بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
خطْبَة الْمُؤلف
أما بعد حمد لله الَّذِي خلق ورزق، وأنطق ووفق، وَالصَّلَاة على مُحَمَّد رَسُول الله، الَّذِي اصلح وأوضح، ونصح وأفصح، وعَلى آله الْكِرَام وَصَحبه وَالسَّلَام، ثمَّ ذكر فَرد الدَّهْر، وَبدر الأَرْض، وبحر الْفضل، وَعين الْكَرم الْمَحْض، الشَّيْخ السَّيِّد أبي الْحسن مُحَمَّد بن عِيسَى الكرجي، أدام الله علوه، الَّذِي ملك الْقُلُوب بفضائله وفواصله، وسحر الْقُلُوب بمحاسنه وخصائصه، وَجمع الْأَهْوَاء المتفرقة على محبته، وألّف الآراء المشتتة فِي مودته، فَأن هَذَا الْكتاب (ألفته وصنفته برسمه، وشنفته وشرفته باسمه، و) أودعته لمعًا من غرر البلغاء ونكت الشُّعَرَاء فِي تَحْسِين الْقَبِيح وتقبيح الْحسن. إِذْ هما غايتا البراعة، وَالْقُدْرَة على جزل الْكَلَام فِي سر البلاغة، وسحر الصِّنَاعَة. (وَمَا أَرَانِي سبقت إِلَى مثله فِي طرائف المؤلفات وبدائع المصنفات) . وَحين ارْتَفع غَرِيبا فِي فنه، بديعًا فِي حسنه، خدمت بِهِ خزانَة كتبه، عمرها الله تَعَالَى بدوام ذكره. وَإِنِّي حِين أخدمها بكتبي ... كمن يهدي الخضاب إِلَى الشَّبَاب وينقل الْفِقْه إِلَى الشَّافِعِي، وَالشعر إِلَى البحتري. وَلَكِن لي أُسْوَة فِيمَن يَقُول: لَا تنكرن إِذا أهديت نَحْوك من ... علومك الغر، أَو آدابك النتفا فقيم الباغ قد يهدي لمَالِكه ... برسم خدمته من باغه التحفا
1 / 14
وَالله تَعَالَى أسأَل أَن يقر بِهِ عينه، ويشرح صَدره، ويعرفه من بركاته أَضْعَاف مَا فِيهِ من الْحُرُوف بالألوف، وَأَن يحسن إمتاعه بِهِلَال قمره، وغصن شَجَرَة أبي الْمجد عبد الْقَادِر، ويبلغه فِيهِ مناه فِي شبابه، مشفًا على ذرْوَة مَا ينهم بِهِ، وَفِي شيخوخته بَالغا أقْصَى همته: ويدوم حَتَّى يستضيء بِرَأْيهِ ... وَيرى الكهول الشيب من أَوْلَاده وَهَذَا حِين استفتاح أَبْوَاب الْكتاب. وَالله الْمُوفق للصَّوَاب.
1 / 15
صفحة فارغة
1 / 16
الْقسم الأول ذكر المحاسن
1 / 17
صفحة فارغة
1 / 18
ذكر المحاسن
تَحْسِين المتعلم والتعليم
أحسن وَأجْمع مَا سَمِعت وقرأت فِيهِ كَلَام لأبي زيد الْبَلْخِي، من رِسَالَة كتبهَا، وَقد عير بِأَنَّهُ معلم، وَقيل لَهُ إِن الْمعلم سَاقِط مَذْمُوم قَبِيح الِاسْم، فَقَالَ: لَيْسَ يَسْتَغْنِي أحد عَن التَّعَلُّم والتعليم، لِأَن الْحَاجة يضْطَر إِلَيْهَا فِي جَمِيع الديانَات والآداب والصناعات والمذاهب والمكاسب. فَمَا يَسْتَغْنِي كَاتب وَلَا حاسب وَلَا صانع وَلَا بَائِع عَن أَن يتَعَلَّم صناعَة مِمَّن هُوَ أعلم مِنْهُ، ويعلمه من هُوَ أَجْهَل مِنْهُ. وقوام الْخلق بالتعلم والتعليم. فالمعلم أفضل من المتعلم، لِأَن صفة الْمعلم دَالَّة على التَّمام والإفادة والمتعلم صفته دَالَّة على النُّقْصَان والاستفادة. وحسبك جهلا من رجل يعمد إِلَى فعل قد وصف الله سُبْحَانَهُ نَفسه بِهِ، ثمَّ رَسُوله ﵇، فيذمه. أَلَيْسَ قد قَالَ الله ﷿: " وَعلم آدم الْأَسْمَاء كلهَا "، وَقَالَ: " وعلمناه من لدنا علما "، وَقَالَ فِي وصف نبيه ﵇: " ويعلمه الْكتاب وَالْحكمَة ".
