تحرير الأفكار
المؤلف:...العلامة بدر الدين الحوثي
المحقق:...السيد جعفر الحسيني
بالتعاون مع رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية
الكتاب:...تحرير الأفكار
المؤلف:...العلامة بدر الدين الحوثي
المحقق:...السيد جعفر الحسيني
الناشر:...المجمع العالمي لأهل البيت(ع) قم
الطبعة:...الأولى
المطبعة:...أمير
سنة الطبع:...1997م 1417ه
الكمية:...3000
«حقوق الطبع محفوظة»
قم، ص. ب 837 37185، ت 3 740771
مقدمة المجمع
تتعرض الأمة الإسلامية إلى مؤامرة وهجمة استكبارية واسعة، إذ لا زالت مقومات حضارتها هدفا تأريخيا لأعدائها الذين لم يتركوا وسيلة تحط من شأن الأمة وقيمتها إلا وتوسلوا بها، سعيا منهم إلى تركيعها والقضاء عليها.
ولقد سعى الاستكبار بكل ما أوتي من قوة إلى تحريف وتخريب أهم حصونها المنيعة، وهو بناؤها العقائدي وكيانها الروحي، وإن كان أفلح يوما في إبعاد بعض شرائح الأمة عن مسار حركتها الرائدة إلى متاهات الضياع والتيه، فإنه سيفشل حتما في سعيه، وستنهار كل محاولاته الراميه إلى حرف الأمة عن دربها الأصيل الذي ابتدأه رسولنا العظيم محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وأكمله الأئمة الراشدون من أهل البيت(عليهم السلام) ( والله متم نوره ولو كره المشركون ).
مخ ۱
إن المحاولات التأريخية التي مارستها الحكومات المنحرفة عن خط الرسالة السماوية لإطفاء معالم الوعي ومحطات التوهج الفكري في الأمة، لم تفلح أبدا في إيجاد ثغرة ضئيلة بين الأمة وقادتها الحقيقيين من أهل البيت(عليهم السلام) رغم ما مارسته هذه الحكومات من إرهاب وصرامة، ورغم ما بذلته من ثروة لاستجداء بعض الأفواه الأجيرة والأقلام المنافقة. فقد سعت السلطات الأموية والعباسية بكل قوتها وجبروتها إلى إخفاء معالم البيت النبوي الشريف، وطالت رجاله الأبرار قتلا وتشريدا، وراحت تشوه الحقائق وتغير المعالم مستغلة وضاع الحديث ومبتدعي السنن ومحرفي الكلم.
والعجيب أن تعود بعض الأبواق المنحرفة والوجودات المشبوهة، إلى لعب الدور نفسه، فتثير الفرقة في وقت تحتاج فيه الأمة إلى الوحدة، وتنشر التخلف في وقت تطمح فيه الأمة إلى النهوض والتقدم !
إن علماء الأمة الإسلامية ومفكريها وحملة الرسالة فيها ليقع على عاتقهم أمر التصدي لهذه المؤامرات والمكائد، فهم أمل الأجيال المتطلعة والمقصد الواثق للخطى المتعثرة.
والمجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام) وهو أحد منابع الضوء في مسيرة الأمة الإسلامية المعاصرة، يرى أن من مهماته الأساسية التصدي للأدوار المشبوهة والتخريب المتعمد في البناء الفكري والعقائدي للأمة الإسلامية، وهو إذ يقدم هذا الكتاب القيم لمؤلفه العلامة بدر الدين الحوثي، يؤكد حقيقة مهمة ; هي أن علماء الأمة الأمناء لم يفرطوا بموقف ولم يتخلفوا عن مواجهة.
إن هذا الكتاب يمتاز بأمرين أساسيين هما: موضوعية الحوار، وواقعية البراهين، بعيدا عن أسلوب التعسف والاضطهاد في مواجهة الفكرة وبعيدا عن التعصب المرفوض في المناظرات العقائدية والمواجهات الفكرية.
إنه كتاب يعتمد الحقيقة بكل أبعادها، لم يزلزلها الانفعال، ولم يطمسها التحيز.. ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ).
والحمد لله رب العالمين
المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت «ع»
مخ ۲
مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين، القائل في الكتاب المبين: ] إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين [(1)[1]) وأشهد أن لا إله إلا الله، سميع الدعاء، الذي يستحق العبادة، ويضاعف الجزاء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أرسله بالهدى، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله، الذين هم كسفينة نوح، من ركب فيها نجا...
