[نص السؤال]
/184أ/ سؤال في المعزمين (¬1)، الذين يزعمون أنهم يحضرون الجن إلى بين أيديهم بالعزائم والأقسام والآيات، ويبخرون، وأن كل يوم من الأيام السبعة له كوكب من الكواكب السبعة؛ كزحل، والمشتري، والمريخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر.
وأن ملوك الجن: أبو عبد الله المذهب خادم الشمس ليوم الأحد، وأبو (¬2) النور خادم القمر ليوم الاثنين، والملك الأحمر خادم المريخ ليوم الثلاثاء، ويرقان خادم عطارد ليوم الأربعاء، وسهمورش خادم المشتري ليوم الخميس، وزوبعة خادم الزهرة ليوم الجمعة، وميمون خادم زحل ليوم السبت.
مخ ۹
ويزعمون أنهم يستنزلون ميططرون من السماء الدنيا، وطيطعائيل من الثانية، وطمطلسعبمائيل من الثالثة، وطحطغيائيل من الرابعة، كذلك إلى جبريل. ويصورون صورهم، وينقشون لكل واحد من هؤلاء الملائكة المذكورين الأرضية والعلوية خاتما يختص بأيام معلومة وساعات، وينقشون الحراب والمراوات ويفعلون بها ما فعلوا بالخواتم من البخاخير والأيام، ويقولون بأن كل ملك بيده خاتم وحربة يزجر بها الجن.
ويدخلون على حريم المسلمين، ويزعمون أنهم يظهرون السارقين (¬1)، والضائع، والسرقة، ويخبرون بحال الغائب من موت أو حياة، وأين مستقره، ويزعمون أن هذا كله كان سليمان بن داود وآصف بن برحيا يحفظانه، وما كان تطيعه الجن إلا بهذه الأسماء، وأن آصف كان تطيعه الجن، فسأله سليمان: بم أطاعتك الجن؟ فيقول: بهذه الأسماء، فيعلم هذا لهذا. فهل ذلك صحيح، وفعله جائز أم حرام؟
ومنهم من يظهر للناس أن الجن تطيعه (¬2) بالأسماء، ويفعل هذه الأمور، وتكون مدكوكات؛ مثل جمعهم (حوائج) (¬3) مسكرة /184ب/ مرقد يسمونها الدخنة، يضعونها في الدواة، ثم يكتبون منها في كف من يريدون صرعه، ثم يقولون: الحسه، فإذا دخل المداد المخلوط بمسكرا يصرع عاجلا.
وبعضهم يلزق شمعة في خيط، ويلزق رفيع الشمعة في طرف طلحية ورق، ثم يجذبه برجله، ليوهم [أن] (¬4) الجن حركتها، وبعضهم يصنع (تمر حب مميز) (¬5) فوقه طحين، ثم يجر بخيط حرير، ليوهم أن الجن خنقته.
مخ ۱۰
[الجواب]
وبعضهم يضرب حديدة صفة مشقاص، ويعلق طرفها بملح، ويرميه في الماء، ويركب عليه خاتم، فإذا ذاب الملح نقش، وحذف الخاتم إلى برا، ليوهم (¬1) أن الجن فعلته. إلى أشياء كثيرة ما لها نهاية. فماذا يجب عليهم؟
أجاب شيخ الإسلام العلامة الحافظ تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه:
الحمد لله رب العالمين. هذا الاستفتاء يتضمن مسائل متمثلة في أهل التلبيس والكذب والمخادعة، الذين يظهر أحدهم طاعة الجن له، أو صرعها المصروع، أو تحريكها لبعض الأجسام، أو إخبارها له، أو مكاشفته بذلك، ويكون قد فعل ذلك بحيلة؛ كما يفعل المشعبذ، والدكاك ونحوهما، كما ذكر في الذي يخلط المسكر بالمداد الذي يلحسه من كتب في كفه، والذي يشحط (¬2) الخيط الحرير بشمعة في ورق ويجذبه ليوهم الحاضرين أن الجن حركته، وكما ذكر من فصه (¬3) الملح وغيرها.
فهذا ونحوه من جنس حيل أهل البهتان /185أ/ أهل الشرك والطغيان، كما يفعله كثير من المشركين وأهل الكتاب من الهند والرهبان، وكما يفعله من يدعي الحال من أهل المحال من المشايخ النصابين، والفقراء الكذابين، والطرقية المكارين الجلابين.
مخ ۱۱
فهؤلاء وأمثالهم يستحقون العقوبة البليغة، التي تردعهم وأمثالهم عن الكذب والتلبيس، باتفاق المسلمين واتفاق أهل الدين.
