بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي فضل مُلُوك الْأمة المحمدية وسلاطين الْملَّة الاحمدية على كثير من عباده تَفْضِيلًا وجعلهم للأنام من حوادث الْأَيَّام فِي أَفَاق بِلَاده ظلا ظليلا وأوضح لَهُم إِلَى اكْتِسَاب الْفَضَائِل وَاجْتنَاب الرذائل ٢ / ب بعناية الأزلية سَبِيلا وَأقَام على سعادتهم فِي مناهج معجلتهم من يمن حركاتهم وسكناتهم دَلِيلا وعداهم للنَّظَر فِي مصَالح الرعايا باستعلام وقائع القضايا فَهِيَ تتلى عَلَيْهِم بكرَة وَأَصِيلا
نحمده على نعم لم تعزب عَنَّا طوالعها ونشكره على ٣ / أَمن لم تنصب لدينا مشارعها حم من استنفد من الْقيام بشكره عدَّة أَيَّامه إِلَّا قَلِيلا
وَأشْهد أَن لَا اله إِلَّا الله مَالك الْملك الحكم الْعدْل الْغَنِيّ عَن الشَّرِيك والوزير وَالْكَفِيل والظهير والمعين والمشير القيوم الَّذِي لَو رامت الْعُقُول الْإِحَاطَة بكنة تَدْبيره ٣ ب لرجع طرفها حسيرا وخذها كليلا
وَأشْهد أَن سيدنَا مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله الَّذِي سبغت بِهِ نعْمَة الْهِدَايَة اكمل سبوغ وَجعل لَهَا سُلْطَانا نَصِيرًا أَقْْضِي إِلَى دَرك غَايَة الظفر وَنِهَايَة الْبلُوغ وأيده بِالْكتاب الْعَزِيز الَّذِي ضمنه من نبأ الْأَوَّلين والآخرين مَا جعله بإعجازه كَفِيلا ٤ / أشهادة تفيض على الْأَسْرَار نورها وتستفيض على الأنظار بظهورها وتلقى الشَّيْطَان مِنْهَا قولا ثقيلا وَنُصَلِّي ونسلم على الْمَبْعُوث بِالْآيَاتِ الباهرة وَالْأَحْكَام الزاهرة الَّتِي أبرأت بأنوار حَقّهَا الساطعة من أنصاب الْقُلُوب عليلا سيدنَا مُحَمَّد الْمَبْعُوث ٤ / ب بِالصِّفَاتِ الطاهرة والمعجزات
1 / 23
الظَّاهِرَة الَّتِي شنت ببراهينها للقاطعة من اضْطِرَاب النُّفُوس غليلا وعَلى مبايعة ومتابعية الَّذين أعلاهم الله أَعلَى الْمَرَاتِب بأعظم الْوَسَائِل وأولاهم أولى المناقب بأكرم الشَّمَائِل صَلَاة وَسلَامًا لسنة ٥ أدوامها المفترض تَحْويل وَرَضي الله عَن وُلَاة أُمُور الْمُوَحِّدين وحماة حوزة الدّين أَئِمَّة الْإِسْلَام الَّذين صدقُوا مَا هادوا الله عَلَيْهِ وَمَا بدلُوا تبديلا رضوانا يُحِلهُمْ بِهِ منَازِل آنسة من حظائر قدسه فِي جنَّات عدن خير مُسْتَقر وَأحسن ٥ ب مقيلا أما بعد
فقد وضح لِذَوي الدِّرَايَة والعرفان وَثَبت عِنْد أولي الرِّوَايَة بِالدَّلِيلِ والبرهان أَن السلطنة منزلَة عالية مَعْدُودَة من الرتب الْعِظَام المضبوط بهَا مصَالح الْخَواص والعوام وَأَن لعلو فخرها وعلو قدرهَا امتن الله (٦ أ) بهَا على كليمة مُوسَى ﵇ حِين استضعف نَفسه عَن أَدَاء رِسَالَة ربه وَخَافَ أَن لَا ينْهض مُنْفَردا بثقل أعباء مَا أمره الله بِهِ فَسَأَلَ الْحق جلّ وعَلى أَعَادَهُ بإسعافه فِي ذَلِك بأَخيه هَارُون فَقَالَ وَأخي هَارُون هُوَ أفْصح مني لِسَانا فَأرْسلهُ (٦ ب معي ردْءًا يصدقني أَنِّي أَخَاف أَن يكذبُون) فَأَجَابَهُ الله إِلَى سُؤَاله وأجناه من شَجَرَة سؤله ثَمَرَة نواله ومنحه سلطنه يقصر عَن تأميل إِدْرَاكهَا الطالبون وَلَا يقدر على منالها بجد واجتهاد الراغبون فَقَالَ تَعَالَى سنشد عضدك بأخيك ونجعل لَكمَا سُلْطَانا (٧ أَفلا يصلونَ إلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمن اتبعكما الغالبون) وَأَن الأحرى بِمن ارْتَضَاهُ الله لَهَا من خليقته وناط أزمة أمورها نقصا وإبراما بقضية أَن يَأْخُذ نَفسه برعاية أحوالها ويرضوها فِي أفعالها وأقوالها وَيعلم يَقِينا أَنه مَتى قدر على سياسته (٧ ب) نَفسه كَانَ على سياسة غَيره أقدر وَإِذا أهمل أَمر نَفسه كَانَ بإهمال غَيره أَجْدَر كَمَا قيل
(أتطمع أَن يطيعك قلب سعدي ... وتزعم أَن قَلْبك قد عصاكا)
وَقد تزين نفس الْإِنْسَان لَهُ حسن الظَّن بهَا فيعتقد أَنه متصف بمحاسن الْأَخْلَاق (٨ أ) فَيعرض عَن مراعاتها وينقاد بزمام الرضى عَنْهَا إِلَى متابعتها فِي شهواتها فَيبقى وَهُوَ لَا يعلم فِي أسر هَوَاهُ مرتهنا معدودا مِمَّن زين لَهُ سوء عمله فَرَآهُ حسنا فيقوى نَفسه عَلَيْهِ حَتَّى تغلب عقله ويلعب بِهِ هَوَاهُ حَتَّى يستنفد فِي شهواته قَوْله وَفعله ويكشفه (٨ ب) صوارف غفلاته عَن تَأمل إصْلَاح شَأْنه فتنسيه فروعه وَأَصله فَلَا يشْعر إِلَّا وَقد أشرف بِهِ الصلف على التّلف فأغسد أمره كُله فَمَتَى استظهر على هَذِه الْحَالة من مبدأ أمره وَاعْتبر مواقع تزين النَّفس الْمَارَّة بالسوء ببصيرة فكره وَحصر أَسبَاب التزيين (٩ أ) فَقَطعه بشبا صبره وزجر قلبه عَن إتباع هَوَاهُ بموجبات زَجره وقهر نَفسه فانقادت طوع عقله فِي سره وجهره كَانَ خليقا أَن تنْقَلب خلائقه الذاتية حميدة وطرائقه المأتية سعيدة ونظراته فِي تصريف الحركات والسكنات سعيدة (٩ ب) فَلَا جرم تكون دولته دائمة ومدته مديدة وَلَا يدْرك هَذَا الِاسْتِظْهَار بِعَين الْيَقِين إِلَّا إِذا أحَاط علما بِأَسْبَاب التزيين فقطعها بِحَدّ عزمه الْمُبين وَدفعهَا بِحَدّ ذِي الْقُوَّة المتين وانه يتَعَيَّن على من رزقه الله نعْمَة السلطنة وحلاه بعقدها وَأَتَاهُ أزمة حل (١٠ أ) الْأُمُور وعقدها وَجعله نَائِبا فِي حماية بِلَاده ورعاية عباده واليه مَال مرجعها ومردها أَن يصرف عناية اهتمامه المتقنة إِلَى النّظر فِي عشرَة أُمُور وَهِي قَرَار قَوَاعِد الْملك وقطب السلطنة الأول حفظ بَيْضَة الْإِسْلَام (١٠ ب) وَالْقِيَام بحمايته فِي جَمِيع أقطار بِلَاده ونواحي مَمْلَكَته لِئَلَّا يقوى عَلَيْهِ بشوكة كَافِر وَلَا تصل إِلَيْهِ يَد
1 / 24
فَاجر وَذَلِكَ بِإِقَامَة الْأُمَرَاء والأجناد وإعداد الأهبة والاستعداد وَتَحْصِيل مهمات الْإِمْدَاد لإرهاب الْأَعْدَاء (١١ أ) والأضداد
وَالثَّانِي تفقد المعاقل والحصون والثغور بِاعْتِبَار أَحْوَال ولاتها وَاخْتِيَار رجال حماتها والمبادرة إِلَى إصْلَاح عمائرها وذخائرها ومهماتها
وَالثَّالِث إِقَامَة السياسات لدفع العتاة والمفسدين وردع الطغاة (١١ ب) والمعتدين فَإِن بهَا يسترعى الرعايا لتَحْصِيل المعايش والأقوات ويعم نفع البرايا بالأسفار الَّتِي لَا تحصل إِلَّا بأمن الطرقات
وَالرَّابِع إِقَامَة حُدُود الله الْمَانِعَة من ارْتِكَاب الْمَحَارِم الوازعة من اقتراف الجرائم الرادعة عَن اكْتِسَاب الْمَظَالِم فقد جعلهَا (١٢ أ) الله لحفظ النُّفُوس وحراسة الْأَمْوَال وَأمر بإقامتها فَلَا يحل إِسْقَاطهَا بشفاعة وَلَا سُؤال
وَالْخَامِس دوَام تمسكة بِحَبل الشَّرِيعَة الغراء والتزامها واعتماده فِي أَمر وَنَهْيه على نَقصهَا وإبرامها وَاعْتِبَار أُمُور القائمين بِأَحْكَام (١٢ ب) أَحْكَامهَا واعتناؤه بِإِقَامَة صلحاء قضاتها وحكامها فبنصبه فيأصل الْقُضَاة قطع النزاع وصيانة الْأَمْوَال والحقوق عَن الْإِتْلَاف والضياع وَحفظ ذَلِك من أَن تمد إِلَيْهِ أَيدي الاقتطاع من ذَوي الْبَغي وأولي الأطماع (١٣ أ) وَإِقَامَة الْعُقُود الْمُحْتَاج إِلَيْهَا على مَالهَا من الأوضاع
وَالسَّادِس الْقيام بإقطاع الْأُمَرَاء والأجناد وأرزاق الْحُقُوق اللَّازِمَة من الْعباد وترتيبهم على مِقْدَار مَنَازِلهمْ وأحوالهم وتفضيلهم بِمَا يُوجِبهُ تفاضل الِاحْتِيَاج إِلَيْهِم فِي أَعْمَالهم
(١٣ ب) وَالسَّابِع الاهتمام بجهاب الْأَمْوَال لاجتلاب أَنْوَاعهَا ومواطن الغلال الَّتِي بهَا تَقْوِيَة الْبِلَاد بِاعْتِبَار مزارع ضياعها وان لَا تُؤْخَذ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعدْل فَهُوَ أكبر حارس لَهَا من ضياعها
1 / 26
وَالثَّامِن اسْتِخْدَام الكفاة والأمناء والأتقياء وَاسْتِعْمَال (١٤ أ) النصحاء الصلحاء الأقوياء لتَكون الْأَحْوَال يكفايتهم ملحوظة مضبوطة وبأمانتهم ونصحهم مَحْفُوظَة محوطة
وَالتَّاسِع الانتصاب لأمور الْعَامَّة بِأَن يجلس لَهَا وقتا من الْأَوْقَات لكشف الْمَظَالِم ولإقامة فَرِيضَة الْعدْل لإِزَالَة الْمَظَالِم
والعاشر (١٤ ب) التطلع إِلَى مجددات الْأَحْوَال وحوادث الْمُرُور وَاسْتِعْمَال الفكرة فِيمَا يَتَجَدَّد مِنْهَا مَخَافَة طرئان مكررة ومحذور بِأَن يَجْعَل لَهُ عيُونا يعتمدهم بصددها وثقاة يعدهم لرصدها فَإِن حوادث الأقدار وتقلبات الأدوار (١٥ أ) قد تجْعَل الْمُوَافق مُخَالفا والموالي مجانبا والأمين خائنا والناصح غاشا والساكن متحركا والمقرب مباينا فَإِذا تطلع إِلَى معرفَة مجددات الْأَسْبَاب ظهر لَهُ الْخَطَأ من الصَّوَاب وَعلم المحق من الْمُبْطل المرتاب فبادر إِلَى إصْلَاح الْخلَل وَإِزَالَة الِاضْطِرَاب (١٥ ب) فَهَذِهِ الْأُمُور الْعشْرَة أصُول شوامخ ينشأ مِنْهَا شعب متفرعة وقواعد ورواسخ يَنْبَنِي عَلَيْهَا أَحْكَام فَإِذا لحظها السُّلْطَان بِعَين يقظتة وَأدْخل أَحْكَام أَحْكَامهَا فِي بَاب مَعْرفَته أَقَامَ بِمَا وَجب عَلَيْهِ من حراسة الْملَّة وسياسة (١٦ أ) رَعيته
هَذَا وأنى لما رَأَيْت بإعانة وُلَاة الْأَمر الْأَئِمَّة على مَا تَحملُوهُ من أعباء مصَالح الْأمة المهمة بتعريفهم مناهج إرشادهم وإسعافهم بمباهج إسعادهم من لَوَازِم طاعتهم الَّتِي لَا بُد لكل مُسلم مِنْهَا وَتَمام نصرتهم (١٦ ب) الَّتِي لَا غنى لمستمسك بدين الله عَنْهَا
