وقد تتبع بعض ممثلي النظرية النقدية - وبخاصة أدورنو وهوركهيمر - تأثير ظاهرة الاغتراب والتشيؤ على الفن والإبداع، وبينوا كيف انحط العمل الفني في ظل المجتمع الصناعي، وظروف صناعة الثقافة وعملائها وأجهزة إنتاجها والإعلام عنها، إلى حضيض السلعة في سوق الاستهلاك والمزايدة؛ مما أفقده أصالته وشموله وفعله المباشر في القلوب والعقول، بحيث أصبح مجرد «شيء» يقصد به الاستمتاع السطحي والتسلية في أوقات الفراغ، ولم يبق أثر للعلاقة الحية بالعمل الفني، ولا للفهم المباشر لوظيفته بوصفه تعبيرا عما كان يسمى يوما باسم الحقيقة (على حد قول هوركهيمر في كتابه عن نقد العقل الأداتي).
6
ويحدد أصحاب النظرية النقدية أسباب التشيؤ والاغتراب التي ترجع للنظام الاقتصادي الرأسمالي؛ فعلاقات الإنتاج والسوق الرأسمالية هي المسئولة عن «عبادة السلع» أو «صنميتها» (الفيتيشية)، التي أضفت على علاقات الناس بالأشياء وببعضهم بعضا طابع السلعة، وحصرتها في نطاق المنافع والوسائل المجردة من كل لمسة شخصية أو إنسانية. أضف إلى ذلك تقسيم العمل الموغل في التخصص خلال عملية الإنتاج، وميكنة العمل نفسه، وبيروقراطية الإدارة، وصناعة الدعاية والإعلام ووسائطهما الجماهيرية ... إلخ، ويأتي في مقدمة العوامل والأسباب التي أدت إلى اغتراب الإنسان المعاصر في ظل المجتمعات الصناعية المتقدمة أسلوب أو نمط معين من التفكير، يسميه أصحاب النظرية النقدية باسم «العقل الأداتي» حينا و«العقلانية التقنية» حينا آخر، مما سيرد ذكره بعد قليل. والواقع أن النظرية النقدية تختلف في هذه النقطة اختلافا أساسيا عن وجهة النظر الماركسية اللينينية، التي ترجع الاغتراب لأسباب اقتصادية محضة، كما تجعل القضاء عليه مرهونا بالقضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
يقصد فلاسفة النظرية النقدية ب «العقل الأداتي» أو «العقلانية التقنية» نوعا من التفكير السائد في المجتمع الصناعي الحديث، يطلقون عليه كذلك اسم العقل الذاتي والتقني والشكلي، ويصفونه - على لسان ماركوز في كتابه الشهير - بالتفكير «ذي البعد الواحد». ويتضح هذا التفكير بأجلى صورة في أسلوب التفكير العلمي والتقني، كما تعبر عنه الفلسفة الوضعية بأشكالها المعاصرة والفلسفة البراجماتية «العملية».
وإذا كانت فلسفة التنوير الحديثة - بما تنطوي عليه من التجرد من النزعة الأسطورية والخرافية، ومن محاولة السيطرة الكاملة على الطبيعة - قد دفعت بهذا النوع من التفكير إلى حدوده القصوى، فليس من الصعب أن نتلمس جذوره في الفلسفة الغربية القديمة. والدليل على هذا - في رأي ماركوز - أن المنطق الأرسطي يكشف عن الميل لإخضاع جميع الموضوعات، سواء كانت عقلية أو جسمية، وسواء تعلقت بالمجتمع أو بالطبيعة، لنفس القوانين العامة للتنظيم والحساب والاستنتاج. هذا الميل يعبر اليوم عن نفسه في صورة «منطق السيطرة» الكامن في أسلوب التفكير العلمي والتقني الحديث، كما يعبر هذا الأسلوب بدوره عن إرادة السيطرة التي تميزه ولا تنفصل عنه، ويمثل نوعا من «القبلي التقني» الذي ينظر للطبيعة ويتعامل معها بوصفها مجالا للوسائط أو الوسائل الممكنة، ومادة للتحكم والتنظيم، ثم يمد سلطانه على البشر والعلاقات البشرية، فيضعها أيضا تحت تصرفه وتحكمه وسيطرته، بحيث لا يكون للعقل في النهاية إلا طابع أداتي، وتصبح قيمته الإجرائية ودوره في إحكام السيطرة على البشر وعلى الطبيعة، هو «المعيار الأوحد» (راجع في هذا الصدد كتاب ماركوز المشهور عن الإنسان ذي البعد الواحد، دراسات عن أيديولوجية المجتمع الصناعي المتقدم، نويفيد وبرلين، 1967م، ص152 ، 161، 167 وبعدها؛ وكذلك كتاب هوركهيمر السابق الذكر عن نقد العقل الأداتي، فرانكفورت، 1967م، ص30؛ والكتاب المشترك لأدورنو وهوركهيمر عن جدل التنوير، ص33).
