ذهب السيد دينش بالأسفل إلى غرفته الخاصة. كانت السيدة دينش ترتدي قبعة جرسية الشكل معلقا عليها غطاء وجه أصفر، تبكي بهدوء ورأسها على سلة فاكهة. قال بصوت أجش: «كلا سيرينا.» وتابع: «كلا ... إننا نحب مارينباد ... إننا بحاجة للراحة. وضعنا ليس بائسا للغاية. سأذهب وأرسل برقية إلى بلاكهيد ... في النهاية، عناده واندفاعه هما اللذان أوصلا الشركة إلى ... إلى هذا. هذا الرجل يظن أنه ملك على الأرض ... هذا سوف ... هذا سيضايقه. إذا كانت اللعنات قادرة على القتل لأصبحت ميتا غدا.» لدهشته وجد الخطوط الشاحبة الباهتة في وجهه تتشقق في ابتسامة. رفعت السيدة دينش رأسها وفتحت فمها لتتحدث إليه، غير أن الدموع قد غلبتها. نظر إلى نفسه في الزجاج، وفرد كتفيه وعدل قبعته. قال بأثر من مرح في صوته: «حسنا يا سيرينا، هذه نهاية مسيرتي المهنية ... سأذهب لإرسال البرقية.» •••
تقبل الأم بوجهها عليه وتقبله؛ فيتشبث بيديه في فستانها، وتذهب تاركة إياه في الظلام، تاركة رائحة باقية ضعيفة في الظلام تبكيه. يستلقي الصغير مارتن متقلبا داخل قضبان مهده الحديدية. ساد الظلام الدامس جميع الأرجاء، ظلام رهيب، وأشخاص يتحركون، هادرين، مهتزين، زاحفين في جماعات عبر النوافذ، واضعين أصابعهم في صدع الباب. من الخارج يعلو هدير العجلات نحيب قابض على حلقه. أهرامات من الظلام مكدسة فوقه تسقط عليه متجعدة. يصرخ، ويسكت بين الصرخات. تسير المربية نحو المهد على طول معبر ضوء منقذ: «لا تخف ... ليس هناك ما يخيف.» وجهها الأسود يبتسم له، ويداها السوداوان تسويان الأغطية. «هذه مجرد سيارة إطفاء تمر ... لن تخيفك سيارة إطفاء.» •••
رجعت إلين للخلف في سيارة الأجرة وأغمضت عينيها لثانية. لم يكن بوسعها التخلص حتى بالاستحمام وقيلولة لنصف ساعة من إنهاك ذكرى المكتب، ورائحته، وصوت سقسقة الآلات الكاتبة، والعبارات المكررة اللانهائية، والوجوه، والأوراق المكتوبة على الآلة الكاتبة. شعرت بالتعب الشديد؛ لا بد أن ثمة هالات تحت عينيها. توقفت سيارة الأجرة. كان الضوء أحمر في إشارة المرور أمامها. وكانت الجادة الخامسة مكدسة حتى حواف الأرصفة بسيارات الأجرة، والليموزين، والحافلات البخارية. كانت متأخرة؛ وقد تركت ساعة يدها في المنزل. فشعرت بالدقائق بطول الساعات كرصاص معلق حول رقبتها. جلست على حافة المقعد، وقبضتاها مشدودتان بإحكام لدرجة أنها استطاعت أن تشعر من خلال قفازيها بأظافرها الحادة تحفر في راحتيها. اندفعت سيارة الأجرة في النهاية إلى الأمام، وكانت هناك عاصفة من العوادم وأزيز المحركات، وبدأت الكتلة المرورية في التحرك في حي ميري هيل. لمحت ساعة عند إحدى النواصي. الثامنة إلا ربعا. توقفت حركة المرور مرة أخرى، صرخت مكابح سيارة الأجرة، ودفعت إلى الأمام في مقعدها. رجعت للخلف وعيناها مغمضتان، والدم ينبض في صدغيها. كانت جميع أعصابها كأسلاك متشابكة حادة من الفولاذ تقطعها من الداخل. ظلت تسأل نفسها: «ماذا يهم؟ سينتظر. لست في عجلة لرؤيته. لنر، كم مربعا سكنيا؟ ... أقل من عشرين، ثمانية عشر.» لا بد أن الناس قد اخترعوا الأرقام كي لا يجن جنونهم. إن جدول الضرب أفضل من الأخصائي النفسي كوي في علاج التوتر العصبي . ربما هذا ما ظنه الهرم بيتر ستويفسانت، أو من وضع أرقام الشوارع بالمدينة أيا من كان. كانت تبتسم لنفسها. بدأت سيارة الأجرة تتحرك مرة أخرى.