1 / 27
والغيت المصنفات الْمُعْتَبرَة فِي أَحْكَام رياسة أَئِمَّة الْإِسْلَام المرعية والمؤلفات المشتهرة فِي أَحْكَام سياسة الْخَاص والعوام من الرّعية أما بسط مُمل العزمات عَن تصفحة عليلة أَو وجيزة مخل الرغبات (١٧ أ) فِي تلمحة قَليلَة حدانى غَرَض أختلع فِي سرى وأمل عتلج فِي صحرى على أَن أصرف همتي الفاترة وأبعث قريحتي القاصرة إِلَى تأليف مُخْتَصر فِي قَوَاعِد تَعْرِيف رياسة الإِمَام ومعاقدها وعوائد تصريف سياسة الآنام ومراشدها (١٧ ب) جَامع لزبد هَذِه الْأَسْبَاب قَاطع بِمَا يشْتَمل عَلَيْهِ من الْفَوَائِد وزوائد الْمَقَاصِد شبه الارتياب وَاقع بإفادة التَّحْقِيق وإجادة التدقيق موقع الْغَرَض من هَذَا الْبَاب
فاستخرت الله الَّذِي مَا خَابَ من استخارة وَلَا بُد من آب إِلَيْهِ (١٨ ب) واستجارة والفت هَذَا الْكتاب البديع واللباب الرفيع من شرائف المعارف المسطورة فِي نفائس كتب هَذَا الْفَنّ الْمَشْهُور وَجَعَلته فِي هَذَا الشان عدَّة لكل حام حَامِل لأعباء الْأُمُور وعمدة لكل كَاف بمصالح الْجُمْهُور (١٨ ب) وسميته إِذا رسمته بتحرير السلوك فِي تَدْبِير الْمُلُوك ورتبته بعد أَن هذبته على مُقَدّمَة مهمة وواسطة وخاتمة متمة
أما الْمُقدمَة فتشمل على مَا يتخلى عَنهُ ولى الْأَمر من غرر النقائص الفاضحة وَمَا يتحلى بِهِ من غرر الخصائص الْوَاضِحَة (١٩ أ) وَأما الْوَاسِطَة فتشتمل على مَا يعتده ولي الْأَمر عِنْد النّظر فِي الْمَظَالِم من الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة وَمَا يعتمده حِين الحكم من السياسات الدِّينِيَّة
وَأما الخاتمة فتشتمل على التِّبْيَان لما يحكمه ولي الْأَمر من الْأَعْمَال عِنْد النّظر فِي الجرائم بواضح الْبَيَان
(١٩ ب) وَأَنا رَاغِب لكل خَاطب وصاله وطلاب نواله أَعْيَان السادات وسادات الْأَعْيَان الحائزين فِي حلبات الْبَيَان قصبات الرِّهَان إِذا جليت
1 / 28
عَلَيْهِ عرائس جماله ونفائس كَمَاله أَن لَا يفوق لهدف الِاخْتِيَار سهم الِاخْتِيَار (٢٠ أ) وَأَن يحذق إِلَيْهِ بصر الانتقاد فَأَي جواد لَا يكبو وَأي مهند لَا ينبو وَمَعَ هَذَا فان لِسَان التَّقْصِير عَن الْقيام بالعذر قصير وَالْمُصَنّف وَأَن نظم دُرَر الْفَوَائِد فِي منظوم الْفَوَائِد ونثر غرر (٢٠ ب) الفرائد فِي منثور الْفَوَائِد واستعان فِي ترصيف مَا صنف وتنقيح مَا ألف من نقاد الْعبارَة وفرسانها بحسبان البراعة وسحبانها معرض لحاسد أَو طَاعن بقال وَقيل أل أَن يحْتَاج لَهُ عاذر ومقيل وَإِنِّي لأرجو أَن يفخم أمره من النَّاس (٢١ أ) حر شَأْنه الصفح والستر وَإِلَى ذِي الْغَنِيّ الْمُطلق أمد كف الْفقر الْمُحَقق أَن يَجْعَلنِي فِيهِ من المخلصين وبأذيال كرمه الْعَام أعلق يَد الْفَاقَة والإعدام أَن يَجعله ذخيرة لي يَوْم الدّين وبباب عَفوه الْعَزِيز أَقف وَقْفَة الْمُعْتَرف بِالْعَجزِ (٢١ ب) وَالتَّقْصِير سَائِلًا ستر عيوبي جمعا وَإِلَيْهِ سُبْحَانَهُ أضرع أَن لَا يَجْعَلنِي من الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا وَمن فيضه الجم أسأله المعونة على خزن الْأَمر وسهله وَفِيمَا خص وَعم أتوكل عَلَيْهِ (٢٢ أ) واعتصم بحبله فَهُوَ الْجواد الْكَرِيم الْبر الرَّحِيم وَهَذَا حِين شروعنا فِي بَيَان الْمَقْصُود من الْكَلَام على مَقَاصِد الْكتاب بِفضل مانح الْجُود فَنَقُول وَبِاللَّهِ الْإِعَانَة على الْإِبَانَة
الْكَلَام على الْمُقدمَة الْحُرِّيَّة بالتقدمة
أعلم أَن أولى مَا تطلعت إِلَيْهِ أفكار (٢٢ ب) الْمُلُوك الَّتِي هِيَ مُلُوك الأفكار ورغبت فِيهِ نُفُوسهم الشَّرِيفَة الَّتِي خصها الله بمشكاة الْأَنْوَار وأسجل لَهَا حَاكم السَّعَادَة بشرف الهمة وصفاء الفكرة حَتَّى يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار التخلي عَن الرذائل والتحلي بالفضائل
(٢٢ أ) وَأَن الرذائل أُمَّهَات إِذْ أبعدتها النَّفس عَنْهَا وأزالتها مِنْهَا استعدت للإنصاف بشرف الْخَلَاء بِلَا خلاف
1 / 29
فأولها: الكبروثانيها: العجبوثالثها: الغرورورابعها: الشُّح وخامسها: الْكَذِب
فَأَما الْكبر فَهُوَ جالب (٢٣ ب) لسخط الله المليك القهار قَالَ الله تَعَالَى ﴿كَذَلِك يطبع الله على كل قلب متكبر جَبَّار﴾
وروينا عَن رَسُول الله ﷺ فِيمَا يرويهِ عَن اله جلت عَظمته أَن تَعَالَى يَقُول الْكِبْرِيَاء رِدَائي وَالْعَظَمَة ازارى فَمن ناز عني فِي شَيْء مِنْهَا قصمته