7
ولا ينفصل هذا الاتجاه «الأداتي» للعقل التقني والعلمي الحديث عن اتجاهات أخرى تتمثل في فرض المقولات الكمية على الواقع، ومحاولة إخضاع جميع الظواهر والوقائع للقوانين الشكلية والقواعد القياسية. ويتضح «طغيان النزعة الكمية أو التكميم» (على حد تعبير أدورنو في كتابه عن الجدل السلبي، فرانكفورت، 1966م، ص51) في العصر الحاضر في المنطق الرياضي، والاتجاه المتزايد إلى «ترييض» العلوم المختلفة حتى الإنسانية منها (أي صبغها بالصبغة الرياضية)، بل في تطبيق المعايير الكمية على تقييم فرص العمل، وتنظيم السلوك في أوقات الفراغ. وقد ترتب على هذه العقلنة الشكلية والرياضية لمختلف ميادين الحياة الإنسانية أن تضاءلت جوانب كيفية هامة لا غنى عنها لحياة الإنسان، وتمت التسوية بين الفروق الفردية الأساسية، والتضييق على إمكانات الحرية والتعبير الحر التي لا تستقيم الحياة بغيرها. ويؤكد فلاسفة النظرية النقدية في هذا الصدد أن الإنسان الذي تحكمت فيه العقلانية التقنية لا ينفك يفرض تقنياته المتجددة على الطبيعة والمجتمع؛ تحقيقا لإرادته في عقلنتهما وصب ظواهرهما في مقولاته؛ ومن ثم فرض سيطرته عليهما. غير أنه لا ينتبه من ناحية أخرى إلى أن هذه التقنيات ذاتها هي نتاج تفكيره، وإن كان يعدها في النهاية حقائق موضوعية ثابتة ومستقلة عنه، ويتعامل معها كأنه واقع تحت رحمتها وخاضع لسلطانها. ويسوقه هذا إلى الوقوف العاجز إزاء كل ما هو قائم ومستقر، أو إلى موقف التصالح معه (والمراد بالقائم والمستقر هي أساليب التفكير السائدة والمؤسسات والنظم والقيم والعلاقات الاجتماعية والسياسية ... إلخ). ويلح فلاسفة النظرية النقدية على هذه الفكرة التي ترتبط بسمات وخصائص أخرى مميزة للعقل التقني أو الأداتي، كالاتجاه لتثبيت دعائم السلطة، وتأمين علاقات القوة والسيادة في مجتمع معين، والميل إلى اضطهاد النزعات التلقائية الخلاقة والأفكار المبدعة الجسور التي تطمح إلى تجاوز المألوف والمعتاد، والعجز عن إدراك العمليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في سياقها التاريخي الشامل الذي يتخطى الجوانب الجزئية والأحداث المعزولة، والنزوع إلى توحيد أساليب التفكير والحاجات وأنماط السلوك تحت تأثير وسائل الدعاية والإعلام والتسويق، التي ترتبط بنظام الإنتاج والاستهلاك في المجتمع الصناعي والرأسمالي، وتؤكد مصلحته في «تنميط» أشكال التفكير والسلوك، وحمل الناس على التكيف مع ظروف القهر والقمع التي تفرضها العقلنة والميكنة التي سبق شرحها، ثم الاتجاه أخيرا إلى استبعاد القرارات الأخلاقية والسياسية من دائرة المعقول والحط من شأنها؛ لأنها تنتمي إلى مجال اللامعقول والقرارات «الذاتية» البعيدة عن «الموضوعية».