تَحْسِين مَا يتطير مِنْهُ
لما هدد الْهَادِي يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي بِالْقَتْلِ إِن لم يحمل الرشيد على خلع نَفسه، رَجَعَ إِلَى دَاره مغمومًا، وكلم غُلَاما لَهُ فِي شَيْء، فَأَجَابَهُ بِمَا غاظه، فَلَطَمَهُ لطمة انْكَسَرت بهَا حَلقَة خَاتمه، وطاح الفص،
1 / 19
فَاشْتَدَّ ذَلِك عَلَيْهِ وجزع لَهُ. وَدخل عَلَيْهِ السيّاريّ الشَّاعِر، فَأخْبرهُ بالقصة، فَقَالَ: أخلاك من كل الهموم سُقُوطه ... وأتاك بالفرج انفراج الْخَاتم قد كَانَ ضَاقَ ففكّ حَلقَة ضيقه ... فامسك، فَمَا ريب الزَّمَان بدائم فَمَا أَمْسَى حَتَّى ارْتَفَعت الداعية لمَوْت الْهَادِي، وَصَارَ الْأَمر إِلَى الرشيد، فَأمر للسيّاري بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم. وَلما خرج طَاهِر بن الْحُسَيْن إِلَى محاربة عَليّ بن عِيسَى بن ماهان، جعل ذَات يَوْم فِي كمّه دَرَاهِم للصدقة على الْفُقَرَاء، ثمَّ أسبل كمّه (نَاسِيا، فانتفضت الدَّرَاهِم مِنْهُ) . فتطير من ذهابها فِي غير وَجههَا، (واغتم لذَلِك)، فانتصب لَهُ من قَالَ: هَذَا تفرق جمعهم لَا غَيره ... وذهابه مِنْهُ ذهَاب الْهم شَيْء يكون الْهم نصف حُرُوفه ... لَا خير فِي إِمْسَاكه فِي الْكمّ فتسلى بِهِ، وَأمر لَهُ بصلَة. وَلم يدر الْأُسْبُوع حَتَّى ظفر بِابْن عِيسَى. وَكَانَ الأفشين بأزاء بابك يحاربه، فانكسر يَوْمًا سَيْفه، فتطير مِنْهُ، حَتَّى قَالَ لَهُ شَاعِر كَانَ مَعَه: إِن انكسار السَّيْف كير للعدى ... وبكسره أجناد بابك يكسروا هذاك فأل للظنون مُحَقّق ... وكأنني بِالْفَتْح لَاحَ، فأبشروا
1 / 20
فَمَا كَانَ أسْرع من أَن انجلت المعركة عَن الظفر ببابك، وَوصل الشَّاعِر مَا أغناه. وَلما ولى الْمَأْمُون الْحسن بن رحاء الْموصل، وَخرج من دَاره واللواء بَين يَدَيْهِ، تعلق بِبَعْض الدروب فاندق، وَتَطير النَّاس لَهُ من ذَلِك، فَقَالَ الشَّاعِر الضَّبِّيّ: مَا كَانَ مندقّ اللِّوَاء لريبة ... تخشى، وَلَا أَمر يكون مزيّلا لَكِن ذَاك الرمْح قصّف ظَهره ... صغر الْولَايَة، فاستقل الموصلا وَرفع الْخَبَر إِلَى الْمَأْمُون، فَأمر أَن يولي ديار ربيعَة مَعَ الْموصل، وَقَالَ: إِذا اسْتَقل اللِّوَاء الْموصل، فَنحْن نكثر قَلِيله بِزِيَادَة الْولَايَة. وَأمر للضبي بِمَال.