(٢٤ أ) وقلما اتّصف ملك بِصفة الْكبر إِلَّا اختلت أَحْوَال مَمْلَكَته واضطربت قَوَاعِد دولته وعميت عَلَيْهِ أَبنَاء مَصَالِحه وَقل موَالِيه وَظَهَرت مقَالَته بسهام أعاديه
وَأما الْعجب فَهُوَ من المهلكات قَالَ الله تَعَالَى ترهيبا لِعِبَادِهِ المتدبرين (٢٤ ب) ﴿وَيَوْم حنين إِذْ أَعجبتكُم كثرتكم فَلم تغن عَنْكُم شَيْئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ ثمَّ وليتم مُدبرين﴾ وروينا عَن رَسُول ﷺ أَنه قَالَ ثَلَاث مهلكات شح مُطَاع وَهوى مُتبع وَإِعْجَاب الْمَرْء بِنَفسِهِ
وَمن الحكم الصَّادِر عَن حكماء الْعلمَاء (٢٥ أ) الَّذين شرفهم الله بِنزل قدسه من استهواء الْعجب حَتَّى نظر فِي عطفيه واختال فِي برديه وَلم ير لغيره فضلا عَلَيْهِ فقد اكْتسب التّلف مِمَّا فَوق فِي سِهَام المقت إِلَيْهِ واحتقب مَا يورثه ندامة وحسرة يَوْم يعَض الظَّالِم على يَدَيْهِ
1 / 30
وَأما (٢٥ ب) الْغرُور فَهُوَ مضل بِصَاحِبِهِ إِلَى العطب سائق لَهُ ورطات هَلَاك ذَات شعب وَهُوَ أَن يرى الْمَغْرُور الْأَحْوَال فِي مباديها منتظمة فِي سلك السداد والأمور فِي أوائلها جَارِيَة على وفْق المُرَاد والأوقات سَاكِنة عَن هبوب عوارض الْبَغي (٢٦ أ) وَالْفساد والاختلافات الشاغلة قد نزلت بساحات الْأَعْدَاء والاضداد فيظن أَن هَذِه الْحَالة وَاجِبَة الإطراد دائمة الِاسْتِمْرَار بِلَا انْقِطَاع وَلَا نَفاذ فيغتر بذلك فيهمل التأهب ويغفل عَن الاستعداد فتفاجئه حوادث الْخَال وتباغته نَوَازِل (٢٦ ب) الزلل فتسد عَنهُ أَبْوَاب الصّلاح وتفتح عَلَيْهِ أَبْوَاب الْفساد وَأعظم موارد الْغرُور النِّفَاق المادحين ومدح الْمُنَافِقين وتملق المقربين وتقرب المتملقين الَّذين اتَّخذُوا الْكَذِب والنفاق وَسِيلَة وَجعلُوا الْمَكْر وَالْخداع أحبولة وحيلة (٢٧ أ) فَمَتَى وجدوا لنفاقهم نفَاقًا وسوقا ولكذبهم قبولا وَتَصْدِيقًا نصبوه سلما إِلَى مرامهم وَأَقَامُوا المغتر بهم غَرضا لسهامهم واتخذوه عرضة لاستهزائهم بِهِ واستقسامهم وَقد عد الْعلمَاء وأساطين الْحُكَمَاء هَذَا النَّوْع من الاغترار من أقوى (٢٧ ب) الْأَسْبَاب وحثوا أكَابِر الْمُلُوك على التيقظ لَهُ عِنْد الإسهاب فِيهِ والإطناب ونبهوا على الِاحْتِرَاز مِنْهُ والتجنب عِنْد أَرْبَاب الْأَلْبَاب فَأن أقل مَا فِيهِ رواج الاستسخار والاستهزاء ونفاق الْكَذِب بِلَا ارتياب وَلِهَذَا الْمَعْنى أَمر (٢٨ أ) الرَّسُول ﷺ بإهانة مباشريه بقوله أحثوا فِي وُجُوه المادحين التُّرَاب
وَأما الشُّح فَهُوَ من الْأَسْبَاب الَّتِي أخبر الرَّسُول ﷺ بِكَوْنِهَا مهلكة للورى وَيَكْفِي فِي ذمَّة الْفَلاح مقرون بالسلامة مِنْهُ والتوقي
1 / 31
بِلَا (٢٨ ب) مراء قَالَ الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْمكنون ﴿وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون﴾
وَمن الحكم الْبَالِغَة الشحيح مطرود مقامات الْكِرَام مَعْدُود من سيئات الْأَيَّام مَقْصُود بسهام الْمَلَامَة بَين النام لَا يسود أبدا وَلَا يبلغ مقصدا
(٢٩ أ) وَأما الْكَذِب فَيَكْفِي فِي ذمَّة أَنه يجانب الْإِيمَان ويسلب خصيصة الْإِنْسَان فان النُّطْق هُوَ الْفَارِق بَينه وَبَين سَائِر الْحَيَوَان وآلته الْمعبر بهَا عَمَّا فِي الضمائر المتوصل بهَا عِنْد التخاطب إِلَى إِظْهَار مَا فِي السرائر هِيَ اللِّسَان فَإِذا اسْتَعْملهُ صَاحبه (٢٩ ب) فِي الْكَذِب فَغير الْأَشْيَاء عَن حقائقها وأبرز الْبَاطِل فِي صُورَة الْحق وَأخْبر بالأمور على خلاف مَا هِيَ عَلَيْهَا وكسا الْمحَال لِبَاس الصدْق فقد سقط الوثوق بِهِ من الْقُلُوب عِنْد الْأَخْبَار وَلم يبْق لما يصدر عَنهُ أثر وَلَا اعْتِبَار
وَمن الحكم الْبَالِغَة (٣٠ أ) الْكَذِب يسلب صَاحبه صفة الصّلاح ويلبسه جِلْبَاب الافتضاح وَيجْعَل در نَعته لَغوا منثورا وَلَو نظمه الْجَوْهَرِي فِي سمط الصِّحَاح
فَهَذِهِ الرذائل الْخَمْسَة يتَعَيَّن على السُّلْطَان أَن يصون نَفسه وَشرف همته وَعز سُلْطَانه وَحسن سمعته (٣٠ ب) عَن شَيْء مِنْهَا لِأَنَّهَا النقائض الوضيعة المحطة لِذَوي الأقدار الرفيعة وَمِنْهَا يتَطَرَّق تَزْيِين الفضائح وتحسين القبائح فَإِنَّهُ قل مَا كَانَت فِيهِ إِلَّا اختلت أَحْوَال مَمْلَكَته بِلَا نزاع واضطربت قَوَاعِد دولته ونفرت عَنهُ قُلُوب (٣١ أ) الإتباع وعميت عَلَيْهِ
