لم نتدبر أمرنا بعدة من حزم ولا من قوة، قد تركنا الأمور تجري في فوضاها غير أن الموت يدنو منا دنوا، قصارى هممنا أن ننشر طرفا من أخبار وقائع جرت في ميادين القتال، والعدو يسوق الجند بعد الجند، لا أدري متى يتهيأ لنا أن نغضب؟!
أليس من فاضح الخزي أن يصبح كثير من الناس يترحمون على أيام عبد الحميد - ولقد صدقوا - وما يجري على زمان كبرائنا يكاد يجري دموع عبد الحميد، أبو الظلم والاعتساف، أقام في قصره محجوبا إلا عن عيون تعود أن يغازلها، فكان لا يعتريه الحياء، لكن رجالنا يظهرون كأقمار التم في آفاقها، فكان من الشرف أن يخجلوا، أما أن يصان الملك على ما وجدوه، لا نطمع في زيادة، ولكن النعمة العظمى أن لا ينقص، فإذا أعجزهم هذا القدر من حسن السياسة، فليدعوا تلك المقاعد، غيرهم أولى بها.
الفصل العاشر
التكبر وحداثة النعمة
لا بد من التنقل إلى الاجتماعيات، فقد تضجر النفوس أساليب السياسة، ثم نحن إلى الاجتماعيات أشد منا حاجة إلى السياسيات، طال عهدي بفصول كنت أريدها فأجدها، ها أنا اليوم تصبيني الذكرى وتجدد حنيني الصبوة فأرجع إلى التجاريب، بعد أن طال بيننا التهاجر.
أريد أن أصف التكبر وحداثة النعمة، وليس عندي وصف يرضيني؛ لأن الذين وصفوا التكبر وصفوه غاضبين، وأنا أريد أن أصفه هازئا لا غاضبا، ويبقى لي شيء أتم به الكلام في حداثة النعمة.
التكبر ينشأ في نفس المرء من أشياء كثيرة، أشدها الحمق، ثم الاغترار بالانتقال من الضعة إلى الرفعة، ثم محاولة العزة عند الناس.
المتكبر ينظر إلى أعطافه ويأخذ في تغيير قعوده ونهوضه ومشيه ووقوفه حتى يستضحك الناظر؛ لأن النفس إذا خلا منها موضع الفضل وباتت الشمائل معطلة من زينة الأخلاق استمكن التكبر وبدت غرائبه.
عرفت رجلا تكبر بعد عناية أصابته فرأيته في أحد مجالسه وما زال ينحرف في قعوده ويتلوى في توجهه حتى انشق بنطلونه، وافتر عن بياض قميصه، فكان عابسا من فوق وباسما من تحت، وكاد أهل المجلس أن يموتوا من شدة الضحك.
ولقد رأيت أناسا من ذوي الألقاب المستحدثة يتكبرون، فهالني الأمر، فرحت أتحرى فيهم شيئا من النبل أو الفضل أتخذه عذرا لهم، فإذا عقول بخواتم ربها، لم تمسها فائدة، وإذا ألسن يتساقط منها الحديث كجلمود صخر حطه السيل من عل، وإذا وجوه صفر، كل وجه منها كإمساكية رمضان، وإذا عيون ما أومض فيها بارق من الذكاء، فقلت في نفسي: ما أشد عبث الدهر! يرفع هؤلاء من مواضعهم ثم يجلسهم مجالس ما خلقوا لها ليفضحهم على رءوس الأشهاد ، ولو تركهم حيث ولدوا لكان أشد رحمة بهم.
ناپیژندل شوی مخ