تَحْسِين المقابح بالكنايات
حَدثنِي البديع الْهَمدَانِي قَالَ: كَانَ أَبُو الْحُسَيْن أَحْمد بن فَارس يَقُول: الحدّة عِنْد الْعلمَاء كِنَايَة عَن الْجَهْل، وَالْقطع عِنْد المنجمين كِنَايَة عَن الْمَوْت، والطبيعة عِنْد الْأَطِبَّاء كِنَايَة عَن الْحَدث، وَالْمَاء عِنْدهم كِنَايَة عَن الْبَوْل، والنفخ عِنْدهم كِنَايَة عَن الضراط والفسو. والنصيحة عِنْد الْعمَّال كِنَايَة عَن السّعَايَة، وَالِاسْتِقْصَاء عِنْدهم كِنَايَة عَن الْحَوْز. والوطئ عِنْد الْفُقَهَاء كِنَايَة عَن الْجِمَاع. وَطيب النَّفس عِنْد الظرفاء كِنَايَة عَن السكر. والعلق عِنْد اللاطة
1 / 21
كِنَايَة عَن المؤاجرة، والغراب عِنْد الشُّعَرَاء كِنَايَة عَن المأبون، لِأَنَّهُ يواري سوءة أَخِيه. والاقتصار عِنْد البخلاء كِنَايَة عَن الْبُخْل. وَالزُّوَّارِ عِنْد الْكِرَام كِنَايَة عَن السُّؤَال. وَمَا أَفَاء الله عِنْد الصُّوفِيَّة كِنَايَة عَن الصَّدَقَة. والفتوة عِنْد الشطار كِنَايَة عَن التلصص. ومزح الْيَدَيْنِ عِنْد المعاشرين كِنَايَة عَن الصفع. والانحياز عِنْد الْجند كِنَايَة عَن الْهَزِيمَة، ورائحة الشَّبَاب عِنْد النِّسَاء كِنَايَة عَن الصنّان. والممنع عِنْد الْكتاب كِنَايَة عَن الْأَعْوَر. والسليم عِنْد الْعَرَب كِنَايَة عَن اللديغ. وَأَبُو الْبَيْضَاء عِنْدهم كِنَايَة عَن الزنْجِي. والطويلة عِنْد المخنثين كِنَايَة عَن اللِّحْيَة. والعمار كِنَايَة عَن الْجِنّ. وَذكر ابْن العميد فِي رِسَالَة لَهُ إِلَى رجل حلف بِالطَّلَاق، فَقَالَ: حلف أيمانًا مُغَلّظَة سمى فِيهَا حرائره. وَلما برص بلعاء بن قيس الْكِنَانِي قيل لَهُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: سيف الله جلاه. وَمن أحسن كنايات الصاحب، وَأبي إِسْحَاق الصابي، وَغَيرهمَا من البلغاء عَن ذكر موت الْمُلُوك والأجلة والرؤساء قَوْلهم: انْقَضتْ أَيَّامه، اسْتَأْثر الله بِهِ. خانه عمره. لم تسمح النوائب بالتجافي عَن مهجته. أجَاب
1 / 22
دَاعِي ربه. نفذ قَضَاء الله فِيهِ. لحق بالسبيل الَّتِي لَا احْتِرَاز مِنْهَا. انْتقل إِلَى جزار ربه. دَعَاهُ الله فَأجَاب دَعَاهُ ولبى نداه. نَقله الله إِلَى دَار رضوانه وَمحل غفرانه. انْقَلب إِلَى كَرَامَة الله وعفوه. كتب لَهُ سَعَادَة المحتضر، وأفضى بِهِ الْأَمر إِلَى الْأَجَل المنتظر. طرقه طَارق الْمِقْدَار، وَاخْتَارَ الله عَزله بنقله من دَار الْبَوَار إِلَى دَار الْقَرار.
تَحْسِين الْكَذِب
قَالَ ابْن التوأم: الْكَذِب فِي مواطنه كالصدق فِي موَاضعه، وَلَكِن الشَّأْن فِيمَن يُحسنهُ وَيعرف مداخله ومخارجه، وَلَا يجهل تزاويقه ومضايقه، وَلَا ينساه بل يحفظه. وَمَعْلُوم أَن من أجل الْأُمُور فِي الدُّنْيَا الْحَرْب وَالصُّلْح، وَلَا بُد فيهمَا من الْكَذِب. أما الْحَرْب فَهِيَ خدعة كَمَا قَالَ ﵊. وَأما إصْلَاح ذَات الْبَين فالكذب فِيهِ مَحْمُود، لما فِيهِ من الصّلاح، وَقد رخص فِيهِ السّلف. وَلَا خلاف فِي أَن الشّعْر ديوَان الْعَرَب ولسان الزَّمَان، وَأحسنه أكذبه. وَكَذَلِكَ الْكِتَابَة لَا تحسن إِلَّا بِشَيْء مِنْهُ. وَقد جَاءَ فِي الْمثل " أظرف من كذوب ". قَالَ الْأَعْشَى: فصدقتها وكذبتها ... والمرء يَنْفَعهُ كذابه وَكَانَ الْعُتْبِي يَقُول: إِنِّي لأكذب فِي كبار مَا يَنْفَعنِي، لأصدق فِي صغَار مَا يضرني. وَقيل لجَعْفَر الصَّادِق ﵁: رُبمَا نكذب الظلمَة مَخَافَة شرهم أفنأثم فِيهِ؟ فَقَالَ: بل يثيبكم الله تَعَالَى عَلَيْهِ.