1 / 32
أنباء الْمصَالح وَظَهَرت مقاتله لسهام عدوه الْكَاشِح ومالت عَنهُ خواطر ناصريه واتسع لألسن الطاعنين مجَال الْمقَال فِيهِ وَسقط وقعه من نفوس رعاياه وَجُنُوده وَزَالَ الوثوق بوعده وَالْخَوْف من وعيده
(٣١ ب) فَوَاجِب على السُّلْطَان إِذا تخلى عَن هَذِه النقائض أَن يتحلى من الخصائص الحسان بِمَا يزْدَاد بِهِ مهابة ووقار ويكسبه عَظمَة وفخار وَيعْلي لَهُ فِي الْعَالم شَأْنًا ومنارا وَيبقى لَهُ على الْأَبَد ذكرا وفخارا
وَهَا أَنا أنبه على شَيْء مِنْهَا تَنْبِيها أعْتَمد (٣٢ أ) فِيهِ اقْتِصَار واختصار فَعَلَيهِ أَن لَا يُسَارع إِلَى إتباع الشَّهَوَات وَأَن يتثبت عِنْد اعْتِرَاض الشُّبُهَات وَأَن يجانب سرعَة الحركات وخفة الإشارات ويديم أَطْرَاف طرفه وملازمة صمته إِلَّا عِنْد الْحَاجة فِي أَكثر الْأَوْقَات (٣٢ ب) فَإِن أنفاس الْملك ملحوظة وَأَلْفَاظه منقولة على ممر السَّاعَات وَكَلَام الْإِنْسَان ترجمان عقله وبرهان فَضله وَمن كثر كلمة كبر ندمه
ويختار عِنْد الْكَلَام أعذب الْأَلْفَاظ وأحسنها وأعدلها وأجزلها وأبينها ويجهر صَوته (٣٣ أ) فِي كَلَامه ليَكُون أبين لسامعيه وأوقع فِي الْقُلُوب وَيجْعَل وعيده بالتأديب على مِقْدَار الذُّنُوب جمعا بَين مصلحَة الْعقُوبَة والانزجار ومصلحة اجْتِنَاب الْإِثْم بمجاوزة الْحَد والمقدار
ويجتهد فِي منع نَفسه من الْغَضَب فَإِنَّهُ أشر قاهر (٣٣ ب) وأضر معاندو مجاهر وَهُوَ إِذا غلب أعظم الْأَشْيَاء فَسَادًا لنظام المرام وأبلغ الْأُمُور تَأْثِيرا فِي انْتِقَاض قَوَاعِد تَدْبِير الإبرام فَإِن قدر الله عَلَيْهِ بِشَيْء مِنْهُ فليحذر جزما من أَن يُبَاشر
1 / 33
فِي تِلْكَ الْحَالة فعلا أَو ينفذ حكما وكما يجب الِاحْتِرَاز (٣٤ أ) من الْغَضَب وَكَذَلِكَ يتَعَيَّن الاحتراس من اللجاج لِأَنَّهُ حَلِيف الطِّبّ وَهُوَ مِمَّا يُثمر الزلل فِي العاجل ويسفر عَن الندامة فِي الْأَجَل ويدفعه الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل وَلَا يسْتَعْمل فِي النَّاس حَالَة وَاحِدَة بل يعتمده (٣٤ ب) فِي كل قَضِيَّة مَا يَلِيق بصاحبها من لين وَشدَّة وإقبال وإعراض وَبشر وانقباض وَوصل وَقطع وَإجَابَة وَمنع وإحسان وإساءة وَزِيَادَة ونقصان وَتجَاوز وانتقام وإقدام وإحجام وعفو وعقاب وَظُهُور واحتجاب فَإِن اسْتِعْمَال (٣٥ أ) كل حَالَة فِي محلهَا مَعَ مستحقها أكمل تدبيرا وَأجْمع لبلوغ الأرب ووضعها فِي غير محلهَا أفْضى إِلَى توقع الضَّرَر ومفتاح لباب الْغَضَب وطباع الْعَامِل غير متوازنة وأخلاقهم على التَّحْقِيق متباينة فَمنهمْ من يصلحه الإقبال عَلَيْهِ (٣٥ ب) وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ وَمِنْهُم من يعدله الْإِعْرَاض عَنهُ والانتقام مِنْهُ وليعلم أَن من أَعم الْأَشْيَاء نفعا وَأَعْظَمهَا فِي الْمصَالح وَقعا كتمان سره وإخفاء أمره وَأَن لَا يطلع أحدا على مَا عزم على فعله قبل إِتْمَامه وَلَا يتحدث بِمَا يُرِيد من الْمُهِمَّات (٣٦ أ) قبل إبرامه فَإِن ذَلِك من أقوى أَسبَاب الظفر بالمطالب وأنكا فِي قُلُوب الْأَعْدَاء وأعون على نجح الْمَقَاصِد والمأرب لَكِن الْأَسْرَار والأمور مَا يَسْتَغْنِي فِيهِ إطلاع نَاصح حَكِيم ومشاورة صديق حميم يرى نصحه لإمامه من طَاعَته لرَبه (٣٦ ب) ويعده عِنْد الله من أعظم أَسبَاب قربه فيستعين بِرَأْيهِ فِي الْمُهِمَّات وَينْتَفع بفكرة عِنْد الملمات وَمَتى حدث أَمر من الْأُمُور الْعَظِيمَة أَو وَقع خطب من الخطوب الجسيمة يكثر الاستشارة فِيهِ فِيمَن يرَاهُ لذَلِك أَهلا وَيسمع رَأْي كل وَاحِد مِنْهُم على انْفِرَاده (٣٧ أ) وَينظر فِيمَا سَمعه فرعا واصلا
1 / 34
وَيعْمل بِمُقْتَضى مَا هُوَ الْأَقْرَب إِلَى نيل الْمَطْلُوب والأصوب فِي دفع المرهوب وَيعْمل الْفِكر فِيمَا يرد عَلَيْهِ وَلَا يهمل الِاحْتِرَاز والحذر فِي عواقب الْأُمُور وَمَا يؤول إِلَيْهِ
ويجتهد أَن لَا يفتح بَابا يعييه سَده (٣٧ ب) وَلَا يَرْمِي سَهْما يعجزه رده فقد قيل
(وَإِيَّاك وَالْأَمر الَّذِي قد توسعت ... موارده ضَاقَتْ عَلَيْك المصادر)
(فَمَا حسن أَن يعْذر الْمَرْء نَفسه ... وَلَيْسَ لَهُ من سَائِر النَّاس عاذر)
