على أن امتيازات صندوق الدين التي كانت تخول له حق الحصول على قدر معلوم بالنيابة عن أصحاب الديون قد أصبحت عظيمة جدا، فقام أعضاؤه يطالبون الحكومة المصرية بحق سيطرتهم في تنفيذ كل الاتفاقات الدولية المتعلقة بالمالية المصرية بالنيابة عن الدول الأوروبية، وأضف إلى ذلك أن قبولهم ورضاءهم قبل استعمال أي مبلغ من المال من أهم الأمور. ومن الغريب أن كل الأموال المقررة تدفع لهم مباشرة بدون أن تمر بنظارة المالية، وعلاوة على ذلك فإن وصولات مصالح السكك الحديدية والتلغرافات وميناء الإسكندرية التي تديرها لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء فرنسوي وإنكليزي ومصري تدفع كلها بعد خصم المصروفات إلى صندوق الدين. على أن الحكومة الفرنسوية لم تعارض في الإصلاح الذي طلبناه، وقد أظهرت أنها مستعدة للاتفاق معنا فيما يصلح هذا النظام الفاسد ويجعله موافقا للوقت الحاضر. ا.ه. (كلام لنسدون).
ونحن لا نرى بيانا أبلغ من هذا البيان للوظيفة التي ادعاها صندوق الدين منذ سنين قليلة، ولا يخفى أيضا أن صندوق الدين أصر على العمل بمقتضى تلك الوظيفة المدعاة، ومن الصعب علينا أن نحلل الدور الذي لعبته إنكلترا لتضع صندوق الدين في ذلك المركز القلق المرتبك إلا إذا ذكرنا القارئ بما قلناه عن السياسة الدولية الأوروبية، فإنه من الواضح أن إنكلترا لم تكن تستطيع أن تأخذ في يدها زمام الأعمال في صندوق الدين بدون أن تهيج سخط فرنسا وتحرك مرجل غضبها وتشعل نار عدائها، وغني عن البيان أن إنكلترا كانت تسعى أبدا في الابتعاد عن الحرب مع فرنسا بشأن مصر، فلم تر إنكلترا طريقة لإبعاد المراقبة الدولية عن صندوق الدين ووضع يدها عليه وجعل المسألة المصرية بينها وبين فرنسا ومصر أو بالاختصار بينها وبين مصر إلا طريقة مساعدة المصريين على تسديد ديونهم بأسرع ما يمكن، وما كان أبسط هذه الطريقة وأسهلها، ولكن إنكلترا رأت أن سداد الديون المصرية بسرعة يحرمها من حق البقاء في مصر، سيما وقد علمت أن فرنسا تنوي أن تحل محلها في وادي النيل، فنتج من هذا أن إنكلترا لم تر منفعتها الحقيقية في إنماء ثروة مصر بسرعة شديدة، ويذكر القارئ قول المركيز لنسدون إن المالية المصرية كانت مقيدة مرتبكة من تشديد صندوق الدين ومن تداخله في كل مسألة مالية تتعلق بمصر، على أن إنكلترا وجدت طريقة أخرى للضغط على التقدم المالي الذي حازته مصر، وذلك أنها أيدت الدولة العلية في مسألة الجزية. وهكذا قضى على مصر أن تفقد في كل سنة 750000ج بلا سبب واضح. ونحن لا نعتقد أن إنكلترا اضطرت مصر لدفع هذا المبلغ الطائل مراعاة لاحترام السيادة التركية التي أصبحت أرق من إيمان الكافر. ولم تحتفظ بدفع هذه الجزية إلا لأنها كانت فيما مضى تتعلق بمنافع الدول الأوروبية في مصر، وقد كانت الدول جمعاء تود أن تبقى في وادي النيل، وقد رأينا أنه لم يسبب الاختلاف فيما بينها إلا ما حدث أخيرا من التغيير في السياسة الدولية. على أن رغبة إنكلترا كانت أن تتفق مع فرنسا وتعملا لإضعاف التأثير الدولي في وادي النيل حتى تتغير المسألة المصرية ولا تصير مسألة دولية. وعلى هذه السياسة سارت إنكلترا في مسائل القضاء فنجحت في تحديد وظيفة المحاكم المختلطة، ومن سنة 1884 إلى 1889 أسست إنكلترا المحاكم الأهلية التي تبلغ الآن ستا وأربعين محكمة ولهذه المحاكم حق الفصل في المسائل المدنية التي لا تزيد على مائة جنيه، ولها الحق في نظر قضايا المخالفات والجنح التي يعاقب فيها بالغرامة المالية وحق الفصل في الجنايات التي يعاقب عليها بالسجن حتى ثلاث سنوات.
