قال: "في هذا الشعر شخصية بارزة قوية لا يستطيع من يلمحها أن يزعم
أنها متكلفة منتحلة أو مستعارة.
وهي شخصية ظاهرة البداوة واضحة الإلحاد..
بينة الحزن واليأس والميل إلى الإباحة.. في قصد واعتدال، هذه الشخصية
تمثل رجلًا فكر والتمس الخير والهدى فلم بصل إلى شيء "سبحان الله"
ثم قال: ولست أدري أهذا الشعر قد قاله طرفة أم قاله رجل آخر، وليس يعنيني أن يكون طرفة قائل هذا الشعر، بل ليس يعنيني أن أعرف اسم صاحب هذا الشعر.
إنما الذي يعنيني هو أن هذا الشعر صحيح.. لا تكلف فيه ولا انتحال!
انتهى. . .
فانظر كيف تفهم هذا الخبط، وهل كل شعر يقوله شاعر إلا هو صحيح لا
تكلف فيه ولا انتحال بالإضافة إلى قائله، ثم هو بعد ذلك إذا نسب إلى غير
قائله كان موضوعًا على هذا الذي نسب إليه؛ وإذا نحن ذهبنا هذا المذهب في كل ما يروى عن الجاهلية فقلنا لا يعنينا أن يكون قائل هذا الشعر فلانًا أو غيره ولم ننظر إلا في الشعر نفسه، فماذا يبقى من كتاب طه حسين وما فائدة بحثه في الشعر الجاهلي، وإنما يقوم هذا البحث على إثبات الشعر لمن عُزي إليهم أو نفيه عنهم بعد الإدلال بالحجة على هذا وعلى ذاك، "ولا يعنيني" تطلق البحث من هذين القيدين معًا؟
على أن معنى الشخصية هنا هو العاطفة والنزعة والفكرة الفلسفية، فإذا
قال طرفة هذه الأبيات كانت فيها شخصيثه الشعرية وإذا قال أبياتًا مثلها قوة
ورصانة في وصف الناقة لم يكن من سبيل إلى أن تكون فيها شخصيته عند طه، إلا إذا كان الشاعر جملًا من الجمال! . . . كل هذا وذاك خلط يقلد الرجل فيه الإفرنج؛ لأنه لا يعرف ما هو الشعر العربي ولا كيف يصنع؟
فإن الشخصية في هذا الشعر ليست شخصية أفراد ولكن شخصحية أحزاب وجماعات، فجماعة يلزمون طريقة الجزالة والقوة فيقلد بعضهم بعضًا في ذلك فيستوي شعرهم في الطريقة على اختلافهم وتعدد أشخاصهم، وآخرون يؤثرون الرقة والسهولة ويأخذ أحدهم مأخذ الآخر فيتشابه شعرهم كذلك.
وقل مثل هذا في الصناعة البيانية، ومثله في عمود الشعر، كشعراء الشيعة
وشعراء الفلسفة والحكم والأمثال.. الخ الخ، وكل نوع من هذه الأنواع يجمع شخصية طائفة، فلست بمستطيع أبدًا أن تقول: هذا غزل فلان وهذا غزل فلان، تعرف ذلك من شخصية في كل منهما، أو هذه أمثال فلان وهذه أمثال فلان.
إنما تختلف الطريقة والصنعة؛ كبديع مسلم وأبي تمام وطبقتهما، وكطبع
1 / 260