فإن هؤلاء أسوء حالا من شهود الزور؛ فإن أولئك يكذبون كذبا يوهمون به خرق العادة، أو أحوال الأولياء أهل السعادة، وفيهم من الإضلال للناس في دينهم، ومن إفساد دنياهم مما في كثير من شهود الزور.
وعقوبة الواحد من هؤلاء قد تكون بالقتل إذا كان في قوله أو فعله ما هو كفر؛ كمن يدعي النبوة بمثل هذه الخزعبلات، أو يدعي أنه نبي من الأنبياء يظهر في الحياة، أو يطلب بغير شيء من شرائع الإسلام المعلومة، بمثل هذه الأمور، ويجعل ذلك دليلا على صدقه في معارضة الشريعة المعلومة. فمن قال أو فعل ما هو كفر استحق القتل باتفاق المسلمين.
وإن لم يكفر، فهل يقتل الواحد منهم لفساده في الأرض، إذا كان قتله مصلحة، أو قدر أنه لم يردعه إلا بالقتل؟ هذا مما للعلماء فيه اجتهاد ونزاع، ليس هذا موضعه.
فصل
وأما الداخل في هذه الأمور على سبيل الجد والحقيقة، لا على طريق الكذب والخديعة، فهذا يحتاج إلى أن يتكلم في أهل هذا الباب وهو السحر.
مخ ۱۲
فإن السحر حرام من الكبائر، بالكتاب والسنة والإجماع، وقد قال تعالى: {ولا يفلح الساحر حيث أتى} [طه: 69]، وقال تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان /185ب/ ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون • ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون} [البقرة: 102، 103].
وقد ذكر علماء التفسير وغيرهم من السلف والخلف: أن الله سبحانه وتعالى برأ سليمان بهذه الآية مما اتهم به سليمان من السحر؛ فإن سليمان اتهمه بالسحر طائفة، وطائفة طعنت فيه بذلك، وطائفة زعمت أنها تتبعه فيما فعل.
قالوا: وكانت الشياطين قد كتبت السحر، والرقى، والنيرنجيات وغير ذلك. وذكر بعضهم: أنهم كتبوا ذلك على لسان آصف بن برحيا لسليمان الملك، ثم دفنوها تحت مصلاه ولم يشعر بذلك، فلما مات سليمان استخرجوها من تحت مصلاه، وقالوا للناس: إنما ملكهم سليمان بهذا، فتعلموه.
فأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان. وأما السفلة فقالوا: هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعليمه، ورفضوا كتب أنبيائهم.
مخ ۱۳
وفشت الملامة لسليمان، فلم يزل هذا حالهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عذر سليمان على لسانه، وأظهر براءته على يده.
قالوا: ولهذا يوجد السحر في اليهود كثير، وقصة لبيد بن أعصم الساحر معروفة (¬1). مع أن /185أ مكرر/ موسى صلى الله عليه وسلم قد حرم الله السحر على لسانه وأوجب عقوبة أهله، كما بعث الله بذلك محمدا صلى الله عليه وسلم. وموسى هو خصم السحرة، وإن كان أتباعهم يزعمون أن موسى كان ساحرا، فهذه الفرية أعظم من الفرية على سليمان.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عد الكبائر، وذكر منها السحر (¬2).
مخ ۱۴
وجمهور العلماء يوجبون قتل الساحر؛ كما هو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في المنصوص عنه. وهذا (¬3) هو المأثور عن الصحابة؛ كعمر، وعثمان، وعبد الله بن عمر، وحفصة بنت عمر، وجندب بن عبد الله البجلي - وله في ذلك قصة معروفة؛ لما قتل الساحر بحضرة الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فإن عمر بن الخطاب كتب إلى أهل العراق: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة (¬1).
وثبت أن حفصة ابنة عمر كانت لها الجارية سحرتها، فقتلتها، فبلغ ذلك عثمان بن عفان فأنكر قتلها، فذهب إليه عبد الله بن عمر وأخبره أنها سحرتها واعترفت بالسحر، فأمسك عثمان. (¬2)
وكذلك جندب بن عبد الله البجلي دخل على الوليد بن عقبة وعنده ساحر يصنع شيئا من ذلك، فضربه بالسيف (¬3).
ويروى أنه روى في ذلك حديثا مرفوعا (¬4).
وهذه الآثار باتفاق علماء النقل في كتب أهل العلم.