أما بعد:
فقد تحركت الهمم، واستيقظ النائمون، لما سمعت الفرقة الناجية والعصابة الهادية بما يحاك ضد الحق وأهله، فقام العلماء للإرشاد والتعليم، وجد الطلاب في التعلم وطلب التحقيق، بحركة من الفريقين زائدة على العادة، واهتمام لكشف كيد الأعداء، وذلك لما انتشرت في البلاد كتب المخربين، وظهرت مكائد المفسدين ومن ذلك كتاب مقبل المشتمل على ثلاثة كتب: الرياض والطليعة، والرسالة الداعية إلى تخريب قبة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
مخ ۳
والنسخة التي وصلتنا منه هي الطبعة الأولى سنة ( 1401 ه، الموافق 1981 م ) في مطبعة التقدم، وكان بعض الإخوان أيدهم الله قد أشار بالإعراض عنه لأن في الإعراض عنه المعارضة له بنقيض قصده. لأنهم يرون صنيع مقبل غرضه فيه التصنع لدى أسياده، ليبذلوا له الأموال الجزيلة، وترتفع درجته عندهم. ويرون في الإعراض عنه إخمالا لما جاء به، وتفويتا لذلك الغرض. أما قيام العلماء ضده فهو تشهير به وبما جاء به، وذلك غاية مرامه منهم، لتكون النتيجة ما ينال من المال والجاه عند أسياده. ولكني رأيت الدفع عن الحق أهم من المعارضة المذكورة لأن في كتابه ما قد يغتر به بعض القاصرين، فتكون المفسدة في ذلك أعظم، فشرعت في الجواب وبالله التوفيق إلى الصواب. وجعلت أكثر الجواب المنقول من كتب أسلاف مقبل الذين ينتمي إليهم في مذاهبه، وذلك ليكون أبلغ في الحجة عليه، ولكون ذلك من المخالفين كثيرا ما يكون بمنزلة الإقرار، وهذا هو السبب في ذلك. فإذا نقلنا من كتاب منها فلا يظن بنا أنا نراه عمدة. وكتابنا هذا ينادي بذلك مرارا.
وأرجو ممن اطلع على أحد بحوثه أن لا يعجل بالاعتراض قبل النظر في بقية الكتاب. وهذا أوان الشروع وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
مخ ۴
المبحث الأول علماء الزيدية ومؤلفاتهم
قال مقبل ( ص 2 ): وأغلب هؤلاء المفتين أعرفهم ليسوا من أهل العلم، فهم لا يعرفون الصحيح من السنة من السقيم.
والجواب: أن أصل الفتوى وابتداءها من السيد علي بن هادي الصيلمي، وكان يصلي في بلده إماما، فسأله سائل في مسألة الضم والتأمين لتحريك الجدل في المسألتين، فأجاب بمذهبه، واعترضه مقبل وأكثر من تخطئته، وأجاب السيد علي بن هادي ثانيا عن مقبل لدفع اعتراضه، وأضاف إلى جوابه توقيعات من علامة العصر شيخ الإسلام العابد الزاهد علي بن محمد العجري، والأخ العلامة العابد عبد العظيم بن حسن الحوثي وغيرهما، كما يأتي ذكره، وقصد السيد علي بن هادي تقوية جوابه، وعند ذلك لاحت الفرصة لمقبل لسب علماء الزيدية ومحاربة علومهم، فجاءت كتبه الثلاثة المذكورة مطبوعة مظنة الانتشار بسبب طبعها، مما حرك الهمة للجواب عنه.
بيان فساد تجهيل مقبل للعلماء
فقوله: « ليسوا من أهل العلم » بناه على أصله الفاسد في دعوى أن العلم هو تقليد أسلافه الذين هم ابن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان، وتلاميذه وأتباعهم، فمن كان متبعا لهم في الجرح والتعديل وتصحيح الحديث وتضعيفه فهو عند مقبل وأشباهه عالم، ومن لم يكن على طريقتهم فليس بعالم، وذلك لاعتقاد مقبل أنه لا سبيل إلى معرفة السنة والتمييز بين الصحيح والسقيم إلا تقليدهم، فمن قلدهم في ذلك فهو العالم عند مقبل وأصحابه، وهو عندهم مجتهد غير مقلد، ومن لم يكن على طريقتهم فهو عند مقبل جاهل بالسنة، لأنه قد عدل عنده عن طريق المعرفة. ونحن لا نوافقه على هذه الدعوى، لأنها أساس الباطل، وزمام الضلال، وليست طريق المعرفة بالحق، بل هي طريق التورط والعمى عن الهدى ] كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين [(1)[2]).
مخ ۵
علماء السنة من هم
فإن قلت: أنا قلدت ابن المبارك وابن القطان وأتباعه لأنهم علماء السنة.
قلنا: إن السنة المطلوبة حقا هي سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)التي جاء بها، فعلماء السنة الحقيقيون هم أهل الحق في التمييز بين ما جاء به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وما هو مكذوب عليه، والتمييز بين من يستحق الجرح ومن يستحق التعديل.
