أما النمسا فستكتفي بوضع يدها على ولاية سالونيكا وشاطئ البحر الإيجيني الذي مدت إليه يدها منذ زمن حتى وصلت إلى نوفي بازار.
نقول: وربما يكذب المستقبل كل تلك التكهنات، وربما تكون دول أوروبا قد تنبأت بما لن يتم وقسمت فريسة لم تسقط بعد، فإن تقسيم تركيا ربما يتم في المستقبل القريب وربما لا يتم إلا بعد قرون طويلة.
ويظهر أنه من صالح دول أوروبا كافة أن تحل المسألة المصرية عن قريب لتسهيل حل المسائل الأخر التي يعرض لهن حلها في المستقبل، وكما أن تقسيم تركية أوروبا يتم باستقلال الولايات البلقانية التي كانت تابعة للدولة العلية، كذلك يتم تقسيم أملاك الدولة العلية في آسيا بفصل مصر عن تركيا فصلا تاما ورفع نير تركيا عن وادي النيل نهائيا، وإذا كانت الحال تسير على المنوال الذي نراه الآن، فإن سلطة تركيا على مصر ستنتهي عن قريب وتذهب كل آثار النفوذ التركي من هذه البلاد.
وسيهم ما قدمناه الآن عن تركيا القراء كثيرا عندما نتكلم عن السياسة التي تتخذها النمسا والمجر عند اتساع الخرق في المسألة المصرية، فإن التقريرات التجارية تدلنا على أن العلاقات التجارية بين مصر والنمسا شديدة جدا، وتدل أيضا على أن هذه التجارة تتسع سنة فسنة، وعدا ذلك فإن في مصر من النمسويين الذين اختاروا وادي النيل وفضلوه عن بلادهم عدد عظيم جدا ربما يفوق عدد المستعمرين الألمانيين عددا، ولندع الآن كل ما ذكرناه عن العلائق التجارية والودية بين النمسا والبلاد المصرية، ولننظر إلى المسألة من وجهة أخرى فنقول إنه من المعلوم أن سياسة النمسا الخارجية كانت ولا تزال إلى الآن ميالة إلى مسألة إنكلترا ومصادقتها، ولم تجد إنكلترا مندوحة من رد الجميل بمثله ومصافاة النمسا، وقد كان الفضل في هذه الصداقة وذلك الاتحاد الودي لمكاتب التيمس وغيره من مكاتبي الصحف الإنكليزية الكبرى في فينا عاصمة النمسا، وقد استمرت هذه العلاقات الودية منذ عام 1840 وظهر منها أنها أحسن سياسة تتخذها الحكومة النمسوية نحو الدولة البريطانية، ولا يسمح لنا المقام بتفصيل أسباب هذه الصداقة غير الرسمية، ولكننا سننظر في نتائجها إذا استمرت؛ لأن اتحاد النمسا وإنكلترا يسهل كثيرا حل المسألة المصرية، وغني عن البيان أن النمسا لن تنال من إنكلترا ربحا ماديا جزاء صداقتها لا سيما في مصر، فما هي الأعمال إذن التي تتحد فيها إنكلترا والنمسا في حل مسألة تركيا؛ لأننا لو عرفنا ذلك سهلت علينا معرفة ما يتم في المسألة المصرية؛ لأننا قررنا أهمية العلاقة المتينة الكائنة بين المسألتين التركية والمصرية؛ ولذلك ينبغي لنا أن نعرف تمام المعرفة آمال النمسا في الغنيمة التركية، فنقول: كل من له إلمام بتاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر يعلم أنه منذ هزمت النمسا في سنة 1866 ماتت آمالها في امتداد قوتها فيما وراء نهر «الراين» من الأراضي الألمانية.
ثم قطعت آمال النمسا في إيطاليا بعد تحريرها وانضمام أجزائها المختلفة لتكون مملكة مستقلة، فالنمسا لا تقدر أن تنظر إلى شيء من أراضي إيطاليا بعين شوساء، فلما بان للنمسا أن آمالها خابت في شواطئ البحر الأدرياطيقي الغربية نظرت إلى الشواطئ الشرقية لتحققها من أن سلطتها لا يمكن امتدادها إلا في شبه جزيرة البلقان، فإن هناك ميدانا واسعا لنفوذها وتجارتها معا.
وقد صادقت الدول على هذه السياسة النمسوية في المؤتمر الدولي الذي عقد سنة 1878، ووافقت على كل مشروعات النمسا بشأن الدولة العلية وصرحت لها بوضع يدها على ولايتي البوسنة والهرسك.
أما آمال الروسيا في البلقان فهي آمال وهمية خيالية لا يعتد بها ولا يحسب لها حساب، وسنرى فيما يأتي من هذا الكتاب عندما نفرد فصلا للكلام على سياسة روسيا أن مطامعها في البلقان سوف تتلاشي شيئا فشيئا، وسيجيء عليها زمن لا تكون فيه شيئا مذكورا. ولكن سياسة النمسا وآمالها واضحة بينة ويقويها على السعي وراء تحقيق تلك الأماني أنها مدفوعة بعامل سياسي وعامل استعماري، ومن القواعد المعروفة في السياسة أنه إذا سادت تجارة أي دولة في أي مملكة ضعيفة فإن السلطة السياسية تتبع السلطة التجارية عاجلا أو آجلا.
ومن المعلوم أن النمسا صاحبة النفوذ القوي حالا في البلقان، ولا يقاوم ذلك النفوذ مقاوم، على أن رومانيا، وهي إحدى ولايات البلقان المستقلة، تميل إلى النمسا ميلا شديدا وتنظر إلى أعمالها في البلقان بعين الرضى والسرور.
ولا يفوتنا أن إنكلترا ربما تعاند النمسا في سياستها وتقلب لها ظهر المجن، ونحن لا نفرض هذا الفرض لتحققنا من أن إنكلترا تخون صديقها أو تغدر به أو تنقض عهده فتنتهز فرصة لإيذاء النمسا! كلا، ولكننا فرضنا هذا الفرض لنكون على بينة من كل شيء من المقدمات التي تدل على النتائج؛ ولذلك فنحن نقول إنه ربما ترى إنكلترا أنه من فائدتها الخاصة أن تغدر بالنمسا وتناوئها العداء وتناصبها الشر.
ومن المعلوم أن الباب العالي لن يقبل بأن يسلم آخر ما يملك في أوروبا بدون أن يحرك ساكنا، فإذا حدث أن الدولة العلية لم تستطع أن تعمل شيئا فإنها تفرط في كل عزيز لديها لتحدث نزاعا وشقاقا في جيوش عدوها المحارب - وهذه هي السياسة التي اتخذتها في أيام الحرب الروسية التركية - فإن الباب العالي اشترى في ذلك الحين حياد إنكلترا بالتنازل لها عن جزيرة قبرص.
ناپیژندل شوی مخ