تَحْسِين الوقاحة
الوقاحة كالقداحة، لولاها لما استعر لَهب، وَلَا اشتعل حطب.
تَحْسِين الْإِثْم والترخيص فِي الذُّنُوب
سَمِعت أَبَا الْقَاسِم عبد الصَّمد بن بابك يَقُول: كَانَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن
1 / 23
عبد الله السلَامِي المَخْزُومِي أشعر شعراء أهل الْعرَاق بعد ابْن نباتة السَّعْدِيّ. وأمير شعره، وغرة كَلَامه قَوْله من تشبيب قصيدة لَهُ فِي ابْن عباد: وَنحن أولاك نطلب من بعيد ... لعزتنا، وندرك من قريب تجرأنا على الآثام لما ... رَأينَا الْعَفو من ثَمَر الذُّنُوب قَالَ: وَكَانَ ابْن عباد يَقُول إِذا أنْشد هَذَا الْبَيْت الْأَخير: هَذَا الْمَعْنى كَانَ يَدُور فِي خواطر النَّاس، فيحومون حوله، ويرفرفون عَلَيْهِ، وَلَا يتوصلون إِلَيْهِ، حَتَّى جَاءَ السلَامِي فأفصح عَنهُ، وَأحسن مَا شَاءَ، وَلم يدر مَا رمى بِهِ.
تَحْسِين الْفقر
كَانَ يُقَال: الْفقر شعار الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ، وَكَذَلِكَ قَالَ البحتري: فقر كفقر الْأَنْبِيَاء وغربة ... وصبابة، لَيْسَ الْبلَاء بِوَاحِد وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: الْفَقِير مخف آمن وَلَا عَدو لَهُ، والغني مثقل خَائِف وَلَا تحصى أعداؤه. وَمن أحسن مَا قيل فِي هَذَا الْبَاب قَول أبي الْعَتَاهِيَة: ألم تَرَ أَن الْفقر يُرْجَى لَهُ الْغنى ... وَأَن الْغنى يخْشَى عَلَيْهِ من الْفقر
1 / 24
وَقَول مَحْمُود الْوراق: يَا عائب الْفقر أما تنزجر ... عيب الْغنى أكبر لَو تعْتَبر من شرف الْفقر، وَمن فَضله ... على الْغنى، لَو صَحَّ مِنْك النّظر أَنَّك تَعْصِي الله تبغي الْغنى ... وَلست تَعْصِي الله كي تفْتَقر
تَحْسِين الدّين
كَانَت عَائِشَة ﵂ تستدين من غير حَاجَة، فَقيل لَهَا فِي ذَلِك، فَقَالَت: سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول: من كَانَ عَلَيْهِ دين، وَفِي نِيَّته قَضَاؤُهُ، كَانَ الله تَعَالَى مَعَه إِلَى أَن يَقْضِيه، وَأَنا أحب أَن يكون الله معي. وَفِي الحَدِيث: مَكْتُوب على بَاب الْجنَّة: الدّين بِثمَانِيَة عشر أَمْثَاله، وَالصَّدََقَة بِعشْرَة. قيل: وَلم ذَاك يَا رَسُول الله، قَالَ: لِأَن المستدين لَا يستدين إِلَّا لحَاجَة وضرورة، وَالصَّدََقَة رُبمَا وَقعت فِي يَد غَنِي عَنْهَا. وَفِي حَدِيث آخر: من أدان دينا وَفِي نِيَّته قَضَاؤُهُ أَعَانَهُ الله عَلَيْهِ وَبَارك لَهُ فِيهِ. وَقَالَ بعض السّلف: لِأَن أقْرض مَالِي مرَّتَيْنِ أَحَي إليّ من أَن أَتصدق بِهِ مرّة وَاحِدَة. وَدخل عَمْرو بن عتبَة يَوْمًا على خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي، فعرّض بِهِ خَالِد، وَقَالَ: إِن هَا هُنَا رجَالًا إِذا خفت أَمْوَالهم عوّلوا على الدّين، وَأخذُوا فِي الِاسْتِدَانَة. فَقَالَ عتبَة: إِن رجَالًا تكون أَمْوَالهم أَكثر من مروءاتهم فَلَا يدانون، ورجالًا لَا تكون مروءاتهم أَكثر من أَمْوَالهم فيدانون، على سَعَة مَا عِنْد الله. فَخَجِلَ خَالِد وَقَالَ: إِنَّك مِنْهُم مَا علمت. ووقّع لَهُ بِمِائَة ألف دِرْهَم. وَكَانَ سعيد بن سلم يَقُول: كَثْرَة الدّين من عَلَامَات المفضلين.