ألا ترى أنك لا تعتبر أمثال: جابر الجعفي، ويزيد بن أبي زياد علماء السنة، لأنهم عندك مخالفون للحق ؟ وحديثهم بعضه عندك غير صحيح فلا يجوز عندك اتباعهم وإن كان عندهم حديث كثير جدا فهو لا يفيد أن يسموا عندك علماء السنة. وكذا عمرو بن عبيد، وإبراهيم بن أبي يحيى المدني وأشباههم، فلا يفيد ما عندهم من الحديث الكثير، وإن ادعوا أنه السنة، فلا يجب عندك تصديق دعواهم، ولا يعتبرون علماء السنة عندك، وهكذا علماء الحديث من الشيعة والمعتزلة، فهم لا يعتبرون عندك علماء السنة يجب اتباعهم لأجل هذا الاسم. فظهر أن أهل السنة هم أهل الحق، وأنك جعلت علماء السنة هم: ابن المبارك، وابن القطان، وأحمد، ويحيى، والبخاري، ومسلم وأتباعهم، لزعمك أنهم أهل الحق، لا لمجرد جمع الحديث والكلام على الرجال. ألا ترى أن الكلام على الرجال بغير حق لا يصير به الرجل من علماء السنة ؟
فتحصل أنك ترى أئمتك هم أهل الحق ، وأنك جعلتهم علماء السنة دون غيرهم لهذا المعنى.
مخ ۶
فنقول لك: من أين علمت أنهم أهل الحق في قولهم: هذا الحديث صحيح، وهذا سقيم، وهذا معلول، وهذا سليم، وهذا الراوي مبتدع لا يقبل حديثه لأنه داعية إلى بدعته وهذا صاحب سنة يوثق به في روايته، وهذا صاحب مناكير متهم في حديثه ؟ مع أنه يجوز عليهم الخطأ في الاعتقاد بأن يجعلوا صاحب الحق مبتدعا، وهو صاحب السنة المحكمة في الواقع أو الكتاب المحكم، ويجعلوا المبتدع المتمسك بالأحاديث المكذوبة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أو المنسوخة أو المتأولة لحجة على التأويل صحيحة يجعلوا المتمسك بها بدون تأويل صاحب سنة، ويجعلوا الراوي للأحاديث الصحيحة صاحب مناكير، لأنه يروي ما يخالف مذهبهم واعتقادهم، فينكرون حديثه ويتهمونه بالكذب، ويجعلون من يروي الأحاديث المكذوبة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)التي هي المناكير في الحقيقة، ولكنها موافقة لاعتقادهم، فلا ينكرونها، بل يجعلوا راويها ثقة، لأن أحاديثه عندهم مستقيمة ليس فيها ما ينكرون، لأنهم لا ينكرون ما يوافق اعتقادهم، وما نشأوا عليه وتربوا على سماعه فراويه عندهم غير متهم، بل يوثقونه.
فإن قال مقبل: هذا لا يجوز على يحيى القطان وابن معين وأحمد والبخاري ومسلم والنسائي والدارقطني وأتباعهم، بل هم أهل الحق.
قلنا: من أين علمت أنهم أهل الحق ؟ أمن كتاب الله ؟ أم من سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فإن قال: من كتاب الله، قلنا: هات الحجة من كتاب الله، ولن تجدها أبدا. وإن قال: من سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قلنا: ليس ذلك في حديث متواتر معلوم، أو مجمع عليه، أو في حديث أهل البيت وشيعتهم، أو في حديث يثبت بحجة صحيحة بدون تقليد لأسلافك، فمن أين يثبت أن الحق معهم في أصول الحديث وقواعد الجرح والتعديل والتمييز بين الرواية المنكرة وغيرها ؟ ومن أين يعلم أن كل واحد منهم على الحق في ذلك ؟
مخ ۷
فإن قلت: إن في السنة التي يرويها البخاري ومسلم ما يدل على ذلك .
قلنا: هذا غير صحيح، ولو كان في حديثهم ذلك لما قامت به حجة، لأنه يكون قبوله مبنيا على أنهم على الحق في تصحيح ما صححوه، وجعلهم أهل الحق مبني على تصحيح ما رووه، وذلك دور لا يصح ما يبنى عليه، لأن مرجوعه إلى الاستدلال على صحة الدعوى بالدعوى، وذلك يدل على أن ليس عندك إلا التقليد الأعمى، فكيف تنزل عن تقليد أولئك إلى تقليد الذهبي وابن الجوزي في قبول أقوالهم في الجرح والتعديل، وهما مبتدعان داعيان إلى بدعتهما ؟ وهب أنك لا تدري من هو المبتدع، ومن العامل بكتاب الله وما جاء به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أفلا يكفيك تجويز الخطأ عليهما، وتجويز أن يكونا مبتدعين داعيين إلى بدعتهما ؟
فإن قلت: لا يجوز ذلك عليهما، رجع السؤال الأول. فقلنا: هل دل على ذلك الكتاب ؟ هل دلت على ذلك السنة المحكمة الثابتة بدون تقليد لهما ولأسلافهما ؟ أم أنت مقلد في الأصل والفرع ؟ ومع ذلك تعيب التقليد وتحتج لإبطاله بالآية القرآنية، وأنت مرتبك في التقليد.
