فضحك ويداه لا تكفان عن مساعدتي. وقبل أن أسترسل في الذكريات دعينا إلى طابور، استعرضنا القائد العام وقائد المظلات. وكان القائد يقف أمام كل جندي ويسأله: ألك أي طلبات؟
رأيته لأول مرة عن قرب، ذكرني وجهه بوجه ستالين. وسرحت رغما عني، فلما عدت إلى الحاضر سمعته وهو يعطي إرشادات عن المنطقة. واصطفت الفصيلة أمام طائرة إليوشن رقم 14، الضابط أول الأستك يمين، وأنا آخر الأستك شمال. وهذا يعني أنني سأكون أول القافزين، ولكن ألا يستوي الأول والأخير أمام القدر؟ وصعدنا إلى الطيارة واحدا في إثر واحد، بدأت محركات الطائرة تدور، كان معنا اثنان من جان ماستر الذين يساعدون على القفز. وانطلقت الطيارة فلم تتحول أفكاري عن مصر. ولما استوينا فوق السحاب أشعلت سيجارة، ظلت أفكاري منغرسة في مصر؛ النيل والخضرة والأم والفتاة. ولمحت طائرات تطير إلى جانبنا، وإذا بجرس النور الأحمر يدق معلنا وصول الطائرة إلى صعدا. وظهر النور الأخضر داعيا إلى القفز في الحال. - ستهبطون في منطقة إسقاط بالمطار، توجد طائرة بيضاء في وسط المطار، على كل فرد أن يتجه إليها.
تقدمت من باب الطائرة، توثبت للقفز بقلب خافق، دفعني الزميل القديم بشدة ليبعدني عن جسم الطائرة، لم أنتبه لنفسي إلا وحبال المظلة تشدني في الجو، نظرت إلى أعلى فرأيت المظلة مفتوحة بيد أن حبالها التفت حول بعضها البعض. درت حول نفسي بسرعة فائقة حتى استقامت الحبال، مضيت أهبط في الظلام وحركة انسيابية هادئة تسري في أعصابي وأنا في غاية من اليقظة والترقب، ولمحت شبح جبل غير بعيد، ما لبثت أن صرت في كنفه، وجعل يرتفع كلما أمعنت في الهبوط. اخترقت أذني أصوات طلقات نارية، اجتاحني القلق وشدت يدي على الحبال، ضرعت إلى الظلام أن يخفيني عن أعين الصائدين، وأنا أتوقع رصاصة تصيبني في أي لحظة. انتهت الرحلة التي أعتبرها أطول رحلة في حياتي، فاصطدمت بالأرض صدمة شديدة، ورحت أتدحرج منقلبا على نفسي مرات حتى استقر بي المكان. غرزت ركبتي على أرض معشوشبة مصمما على النجاة، فتحت قفل المظلة فأخليتها بسرعة، ثم انبطحت على بطني. وبحذر شديد تخللت الظلام بعيني، وإذا بي أجد شبحا على مقربة مني، فسددت نحوه بندقيتي في ذات الوقت الذي صاح بي: «يا أخي المصري ... أنا من الحرس الوطني.»، أنهضني وهو يعانقني. حدثته عن الطلقات النارية فأكد لي أن الجبل بعيد نسبيا، نظرت حولي فميزت مجاميع من أشجار التين الشوكي، انطلقت في الجو إشارة خضراء فمضينا نحوها، وانضممت مرة أخرى إلى السرية، نادى الضابط علينا فتبين غياب اثنين من السرية. - أصيبا؟ - أو هبطا في أرض العدو.
لاحظت وجود جنود من غير سريتنا، وعلمت أن ثمة قوة سبقتنا إلى هنا ولكنها حوصرت؛ فطلبت نجدة فأرسلنا إليها من السماء، ولم يكن بصعدة أحد سوى الجنود. ولم نسترح دقيقة فتوزعنا في أماكن من السور المحيط بالبلد، وسرعان ما اشتركنا في إطلاق النار. واستمر الضرب من ناحيتنا حتى توقف الضرب الآتي من الناحية الأخرى.
وصدر أمر بالاستعداد للهجوم على الجبل الأسود المطوق لجانب كبير للمدينة. حصل تجمع لا أعرف مداه، وترامى إلينا أزيز طياراتنا وهي تهاجم الجبل وترميه بقنابلها. تواصل الضرب ساعة ثم صدر الأمر بالتحرك، تقدم سريتنا ضابط حاملا مدفعا رشاشا فتبعناه في حركة انتشار. تقدم الضابط لنا، بث فينا روحا عاليا فأخذنا في الصعود ونحن نطلق النار، وقد شعشع ضوء النهار الباكر، وتساقط رذاذ في أثناء تقدمنا ثم لم يلبث أن انهمر المطر. وصوت صاح: يجب أن نصعد قبل أن تعيقنا السيول.
الحق أزعجنا المطر وتسلل منا إلى الأجساد، على حين غاصت أقدامنا في الوحل. لم نكف عن الضرب حتى كف العدو عنه مما يقطع بتقهقره، ومضينا في صعود عسير تكاد تجرفنا السيول حتى بلغنا القمة. أعلن الضابط احتلال الجبل، تسلينا دقائق بمشاهدة آثار قنابل الطائرات.
تلقينا أنباء عن فقد شهداء؛ منهم ثلاثة من المجموعة التي استقلت معي الطيارة رقم 14، تذكرت وجوههم وبخاصة أحدهم الذي كان يحدثنا في أوقات الفراغ بالفصحى متفكها. - ماذا يصنعون بالجثث؟
فسمعت إجابة مقتضبة لا تخلو من أسى: يدفنونها.
ولكن الميت يظل حيا في وجدان أهله بمصر حتى يبلغهم خبره. وفكرت في مصر بكل وجداني الحزين، من فوق قمة الجبل الأسود وتحت سيل من المطر المنهمر فكرت فيك يا مصر. وسمعت نداء باسمي، وقفنا ثلاثة أمام الضابط: كونوا نقطة إنذار على بعد كيلو ونصف.
حددنا الموضع بالقياس الدقيق، حفرنا حفرة سرعان ما امتلأت بمياه المطر، غصنا فيها حتى الرقاب ومعنا جهاز لاسلكي صغير
ناپیژندل شوی مخ