ومن الواضح أن مصر لو منحت الحرية التامة في اتخاذ طريق التقدم بلا تعطيل ولا تأخير وأعطيت حق التمتع بماليتها وتدبيرها كيفما شاءت لما طالت عليها أيام دينها التي تخول غيرها حق المراقبة الشديدة عليها، وربما كان يلتمس لبقاء مصر تحت سيطرة دولة أوروبية عذرا لتعليمها وتدريبها، ولكن غيرة هذه الدول بعضها من بعض كانت تجعل إخلاء مصر من أضر الأشياء على السلام العام في أوروبا، أما الآن فقد تغير كل شيء ونحن لا نرى بدا من الاقتباس من كلام المركيز لانسدون الذي قال:
لقد ظهر منذ حين أنه من الضروري إدخال تغييرات كثيرة على الترتيبات الدولية التي عملت في مصر لأجل ضمانة الديون الأجنبية على أن الدول إذا قبلت الأمر الخديوي الذي قبلته الحكومة الفرنسوية فإن مصر تكون من الآن فصاعدا حرة في إدارة ماليتها ما دام دفع المبالغ المقررة لصندوق الدين منتظما مضمونا، وسيستمر صندوق الدين كما هو ولكن وظيفته ستعين وستحدد له مبالغ خاصة تدفع لخزينته بالنيابة عن أصحاب الديون المصرية، وعندما ينفذ الأمر الخديوي ستغل أيدي صندوق الدين عن العمل والتداخل في إدارة البلاد بعد أن غيرت أنواع الدخل التي كانت تدفع لتسديد الدين واستبدلت رسوم الدخوليات ووصولات السكة الحديد بضرائب الأطيان، ومن فوائد هذا التغير أن أموال المداينين قد أصبحت مضمونة ضمانة قوية لأن سدادها الآن أصبح موقوفا على أثبت وأغنى مورد مالي في البلاد. ومن جهة أخرى فإن الحكومة المصرية لن تلاقي صعوبات في إدارة الدخوليات والسكك الحديدية لأنها ستلغي اللجنة المختلطة التي كانت تراقب مصالح السكك الحديدية والتلغرافات وميناء الإسكندرية، وسيسلم القدر البالغ 5500000ج الذي كان مكوما في خزائن صندوق الدين بدون فائدة، وهو نتيجة الاقتصاد الذي تم بعد تغيير (1890) وستستعمله الحكومة فيما يعود على البلاد وأهلها بالخير العميم.
وإن كنا لا نزال محافظين على رأينا في أن الحكومة المصرية لها الحق في تسديد دينها في أي وقت بعد عام 1905، فإن الحكومة الفرنسوية لا تزال مصرة على مساعدة أصحاب الدين المصري في مسائل متعلقة بتاريخ الدين القديم. وبناء على مطالب هؤلاء المداينين حدث الاتفاق على أن تغيير الدين المضمون والدين الممتاز يؤجل إلى سنة 1910، ويؤجل تبديل الدين الموحد إلى سنة 1912، وهذا التأجيل يفيد أصحاب الديون فوائد عظمى فلعلهم لا يصخبون عندما يحل الميعاد وتبدل تلك الديون.
وقد ألغى الأمر الخديوي شروطا كثيرة من القانون القديم التي دلت التجارب على أنها غير ضرورية وغير مناسبة للزمن الحاضر؛ وأهم هذه الشروط التي ألغيت رضاء صندوق الدين، فمن الآن فصاعدا لن يكون رضاؤه ضروريا عندما تريد الحكومة المصرية عقد قرض جديد لأجل مصروفات نافعة أو غير ذلك، وألغي أيضا النظام الذي صدق عليه في معاهدة لندن ومؤاده وضع حد للمصروفات الإدارية في الحكومة المصرية وقد ذكر اللورد كرومر مرارا المصاعب والارتباكات التي تنشأ عن هذا النظام في بلاد لا تزال «تحت تجربة» التقدم ولا تزال مطالب إدارتها كثيرة.
إن جنابكم تلاحظون أن الأمر الخديوي الذي يتضمن كل هذه التغييرات لا يخرج من حيز القول إلى حيز الفعل إلا بعد مصادقة النمسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا على أن المبالغ المدينة بها مصر لهذه الممالك صغيرة جدا؛ لأن أغلب الدين هو في الحقيقة لبريطانيا العظمى وفرنسا ما عدا جزءا صغيرا منه في مصر ذاتها، فنرجوا أن لا تعارض تلك الدول في الإصلاح الذي رأته الحكومتان الإنكليزية والفرنسوية أضمن لحقوق المداينين، وأخذتا على كاهليهما تعضيده وتأييده. وإذا حدث في المستقبل ما يوقف سعينا ويعوق سيرنا فإننا نستند على مساعدة فرنسا التي تخولها لنا الاتفاقية التي عقدت بيننا. ومن الضروري أن أقول كلمات قليلة بشأن حقوق الحكومة المصرية المعرضة في داخل البلاد إلى التداخل الأجنبي. فإن هذا التداخل ليس إلا نتيجة النظام المسمى بالامتيازات وهو يشمل المحاكم القنصلية والمختلطة، والمحاكم المختلطة سائرة على حسب قوانين ونظامات موضوعة لا يمكن تغييرها أو تحويرها بدون رضى الدول الأوروبية جمعاء وغيرها من الدول الأجنبية. ويرى اللورد كرومر أن الحين لم يحن بعد لمحاولة أي تغيير جوهري في هذه الجهة؛ فلذلك لم تطلب حكومة جلالة الملك في الحال الحاضرة أي تغيير في المحاكم المذكورة، على أنه عندما يأتي الزمن الذي تستعد فيه مصر لنظام قضائي يشبه النظامات القضائية المتبعة في باقي الممالك المتمدنة فإننا نعتمد على مساعدة فرنسا في الأخذ بناصرنا في عمل التغييرات الضرورية. ا.ه.