1 / 25
تَحْسِين الْحَبْس
سبق إِلَيْهِ وتفرّد بِهِ عليّ بن الجهم حَيْثُ يَقُول: قَالُوا حبست، فَقلت لَيْسَ بضائري ... حبسي، وأيّ مهند لَا يغمد أَو مَا رَأَيْت اللَّيْث يألف غيله ... كبرا، وأوباش السبَاع تردد والبدر يُدْرِكهُ السرَار فتنجلي ... أَيَّامه، وَكَأَنَّهُ متجدد وَالْحَبْس مَا لم تغشه لدنيّة ... شنعاء، نعم الْمنزل المتورد بَيت يجدد للكريم مَحَله ... ويزار فِيهِ وَلَا يزور، فيحمد وَكَانَ الْمبرد يَقُول: لله در عليّ بن الجهم إِذْ تفرد بِذكر إغماد السَّيْف وسلّه، فِي قَوْله: " وأيّ مهند لَا يغمد "، وَقَوله: مَا ضره إِذْ بزّ عَنهُ غطاؤه ... فالسيف أهيب مَا يرى مسلولًا وَسمعت أَبَا بكر الْخَوَارِزْمِيّ يَقُول: لم يسمع فِي الاستهانة بِالْحَبْسِ وَالْجَلد على عُقُوبَة السُّلْطَان أحسن وأكذب من قَول بعض الْأَعْرَاب: وَمَا السجْن إِلَّا ظلّ بَيت سكنته ... وَمَا السَّوْط إِلَّا جلدَة وَافَقت جلدا
تَحْسِين الْأَيْمَان الكاذبة
لم أسمع فِيهِ إِلَّا قَول ابْن الرُّومِي، وَهُوَ من بدائعه الَّتِي هُوَ ابْن بجدتها وَأَبُو عذرتها: وَإِنِّي لذُو حلف كَاذِب ... إِذا مَا اضطررت وَفِي الْحَال ضيق وَهل من جنَاح على مُسلم ... يدافع بِاللَّه مَا لَا يُطيق وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا ابتليتم بالسلطان فخرّقوا أَيْمَانكُم بِالْكَذِبِ، ورقّعوها بالاستغفار.
1 / 26
تَحْسِين أَمر الرَّقِيب
لم أسمع فِيهِ إِلَّا قَول من قَالَ، وَهُوَ متنازع: موقف للرقيب لَا أنساه ... لست أختاره وَلَا آباه مرْحَبًا بالرقيب من غير وعد ... جَاءَ يجلو عليّ من أهواه لَا أحب الرَّقِيب إِلَّا لِأَنِّي ... لَا أرى من أحب حَتَّى أرَاهُ
تَحْسِين أَمر الثقيل
أَنْشدني أَبُو الْفَتْح عَليّ بن مُحَمَّد البستي لنَفسِهِ: وَإِنِّي لأختص بعض الرِّجَال ... وَإِن كَانَ فدمًا، ثقيلًا، عباما فَأن الْجُبْن على أَنه ... ثقيل، وخيم يشهّي الطعاما وأنشدني أَبُو سعد بن دوست لنَفسِهِ: أَتَانَا ثقيل، فَقلت اصْبِرُوا ... يخف الثقيل على من صَبر فطيب الْجُلُوس بثقل الثقيل ... كطيب الهريس بِلَحْم الْبَقر؟
تَحْسِين أَمر الطفيلي
: لم اسْمَع فِيهِ إِلَّا مَا أنشدنيه أَبُو روح ظفر بن عبد الله الْهَرَوِيّ لنَفسِهِ: إِن الطفيلي لَهُ حُرْمَة ... زَادَت على حُرْمَة نَدْمَانِي
1 / 27
لِأَنَّهُ جَاءَ، وَلم أَدَعهُ ... مبتدئًا مِنْهُ بأحسان أَهلا بِمن أنساه لَا عَن قلى ... وَهُوَ يجبيني، لَيْسَ ينساني مائدتي للنَّاس مَنْصُوبَة ... فليأتها القاصي مَعَ الداني؟
تَحْسِين الحقد
