان الدين.
وليس يقتصر أمر الشيعة على الجانب السياسي وحده، الذي يفضل رجلا على رجل، أو أسرة على أسرة في أحقية الخلافة، ولكنه يجاوز ذلك ليمتد إلى أبعاد بعيدة في الفكر الإسلامي. وقبل أن نقدم إلى القارئ صورة موجزة لهذه الأبعاد - معتمدين في تقديمها، بصفة أساسية، على كتاب «تاريخ الفلسفة الإسلامية»، تأليف هنري كوربان، وترجمة الأستاذين نصير مروة وحسن قبيسي - نريد أن نبين للقارئ أجلى بيان مستطاع، أن هدفنا في تتبع هذه التيارات الفكرية ليس هو أن نشايع أو أن نعارض، بل هو أن نمهد الطريق الذي يمكننا آخر الأمر من الإجابة المقنعة المنصفة على سؤال رئيسي طرحناه، وجعلنا هذا الكتاب كله محاولة للجواب عليه وهو: إلى أي حد يمكن للعربي المعاصر أن يستعين بالتراث الفكري في معالجة مشكلاته الراهنة. ولقد تناصرت في الصفحات السابقة لمحات، يدل مجملها على رأي نراه مرجحين لصوابه، وهو أن هذا التراث كله بالنسبة إلى عصرنا قد فقد مكانته؛ لأنه يدور أساسا على محور العلاقة بين الإنسان والله، على حين أن ما نلتمسه اليوم في لهفة مؤرقة هو محور تدور عليه العلاقة بين الإنسان والإنسان.
ونعود إلى الأعماق الفكرية التي تمتد إليها النظرة الشيعية: فبين أيدينا كتاب أوحي به إلى النبي عليه السلام، وواجب المسلم أولا وآخرا هو أن يلم بما جاء في هذا الكتاب إلماما لا يكفي فيه الوقوف عند سطح اللفظ الظاهر، بل لا بد من أن يتعمقه إلى أبعد ما يكمن وراء هذا السطح من أغوار . لكن هذا الفهم المتعمق مرهون بوجود الإنسان الذي يستطيعه، ثم ينقله إلى الآخرين، فإذا ما وصل هذا الإنسان إلى الأعماق الكامنة وراء الظاهر، كان بذلك قد وصل إلى «الحقيقة» أي إلى المعنى «الحقيقي» الذي قصدت إليه الإيحاءات الإلهية كما هي بادية في ظاهر اللفظ القرآني. ولقد تستطيع أن تقف عند ظاهر النص فتفهمه من حيث هو تركيب لفظي ينكشف معناه بمعرفتك للألفاظ ودلالاتها القاموسية، لكن مثل هذا الفهم - وإن دلك على أحكام الشريعة في الحلال والحرام وما إلى ذلك - فهو ليس بالفهم الذي يوصلك إلى المعنى الروحي. على أن المسافة بين المعنى الظاهر في طرف، والمعنى الروحي في طرف آخر، ليست هي المسافة التي تقطعها بوثبة واحدة، إنما هي طريق تتدرج مستوياته، ولكل امرئ من هذه المستويات المتدرجة ما تسعفه به قدرته.
فهناك إذن «شريعة» و«حقيقة»؛ الشريعة هي المظهر الخارجي للحقيقة، والحقيقة هي البعد الداخلي للشريعة؛ الأولى ظاهر والثانية باطن، والظاهر رمز يرمز إلى خفي مقصود، والباطن هو المرموز إليه، الظاهر له مكانه وزمانه، وأما الباطن فأزلي بغير مكان أو زمان. ولقد ذكرنا أن إدراك هذا الباطن محتاج إلى عارف بالسر، وذلك هو النبي، لكن النبوة قد ختمت بمحمد عليه السلام، فما وسيلتنا من بعده إلى كشف السر الحقيقي الخافي وراء الظاهر؟ لا بد أن يكون هنالك «إمام» معصوم من الخطأ، يخلف النبي، ليكون هو كاشف الأسرار، فالتشيع إلى إمام بعينه لا يستهدف الجانب السياسي وحده، بل أهم من ذلك أنه هو الإمام الذي سوف يركن إليه في فهم المسلم لدينه فهما حقيقيا، وإن هذا الإمام العارف بسر الحقيقة، لينقل ذلك السر إلى من يخلفه، وهذا إلى من يخلفه، وهكذا دواليك إلى أن تنتهي السلسلة عند حلقة بعينها.