يا أيها الرجل المعلم غيره***هلا لنفسك كان ذا التعليم
إبدأ بنفسك فانهها عن غيها***فإذا انتهيت إذا فأنت حكيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله***عار عليك إذا فعلت عظيم
مخ ۸
تعريضه بالموقعين على فتوى الصيلمي
قال مقبل: « خطر الفتوى بغير علم » وأورد بحثا في التحذير من ذلك، ثم جعل يعرض بالمفتين يزعم أنهم أفتوا بغير علم ويقول: « وقد يكون سبب الفتوى بغير علم خشية المزاحمة على الدنيا ».
والجواب: أنهم لو كانوا ممن يبيع الدين بالدنيا لعلموا من أين تؤكل الكتف، وليس بينهم وبين الدنيا إلا أن يغيروا المذهب، ويخدموا أغراض الملوك، ويدعوا الناس إلى ما يوافق أهواء الملوك، ويفدوا إليهم، ويخالطوهم ويتقربوا إليهم، فتأتي الأموال الكثيرة والمناصب الدولية العالية. ولكن حاشاهم أن يختاروا ذلك، والله تعالى يقول: ] تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [(1)).
ولقد أفرط مقبل في بحثه هذا، حيث يعرض بالعلماء ويعرض برميهم بالكبر، وبأنهم أشباه إبليس، وبالحسد، وأنهم أشباه أهل الكتاب، والله تعالى يقول: ] ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [(2)) ويقول سبحانه وتعالى: ] وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [(3)) صدق الله العلي العظيم.
قال مقبل: التحذير من قبول الفتاوى الجائرة بدون دليل من الكتاب والسنة، قال الله سبحانه حاكيا عن بعض المقلدين على الضلال: ] يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا [(4)).
ثم بعد ذكر آيات قال مقبل: وأنت إذا تدبرت هذه الآيات وجدت أن التقليد الأعمى من الشيطان ليصدالناس عن الكتاب والسنة.
مخ ۹
أقول: قد بينا أنك مقلد تقليدا أعمى، لأنك تقلد ابن المبارك والبخاري ومسلما وابن الجوزي والذهبي واضرابهم في قولهم: هذا الحديث صحيح، وهذا سقيم، وقولهم: هذا الراوي مبتدع، وهذا صاحب سنة، وهذا جيد الحديث، وهذا منكر الحديث، تقليدا أعمى لا تعتمد فيه على كتاب ولا سنة، فكيف تعترض على تقليد بتقليد وتدعي لنفسك أنك العالم الوحيد ؟ مع أن « المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور » كما في الحديث(1)[7]) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
مقبل يعيب التقليد وهو مقلد
قال مقبل: سوء عاقبة التقليد الأعمى، قال الله تعالى: ] أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون [(2)[8]) الآيات، ثم أنشد:
ما الفرق بين مقلد في دينه***راض بقائده الجهول الحائر
وبهيمة عمياء قاد زمامها***أعمى على عوج الطريق الجائر
والجواب: قد بينا أنك مقلد تقليدا أعمى، فانظر ما هو الجواب ؟ واسأل نفسك أولا، لأن المهم في علم الحديث هو التمييز بين الصحيح والسقيم والمعلول والسليم، وأنت في ذلك مقلد لسادتك البخاري ومسلم والذهبي وأضرابهم، وهكذا تعيب التقليد وأنت مرتبك فيه.
قال مقبل في ( ص 112 ): ومن الذي يقبل من العلماء: قال فلان بدون دليل ؟.
والجواب: أنه من هذا القبيل، تعيب التقليد وأنت في وحل عميق منه يا مقبل ! ومثل هذا إنكارك للمراسيل.
* * *
مخ ۱۰
المبحث الثاني فيما يعد قبوله تقليدا وقبول المراسيل
في الجرح والتعديل
قال مقبل ( ص 111 ) وما بعدها ما لفظه: وهو ينقل لنا من الشفاء وغيره من الكتب التي ليس لها أسانيد، لأنه لا يعلم أن أئمتنا أهل السنة كعبد الله بن المبارك، وشعبة بن الحجاج، وأحمد بن حنبل، والبخاري لا يقبلون الحديث إلا بإسناد، ثم ينظرون في ذلك الإسناد، أرجاله ثقات ؟ وهل هو متصل ؟ وهل هو سالم من العلة والشذوذ ؟ ورحم الله ابن المبارك إذ يقول: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. فهؤلاء هم أئمتنا، وهم قدوتنا، وعلى حبهم وسلوك طريقهم نحيا ونموت إن شاء الله.
والجواب: إنك تقبل المراسيل في الجرح والتعديل، وعليهما ينبني إسقاط الرواية وتصحيحها، لأن السند للحديث إذا لم يعرف رجاله لا يكون حجة، وإذا كان لا يثبت إلا بالسند، فكذلك الجرح والتعديل لا يثبتان إلا بالسند، لأنه يحتمل أن يكون غير صحيح. فقد وقعت فيما تعيبه من حيث التقليد ومن حيث قبول المرسل. مثال ذلك في ( ص 180 ): « والآن أذكر لك كلام المحدثين في أبي خالد، حتى يظهر لك رميه للمحدثين بما لم يقولوا، وحتى يتضح لك أن العمل بالأحاديث الموجودة في المجموع مشكل جدا، حتى يعلم من خرجه من علماء الحديث، قال الذهبي(رحمه الله) في ميزان الاعتدال: عمرو بن خالد القرشي، كوفي أبو خالد، تحول إلى واسط، قال وكيع: كان في جوارنا يضع الحديث، فلما فطن له تحول إلى واسط. وقال معلى بن منصور: عن أبي عوانة، كان عمرو بن خالد يشتري الصحف من الصيادلة ويحدث بها ».
