على أن الكتاب بليغ في لغته متين في أسلوبه، وكأن واضعه قد شاء أن يكون كتابه «قضية منطقية» فكان ... فإنك لا تزال تتنقل فيه من مقدمة إلى نتيجة ومن حقيقة إلى حقيقة ومن دليل إلى برهان حتى يخيل لك أن الكاتب لم يغادر في كتابه صغيرة ولا كبيرة مما يتعلق بسياسة الدولة كافة في مصر إلا أحصاها.
ويعز علينا أن نقول إن هذا الكتاب ليس إلا «كأس ملام» يسقيه الأجنبي لأفاضل مصر وعلمائها الذين أسكتهم الكسل وقبض الخمول على أقلامهم بيد من حديد. فلعل الذين سكتوا حتى تكلم عنهم غيرهم بلسان غير لسانهم لا يسكتون مذ اليوم، ولعل هذا الكتاب يكون مقدمة لغيره من أقلام أبناء هذه البلاد ليبرهنوا للملأ أن همتهم لم تثبط وأن الآمال التي كانت تجول في صدورهم لا تزال حية لم تمت.
حديقة الحلمية
30 يناير سنة 1906
مقدمة المؤلف
لقد صدق اللورد ملنر في قوله: «إن مصر بلد التناقض والتخالف، فإنه لا يوجد في العالم بلد فيه ما في مصر من الحقائق والأفكار المتناقضة المتباينة، وقد يصل هذا التناقض إلى حد مدهش فيصير مضحكا.»
فيليق إذن بمن يرقب أمور هذه البلاد ويشاهد أحوالها أن يكون متنبها أبدا متوفيا لئلا يلقيه حسن الظن والإسراع في الحكم في الخطأ والندم، ويليق بمن يمعن النظر في تاريخ مصر في القرن الماضي ويرغب أن يخرج منه وهو على بينة من أمر تلك البلاد أن يكون قوي العزيمة ثابت الجأش، فإنه إذا أراد أن يطالع عشر الكتب والرسائل التي شوه فيها كاتبوها تاريخ مصر تشويها قبيحا يرى نفسه في حاجة شديدة إلى جهاد قوي يستطيع به أن يقاوم تأثير تلك الكتب التي ما كتبت إلا لتكون سهاما تصيب أغراض أصحابها، فينبغي للمطالع العاقل أن يقف موقف الحكيم فيتمكن بعد عناء شديد من الوقوف على شيء من الحقيقة؛ لأن كل ما كتب عن مصر من رسائل وكتب لم يكتب إلا ليكون لسان حال دولة من الدول التي لها في وادي النيل نفع أو ترجو منه خيرا. فمثلها كمثل الصحف السياسية التي تبتذل الحقائق حبا بالمطامع الشخصية والمنافع الذاتية؛ من أجل هذا لم تأت هذه الكتب بنفع يذكر وجلبت ضررا لا يقدر.
فيجب إذن على المراقب العادل أن يمسح لوح فكره، وأن يزيل ما كتب في صحيفة صدره من معاني التحزب لفريق دون آخر، أو التحامل على فئة دون فئة، فإن التغرض والتعصب والتحامل والمدح والقدح والطعن لا تؤدي جميعها إلا إلى الجدل الباطل الذي يضر ولا ينفع، وقد رأينا نتائج ذلك الجدل الباطل وهي أنه هاج سخط الوطنيين وحرك مراجل عواطفهم حينا من الدهر كما تهيج الخمر شاربها، ولكنه لم يؤثر أقل تأثير في الدول الأجنبية صاحبة المنافع والمآرب في وادي النيل.
ونحن نرى أن أول واجب على الكاتب إذا أراد أن يفحص المسألة المصرية فحصا جيدا ويكتب عنها كتابا نافعا يصور فيه البلاد وأهلها كما هم هو أن يعرف الشعب النازل على ضفاف النيل حق المعرفة، وأن يعلم أن هذا الشعب خليط من وطنيين ودخلاء وأجانب، وأن لكل طائفة من الطوائف التي يتكون منها هذا الخليط دينا ولغة ومبادئ ومنافع خاصة بها، وأن كل تلك الديانات واللغات والمبادئ والمنافع مهما تباينت فإن أصحابها لا يرون أمامهم إلا غرضا واحدا هو التماس الرزق والكسب، وأن يعلم أن كل دولة أوروبية لها في مصر غرض تسعى لتدركه ويختلف سعي هذه الدول باختلاف نفوذها في أرض الفراعنة قوة وضعفا.
فإذا حالت هذه الصعوبات بأسرها ووقفت في طريق المطالع المؤرخ الراغب في أن يؤلف عن مصر رأيا واضحا عادلا مستندا فيه إلى تاريخها الماضي، فكيف بمن يرغب أن يتخذ تاريخ مصر الماضي مرقاة ووسيلة للحكم على مستقبلها؟ بيد أن من يطالع كتب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر لا يجد أمامه إلا حقائق متباينة متخالفة، ولئن كان هذا التناقض والتخالف هو مادة تلك الكتب، فإن ذلك يكون من حسن حظ القارئ، ولكن مؤلفي كتب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر جعلوها مجموعة للحقائق الناقصة؛ لذلك يحتاج المطالع إلى قوة فكرية كبيرة وقدرة عقلية هائلة يستطيع بهما أن يزن الأقوال والبراهين، فيتمكن بعد عناء شديد من حل الشلة المعقدة التي يسميها السياسيون والصحافيون بالمسألة المصرية.
ناپیژندل شوی مخ