لم يزل الحقد مذمومًا بِكُل لِسَان، مقبحًا عِنْد كل إِنْسَان، حَتَّى جرى بَين يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي وَبَين عبد الْملك بن صَالح الْهَاشِمِي كَلَام يُؤْذِي، إِلَى أَن قَالَ لَهُ يحيى: لله دَرك أَي رجل أَنْت، لَوْلَا أَنَّك حقود. فَقَالَ عبد الْملك: إِن كنت تُرِيدُ بَقَاء الْخَيْر وَالشَّر عِنْدِي فَإِنِّي كَذَلِك. ويروى أَنه قَالَ لَهُ: أَنا خزانَة تحفظ الْخَيْر وَالشَّر. فَقَالَ يحيى: هَذَا جبل قُرَيْش، وَوَاللَّه مَا رَأَيْت أحدا احْتج للحقد، حَتَّى حسّنه وظرّفه غَيره. وَقد نظم ابْن الرُّومِي هَذَا الْمَعْنى، فَقَالَ وَزَاد فِي التحسين: وَمَا الحقد إِلَّا توأم الشُّكْر للفتى ... وَبَعض السجايا ينتسبن إِلَى بعض فَحَيْثُ ترى حقدًا على ذِي إساءة ... فثم ترى شكرا على حسن الْقَرْض إِذا الأَرْض أدَّت ريع مَا أَنْت زارع ... من الْبذر فِيهَا، فَهِيَ ناهيك من أَرض؟
تَحْسِين الْعَمى
: قيل: لما عمي ابْن عَبَّاس ﵁، قَالَ: إِن يَأْخُذ الله من عينيّ نورهما ... فَفِي لساني وقلبي مِنْهُمَا نور قلبِي ذكي، وعقلي غير ذِي دخل ... وَفِي فمي مقول كالسيف مأثور
1 / 28
وَقيل لِقَتَادَة: مَا بَال العميان أذكى وأكيس من البصراء، فَقَالَ: لِأَن أَبْصَارهم تحولت إِلَى قُلُوبهم. وَقَالَ الجاحظ: العميان أحفظ وأذكى، واذهانهم أقوى وأصفى، لأَنهم غير مشتغلي الأفكار بتمييز الْأَشْخَاص، وَمَعَ النّظر يتشعب الْفِكر، وَمَعَ انطباق الْعين اجْتِمَاع اللب، وَلذَلِك قَالَ بشار: عميت جَنِينا، والذكاء من الْعَمى وَكَانَ أَبُو يَعْقُوب الخزيمي يَقُول: من فَضَائِل الْعَمى ومحاسنه ومرافقه اجْتِمَاع الرَّأْي والذهن وَقُوَّة الْكيس وَالْحِفْظ، وَسُقُوط الْوَاجِب من الْحُقُوق، والأمان من فضول النّظر الداعية إِلَى الذُّنُوب، وفقد النّظر إِلَى الثُّقَلَاء والبغضاء، وَحسن الْعِوَض عَن متراخي الوجد فِي دَار الثَّوَاب. وأنشدني أَبُو الْقَاسِم الطهمانيّ، قَالَ: أَنْشدني أَبُو مُحَمَّد الْهَاشِمِي، قَالَ: أَنْشدني مَنْصُور الْفَقِيه الْمصْرِيّ لنَفسِهِ: يَا معرضًا إِذْ رَآنِي ... لما رَآنِي ضريرا كم قد رَأَيْت بَصيرًا ... أعمى، وأعمى بَصيرًا قل لي، وَإِن إنت أنصف ... ت قلت خلقا كثيرا
تَحْسِين الْوحدَة
أَنْشدني مَيْمُون بن سهل الوَاسِطِيّ، قَالَ: أَنْشدني القَاضِي
1 / 29
أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الْعَزِيز الْجِرْجَانِيّ لنَفسِهِ: مَا تطعمت لَذَّة الْعَيْش حَتَّى ... صرت فِي وَحْدَتي لكتبي جَلِيسا لَيْسَ شَيْء أجلّ عِنْدِي من نف ... سي، فَلم أَبْتَغِي سواهَا أنيسا إِنَّمَا الذل فِي مُوَاصلَة النا ... س، فدعها، وعش كَرِيمًا رَئِيسا وأنشدني أَبُو مُحَمَّد العبدلكاني لنَفسِهِ فِي بَاب الْهزْل والإحماض: يلومونني فِي وَحْدَتي والومهم ... وَلَو أنصفوني صوّب الرَّأْي من لحا وحسبك من فضل التوحد أَنه ... إِذا ضَاقَ بطن الْمَرْء بِالرِّيحِ سرّحا
تَحْسِين الْبُخْل