فأخبرنا: أين إسناد هذا الجرح وما صحته ؟ فقد جمعت بين التقليد تارة في موضع، وقبول المراسيل تارة أخرى في موضع آخر، وتارة تجمع بين الأمرين في موضع واحد.
مخ ۱۱
ومن التقليد اتباعهم في قولهم: ( منكر الحديث )، أو في جرحهم في الراوي لأنه عندهم منكر الحديث، وأكثر جرحهم للشيعة من هذا القبيل، واتباعهم في ذلك تقليد، لأن إنكارهم له مبني على مخالفته لاعتقادهم. وكذلك اتباعهم في قولهم: ( كذاب )، لأنهم قد يريدون بالكذب روايات مخالفة لاعتقادهم يظنونها كذبا، فتكذيبه مبني على مذهبهم ، فتقليدهم في التكذيب يستلزم التكذيب بلا حجة، ولأنهم قد يكذبون من غضبوا عليه، وإن كان يحتمل أنه أخطأ في رواية ولم يتعمد الكذب، فيكذبه أحدهم لغضبه عند ذلك، كما روي عن أحمد بن حنبل في تكذيب يحيى بن عبد الحميد الحماني كما يأتي إن شاء الله، فتقليدهم في ذلك خبط عشواء.
قال محمد بن إبراهيم الوزير في الروض الباسم ( ص 77 ): « ومن لطيف هذا الباب أن يعلم أن لفظ كذاب قد يطلقه كثير من المتعنتين في الجرح على من يهم ويخطئ في حديثه، وإن لم يتبين أنه تعمد ذلك، ولا تبين أن خطأه أكثر من صوابه، ولا مثله. ومن طالع كتب الجرح والتعديل عرف ما ذكرته، وهذا يدل على أن هذا اللفظ من جملة الألفاظ المطلقة التي لم يفسر سببها » انتهى المراد.
مخ ۱۲
فقبول الجرح أو التكذيب تقليد، إذا لم يعرف القابل له ما هو السبب، ويعرف أنه يصح اعتباره سببا للجرح أو التكذيب، يعرف ذلك بحجة صحيحة غير مبنية على تقليد. وفي كتاب مقبل الذي اسمه ( الطليعة في الرد على غلاة الشيعة ) كثير من هذا الجرح المطلق المرسل، قبله مقبل بدون إسناده وبدون حجة، فيقول الجارح: « ليس بشيء » دون أن يبين هل يعني أنه مجرب في كذب متعمد، أو يعني أن مذهبه مخالف، وأنه في رأي الجارح مبتدع لا ينبغي أن يروى عنه ؟ ودون أن يبين الحجة على دعواه أنه ليس بشيء، فاتباعه في ذلك من دون معرفة للسبب ولا معرفة بحجة، تقليد أعمى، فلماذا يكون التقليد مذموما إذا سميناه تقليدا ؟ ! أما إذا لم نسمه تقليدا فليس مذموما، وإن كان اتباعا لغير حجة، مع أن الاتباع لمن يحتمل أنه مبطل هو مذموم لأجل اتباعه بدون اعتماد على دليل، لا لمجرد اسم التقليد، ولو كان تغيير الاسم يخلص من الحكم للزم أن يكون لغيركم أن يتبعوا أسلافهم ويقولوا: هذا ليس تقليدا، لأن أسلافنا متمسكون بالكتاب والسنة، ونحن في اتباعنا لهم إنما اتبعنا الكتاب والسنة، وليس ذلك بتقليد. فإذا كنتم تنكرون هذا، فما لكم لا تنكرون تقليدكم لأسلافكم في الجرح والتعديل ؟ وهم بنوا ذلك على مذهبهم الذي لم يثبت بدليل صحيح.
مخ ۱۳
جرح الراوي بسبب تشيعه
من أمثلة ذلك: قولهم في مينا الذي روى عن ابن مسعود قال: « كنت مع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ليلة وفد الجن، فتنفس رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فقلت: ما شأنك ؟ قال: نعيت إلي نفسي يابن مسعود، قلت: فاستخلف، قال: من ؟ قلت: أبو بكر، فسكت إلى قوله : قلت: علي بن أبي طالب، قال: والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين »(1)[9]).
قال ابن الجوزي في كتابه(2)[10]): « موضوع، والحمل فيه على مينا، وهو مولى لعبد الرحمن بن عوف، وكان يغلو في التشيع، قال يحيى بن معين: ليس بثقة، ومن مينا الماص بظر أمه حتى يتكلم في أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ وقال أبو حاتم الرازي كان يكذب... ».