وَلَا يَجْعَل أوقاته مصروفة إِلَى نوع وَاحِد من مصادره والموارد (٣٨ أ) فَإِن ذَلِك إِن كَانَ جدا واجتهادا فِي تَدْبِير مصَالح مَا هُوَ متوليه ضجرت النُّفُوس مِنْهُ وسئمت الفكرة فِيهِ وَرُبمَا أدّى إِلَى خلل وسَاق إِلَى زلل بل عَلَيْهِ أَن يحصر ساعاته وَيقسم أوقاته فَيصْرف مِنْهَا قسطا إِلَى النّظر فِي مصَالح ولَايَته ورعيته (٣٨ ب) وقسطا إِلَى اختلافه بِنَفسِهِ لراحته وقسطا يَخُصُّهُ بتضرعه إِلَى الله تَعَالَى وقيامه بشكر نعمه وَأَدَاء عِبَادَته وكما أَنه يقسم أوقاته ويخص كلا مِنْهَا بِحَالَة لَا يَلِيق أَن يُوقع فيع غَيرهَا من مهماته كوقت ركُوبه على جاري عَادَته وَوقت نظرة (٣٩ أ) فِي مصَالح ولَايَته وَوقت جُلُوسه لكشف قضايا رَعيته وَوقت دُخُول جُنُوده عَلَيْهِ لأَدَاء وظيفته خدمته وَوقت استحضار من يحضر من الرُّسُل لأَدَاء رسَالَته وَوقت اختلائه بِنَفسِهِ طلبا للراحة فِي خلوته وَوقت (٣٩ ب) سكونه ومنامه وقيلولته وَوقت
1 / 35
استبيانه بِمن يحضرهُ لمحادثته وَوقت قِيَامه بفريضة الله تَعَالَى وطاعته وَلكُل حَالَة من هَذِه الْحَالَات وَوقت من هَذِه الْأَوْقَات أَو أَن جعل علما عَلَيْهَا لَا يتعدها وزمانا مَنْسُوبا إِلَيْهِ (٤٠ أ) لَا يَلِيق بِهِ سواهَا فَكَذَلِك عَلَيْهِ أَن يَسْتَعِين فِي الْأَعْمَال بكفاة الْعمَّال فِي الْمُهِمَّات الثقال باجلاد الرِّجَال فيفوض كل كل عمل إِلَى من قَدمته قدم راسخة فِي مَعْرفَته وأيدته يَد باسطة فِي درايته وتجربته وَلَا يُفَوض (٤٠ ب) عمل عَالم إِلَى جَاهِل وَلَا عمل بنية إِلَى خامل وَلَا عمل متيقظ إِلَى غافل وَلَا عمل ذِي جبلة إِلَى عاطل فَإِن غفل عَن ذَلِك فقد بَاعَ حَقًا بباطل واعتاض عَن قسى بباقل وسلط على دولته لِسَان كل قَائِل
وَمن الحكم الباهرة من اسْتَعَانَ فِي عمله بِغَيْر (٤١ أ) كفؤ أضاعه وَمن فوض أمره إِلَى عَاجز عَنهُ فقد أفسد أوضاعه
وليحذر كل الحذر من أَن يُولى أحد الْخلق أمرا دينيا أَو دنيويا بشفاعة أَو رِعَايَة لحُرْمَة أَو لقَضَاء الْحق إِذا لم يكن أَهلا للولاية وَلَا ناهضا تحصل بتقليده الْكِفَايَة (٤١ ب) فَإِن أحب مكافاة من هَذِه صفته كافأة بِالْمَالِ والصلات وَقطع طعمه عَمَّا لَا يصلح لَهُ من الولايات ليَكُون قَاضِيا لحقه بِمَالِه لَا بمملكته قَائِما بِمَا لَا بُد مِنْهُ من حُقُوق ولَايَته
وَهَذَا الْمَعْنى هُوَ الَّذِي أعتمده كسْرَى أنو شرْوَان لأحكام قَوَاعِد ملكه (٤٢ أ) وتأييده وإتمام مَقَاصِد تَدْبيره وتأكيده حَتَّى أَنه على مَا يُقَال وضع على بناية خَشَبَة من سَاج مَكْتُوب عَلَيْهَا بِالذَّهَب الْأَعْمَال بالكفاة والحقوق على بيُوت الْأَمْوَال
1 / 36
وَمن الحكم الزاهرة أَي ملك جده هزله وحقق قَوْله فعله (٤٢ ب) وقهر رَأْيه هَوَاهُ فِي تَدْبيره وَعبر ظَاهره عَمَّا فِي ضَمِيره وَلم يخدعه رِضَاهُ عَن حَقه وفوض كل عمل إِلَى مُسْتَحقّه وَاسْتعْمل بالكفاءة لَا بشفاعة المتعرضين وَلم يَأْخُذ بالسعاية قبل الْكَشْف وَلَا استهواه تَحض المعترضين فَهُوَ خليق (٤٣ أ) بِاسْتِحْقَاق الملكة وارتداء جِلْبَاب جدير بهَا وَلم يكن أواصره وعناصره من أَرْبَابهَا
وَإِلَى هَذَا الْحَال انْتهى بِنَا الْكَلَام على مُقَدّمَة الْكتاب فلنشرع فِي الْكمّ على الْوَاسِطَة بعون الْملك العلام فَنَقُول وَالله للعفو مسؤول
أعلم أَن الله (٤٣ ب) ﷻ وتقدس كَمَاله شرع الزواجر والعقوبات ردعا للعباد عَن الْفساد وَوضع الروادع والسياسات حفظا لنظام المعاش والمعاد فَوَجَبَ على من قَلّدهُ الْقيام برعاية خلقه وألزمه النّظر فِي مظالم الْعباد الْإِحَاطَة بالسياسة (٤٤ أ) الدِّينِيَّة تحريا للنجاة من عَذَاب يَوْم التناد وَلَا تكون سياسته غاشمة خَارِجَة عَن قَوَاعِد دين الْإِسْلَام وَأَحْكَامه آثمة بَاطِلَة فِي شَرِيعَة النَّبِي ﷺ وَيكون من الغشمة الْجَاهِلين الَّذين سيجزون بغشهم جحيما وَمن الجهلة الظَّالِمين (٤٤ ب) الَّذين سيصلون بظلمهم سعيرا ويسقون حميما بل من الْمُنْذرين فِي كتاب الله الْمكنون بقوله عز اسْمه ﴿وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ﴾ فمعرفة مَا لَا يجوز لَهُ وَمَا يجوز تهدية إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وتنجيه من عَذَاب أَلِيم وتعلمه أَن (٤٥ أ) النَّاظر فِي الْمَظَالِم أوسع من الْقُضَاة فِي محَال النّظر مجالا وأعم مِنْهُم فِي الفحص عَن الْمَظَالِم والجرائم أعمالا وَأكْثر مِنْهُم فِي الْكَشْف عَن الْحق أسبابا
1 / 37
وافتتح مِنْهُم على الْأَنَام للنجح أبوابا إِذْ لَهُ النّظر فِيمَا تنظر فِيهِ الْقُضَاة وَمَا لَا تنظر فِيهِ من (٤٥ ب) الحكومات
