إني لم أرزق ولدًا وما أرى من دار إلا وفيها أولاد، فلو قد بنيتُ دارًا لرجوت من العَقِب ما يرجو الناس، وقام ذلك بنفسه ورسخ في يقينه، وخُيل إليه من ظاهره باطن، فجاء بالعمال والبنائين وقال أبنوا ههنا ووسعوا وأكثروا الغُرفات، فإنهم عشرة غلمان وخمس بنات،. فذلك خمس عشرة غرفة؛ ثم لي وللعجوز غرفتان، فقال رئيس البنائين: ومن أين الغلمان والبنات وأنت شيخ عقيم، وإنما حاجة مثلك إلى الكن الدافئ والبيت الضيق يلفك وامرأتك ويُمسك عظامكما أن تتبعثر في الدار الواسعة!
قال صاحب الدار: يا سبحان الله! ما تصنع الغرارة وقلة المعرفة بأهلها.. أيها الفِسل، أما علمتَ أن كل غرفة تُبنى لولد
تُهيأ له وتسمى باسمه وتُحبس عليه - فإن القدرة توحي إليها أن تصير "سنةَ
تجربة": فإن لم تلده أمه بعد السنة أوحت إليها القدرَة أن تلده هي فيصبح الشيخ مثلي وإذا ولده خمسةَ عشر مما تلد الدار. . .
قال كليلة: فقد زعمت يا دمنة أن هذه الجامعة الخرقاء كانت مستقلة.
ففسر لي استقلالها ما هو؟
أكان أساتذتها يأكلون كتبًا ويشربون حبرًا ويلبسون
جدرانًا وأبو ابًا؟
- قال دمنة: مَثَلها في ذلك مثل الخطيب الزنديق الأحمق الذي زعموا أنه
كان يُبطن الكفر ويظهر الإسلام، فتعالم الناسُ ذلك منه فوسِعُوه إشفاقًا عليه
ونظرًا له، ثم أفشى طرفًا منه في بعض حديثه فقالوا إن الملة سمحة وللتأويل
أبواب ولكل قول وجوه ومعانٍ، فإن لم يكن في القول إلا جزء واحد من
الإيمان وكان فيه تسعة وتسعون من الكفر وجب حمله على الواحد دون التسعة والتسعين، ثم غرَّه ذلك منهم وحسبه ضعفًا ومَعجَزَة فتقخم في كفره وسوَّلت له نفسه أنه فوق الناس، فهو مستقل وهم التابعون، وهو الحر وهم العبيد، وقال إنه لن يكون الكفر في مثل هؤلاء الجامدين كفرًا إلا في المسجد "الجامع".
وعلى المنبر وفي يوم الجمعة، فليهمس هامسهُم ولينطق ناطقهُم، وسأرى ما
يكون من تِلقائهم، فإني لخطيبُ صَلاتهم ولكني مستقل أفكر برأسي لا
برؤُوسهم، وإني لأرتزق منهم ولكني مستقل آكل ببطني لا ببطونهم. . . وإذا قالوا كفر فإنما هذا إيماني، وإذا قلت آمنوا فإنما ذلك كفرُهم، ولهم علي كلام يسمعونه والكلام فنون وأجناس، ففي أن أقول ما هَجَسَ في قلبي، أخطاتُ أو أصبت، وغيرتُ أو بدلت، ورضُوه أو كرهوه؛ وعليهم لي أجر يدفعونه لم يكن
1 / 223