فمينا عندهم كان يكذب لروايته هذا الحديث، وليس بثقة لأجل ذلك، وهذا الحديث عندهم موضوع لأنه رواه مينا. وهكذا يجرحون الشيعة بالروايات التي ينكرونها، وإذا كان ذلك لهم لأجل مذهبهم، أفلا يكون للشيعة أن يجرحوا في رواة فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير ومعاوية بمجرد روايتها، ولو لم يكن سبب آخر ؟ فما لك يا مقبل جمعت جملة مما تزعم أنه موضوع أو ضعيف من أحاديث شيعة علي(عليه السلام)، ولم تنقل مثله من أحاديث شيعة عثمان في فضائل أئمتهم ؟
إن كنت تريد التحذير من الأحاديث الموضوعة والضعيفة وأنت تقول في ( ص 144 ): ولقد عظمت المصيبة، واشتد خطر ما حذرنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)من الكذب عليه، حتى أصبحت الأحاديث المكذوبة بضاعة كثير من الواعظين وغيرهم من المتمذهبين، لا سيما في باب المناقب، فقد توسع الناس في ذلك حتى أفضى إلى تضليل كل طائفة الأخرى.
مخ ۱۴
فنقول لك: فإذا كان سلفك قد ضللوا كثيرا من الشيعة وكذبوهم وجعلوهم دجالين لأنهم رووا ما يخالف عقيدة سلفكم في عثمان وغيره، فلماذا لا ترد على ابن الجوزي وابن معين والذهبي هذا الغلو، وتحذرهم من عقائدهم المبنية على روايات العثمانية، وتبين لهم كذب كثير من العثمانية في الروايات التي يروونها لنصرة مذهبهم، إن كنت تريد نصح الأمة كلها وتردها عن خطأها في تضليل كل طائفة الأخرى من الطرفين ؟ وكيف وقعت فيما عبته، حيث ضللت الشيعة، وقررت رد حديثهم، واجتهدت في جمع من طعن فيه منهم، ولم تفعل ذلك بالعثمانية ؟
فإن قلت: إن العثمانية أهل صدق وليس لهم مثل رواة الشيعة.
قلنا: هذه دعوى يكذبها البحث، وإذا كان جهلك قد بلغ بك هذا الحد، فإن غيرك لا يجهل، فقد جمع بعضهم في هذا المعنى جمعا كبيرا، وقد قال ابن حجر ولم ينصف في لسان الميزان ( ج 1 ص 13 ): وأما الفضائل فلا تحصى، كم وضع الرافضة في فضل أهل البيت وعارضهم جهلة أهل السنة بفضائل معاوية بدءا وبفضائل الشيخين... الخ.
وقلت: لم ينصف، لأنه نسب الوضع إلى الروافض على مذهبه عموما، وإلى جهلة أهل السنة على مذهبه خصوصا، وجعل ابتداء الوضع من الروافض، ولسنا نقلد في هذا أي في الجرح برواية ما يخالف المذهب ولكن ينظر إلى وجه وقعت عليه الرواية يدل على تعمد الكذب أو يوجب التهمة بذلك، ولكن أردنا أن ما صنعته العثمانية بالشيعة لا تعجز الشيعة أن تصنع مثله بالعثمانية. ويترتب على ذلك تعديل عدد ممن جرحتهم العثمانية من الشيعة، وجرح عدد ممن وثقهم العثمانية من رواتهم، بروايتهم ما هو عند الشيعة مناكير لا يشهد لها الكتاب ولا سنة معلومة، ويترتب على ذلك سقوط روايات كثيرة وثبوت روايات كثيرة.
مخ ۱۵
الجرح والتعديل وطريقهما
وبهذا يظهر لمن أنصف أن قبول الجرح المطلق، والتوثيق بدون نظر في حجة ذلك تقليد، وأنه ليس من قبول الرواية التي لا تحتاج إلى المطالبة بحجة، لأن أكثر التوثيق للرواة ليس إلا بالنظر في حديثهم، فإذا كان سليما من المناكير، سليما من التخليط، سليما من الكذب عندهم، وثقوهم، وإذا كان الراوي ينفرد بروايات عن المشاهير، أو يخالف حديثه حديث الثقات، أو يروي منكرا عندهم لا يتابع عليه، جرحوه. ومن طالع كتاب ابن حبان في الضعفاء، والميزان، وكتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم عرف هذا، وعرف أن الجرح بترك الصلاة أو شرب الخمر أو نحو ذلك مما لا تختلف فيه المذاهب نادر، وأن التوثيق بما هو مجمع عليه بين الأمة قليل، فأكثر الجرح والتعديل بمنزلة فتوى من الجارح والمعدل، ومذهب له ليس من قسم الرواية لما لا تختلف فيه المذاهب، وقبوله بدون اعتماد حجة تقليد لا عمل بالرواية، وكذلك تصحيح حديث أو تضعيفه كالفتوى، لأنه تابع للمذهب في الرواة، فقبول التصحيح والتضعيف بدون اعتماد على حجة تقليد.