وَله النّظر قبل التظلم إِلَيْهِ فِي الجرائم والظلمات وَله إرهاب الْمَفْهُوم بالظلم والجريمة قبل الثُّبُوت بِالْإِقْرَارِ أَو الْبَيِّنَة القويمة وَله الْحمل على الِاعْتِرَاف بِالْحَقِّ وَالْحَبْس فِي الْمَظَالِم وَله الضَّرْب للاعتراف عِنْد ظُهُور الأمارات فِي الجرائم (٤٦ أ) وَله تَأْدِيب الْمُدعى عَلَيْهِ إِذا ثَبت الْحق بِالْبَيِّنَةِ بعد الأنكار وَله حمل الْمُجْرمين على التَّوْبَة للإجبار وَلَيْسَ للقضاة هَذِه السياسات وَلَا هم قبل الرّفْع إِلَيْهِم النّظر فِي الْمَظَالِم والخصومات وَإِنَّمَا لَهُم النّظر فِيهَا بعد رَفعهَا إِلَيْهِم وَلَا (٤٦ ب) طَرِيق لكشفها لَهُم سوى عَمَلهم أَو الْإِقْرَار أَو الْبَيِّنَة العادلة لديهم ٠
وَبِالْجُمْلَةِ فالناظر فِي الْمَظَالِم يمتاز عَن الْقُضَاة بِوُجُوه كَثِيرَة إِذا تقرر هَذَا فَاعْلَم أشرق الله قَلْبك بأنوار الْيَقِين ونظمك فِي سلك عباده الْمُتَيَقن
أَنه يشْتَرط فِي النَّاظر فِي الْمَظَالِم (٤٧ أ)
أَن يكون جليل الْقدر نَافِذ الْأَمر عَظِيم الهيبة ظَاهر الْعِفَّة قَلِيل الطمع كثير الْوَرع لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم وَلَا تدنس دينه وَلَا عرضه الرِّشْوَة بالقائم إِذْ يحْتَاج إِلَى سطوة الْوُلَاة وَتثبت الْقُضَاة فَيَنْبَغِي أَن يكون جَامِعَة بَين صِفَتي الْفَرِيقَيْنِ (٤٧ ب) وَيكون لجلالة قدره نافذه المر من الْجِهَتَيْنِ وَيكون سهل الْحجاب نزه الْأَصْحَاب وان يستكمل مجْلِس نظره بِخَمْسَة أَصْنَاف لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُم وَلَا يَنْتَظِم أمره إِلَّا بهم
1 / 38
الصِّنْف الأول الحماة والأعوان والكماة والشجعان لجذب القوى (٤٨ أ) وتقويم الجريء
الصِّنْف الثَّانِي الْقُضَاة لاستعلام مَا يثبت عِنْدهم من حُقُوق الْأَنَام ولمعرفة مَا مجْرى فِي مجَالِسهمْ من الوقائع بَين الأخصام
والصنف الثَّالِث الْفُقَهَاء ليرْجع إِلَيْهِم فِيمَا أشكل وَيسْأل مِنْهُم عَمَّا أبهم وأعضل
والصنف الرَّابِع (٤٨ ب) الْكتاب ليكتبوا مَا جرى بَين الْخُصُوم فِي مجْلِس الْمُخَاصمَة وَمَا توجه لَهُم أَو عَلَيْهِم من الْحُقُوق اللَّازِمَة
والصنف الْخَامِس الشُّهُود ليشهدهم على مَا أوجبه من حق وَاجِب أَو أَمْضَاهُ من حكم لازب
فَإِذا اسْتكْمل مجْلِس الْمَظَالِم بِمَا ذَكرْنَاهُ من هَذَا (٤٩ أ) الْأَصْنَاف الْخَمْسَة شرع حِينَئِذٍ فِي نظره
والمواضع الَّتِي ينظر فِيهَا ويحكمها عشرَة
الأول مِنْهَا النّظر فِي تعدِي الْوُلَاة على الرّعية وَأَخذهم بالعنف والعدول عَن سيرة الْعدْل المرعية فَيكون لمسيرهم متصفحا ولأحكام متعرفا ولأمورهم مستطلعا (٤٩ ب) وَعَن أَحْوَالهم مستكشفا ليقويهم أَن أنصفوا ويكفهم أَن عسفوا ويستبدل بهم إِذا هم بِالْعَدْلِ لم يتصفوا
1 / 39
حكى أَن عمر بن عبد الْعَزِيز ﵁ خطب فِي النَّاس فِي أول خِلَافَته خطْبَة أعرب بهَا عَن قِيَامه فِي الله ومعداته فَقَالَ (٥٠ أ) أَيهَا النَّاس أوصيكم بتقوى الله فَإِنَّهُ لَا يقبل غَيرهَا وَلَا يرحم إِلَّا أَهلهَا وَقد كَانَ قوم من الْوُلَاة منعُوا الْحق حَتَّى اشْترى مِنْهُم شِرَاء وبذلوا الْبَاطِل حَتَّى افتدى مِنْهُم فدَاء وَالله لَوْلَا سنة الْحق أميتت فأحييتها وَسنة من الْبَاطِل أَحييت فأمتها مَا باليت (٥٠ ب) أَن أعيش فواقا وَاحِدًا فالسعيد مِنْكُم من يحوي رشدا أصلحوا أخرتكم يصلح لكم دنياكم أَن إمرء سوء لَيْسَ بَينه وَبَين آدم إِلَّا ميت لمغرق فِي الْمَوْتَى وَعَن قريب بكأس الْمنية يُؤْتى كل أَمر مصبح أَهله وَالْمَوْت أدنى من شِرَاك نَعله
الثَّانِي النّظر (٥١ أ) فِي جور الْعمَّال فِيمَا يحبونه من الْأَمْوَال فَيرجع فِيهِ إِلَى القوانين لعادلة فِي داوين الْأَئِمَّة فَيحمل النَّاس عَلَيْهَا وَيَأْخُذ الْعمَّال بهَا ويقودهم إِلَيْهَا وَينظر فِيمَا استزادوه فَإِن رَفَعُوهُ إِلَى بَيت المَال أَمر برده على أَصْحَابه وَإِن أَخَذُوهُ لأَنْفُسِهِمْ استرجعه مِنْهُم لأربابه (٥١ ب)
حكى عَن الْمهْدي ﵀ أَنه جلس يَوْمًا للنَّظَر فِي مظالم الْعباد فَرفعت إِلَيْهِ إِلَيْهِ قصَص فِي الكسور فَسَأَلَ عَن ذَلِك تحريا للرشاد فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَان بن وهب كَانَ عمر بن لخطاب ﵁ قسط الْخراج على أهل السوَاد وعَلى مَا فتح من نواحي الْمشرق وَالْمغْرب وريا (٥٢ أ) وعينا بِالِاجْتِهَادِ وَكَانَت الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير مَضْرُوبَة على وزن كسْرَى وَقَيْصَر فِي غَالب الأَرْض وَكَانَ أهل الْبِلَاد يؤدون فِيمَا فِي أَيْديهم من المَال عددا وَلَا ينظرُونَ فِي فضل بعض الأوزان على بعض ثمَّ فسد النَّاس فصاروا يؤدون من الْخراج (٥٢ ب) المَال الدَّرَاهِم الطبرية وَهِي أَرْبَعَة دوانيق ويمسكون الدِّرْهَم الواقي الَّذِي وَزنه مِثْقَال فَلَمَّا ولى زِيَاد الْعرَاق طَالب بأَدَاء الواقي وألزمهم الكسور وجار فِي ذَلِك فِي زمن بني أُميَّة