ويرتكز الشيعة في سعيهم إلى المعنى الحقيقي الباطن للقرآن، على حديث يروى عن النبي عليه السلام، يقول: إن للقرآن ظهرا وبطنا، ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن، وهو حديث يجعله المتصوفة أيضا سندا يستندون إليه في محاولاتهم التغلغل وراء ظاهر النص القرآني إلى ما قد يهتدون إليه من معان حقيقية، يكون ذلك الظاهر المنصوص بمثابة الإيحاء الذي يشير إليها، وما «الإمام» عند الشيعة إلا الولي الملهم في بلوغ المعاني الحقيقة المستبطنة طي النصوص الظاهرة، ينقلها إلى الناس بطريقة «التعليم»؛ أي أن مسألة الفهم ليست موكلة إلى «عقل» يتأمل ويدرك ويقيس (كما هي الحال عند المعتزلة)، بل هي مسألة مرهونة بإمام عارف يلقنها إلى الناس تلقينا، مستندا في معرفته إلى الإلهام الروحي، لا إلى المحاولات العقلية.
فالطريق إذن مزدوجة، لها شعبة للنزول وأخرى للصعود، إن جاز هذا التعبير، فهنالك «تنزيل» من ناحية، ثم «تأويل» من ناحية أخرى، أما التنزيل فهو ما أملاه جبريل على النبي من آيات، وأما التأويل فهو حركة نئول بها - أي نعود - بدءا من هذه الآيات فرجوعا إلى الحقيقة الأولى التي كانت ينبوعا لها، فلو بلغنا بالتأويل تلك الحقيقة الأولى، فقد بلغنا الجوهر الأزلي، وعرفنا الله سبحانه؛ وإذن فوجهة الفكر هي معرفة الله الذي يتجلى في هذا الكتاب المنزل. على أن هذه المعرفة لا تكمل للإنسان إلى على مراحل، فإذا وجدنا فكرة «الانتظار» أساسية عند الشيعة، فليس هو انتظارا لوحي بشريعة جديدة، بل هو انتظارا حتى تنكشف كل المعاني المستورة، وما انتظارهم للإمام الغائب إلا انتظارا لمن يتمم عملية الظهور لما تنطوي عليه الإيحاءات الإلهية من إشارات.
إنه إذا كان دور النبوة قد انتهى، فإن دور الولاية يبدأ بذلك الانتهاء، ودور الولاية هو دور الإمام يعقب النبي، أعني هو دور الباطن يعقب الظاهر، أو هو دور الحقيقة تتلو دور الشريعة. وها هنا تجد بين فرق الشيعة تفاوتا في درجة التوازن الذي يقيمونه بين الشريعة والحقيقة، بين الظاهر والباطن، فهنالك من لا يستغني بأحدهما عن الآخر، وهنالك من إذا وصل إلى الحقيقة أسقط الشريعة. ومهما يكن من أمر اعتدال المعتدلين أو تطرف المتطرفين في العلاقة بين وجهي الظاهر والباطن: هل يتعادلان أو يطغى أحدهما على الآخر، فإنه لا بد - في جميع الحالات - أن يقترن الجانبان اقترانا لا ينفك قائما. ولعل أبسط صورة تصور لنا العلاقة بين الرسالة والنبوة والولاية، أعني بين الرسالة وهي في ظاهرها والرسالة وهي في باطنها، أن نتصور هذه الجوانب الثلاثة في صورة دوائر ثلاث ذات مركز واحد، الدائرة الوسطى في قلب الدائرة الكبرى، والدائرة الصغرى في قلب الوسطى، فالرسالة في ظاهرها هي بمثابة الدائرة الخارجية، وباطنها - أي الدائرة الوسطى - هي النبوة، وباطن النبوة - أي الدائرة الداخلية - هي الولاية، وبهذا يكون الرسول رسولا ونبيا ووليا في شخص واحد، وإنما تكون له هذه الصفات بحسب العمق الذي يتعمق به بواطن رسالته تأويلا لها بحيث يئول إلى الحقيقة الأزلية التي عنها صدرت رسالته، ويكون النبي هو كذلك وليا، وأما الولي فهو ولي فحسب، بمعنى أن الولاية تتحقق له حالة إدراكه للسر الإلهي الكامن تحت النصوص الظاهرة. وإذا شئت تصويرا آخر لهذه الطبقات الثلاثة، فقل إن الرسالة هي قشرة الثمرة، والنبوة لبها، والولاية هي الزيت الساري في ذلك اللب، فلو أخذت الرسالة وحدها كان ذلك هو الشريعة مجردة عن النظرية الصوفية، وعلى أساس هذا التصوير تكون الولاية هي الغاية القصوى المقصودة من وراء الرسالة والنبوة معا؛ لأن هاتين وسيلتان مؤديتان إليها.
إنه لا بد للكتاب من قيم يناط به العلم به علما كاملا، فنص القرآن وحده لا يكفي، لأنه - فضلا عن معناه المستور وراء ظاهره - يشتمل على تناقضات ظاهرية، لا ترتفع إلا بالتأويل، وهو تأويل لا ينفع فيه اللجوء إلى الجدل الكلامي القائم على منطق العقل وقياسه، وإنما يحتاج الأمر إلى رجل ملهم ورث عن سلفه إرثا روحيا يمكنه من الإلمام بالظاهر والباطن معا في وحدة متصلة، وهذا هو ما ننعته بأنه حجة الله، أو قيم الكتاب، أو الإمام.
ناپیژندل شوی مخ