فإن قلت: إنهم يحتجون للجرح بأن يقولوا: يروي المناكير أو نحو هذا، فكيف يكون قبول الجرح تقليدا ممن قد اطلع على هذه الحجة ؟
قلنا: إن كون الحديث منكرا يحتاج إلى بينة، لأنه قد يكون منكرا عند الجارح وليس منكرا في الواقع، وقد يكون انفراده عن بعض المشاهير لسبب واضح وعذر مقبول، وقد تكون مخالفته لحديث الثقات لأنه هو الثقة، وإنما خالفوه تعصبا لمذهبهم في مسألة قد اتضح أنها من أسباب التعصب، فليسوا ثقاتا في الواقع وإن كانوا ثقاتا عند الجارح، فقبول قول الجارح: إنه يروي المناكير تقليد له في معنى المنكر، وفي أن الانفراد بالرواية عن المشهور قادح مطلقا، أو في أن هذا الراوي يجرح بتفرده، لأنه ليس له عذر في ظن الجارح، أو لأنه يبغضه فلا ينتبه لعذره.
مخ ۱۶
وعين الرضا عن كل عيب كليلة***ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقبول قوله إذا قال: « لا يتابع عليه » تقليد، لأنه قد يكون له متابع، لكنه لم يطلع على روايته المتابعة، أو لم يعتبره شيئا لفرط ضعفه عنده، أو لسقوطه، وليس ضعيفا ولا ساقطا في الواقع، أو ظنه سرق الحديث وليس سارقا، وإنما ساء ظنه فيه لأنه شيعي روى بعض الفضائل مثلا، فلم يعتبر روايته متابعة للراوي الآخر، فقبول قوله: « لا يتابع عليه » تقليد.
رجال الحديث والجرح والتعديل
فقد بان أن هذه الاحتجاجات الصورية إنما هي دعاوى، وأن قبولها تقليد إذا لم يكن عن دليل يدل على صدقها. وقد أشار الذهبي إلى أن هذا نظري اجتهادي، حيث قال في ترجمة أبان بن حاتم الأملوكي في الميزان، فيما حكاه ابن حجر عن الذهبي في لسان الميزان ( ج 1 ص 9 ) ولفظه: « كما إذا قلت: صدوق، وثقة، وصالح، ولين، ونحو ذلك، ولم أضفه إلى قائل فهو من قولي واجتهادي... ». فصرح بأن ذلك اجتهاد. وكذلك أشار ابن حجر في ( لسان الميزان ) أيضا ( ج 1 ص 14 ) فقال: قال ابن حبان: من كان منكر الحديث على قلته لا يجوز تعديله إلا بعد السبر، ولو كان ممن يروي المناكير، ووافق الثقات في الأخبار لكان عدلا مقبول الرواية، إذ الناس في أقوالهم على الصلاح والعدالة، حتى يتبين منهم ما يوجب القدح. هذا حكم المشاهير من الرواة، فأما المجاهيل الذين لم يرو عنهم إلا الضعفاء فهم متروكون على الأحوال كلها.
قال ابن حجر: « وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت عنه جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه مذهب عجيب، والجمهور على خلافه، وهذا هو مساك بن حبان في ( كتاب الثقات ) الذي ألفه... ». فسماه مذهبا ولم يجعله رواية.
مخ ۱۷
وقال ابن حبان، في كتاب المجروحين ( ج 1 ص 100 ) في ترجمة إبراهيم ابن يزيد الخوزي: روى عن عمرو بن دينار، وأبي الزبير، ومحمد بن عباد بن جعفر مناكير كثيرة وأوهاما غليظة، حتى سبق إلى القلب أنه المتعمد لها، وكان أحمد بن حنبل(رحمه الله) سيئ الرأي فيه... ». فسماه رأيا لا رواية.
وكذا قال في إسماعيل بن محمد بن جحاده ( ج 1 ص 128 ):كان يحيى بن معين سيئ الرأي فيه. وكذا قال في بقية: وكان يحيى بن معين حسن الرأي فيه.
ومما يدل على أنه يكون رأيا واجتهادا عندهم ما تكرر من ابن حبان في جرح الرواة، من نحو قوله: فحش المناكير في أخباره التي يرويها عن الثقات، حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها... ». فمعنى هذا الترجيح والاجتهاد أنه يتعمد الكذب.
وأشار الترمذي إلى أن الخلاف في الرجال خلاف مذاهب لا خلاف رواية، حيث قال في كتاب ( العلل ) الملحق في آخر ( جامع الترمذي ) ( ج 10 ص 514 ) من تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي. ولفظه: « وقد اختلف الأئمة في تضعيف الرجال كما اختلفوا فيما سوى ذلك من العلم... ».
