67

وفي كل الأحوال نجد البطل ينسحب أو يتخلى، فهل تم انسحابه أو تخليه عن مطلبه الذي نطلق بحثا عنه وهو الخلود، بعد أن تأكد له فشله الذريع في هذه المرة أكثر من أي مرة سبقتها، أم إن الانسحاب أو التخلي الذي تذكره السطور الغامضة يقصد به ترك السفينة، والسير مع الملاح على طريق البر إلى أوروك؟ أيا كان الأمر فلا بد أن نوعا من التحول والتطهر قد تم هنا بعد ضياع النبتة. وإذا جازت هذه القراءة فقد بدأ التحول أو التطهر على مرحلتين؛ ففي الأولى بكى جلجاميش، وصرخ، وأطلق حمم اليأس من قلبه الممزق؛ وفي الثانية مرت عليه فترة من الزمن سمحت بشيء من التدبر والتقاط الأنفاس. ولم تكن هذه الفترة الزمنية بأقل من «عشرين ساعة مضاعفة»، تناول خلالها القليل من الزاد مع رفيق سفره، وثلاثين ساعة أخرى مضاعفة، أي عدة أيام، توقفا بعدها لقضاء الليل قبل أن يستأنفا المسير ويصلا إلى مشارف أوروك. وهنا نجد الكاتب الشعبي (بما ألفناه منه على الدوام، من التبسيط والعفوية، والبعد عن التحليل والتعليل، واختزال الأزمنة والأحداث والوقائع وتركيزها ودمجها في بعضها، وإبراز جوانب أو أحداث معينة لها دلالات هامة ... إلخ)

18

نجد هذا الكاتب يقفز فجأة إلى خطاب جلجاميش لرفيق رحلته: أي أورشنابي! اصعد سور أوروك. تمش عليه. تفحص قواعده، وانظر إلى لبناته. أولم تصنع من آجر مفخور؟ أولم يضع الحكماء السبعة أسسه ... إلخ (ل11، س302-307). فهل نفهم من صيغة هذا الخطاب، في أفعال أمر كلامية تنطوي على الدعوة والحث والتحريض، وصيغ استفهام تنطوي على الزهو والافتخار، هل نفهم منها أن جلجاميش قد استخلص المغزى من ضياع النبتة، ومن كل تجارب الفشل السابقة، وأنه قد عرف ما لم يعرفه من قبل معرفة واعية ناضجة، وهو أن البناء والعمل الحضاري هو خلود الذكر البديل عن الخلود المستحيل الذي استأثرت به الآلهة من دو البشر؟ ألا يدل هذا الخطاب - الذي لا تستطيع أي ترجمة أن تكتم تعبيره الباطن عن الفرح والاندهاش والاقتناع والاطمئنان - على أن جلجاميش قد بلغ مرحلة «الاستنارة» بعد «دراما» البحث المضني، وتأكد من الحقيقة التي خاض التجربة ليتثبت من صدقها، وهي أن طريق الإنسان الفاني إلى الخلود هو عمله الحضاري الذي يحفظ اسمه بعد موته الحتمي؟ ثم ألم يكن ذكر أعماله الحضارية في مطلع الملحمة بصيغة الغائب تسجيلا لأمجاده الشخصية؛ بدليل أنها قرنت بأعماله التي تدل على طغيانه وبطشه، وبدأت بأمر واضح من أعلى، بينما جاء ذكر تلك الأعمال في نهاية الملحمة بصيغة الخطاب الذي يشي بالانتقال من الأنا إلى النحن، ومن تأكيد الذات على حساب الآخر إلى معرفتها في علاقتها التي لا تنفصم بالآخر؟ وأخيرا ألا يكاد هذا الخطاب أن يغفل فوارق المكان والزمان لكي يصل إلى كل إنسان؟

ونرجع إلى الموضوع الذي بدأنا به، وهو طغيان جلجاميش، فكل ما قلناه عن مأسوية هذا البطل بين الإثبات والإنكار، وعن احتمال تطهره من طغيانه واستبداده أو استبداد فكرة الخلود وتسلطها عليه، إنما يردنا إلى الموضوع الأساسي المسيطر على جو الملحمة منذ البداية، وهو طغيان البطل المتأله. وإذا صح ما قلناه حتى الآن عن تطهره، واحتفاظه بالطابع المأسوي حتى لحظة «الانفراج» أو الاستنارة الأخيرة، فإن هذه المأسوية وذلك التطهر قد ارتبطا في الوقت نفسه بتغير مفهومه عن البطولة، المرتبطة بدورها بمدى طغيانه المادي والمعنوي. ومعنى هذا أن تطهره أو تحرره قد تطور ببطء من مرحلة إلى مرحلة، بحيث اقترن التطهر من طغيان الأنا المستبدة بالتحرر من طغيان فكرة الخلود الشخصي المتسلطة عليه، حتى إذا ضاع الأمل الأخير في هذا الخلود مع ضياع النبتة، ومر بأقسى تجاربه، وتحقق له نوع من «العلاء» فوق الطغيان والخلود الأنانيين، وتطلعت العين والنفس إلى معالم البناء الحضاري، ورجعت إلى البداية التي لم تدرك معناها إلا بعد «ملحمة» التناقض والتمزق والصراع «الجدلي»، الذي فتح عينيه في النهاية على الحقيقة المباشرة البسيطة، وهي أن الخلود الوحيد المتاح للبشر إنما يكمن في العمل الجماعي والبناء الحضاري. وعلينا الآن أن نرصد هذا التطور البطيء بإيجاز.

