شرح الآجرومية، شرح الجزرية، شرح مقدمة الهداية في علم الرواية.
وهذا رجل خلده المؤرخون؛ لأنه «حفظ» الشاطبية، و«سرد» مرة النسب النبوي طردا وعكسا.
وهذا آخر خلدوه؛ لأنه قرأ القرآن على فلان، وقرأ الشاطبية والرائية على فلان، وقرأ شرح البهجة على فلان، وقرأ كتاب التبيان في آداب حملة القرآن لفلان، وقرأ السيرة النبوية على فلان، ومسند الإمام الشافعي على فلان، وصحيح مسلم على فلان، وصحيح البخاري ... و«تلقن» من فلان وفلان من المشايخ، و«أذنوا له بالتلقين».
وهذه الصفة الأخيرة مفتاح مفيد، لا أقول لذلك العصر وحده، بل هو مفتاح لعصرنا هذا «الحديث» بالدرجة نفسها، فالعلم كله عندنا «يلقن» للمتعلم فإذا نبغ هذا المتعلم ليصبح - مثلا - أستاذا بإحدى الجامعات «أذنوا له بالتلقين».
ولقد عني القوم - وما نزال في إثرهم نعنى - بعمليتي «التلقن» و«التلقين» لأنها هي عندنا - سلفا وخلفا على حد سواء - التعلم والتعليم. (ج) تعطيل القوانين الطبيعية بالكرامات
وأما ثالث العوامل المقيدة لعقولنا عن الأصالة، المكبلة لأرجلنا عن السير، فهو ذلك الميل الشديد الذي نحسه في نفوسنا نحو أن تكون قوانين الطبيعة لعبة في أيدي نفر من أصحاب القلوب الورعة الطيبة، فيكفي أن يشاء الله لواحد من عباده أن يكون من «الصالحين» لينصرف «صلاحه» هذا - في أوهام الناس - لا إلى شق الترع وبناء الجسور ورصف الطرق وإقامة المصانع، بل لينصرف «صلاحه» نحو تعطيل أي قانون طبيعي شاء، فهو يأتي له بالفاكهة من هواء الغرفة، وليس من الضروري عنده أن تحتاج الفاكهة إلى تربة وماء وشمس وهواء، وهو يقرأ لك الطروس المطوية؛ لأن القراءة عنده ليست مشروطة ببصر ورؤية.
ولو اقتصر الأمر في هذا على سواد العامة لما أخذنا عجب؛ فالإنسان منذ خلق يمقت العقل ويتمنى أن تكون للقلب الغلبة والسيادة، لكن الأمر يجاوز هؤلاء إلى العلماء أنفسهم، وأي علماء؟ علماء الكيمياء والفيزياء والنبات وطبقات الأرض، ومتى؟ في عصرنا هذا، وأين؟ في قلب الجامعات!
إنك في يومنا هذا ليأخذك العجب أشد العجب، إذا ما أتيح لك أن تجالس طائفة من رجال العلوم الطبيعية، لتستمع إلى ما يديرونه بينهم من أحاديث عن تصديق وإيمان، إذا ما فتح لهم موضوع الخوارق والكرامات، إنهم عندئذ يقبلون وهم في نشوة السعادة والرضا أن يحكى عن أصحاب الصلاح والطيبة والتقوى كل الخوارق التي تبطل أي قانون شئت من قوانين الطبيعة، كأن الله تعالى يرضيه أن تكون سنته في كونه لهوا وعبثا. إن هؤلاء العلماء وهم في معاملهم لا يقبلون إلا أن تكون قوانين العلم حاسمة صارمة، فما الذي يصيبهم إذا ما تركوا معاملهم وعادوا إلى منازلهم يسمرون؟ أيتركون عقولهم مع معاطفهم البيضاء في حجرات المعامل، ليعودوا إلى منازلهم وقد فرغت رءوسهم إلا من الخرافة وانعدام النقد وسرعة التصديق؟ أيثقل عليهم عبء العقل، فيلقون به آنا بعد آن ليستريحوا في ظل الخرافة الندي الطري الممتع اللذيذ؟
إنني إذ أقرن ما أطالعه من حكايات الخرافة الساذجة عند أسلافنا - وخصوصا في عصور ضعفهم - بما أسمعه بأذني من حكايات الخرافة يرويها بعض رجال العلم فينا اليوم، تأخذني الدهشة العميقة، وأتساءل: هل زاد هؤلاء الرجال الذين ظفروا في ميادين العلوم الطبيعية والرياضية بأعلى الدرجات العلمية على أولئك الأسلاف السذج شيئا في درجة التصديق؟ هل زاد هؤلاء على أولئك شيئا إلا صفحات من علوم «حفظوها» ليلقنوها لطلابهم تلقينا لقاء الرواتب ينفقونها على مظاهر الحياة فيبدون للأعين وكأنهم اختلفوا عن سائر العامة العوام في نظرتهم اللاعلمية إلى تسلسل الأحداث؟
أسلافنا السذج إبان عصور الضعف، وأقراننا المعاصرون في العلوم، كلاهما سواء في قبول ما يحكى لهم من أن من ذوي النوايا الطيبة والقلوب المؤمنة من يطير في الهواء بلا أجنحة ومن يسير على الماء بلا حوامل، كلاهما سواء في تصديق ما يحكى لهم من قدرة أصحاب الكرامات على أن يغرفوا من وعاء صغير على النار طعاما يكفي ألفا من عباد الله الجائعين، وأن تخرج لهم الطيور الخضر من العدم لتظلل رءوسهم إذا اشتد بهم الهجير من شمس الصيف الحارقة، كلاهما سواء في تصديق ما يحكى لهم عن القوة السحرية لكلمات تكتب أو تقال فإذا العليل صحيح معافى، وإذا المهزوم المغلوب غالبا منتصرا، وإذا الرزق كثير والخير وفير بغير عناء العمل.
ناپیژندل شوی مخ