1 / 40
الْعمَّال إِلَى أَن ولى الْملك بني مَرْوَان فَنظر بَين الوزنين فِي نقص كَلَامهمَا وكماله (٥٣ أ) وَقدر الدِّرْهَم على نصف وَخمْس من المثقال وَترك المثقال على حَاله ثمَّ أَن الْحجَّاج أعَاد الْمُطَالبَة بالكسور حَتَّى أسقطها عمر بن عبد الْعَزِيز ﵁ وأعادها من بعده إِلَى زمن الْمَنْصُور إِلَى أَن حزب السوَاد بذلك الظُّلم فَأَرَادَ الْمَنْصُور عمَارَة الْبِلَاد (٥٣ ب) فأزال الْخراج عَن الْحِنْطَة وَالشعِير وَرقا وصيره ومقاسمه وهما أَكثر السوَاد وَبَقِي الْيَسِير من الْحُبُوب والنحل على رسم الْخراج الْمُعْتَاد وهوذا يلْزمهُم الْآن الْمُؤمن فَتَأمل الْمهْدي ﵀ مقاله سُلَيْمَان وتدبر وَقَالَ معَاذ الله أَن ألزم النَّاس ظلما تقدم الْعَمَل بِهِ (٥٤ أ) أَو تَأَخّر أسقطوه عَن النَّاس فالعدل أقوم
فَقَالَ الْحسن بن مخلد أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا ذهب من أَمْوَال السُّلْطَان اثْنَا عشر ألف ألف دِرْهَم
فَقَالَ الْمهْدي ﵀ مقَالَة عدل فِي الْمقَال على أَن أقيم حَقًا وأزيل ظلما وَأَن أجحف بَيت المَال
(٥٤ ب) الثَّالِث النّظر فِي كتاب الدَّوَاوِين والإحاطة بأحوالهم لأَنهم أُمَنَاء الْمُسلمين على ثُبُوت أَمْوَالهم فِيمَا يستوفونه مِنْهُم ويوفرونه لَهُم من الْحُقُوق فِي الْحَال وَالْمَال فيتصفح مَا وكل إِلَيْهِم تَدْبيره من الْأَعْمَال فَإِن وجدهم نقدوا الْحق فِي دخل (٥٥ أ) أَو خرج إِلَى زِيَادَة أَو نُقْصَان فِي تَفْصِيل أَو أجمال أَعَادَهُ إِلَى قوانينه العادلة وَاسْتعْمل السياسة مَعَهم فِي الْمُقَابلَة على تجاوزه ودعا للعمال
حكى أَن الْمَنْصُور ﵀ بلغه جمَاعَة من كتاب ديوانه زوروا فِيهِ وغيروا فَأمر بإحضارهم إِلَيْهِ (٥٥ ب) وَتقدم بتأديبهم فَقَالَ شَاب مِنْهُم وَهُوَ يضْرب بَين يَدَيْهِ
(أَطَالَ الله عمرك فِي صَلَاح ... وعزيا أَمِير الْمُؤمنِينَ)
1 / 41
(بعفوك أستجير فَإِن تجازى ... فَإنَّك عصمَة للْعَالمين)
(وَنحن الكاتبون وَقد أسانا ... فهبنا (٥٦ أ) للكرام الكاتبينا)
فَأمر بتخليتهم وَأطلق الْفَتى وَرَضي عَلَيْهِ وَوَصله بأنعامه وَأحسن غليه لِأَنَّهُ ظَهرت فِيهِ الْإِنَابَة ولاحت لَهُ مِنْهُ النجابة
وَهَذِه الْأَقْسَام الثَّلَاثَة لَا يحْتَاج النَّاظر فِي الْمَظَالِم فِي تصفحها إِلَى متظلم (٥٦ ب) من ظَالِم
الرَّابِع النّظر فِي تظلم المسترزقة من بَيت المَال من الأجناد وَالْعُلَمَاء والقضاة وَغَيرهم من نقص أَرْزَاقهم وتأخيرها عَنْهُم أَو أجحاف النظار بهم فَيرجع إِلَى ديوانه فِي فرض الْعَطاء الْعَادِل فيجريهم عَلَيْهِ من غير إهمال
(٥٧ أ) وَينظر فِيمَا نقصوه أَو منعُوهُ فَإِن أَخذه وُلَاة أُمُورهم استرجعه لَهُم
وَإِن لم يأخذوه قضاهم إِيَّاه من بَيت المَال فِي الْحَال
كتب بعض وُلَاة الأجناد إِلَى الْمَأْمُون ﵀ إِن الْجند قد شغبوا ونبهوا وَسَاءَتْ أَخْلَاقهم
فَكتب إِلَيْهِ الْمَأْمُون لَو (٥٧ ب) عدلت لم يشغبوا وَلَو قويت لم ينبهوا وعزله عَنْهُم وَزَاد أَرْزَاقهم
1 / 42
الْخَامِس النّظر فِي رد الغصوب
وَهِي ضَرْبَان
غصوب سلطانية قد تغلب عَلَيْهَا وُلَاة الْجور والعدوان كالأملاك المقبوضة من أَرْبَابهَا لرغبة فِيهَا وتعاد على أَصْحَابهَا فالناظر فِي (٥٨ أ) الْمَظَالِم أَن علم بهَا قبل التظلم إِلَيْهِ أَمر بردهَا
وَأَن لم يعلم بهَا فَهُوَ مَوْقُوف على تظلم أَهلهَا
وَيجوز أَن يرجع عِنْد تظلمهم إِلَى ديوَان السُّلْطَانِيَّة فَإِن وجد فِيهِ ذكر قبضهَا على ملاكها عمل بِهِ وَأمر بردهَا إِلَيْهِ وَلم يحْتَج فِيهِ إِلَى بَينه تشهد بِهِ وَكَانَ (٥٨ ب) مَا وجد فِي الدِّيوَان كَافِيا يعْتَمد عَلَيْهِ
حكى عَن عمر بن عبد الْعَزِيز ﵁ أَنه ظهر يَوْمًا إِلَى الصَّلَاة بعد الزَّوَال فصادفه رجل ورد من الْيَمين متظلما فَقَالَ
(تَدْعُو حيران مَظْلُوما ببابكم ... فقد أَتَاك يُعِيد الدَّار مَظْلُوما)
(٥٩ أ) فَقَالَ وَمَا ظلامتك فَقَالَ غصبني الْوَلِيد بن عبد الْملك ضيعتي بيد الْعدوان
1 / 43