كان جورج بالدوين يمشي ذهابا وإيابا في بهو الفندق، آخذا نفثات قصيرة من سيجارته. وكان ينظر في الساعة بين الحين والآخر. كان جسده كله مشدودا متوترا كوتر آلة كمان عالي الصوت. كان جائعا ومفعما بأمور يريد أن يتحدث عنها؛ كان يكره أن يكون في انتظار أحد. عندما دخلت، باعثة الارتياح والنعومة والابتسامة، أراد الذهاب إليها وضربها على وجهها.
قالت وهي تربت على ذراعه: «هل تدرك يا جورج أن ما يحول بيننا وبين الجنون وجود الأرقام التي لا تعرف العاطفة أو الإحساس؟» «إن الانتظار مدة 45 دقيقة كفيل لدفع أي شخص إلى الجنون، هذا كل ما أعرفه.» «يجب أن أشرح ذلك. إنه نظام. أظن أن كل شيء قادم في سيارة أجرة ... تذهب وتطلب أي شيء تريده. أنا ذاهبة إلى حمام السيدات لدقيقة ... ورجاء اطلب لي شراب المارتيني. أنا مجهدة الليلة، مجهدة للغاية.» «أيتها الصغيرة المسكينة، بالطبع سأفعل ذلك ... ولا تتأخري وقتا طويلا من فضلك.»
شعر بركبتيه ضعيفتين تحته، وكأن جليدا يذوب وهو يدخل غرفة الطعام المزينة بالكثير من الزخارف المذهبة. يا إلهي يا بالدوين أنت تتصرف كمراهق في السابعة عشرة من عمره ... وبعد كل هذه السنوات أيضا. لن تصل إلى أي شيء بهذه الطريقة ... «حسنا يا جوزيف، ماذا ستقدم لنا لنأكله الليلة؟ أنا جائع ... ولكن أولا يمكنك أن ترسل لي فريد ليعد أفضل كوكتيل مارتيني يصنعه في حياته.»
قال النادل الروماني الطويل الأنف بالفرنسية وهو يعطيه قائمة الطعام في زهو: «جيد جدا يا سيدي.»
ظلت إلين فترة طويلة تنظر في المرآة، مزيلة عن وجهها بعضا من بودرة التجميل الزائدة، ومحاولة عزم أمرها. وظلت تلف دمية متخيلة حول نفسها وتضعها في أوضاع متنوعة. تلت ذلك بعض الإيماءات، مثلتها على مراحل مختلفة كالعارضات. ثم ابتعدت فجأة عن المرآة مع هز كتفيها الشديدي البياض وسارعت إلى غرفة الطعام. «أوه يا جورج أنا جائعة، أتضور جوعا.»
قال بصوت طقطقة: «وأنا كذلك.» ثم أسرع بالقول كما لو كان خائفا من مقاطعتها له: «ويا إلين، لدي أخبار لك.» «وافقت سيسلي على الطلاق. سوف نسرع في الأمر بهدوء في باريس هذا الصيف. الآن ما أريد أن أعرفه هو، هل ...؟»
انحنت وربتت على يده التي أمسكت بحافة الطاولة. «دعنا نتناول عشاءنا أولا يا جورج ... علينا أن نكون عقلانيين. الرب يعلم أننا أفسدنا الأمور بما فيه الكفاية في الماضي، كلانا ... دعنا نشرب نخب موجة الجريمة.» كانت رغوة الكوكتيل الناعمة المتناهية الصغر مهدئة في لسانها وحلقها، وتوهجت تدريجيا بدفء عبر جسمها. نظرت إليه ضاحكة بعينين متلألئتين. شرب كأسه على جرعة واحدة.
ناپیژندل شوی مخ