لقد رأينا إذن ما ترمي إليه مواد الاتفاقية الجديدة، فإن صندوق الدين الذي كان في الحقيقة يحكم مصر قد حرم من كل حقوقه وامتيازاته؛ لأنه ظهر أن شعبا عدده اثنى عشر مليونا لا يليق به أن يكون في أيدي جماعة من المرابين. نعم، لقد اكتشف الإنكليز سر الخدمة العظيمة التي كان هؤلاء المرابون قائمين بها نحو مصر، وهي أن يقتصدوا لها مالا تستطيع به أن تخرج من غمرتها التي وقعت فيها، فجاءت إنكلترا بالحجج والبراهين لتعوق عمل صندوق الدين، فتقول: «الآن قد تغير كل شيء وصارت مصر مملكة ناجحة بواسطة الإصلاحات والتغييرات التي تمت في ماليتها؛ وحيث إنه مضت سنون عديدة وفوائد الدين تدفع بانتظام؛ وحيث إن أصحاب الديون لا يمكنهم أن يدعوا بأن ديونهم غير مضمونة وأن مركز مصر المالي مقلقل فإنكلترا لا ترى لهم حقا في إدارة شئون مصر، وقد جاء الأمر الخديوي بضمانات قوية لدفع الأرباح بانتظام وصار صندوق الدين من الآن كأي مصلحة من مصالح الحكومة، ولا نظن أن دولة من الدول تعارض في تنفيذ الأمر الخديوي بعد أن صادقت عليه ألمانيا وبتنفيذ هذا الأمر تخرج مصر من تحت نير صندوق الدين.» وفي اتفاقية 8 أبريل سنة 1904 تنازلت فرنسا عن كل حقوقها في مصر وهي الدولة الوحيدة التي كانت تخشى إنكلترا معارضتها وتهاب مسابقتها في وادي النيل، وسيبقى النائب عن فرنسا في صندوق الدين جالسا على كرسي الرئاسة ليراقب صندوق الدين، ولكنه غير مأذون بأن يقول كلمة واحدة تضر بمصلحة إنكلترا في مصر.
ومن كلامنا المتقدم عن تلك الاتفاقية ترى أن المسألة المصرية قد تغيرت منذ 8 أبريل سنة 1904 تغييرا كبيرا يشبه التغيير الذي طرأ عليها يوم احتلال إنكلترا لها في سنة 1882، فإن فرنسا تنازلت عن حقوقها في سنة 1882 تنازلا حقيقيا ولكنها بهذه الاتفاقية تنازلت تنازلا رسميا، ولكن لهذا التغيير معاني شتى فإذا وفقنا إلى فهم المعنى الحقيقي لهذا التغيير فإننا نكون في الحقيقة قد وفقنا إلى معرفة مستقبل مصر والمصريين. أما «المستعمر المتطرف» فإنه لا يرى لهذا التغيير إلا معنى واحدا واضحا، ومن سوء حظه أن هذا المعنى يعميه عن كل المعاني الأخر فيهملها. إنه المسكين لا يرى إلا تنازل فرنسا عن حقوقها لأنه يظن أنه لم يعق إنكلترا عن وضع يدها على مصر تماما إلا خوفها من معاداة فرنسا، وحيث إن هذه المعاداة قد زالت فلن تعود إنكلترا إلى التكتم والتستر في سياستها وسوف ينهض الأسد البريطاني من ربضته ويهزأ بباقي الدول الصغرى ويضع يده القوية على فريسته التي كان ينتظرها من زمن، نقول - وبقطع النظر عن أن إنكلترا تبرأت من مثل هذه النية السيئة وبقطع النظر عما أبناه من أن امتلاك مصر يضر بإنكلترا ولا ينفعها - فإننا نقول إن هذا المستعمر المتطرف نسي المصريين الوطنيين أو تجاهل وجودهم.
الفصل الخامس
ناپیژندل شوی مخ