: كَانَ الْكِنْدِيّ يَقُول: من جاد بِمَالِه فقد جاد بِنَفسِهِ، لِأَنَّهُ يجود بِمَا لَا قوام لَهَا إِلَّا بِهِ. وَكَانَ يَقُول: قَول لَا يدْفع البلا، وَقَول نعم يزل النعم. وَكَانَ أَبُو الْأسود يَقُول: لَو لم نبخل على السُّؤَال بِمَا يسألوننا لَكنا أَسْوَأ حَالا مِنْهُم. وَكَانَ سهل بن هَارُون يَقُول: عجبت لمن يُسَمِّي الْقَصْد بخلا والسرف جودًا. وَكَانَ عليّ بن الجهم يَقُول: من وهب المَال فِي عمله فَهُوَ أَحمَق، وَمن وهبه فِي عَزله فَهُوَ مَجْنُون، وَمن وهبه من كَسبه فَهُوَ جَاهِل، وَمن وهبه مِمَّا استفاده بحيلته فَهُوَ المطبوع على قلبه، الْمَأْخُوذ ببصره وسَمعه. وَكَانَ مُحَمَّد بن الجهم يَقُول: اتْرُكُوا الْجُود للملوك، فَهُوَ لَا يَلِيق
1 / 30
إِلَّا بهم، وَلَا يصلح إِلَّا لَهُم، وَمن عارضهم فِي ذَلِك ثمَّ افْتقر وَافْتَضَحَ فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه. وَكَانَ يَقُول: (إِذا قبّح السُّؤَال حسن الْمَنْع) . وَمن أَمْثَال الْعَرَب: " الشحيح أعذر من الظَّالِم ". وَمن أَمْثَال الْعَجم: " منع الْجَمِيع (أرْضى للْجَمِيع) . وَلما جرى الْكَلَام بَين أَرْبَاب الدولة فِي اسْتِخْلَاف ابْن المعتز بعد المكتفي، وتذاكروا فَضله وأدبه، قَالَ الْعَبَّاس بن الْحسن الْوَزير: لَا يصلح لخلافة الله فِي بِلَاده وعباده من يَقُول فِي تَحْسِين الْبُخْل: يَا رب جود جر فقر امْرِئ ... فَقَامَ فِي النَّاس مقَام الذَّلِيل فاشدد عرى مَالك، واستبقه ... فالبخل خير من سُؤال الْبَخِيل وأنشدني عبد القاهر بن عبد الْوَهَّاب الْبَصْرِيّ، وَلم يسم لَهُ قَائِلا، وَأرَاهُ لِابْنِ الرُّومِي: لَا تسلم الْمَرْء على بخله ... ولمه، يَا صَاح، على بذله لَا خير فِي الْمَرْء إِذا لم يكن ... يحفظ مَا يكرم من أَجله أحصف، وأعقل بامرئ حَازِم ... يلْزم مَا يلْزم من ذله
تَحْسِين قَول لَا
أحسن مَا قيل فِيهِ (نثرًا) قَول بعض الْعلمَاء: من فضل لَا أَنَّهَا افْتِتَاح كلمة التَّوْحِيد. يَعْنِي قَول لَا إِلَه إِلَّا الله. وَكَانَ الْكِنْدِيّ يَقُول: قَول لَا يدْفع البلا، وَقَول نعم يزِيل النعم. وَمن أحسن مَا قيل فِيهِ نظمًا قَول بعض الظرفاء: قد أجمع النَّاس على بعض لَا ... وَلست أنسى أبدا حبّ لَا لأنني قلت لَهُ سَيِّدي ... تحب غَيْرِي أبدا؟ قَالَ: لَا
1 / 31
تَحْسِين أَمر الغوغاء والسفل
فِي الْخَبَر أَن الله تَعَالَى ينصر هَذَا الدّين بِقوم لَا خلاق لَهُم. وَكَانَ الْأَحْنَف يَقُول: أكْرمُوا الغوغاء والسفهاء، فأنهم يكفونكم الْعَار وَالنَّار. وَذكر جَعْفَر بن مُحَمَّد ﵁، فَقَالَ: إِنَّهُم ليطفون الْحَرِيق، ويستنقذون الغريق، ويسدون البثوق. وَكَانَ سعيد بن سلم يَقُول: يَنْبَغِي للرئيس أَن يَأْخُذ فِي ارتباط السُّفَهَاء والغوغاء بقول الشَّاعِر: وَإِنِّي لأستبقي امرء السوء عدةلعدوة عريض من الْقَوْم جَانب أَخَاف كلاب الأبعدين وهرشها ... إِذا لم تجاوبها كلاب الْأَقَارِب
تَحْسِين البله
كَانَ قَابُوس بن وشمكير، إِذا ذكر إنْسَانا بالبله قَالَ: إِنَّه من أهل الْجنَّة. يَعْنِي قَول النَّبِي ﵊: أَكثر أهل الْجنَّة البله.