وطبيعي أن يكون القمع والتسلط الذي يطبع المجتمع الصناعي المتقدم بطابعه من أهم المقولات التي تؤكدها النظرية النقدية، ويرجع الفضل في ترويج هذه المقولة والإلحاح عليها ل «هربرت ماركوز»، الذي حاول أن يجد لها مبررا معقولا من كتابات «فرويد» عن فلسفة الحضارة، ومن فلسفة التحليل النفسي بوجه عام. فقد استند إلى زعم فرويد - وبخاصة في كتابه «الضيق بالحضارة»
8 - أن التطور الاجتماعي والحضاري الذي حققته البشرية لم يتم إلا بالقمع المستمر للدوافع والحاجات الإنسانية الأولية، ويسري هذا القمع أو «الكبت» الضروري على تطور شخصية الفرد؛ إذ لا بد لكل إنسان أن يتعلم منذ طفولته كيف يتحكم في دوافعه المتجهة بطبيعتها لإشباع حاجته إلى اللذة والسعادة إشباعا لا حد له؛ لكي يتسنى له المحافظة على بقائه والتعايش مع غيره. ومن هنا يكون احترام القواعد والنظم الاجتماعية على الدوام نوعا من القمع الواعي أو غير الواعي للدوافع والرغبات والحاجات الأولية. ويزيد ماركوز على فرويد، فيذهب إلى أن هذا القدر الضروري من قمع الدوافع في جميع المجتمعات البشرية قد أضيف إليه قدر آخر غير ضروري أو «فائض» من القمع الذي فرضته مصالح السلطة الحاكمة ومؤسساتها وتنظيماتها. ومجتمعات «الرخاء» الصناعية الحديثة لا تستثنى من هذه القاعدة؛ إذ جعلت من هذا القمع غير الضروري مؤسسة ذات قوة وسيطرة. وبدلا من أن تقضي على ذلك القدر الضروري من قمع الدوافع والرغبات الذي استلزمه التطور التاريخي، نتيجة لارتفاع معدل الإنتاجية ومستوى الرخاء اللذين وصلت إليهما، تحولت إلى نظام شامل للقمع والهيمنة والسيطرة، وعرضت الإنسان لأشكال مختلفة من القهر الظاهر والباطن، والقمع الواعي أو غير الواعي الذي ينطلق من أجهزة الإنتاج الضخمة، والمؤسسات الإدارية والبيروقراطية والاستهلاكية والإعلامية، التي تشبه آلات هائلة يحاول الناس أن يكيفوا أنفسهم مع ضغوطها ومطالبها، ويضطرون في سبيل ذلك إلى قمع طبيعتهم، بل يبلغ بهم الأمر في كثير من الأحيان إلى عدم الإحساس بالقمع الذي تمارسه عليهم تلك الأجهزة التقنية المخيفة، التي تتحكم حتى في حياتهم الخاصة، فتشكل دوافعهم، وتوحد أنماط سلوكهم، وتخلق فيهم حاجات مادية وروحية زائفة، يشبعها مجتمع الاستهلاك والرفاهية بكافة السبل، فيتوهمون أنهم يحيون حياة سعيدة هانئة، في الوقت الذي تطيل فيه أمد عبوديتهم وشقائهم، وتضاعف القهر غير الضروري لدوافعهم وحاجاتهم الحقيقية. وواقع الأمر أن القوى المسيطرة على تلك المجتمعات هي التي أوحت إليهم بالحاجات المزيفة؛ لتحقيق مصلحتها في إقرار الأوضاع القائمة، مستعينة على ذلك بوسائط الإعلام وتقنيات التأثير على الجماهير، التي استطاعت أن تشكل إحساسهم الفردي بالسعادة، كما شكلت حاجاتهم الأولية ووحدتها وأخضعتها لمطالب الاستهلاك وصناعة اللذة والتسلية والرفاهية. وأخطر ما في الأمر أن الناس يستسلمون لهذه الأوضاع، ويقاومون أي محاولة ثورية لتغييرها، متصورين أن هذا التغيير ضد مصالحهم لا ضد مصالح القوى المسيطرة عليهم.
ومن أبرز خصائص النظرية النقدية أنها نظرية ثورية؛ فهي تريد أن تكون بديلا عن النظرية التقليدية التي تقر الواقع القائم بحكم موقفها النظري وأسلوبها في التفكير؛ ولذلك يوجه أصحاب النظرية انتقاداتهم الحادة للاتجاهات الفلسفية الأخرى (كالوضعية والبراجماتية)، ومناهج التفكير العلمي المتفق عليها، وأوضاع المجتمع الصناعي الذي يسلطون عليه النقد الجذري الشامل كما رأينا قبل قليل، وهم يعبرون من خلال هذا النقد عن مطالبتهم بتغيير هذا المجتمع من أساسه تغييرا ثوريا، لا يقتصر على أشكاله وتنظيماته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل يمتد إلى بنية التفكير والمواقف والحاجات واللغة التي يستخدمها الناس في ذلك المجتمع، وتظهر هذه الروح النقدية الجذرية أوضح ما تكون عند ماركوز (وبخاصة في كتابه محاولة عن التحرر).
ناپیژندل شوی مخ