فإذا بحثنا في ذلك نستطيع حينئذ أن نجد طريقا تؤدي إلى ضمان منافع الدول في مصر وحمايتها، وتؤدي أيضا إلى سعادة وادي النيل وهنائه الدائم.
ولا ينكر علينا أحد أن المسائل التي تهيج ممالك أوروبا وتقلقها قليلة جدا ولكنها من الأهمية بمكان عظيم وقد تفوق المسألة المصرية كل المسائل الأوروبية؛ لأن مصر مبنية على مال جمعته لها أغلب دول أوروبا، وفيها مستعمرات أجنبية كثيرة، وكثير من المحاكم المختلفة المشارب. كل هذا جعل المسألة المصرية أصعب حلا وأعقد إشكالا، وقد يكون حلها مستحيلا، ولكننا إذا أخذنا كل حبل من حبال الشبكة وحللنا كل عامل من العوامل العاملة في مصر فإنا نصل إلى حل مرض.
قد ابتدأنا بالنظر في أعمال بريطانيا في مصر في الماضي وسنقيس الآن المنافع الصغيرة التي تستفيدها الدول في مصر، ثم نجتهد أخيرا في تقدير العاملين القويين المهمين وهما العامل البريطاني والعامل الوطني. وأول مسألة نشرحها هي علاقة تركيا بمصر وتأثيرها، فإن التأثير التركي في مصر هو بدون شك في الدرجة الثانية بعد التأثير البريطاني؛ لأننا إذا نظرنا في الإحصاءات التجارية فإننا نندهش من كثرة الأرقام التابعة لاسم تركيا.
ونحن لا نحتاج هنا إلى البحث في أنواع التجارة، إنما نقصر النظر على كثرتها وعظم أثمانها، فإن الوارد من تجارة تركيا إلى مصر في كل عام لا يقل كثيرا عن نصف الواردات من بريطانيا العظمى، وفي عام 1903 قدرت الواردات إلى مصر من إنكلترا بأقل من 6 ملايين من الجنيهات، وكانت الواردات من تركيا في السنة نفسها تقدر نحو 2400000ج مع أن مصر لا تأخذ من أي دولة أخرى بضائع بمبلغ أكبر من مليون ونصف المليون، وقد يندهش الذي يعلم أن الصادرات من مصر إلى تركيا أقل من ذلك بكثير جدا.
وهذه العلاقة التجارية هي بلا ريب من أهم العلاقات، ولكن لا يجب علينا أن نقدرها أكثر من قدرها؛ لأن التركي ليس بخلقته ميالا للتجارة، وليس في أمياله الطبيعية ميل غريزي للحياة التجارية، والدليل على ذلك أن أغلب التجارة التي ذكرناها ليست إلا تركية بالاسم فقط؛ لأن أغلبها في أيدي تجار الأجانب المشتغلين في بلاد الدولة العلية.
ومعظم هذه التجارة يجيء من مدن آسيا الصغرى وبلادها، ولا يخفى أن هذه البلاد مسكونة باليونانيين والإيطاليين واليهود وغيرهم من سكان شواطئ البحر الأبيض المتوسط، فيظهر من ذلك أن التركي ليست له يد قوية في أهم علاقة بين مصر وتركيا، فليس إذن من الضروري أن تعنينا المسألة التجارية، وينبغي لنا أن ننظر إلى علاقة مصر بتركيا من الجهة السياسية، ومع ذلك فلن نغمض عينينا عن العلاقة الاجتماعية، فنقول: إن التركي لا يزال مجهولا عند الغربي، والكتب التي يقول عنها أصحابها إنها تكشف القناع عن حياة الترك الداخلية، وتظهر في كل آن ويكون غرضها أن تفهم للغربي آراء التركي وطرق أعماله، لم ينجح مؤلفوها إلا نجاحا صغيرا جدا، وقليل جدا من الغربيين اختلطوا بالأتراك.
على أن كتب الأتراك ذاتها تدل على أنهم ليسوا على علم من الحياة والعادات والأخلاق الغربية يسهل لهم الوصف والمقارنة بينهم وبين غيرهم من الأمم، فكانت النتيجة أنهم عجزوا عن نقل صورة الحياة التركية إلينا تماما، وقصروا كتبهم على موضوعات بعيدة وغير مفيدة، فكانت كل تلك الأشياء سببا في إثبات الحكم السابق من أوروبا على الأتراك، وأوروبا غير مستطيعة أن تضع حدا بين حياة التركي السياسية وحياته الاجتماعية، والغربيون القليلون الذين اختلطوا بالأتراك وعاشوا معهم وعرفوا جمال أخلاقهم وحسن طباعهم ووجدوا أنهم أقرب الشرقيين إلى المدنية الحقيقية عجزوا عن أن يقلعوا جذور البغض والاحتقار التي لا تزال في قلوب الغربيين على العموم.
أما في مصر فلا يزال التركي عاملا اجتماعيا مهما يلتف حوله عدد عظيم من الأصحاب، وعدد أصحابه اليوم أكثر من عددهم أيام كان التركي نافذ القوة في القطر المصري.
ويجب أيضا أن لا ننسى أن مصر بلاد إسلامية، فهي مربوطة برابطة قوية جدا للسلطان بصفة كونه خليفة وأميرا للمؤمنين، ولأنه لا تزال في يده قوة تعيين القاضي الشرعي، وناهيك بما لهذه الوظيفة السامية من الأهمية السياسية!
وفوق كل هذا فليس الجناب العالي معينا حاكما لمصر من السلطان فقط؛ بل إن نظام الحكومة ذاته مأخوذ عن جلالة السلطان تقريبا، هذا ولا يظهر للناظر أن العلاقات الحاضرة بين تركيا ومصر تحمل معها بذور البقاء، فإنها إن لم تقطع اليوم فستقطع غدا، ولكن من الغريب أن هذه العلاقات استمرت على حالتها الحاضرة زمنا طويلا في الماضي وليس من المستحيل أن تستمر زمنا أطول في المستقبل، هذا ما لا رأي لنا فيه، ولا تكشفه إلا الأيام الآتية.
ناپیژندل شوی مخ