إن قضية الطغيان من أولى القضايا التي تثيرها الملحمة؛ فعلى الرغم من أنها تبدأ بالتغني بمعرفة جلجاميش وحكمته وبصيرته، ثم تتجه للإشادة بأعماله النادرة، وإنجازاته في البناء والعمران، وتعود بعد ذلك مباشرة إلى تصويره في صورة البطل القوي الجميل، الذي يفوق في قوته وجماله سائر البشر، فإنها لا تلبث أن تقدم بعض الوقائع الواضحة الدلالة على «قهره لشعبه بالليل وفي وضح النهار» (ل1، ع1، س13)؛ فهو كالثور الوحشي أو النطاح؛ مهيبة خطاه، وبأس سلاحه ليس له نظير. وهو يوقظ رعاياه على دقات الطبول؛ مما يثير سخط أهالي أوروك. وهو لا يترك الابن لأبيه، ولا العذراء لحبيبها، ولا ابنة البطل ولا زوجة المحارب. صحيح أن كل هذه الوقائع والتفصيلات لا تقدم الطغيان في جوانبه الإرهابية والدموية التي نتصورها اليوم، بل ربما أمكن تبريرها على نحو أو آخر في الإطار الأسطوري والديني والاجتماعي والتاريخي الذي تدور فيه الملحمة؛ فتسخير الشعب الذي يوقظه على دقات الطبول يمكن تبريره على ضوء الأهداف العمرانية والحضارية، من خلال الأسس الاقتصادية التي اقتضت شكلا معينا من أشكال الإنتاج وعلاقاته في ظل الإقطاع القديم الذي ساد الحضارات النهرية القديمة؛ وأخذ الابنة من أبيها، والزوجة من زوجها، والعروس من خطيبها، يمكن فهمه من خلال طقس «الزواج المقدس»، الذي كان يسمح لبعض القبائل البدائية «بحق الليلة الأولى» قبل الزواج الشرعي.

19

ولكن هل تبرر هذه الوقائع شكوى الناس للآلهة واستجابتها لهم؟ ألا توحي بأن الكاتب أو الكتاب قد سكتوا عن جرائم أفظع وأبشع، مضطرين أو مذعنين للعرف والتقليد الديني الذي حكم بتأليه جلجاميش في حياته، وتوليته القضاء في أرواح الموتى في العالم السفلي بعد موته، ثم التغني بعدله ورعايته لشعبه وحب شعبه له على مدى مئات السنين (هذا إذا صح ما تقوله بعض المراجع وإن لم تستطع تأكيده)؟ ثم إن شكوى الناس للآلهة تأتي في نفس واحد مع تمجيد قوته وجماله؛ فهو راعيهم، وهو مع ذلك قاهرهم، وكأنما يضعون إكليل الغار وتاج المجد على رأس البطل الذي يقيدهم بالأغلال، أو يسومهم عذابا أشد، ويقدمون الدليل على حب الضحية الخائفة، وخضوعها للجلاد الذي تلمع السكين في يده. ألا يقوي هذا من احتمال بطشه وجبروته بصورة أكبر وأخطر مما ذكره كتاب الملحمة، ولا يقلل منه؟!

تبقى هذه الأسئلة في نطاق الحدس والتخمين بوجود «أعماق» أخرى للنص لم تسمح رقابة السلطة والتقاليد بالكشف عنها، وتفصيلات ومعلومات لم يتح للعلماء التوصل إليها، ولكنها تشير إشارة كافية - على الأقل في المرحلة المبكرة من سيرة جلجاميش - إلى وجه الحاكم الإلهي والأرضي المستبد «الذي طغى»، بجانب تمجيدها للبطل البصير الحكيم «الذي رأى».