مخ ۱۵
فاختلف هؤلاء: هل يستتاب؟ على قولين. وجمهورهم على أنه يكفر بالسحر. وقيل: يقتل به لأجل الفساد في الأرض، ثم [إذا] (¬1) كان في قوله أو علمه ما يكفر به قتل كافرا وإلا فلا. وقالت طائفة: إن قتل بالسحر قتل، وإلا عوقب بدون القتل إذا لم يكن /185ب مكرر/ في قوله وعلمه كفر؛ وهذا هو المنقول عن الشافعي، وهو قول في مذهب أحمد.
وقد تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه. كثيرون يقولون: إنه قد يؤثر في موت المسحور ومرضه من غير وصول شيء ظاهر إليه. وزعم بعضهم: أنه مجرد تخييل.
مخ ۱۶
واتفقوا كلهم على أن ما كان من جنس دعوة الكواكب السبعة أو غيرها، أو خطابها، والسجود لها، والتقرب إليها بما يناسبها من اللباس والخواتم والبخور ونحو ذلك = فإنه كفر، وهو من أعظم أبواب الشرك، وهو من جنس كفر قوم إبراهيم عليه السلام؛ كنمرود بن كنعان وأتباعه، ولهذا قال ما ذكره الله عنه بقوله: {فنظر نظرة في النجوم • فقال إني سقيم} [الصافات : 88، 89]، وقال تعالى: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين • فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين • فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون • إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين • وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون • وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون • الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 76 - 82].
وكان هؤلاء يتخذ كل واحد منهم له كوكبا يتقرب إليه بالدعاء، والبخور واللباس، والسجود، ويجعلون لكل كوكب ما يناسبه من المعاني والطلاسم؛ كالخطوط، والصور، ونحو ذلك. وكانوا يتخذونهم أربابا بهذا الاعتبار، ولم يكونوا يقولون: إن الكوكب المعين هو الذي خلق السموات والأرض. فإن هذا لم يقله أحد من بني آدم، لا من الأولين ولا من الآخرين.
والسحرة يقرون بالشرك، كما قال تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} [النساء: 51]؛ فالجبت: هو السحر، والطاغوت: ما يشرك به من دون الله سبحانه وتعالى.
مخ ۱۷
واتفقوا كلهم على أن كل رقية وتعزيم أو قسم فيه شرك فإنه لا يجوز التكلم به، وإن أطاعته به الجن أو غيرهم. وكذلك كل كلام فيه كفر فإنه لا يجوز التكلم به، وإن كان فيه نوع عوض للقائل. وكذلك الكلام الذي لا يعرف معناه لا يتكلم به؛ لإمكان أن يكون فيه شرك لا يعرف. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بأس بالرقى ما لم يكن شركا» (¬1).
وشياطين الإنس والجن قد يوافقون الإنسان على بعض /186أ/ أغراضه، إذا وافقهم على ما يهوونه من الشرك والفسوق؛ مثل الذي يقسم على النصراني بصليبه وسيدته وقديسه (¬2)، وعلى الهندي بيده، وعلى مشركي العرب باللات والعزى ونحو ذلك، فإنه قد يطيعه لعظم هذا القسم عنده. ولكن لا يحل لمن يؤمن بالله ورسوله أن يقسم بذلك.
ولهذا لم يكن أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا سلف الأمة وأئمتها يصنعون شيئا من هذا التعزيم ونحوه. ولهذا قال الإمام أبو عبد الله ابن بطة في «إبانته» المشهورة: «ومن البدع: النظر في كتب العزائم والعمل بها، وادعاء كلام الجن واستخدامهم وقتل بعضهم». فجعل هذا من البدع؛ لأنه لم يكن في السلف من يعمل هذا، لا من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة؛ لأنه قد استقر في دينهم أنهم لا يتكلمون إلا بكلام يعلمون معناه وجوازه، وفي هذه الأمور من الكلام ما لا يفهم معناه.
مخ ۱۸
وأيضا قد استقر في دينهم أنهم لا يتكلمون بشرك، لا للجن ولا لغيرهم، ولا يعوذون بجني -بل ولا ذلك لإنسي، بل ولا يدعون أحدا إلا الله- قال تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا} [الجن: 6]، قالوا: كان الإنسي إذا نزل بالوادي يقول: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهائه، فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح. {فزادوهم رهقا}؛ يعني زاد الإنس للجن باستعاذتهم، {فزادوهم رهقا}؛ أي إثما وطغيانا وجرأة وشرا (¬1)، وذلك أنهم قالوا: قد سدنا الجن والإنس. فالجن تتعاظم في أنفسها وتزداد كفرا إذا عاملتها الإنس بهذه المعاملة.