وفي حاشية ( كرامة الأولياء ) في شرح حديث عفيف الكندي ما لفظه: وها هنا مهمة ذكرها الزركشي حيث قال ما معناه: اختلف أئمة النقل في الأكثر، فبعضهم يوثق الرجل إلى الغاية، وبعضهم يوهيه إلى الغاية، قال الترمذي: اختلف الأئمة في تضعيف الرجال كما اختلفوا فيما سوى ذلك من العلم، وحينئذ فلا يكون إمام منهم حجة على الآخر في قبول رواية راو أو رده، كما لا يكون قول البعض حجة على بعض في الاجتهاديات، لأن في الجرح والتعديل ضربا من الاجتهاد إلى أن قال : انتهى معنى كلام الزركشي.
مخ ۱۸
قلت: وأشار إلى هذا المعنى محمد بن إبراهيم الوزير في ( الروض الباسم ) حيث قال في الذب عن أحمد بن حنبل: ورد قول القائل أن التشبيه مستفيض عن الإمام أحمد بن حنبل، فقال في الجواب عنه: ومنها أن العدد الكثير قد يغلطون في رواية المذهب وإن لم يتعمدوا الكذب، فلا يحصل العلم بخبرهم، لأن شرط التواتر الكثرة المفيدة للعلم، وذلك لا يكون إلا إذا أخبروا عن علم ضروري دون ما أخبروا عن ظن أو استدلال، ولكنه يحتمل في المخبرين عن الإمام أحمد أنهم ألزموه ذلك بطريق نظرية استدلالية، فلا يفيد خبرهم التواتر....
فقوله: « بطريق نظرية استدلالية » يفيد أن الجرح يكون رأيا ومذهبا لا رواية خالصة، فالاتباع فيه بدون حجة هو تقليد لا مجرد قبول رواية.
وأشار ابن الوزير إلى هذا المعنى أيضا، حيث قال في ( الروض الباسم ) في سياق الذب عن أبي حنيفة ورد قول المعترض « أنه قد رمي بالقصور في علمي العربية والحديث » فأجاب في ذلك وذكر: أنه يقبل المجهول، وبين وجه ذلك في ( ص 151 و152 ) ثم قال: المحمل الثاني: أن يكون ضعف أولئك الرواة الذين روى عنهم مختلفا فيه، ويكون مذهبه وجوب قبول حديثهم وعدم الاعتداد بذلك التضعيف ، إما لكونه غير مفسر لسبب أو لأجل مذهب أو غير ذلك. وقد جرى ذلك لغير واحد من العلماء والحفاظ، بل لم يسلم من ذلك صاحبا الصحيح، كما قدمنا ذلك، وكذلك أئمة هذا العلم....
فأشار بقوله: « إما لكونه غير مفسر لسبب » أنه يكون الخلاف فيما يعد سببا للجرح، فيكون سببا عند الجارح، وهو غير سبب عند غيره، فلا يقبل الجرح المطلق مع هذا الاحتمال.
مخ ۱۹
وكذلك قوله: « أو لأجل مذهب » وكذلك أشار إلى أنه يكون التصحيح للرواية وإبطالها عن اجتهاد، حيث قال في الذب عن أبي حنيفة أيضا في الروض الباسم ( ص 154 ): المحمل الرابع: أن تكون رواية الإمام أبي حنيفة من قبيل تدوين ما بلغه من الحديث صحيحه وضعيفه، كما هو عادة كثير من مصنفي الحفاظ أهل السنن والمسانيد. وغرضهم بذلك حفظ الحديث للأمة، لينظر في توابعه وشواهده، فإن صح منه شيء عمل به، وإن بطل شيء حذر من العمل به، وإن احتمل الخلاف كان للناظر من العلماء أن يعمل فيه باجتهاده....
قلنا: وكذلك أكثر كتب الحديث، وإن التزم مصنفوها الصحة، فللناظر من العلماء أن يعمل فيها باجتهاده، لأن أكثرها أو الكثير من حديثها محتمل الخلاف بواسطة الخلاف في رجال السند، والخلاف في وجوه الترجيح، وإن كانت مما ادعي الإجماع على صحته، فهذه الدعوى ليست مستندة إلى ما يعلمه المدعي بالضرورة، لأن مدعي الإجماع لم يسمع كل واحد من الأمة يصحح ذلك. ولا يخفى هذا على منصف، بل هذه الدعوى مبنية على نظر واستدلال يمكن معارضته بنظر واستدلال، فالاتباع في الدعوى هذه تقليد، لأنها مبنية على اجتهاد، لا مستندة إلى مشاهدة أمر محسوس. وقد مر كلام ابن الوزير في الذب عن أحمد بن حنبل، حيث قال ابن الوزير: « إن العدد الكثير قد يغلطون... » فهو يصلح جوابا عليه في دعواه الاجماع على الصحيحين، استنادا إلى قول من يدعي الإجماع.
فالجواب: أن دعوى الإجماع لم تستند إلى مشاهدة أمر ضروري، فالمدعون يمكن غلطهم باستنادهم إلى قرائن ظنوا أنها تدل على الإجماع، وهي في الواقع غير صحيحة، فلا يلزم غيرهم قبول دعواهم ما لم يترجح عنده مثل ما ترجح عندهم، ويؤديه اجتهاده إلى مثل ما أداهم إليه اجتهادهم.
مخ ۲۰