بيد أن هذا الوجه لم يكن هو الوجه الوحيد، وملامحه الجامدة المرعبة لم تبق على جمودها ورعبها. لقد طرأت عليه تغيرات وتطورات مختلفة قبل أن يبلغ الاستنارة أو التجلي، اللذين بلغهما على أرجح الظنون في المشهد الختامي الذي تحدثنا عنه؛ فقد بدأ تغير مفهوم البطولة، ومن ثم مفهوم الطغيان، منذ أن التقى جلجاميش ب «وحش البرية» إنكيدو في الصراع البدني الذي لم ينته، كما رأينا، بفوز الأول فوزا حاسما على خصمه، وإن تمخض عن اقتناعه بمواجهة ند له في قوته، وعقد ختم الصداقة النادرة بينهما. ويبدو أن إنكيدو قد نسي وعده لبغي المعبد «بتغيير نظام المدينة» ومصيرها، أو نسيه كتاب الملحمة في غمرة اهتمامهم بالمغامرات البطولية المشتركة التي بدأها البطلان. والقارئ الذي تابع هذه المغامرات يتذكر بغير شك أن بطل الملحمة لم يتخل عن طموحه الشخصي إلى الشهرة وخلود الاسم، حتى في المواقف التي برع كتاب الملحمة في تصوير ضعفه الإنساني إزاءها، وتضرعاته لراعيه الإله شمش، وهواجس أحلامه التي كان يسارع صديقه الطيب الشفوق بتفسيرها تفسيرا يرد الطمأنينة إلى نفسه. ويبقى جلجاميش هو البطل الأناني المستبد بعد انتصاره مع صديقه على الثور السماوي (ولعله يرمز من الناحية الأسطورية للقحط واليباب وسائر الكوارث الطبيعية)؛ فقد خرج من هذا الصراع وهو أشد إصرارا على الظهور في مظهر البطل الذي لا يقهر، أمام شعبه الذي راح يردد الهتاف بأنه أقوى الأبطال وأروعهم ، بل إنه ليؤكد هذه البطولة السلبية قبل ذلك بتحديه لإلهة الحب عشتار، وإمعانه في إهانتها والتشهير بها. وهل يمكن أن يعني رفض الحب غير التشبث بعشق الذات، والتحجر في قوقعة الأناوحدية؟! وهل يصدر تحدي إرادة إلهة إلا عن متأله لم يبد عليه أنه اكترث لحظة واحدة بالخراب الذي جره الثور على المدينة، والمئات من البشر الذي صرعهم خواره، واللعنات التي راحت إلهة الحب الجريحة تصبها على رأس المدينة وسكانها؟ ناهيك عن ألوان أخرى من التحدي للقوى الطبيعية المختلفة، ولإرادة الآلهة الذين كان يعلم عنهم أنهم استأثروا بالخلود في قبضتهم. ومع ذلك لم يتخل عن طموحه إلى تخليد نفسه مثلهم؛ إذ ظل حتى ضياع النبتة السحرية الشائكة على اعتقاده بأن جسده من «لحم الآلهة»، وأن ثلثيه إلهي والثلث الباقي بشري فان.

ويمر جلجاميش - كما قدمنا - بتجربة الموت الحقيقية عندما يفاجأ بموت الصديق. ولا تأتي أهمية هذه التجربة فحسب من أنها حولت الملحمة إلى ملحمة فلسفية تدور حول مقاومة الموت، ومواجهة المصير الإنساني بالتصميم على الخلود الشخصي، وإنما تنبع قبل ذلك من تحول وعيه إلى حقيقته كإنسان، وبداية احتدام الصراع بين العنصر البشري الذي أصبح عرضة للفناء نزولا على قانون حظ البشر، وبين العنصر الإلهي الذي لبث معلقا بحلم الخلود الذي يضمن له تجاوز المصير المحتوم. ولولا مكابدة هذا الصراع لما أمكن أن يهزه مرض الصديق ثم موته، وأن يزلزل كيانه بكل العمق والتأثير الذي صورته الملحمة، ولما أمكن أيضا أن يكرر لكل من يقابله سبب ضمور وجنتيه، واكتئاب نفسه، وهيامه على وجهه في البرية مثل متجول تائه جاء من سفر بعيد. لقد استمر هذا الصراع محتدما في نفسه، حتى بعد لقائه مع جده أوتنابشتيم، وعلمه بالثمن الباهظ الذي يكلفه الخلود، بل واصل تأجج جمراته الحارقة حتى بعد إخفاقه في الانتصار على توءم الموت أو شبيهه (وهو النوم)، وصياحه اليائس بأن الموت يلازم خطاه، ويقبع في مخدعه. غير أن الوعي الكامل والصادق بحقيقته الفانية، وضياع الخلود عليه وعلى شعبه (وربما على البشرية كافة)، لم يدركه إلا بعد ضياع النبتة - الحلم - والإكسير. هنا تفجر شلال اليأس الأسود من تحقيق «الغرض» أو «الحكمة» أو «الشعار» الذي لقنه من موروثه الثقافي، وردده لسانه أكثر من مرة في الملحمة. وكأن ضياع الخلود وضياع النبتة والتسليم بحقيقة الفناء، هي «النتيجة» الحاسمة الأخيرة التي أدت إليها تجاربه المضنية، ولزمت عنها لزوما ضروريا، بعد أن كانت مجرد افتراض أو قول سائر يتمثل به كغيره من أفراد شعبه الزائلين.

ناپیژندل شوی مخ