وقد قال تعالى: {ويوم نحشرهم (¬2) جميعا ثم نقول (¬3) للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون • قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} [سبأ: 40، 41]. فهؤلاء الذين يزعمون أنهم يدعون الملائكة، ويخاطبونهم بهذه العزائم، وأنها (¬4) تتنزل عليهم= ضالون؛ فإنما تتنزل عليهم الشياطين. كما أنها تتنزل عليهم إذا دعوا الكواكب - وهم يسمون ذلك: روحانية الكواكب، ويقولون: استنزل روحانية المشتري أو روحانية الزهرة. وإنما تتنزل عليهم شياطين.
مخ ۱۹
وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا • أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} [الإسراء: 56، 57]، قالوا: كان أقوام يدعون العزير والمسيح والملائكة، فأنزل الله هذه الآية (¬1).
فلما كان في دين سلف الأمة وأئمتها التوحيد المحض واتباع ما بعث الله به رسله، لم يكن معرفة تفصيل هذه الأمور من شأنهم ولا العمل بها؛ ولهذا كرهوها وإن لم يظهر فيها وجه الفساد؛ لخوفهم اشتمالها على الفساد. حتى اختلفوا في كفر من (¬2) يفعل ذلك.
فقال كثير من العلماء بكفر المعزمين وأنهم من جملة السحرة؛ وهذا قول القاضي أبي يعلى، وأبي /186ب/ الخطاب، وجدنا أبي البركات، وغيرهم (¬3)، قالوا: ومن تعلم السحر الذي يدعي به أن الجن تطيعه، وأنه يعزم عليها بطلسمات وأشياء يقولها، ويدخن بدخنة فتحضر وتفعل ما يأمرها، ويركب المكنسة لتطير به في الهواء، وأنه يخاطب الكواكب فتجيبه، وما أشبه ذلك، فإنه يكفر به. وهل تقبل توبته؟ على روايتين.
مخ ۲۰
ونازعهم أبو محمد المقدسي في كفر المعزم خاصة (¬4)، قال: السحر الذي ذكرنا حكمه هو الذي يعد في العرف سحرا؛ مثل فعل لبيد بن أعصم، ومثل سحر النجاشي لعمارة حتى هام مع الوحش، ومثل الساحرة التي صلبت على باب وعقدت خيوطا حتى طار بها الباب، ومثل عقد الرجل المتزوج حتى لا يطيق وطء امرأته. قال: فأما الذي يعزم على المصروع، ويزعم أنه يجمع الجن ويأمرها فتطيعه، فهذا لا يدخل في هذا الحكم ظاهرا، وذكره القاضي وأبو الخطاب من جملة السحرة. وذكر أبو محمد ما سيأتي من (¬1) رواية الأثرم عن أحمد في حل السحر، وكلام ابن سيرين، وابن المسيب، قال: وهذا من قولهم يدل على أن المعزم ونحوه لم يدخلوا في حكم السحر، ولأنهم لا يسمون به، وهو مما ينفع ولا يضر.
قلت: أما قوله: «إن السحر هو الذي يعد في العرف سحرا»، فليس كذلك. فإن مسمى السحر ليس هو من الأمور العامة التي يعتادها الناس، التي ترجع في حد الاسم إلى العرف -كما رجع إلى العرف في حد القبض والتصرف والبيع ونحو ذلك-؛ إذ أكثر الناس لا يعرفون أكثر أنواع السحر، بل قد يسمونها بأسماء تقتضي المدح والثناء لأصحابها مع ذمهم للسحر؛ تارة يسمون ذلك: سيمياء، وتارة: روحانيات، وتارة: استخدام الأرواح العلوية والسفلية، ويقولون: عطف ومحبة وتهييج ونحو ذلك، كالتفريق بين المرء وزوجه، وذلك من السحر بنص القرآن.
مخ ۲۱
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد» (¬2). فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يقتبس من النجوم من السحر، وأكثر العامة لا يسمون هذا سحرا. وسواء أراد به الاستدلال بالكواكب على الحوادث، أو أراد به التأثيرات والمخاطبات ونحوها، فإن هذين النوعين محرمان بإجماع المسلمين.
وكثير من الناس يظهر ذلك في صورة الكرامات التي تكون لأهل الإيمان والتقوى، ويظن بأصحابها الصلاح الذي يظن بأولياء الله المتقين، ولا يميز هؤلاء ما للسحرة ولأولياء الله. بل منهم من يشتبه ذلك عليه بمعجزات الأنبياء، ومنهم من يزعم أن معجزات الأنبياء من هذا الجنس، وأن موسى كان من أعظم السحرة، وقد أخبر الله عن الكفار أنهم جعلوا معجزات الأنبياء سحرا، كما في قوله: {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} [القمر: 2]، {وقالوا /187أ/ يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون} [الزخرف: 49].