تَحْسِين الملال
قَرَأت فِي أَخْبَار عبيد الله بن عبد الله بن طَاهِر: أَنه جرى يَوْمًا فِي مَجْلِسه بَين جُلَسَائِهِ كَلَام فِي ذمّ الْملَل وتقبيحه والتعريض بِهِ، فتغافل وتشاغل سَاعَة. فَلَمَّا أَكْثرُوا وَلم يبقوا فِي الْقوس منزعًا، اسْتَوَى جَالِسا وَأَقْبل عَلَيْهِم وَقَالَ: وَيحكم أَتَدْرُونَ أَنكُمْ تذمون ممدوحًا؟ أَلا ترَوْنَ أَن الرئيس إِذا كَانَ غير ملول اخْتصَّ بثمرة فَضله قوم، بل شرذمة قَلِيلُونَ من خواصه وندمائه (وَحرم الْأَكْثَرُونَ من أفاضل الْمُسْتَحقّين صوب سمائه)، وَإِذا كَانَ ملولًا وَلَا
1 / 32
يصبر على نفر بأعيانهم استجد الأخوان على تكَرر الزَّمَان، واستمالهم بالإنعام، وَالْإِحْسَان، وتشارك النَّاس فِي أثاريده، وتضاربوا بِالسِّهَامِ فِي أياديه ومننه، فَقَالُوا لَهُ: وَالله إِن الْأَمِير ليسحرنا بِلِسَانِهِ وَبَيَانه، وَيحسن مَا تطابقت الألسن على تقبيحه.
تَحْسِين الْحجاب
لم يُحسنهُ أحد كتحسين أبي تَمام إِيَّاه واشتهاره عَلَيْهِ، فِي قَوْله لعبد الله بن طَاهِر: يَا أَيهَا الْملك النائي بِرُؤْيَتِهِ ... وجوده لمراعي جوده كثب لَيْسَ الْحجاب بمقص عَنْك لي أملًا ... إِن السَّمَاء لترجى حِين تحتجب وَأَرَادَ ابْن نباتة أَن يبتدع عَلَيْهِ، فَقَالَ وَأحسن، وَلَكِن مَا شقّ غباره: وَلَو كَانَ الْحجاب بِغَيْر نفع ... لما احْتَاجَ الْفُؤَاد إِلَى حجاب
تَحْسِين الْعَزْل
من أحسن مَا سَمِعت فِيهِ نثرًا قَول أبي إِسْحَاق الصابي، من رِسَالَة إِلَى بعض أصدقائه: لِيَهنك يَا سَيِّدي ومولاي أدام الله تَعَالَى عزك الْعَزْل، وَحَازَ لَك فِي خفَّة الظّهْر بالتخلص من الْعَمَل الَّذِي هُوَ، مَعَ هَذِه العواقب الوخيمة والرسوم الذميمة، بِمَنْزِلَة الحبائل المنصوبة والأشراك المبثوثة. وَمثلك لَا يُخَاطب مُخَاطبَة من حط لَهُ مَحل، بل مُخَاطبَة من وضع عَنهُ كل. وَمن إِحْسَان البحتري الْمَشْهُور قَوْله: لِيَهنك إِذْ أَصبَحت مُجْتَمع الْحَمد ... وباني الْمَعَالِي والمكارم وَالْمجد فَلَا تحسب الحساد عزلك مغنمًا ... فَإِن إِلَى الإصدار مَا غَايَة الْورْد وَمَا كنت إِلَّا السَّيْف جرّد للوغى ... فَأَحْمَد فِيهَا، ثمَّ رد إِلَى الغمد
1 / 33