مخ ۲۲
حتى قد صنف بعض المشهورين بالكلام كتابا في السحر والطلاسم وعمل الأصنام ودعوة الكواكب، وجعل ذلك من السر المكتوم، وذكر فيه ما يذكره أئمة السحرة؛ مثل طمطم الهندي، وتيكلوشا البابلي، وأبي معشر البلخي، وثابت بن قرة وأمثالهم، من عجائب السحر التي يزعمون أنها تصلح لعمل النواميس. وهؤلاء لهم من الجوع، والخلوة في السهر، واجتناب الدسم والنساء وغير ذلك، مما يجتهدون فيه أعظم من اجتهاد كثير من أهل الملل من المسلمين وأهل الكتاب، ولهم من خطاب الجن لهم وإخبارهم بالأمور بالصدق تارة وبالكذب تارة، وبمعاونتهم على بعض ما يريدونه، ما لا ينكره إلا من لا يعرفه. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، إذ هنا ذكر الحكم الشرعي فيما سئل عنه على سبيل الاختصار.
فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، والله لا ينهى عن منفعة راجحة، ولا يأذن في مفسدة راجحة؛ ولهذا من رخص من العلماء في شيء من الأشياء فإنما رخص فيه لاعتقاده أنه ينفع ولا يضر مضرة مقاومة للمنفعة، لا في الدين ولا في الدنيا.
وكثير ممن تكلم في هذا الباب لا يعرف حقائق ما في ذلك من الضرر، بل ينظر إلى نوع من حصول بعض الأغراض وزوال بعض الأمراض، وصاحب الغرض والحاجة قد لا يبالي ما حصل في ذلك من فساد الدين والدنيا، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها.
والله سبحانه لم يحوج عباده إلى ما نهاهم عنه، بل يجعل لهم في الطرق المباحة الشرعية ما يغنيهم عن الأمور المكروهة البدعية، فضلا عن المحرمة الكفرية.
فالمنحرفون في هذا الباب قسمان:
قسم يظنون وجود هذه الأمور بالكلية.
وقوم يظنون أنها جائزة في الدين.
مخ ۲۳
فالأولى هو معنى قول العلماء: إن السحر حق -كما قالوا: إن العين حق- أي هو موجود، لكن ذلك لا يبيحه، ولا يخرج الكافر عن أن يموت كافرا (¬1)؛ كما أن الأصنام كانت تخاطبهم منها الجن وتخبرهم بأشياء، وذلك لا يمنع أن يكون كفرا، ولولا ذلك وأمثاله ما عبدت الأصنام، فإن في عبادتها من الأسرار والأسباب ما يطول وصفه.
ومن المشهور الثابت بأرض المشرق والمغرب في أرض الشرك: أن الميت إذا مات يرونه قد جاء من الغد، فيرد ودائعه، ويقضي ديونه، ويجتمع بأهله ويحادثهم ويقوم عنهم، وهم شياطين يتمثلون في صور الموتى.
وكذلك الجني يلتبس المصروع حتى يزبد ويرغي، ويتكلم على لسانه بكلام ليس من كلام المصروع، تارة يفقه /187ب/ وتارة لا يفقه. وكذلك أهل العبادة الفاسدة من أهل الشرك وأهل البدع، إذا حضروا سماع المكاء والتصدية يدخل الشيطان في أحدهم، حتى يتكلم على لسانه بما لا يفقه، حتى يصعد يقعد في فوق زج الرماح والناس يرونه، وحتى يقعد في النار، ويحمي الحديد ويلصقها بالجلد. وقد ضربت مرة مصروعا -إما مائة عصى أو أكثر- ضربا شديدا على عنقه، والضرب واقع على الجني، والمصروع لا يحس (¬2) بذلك، ولما استفاق لم يكن بعنقه أثر أصلا.
مخ ۲۴
فالكلام في وجود هذه الأمور وحقائقها وأسبابها لون، والكلام في الحكم الشرعي فيها لون. فكيف يرجع إلى عرف العادة في مسمى السحر ومعناه، وكثير من الخائضين في العلم لا يعرفون كثيرا من ذلك؟!
ولهذا كان السلف يجزمون بتحريم ما ظهر تحريمه، وما أشبه أمره عليهم كرهوه ونهوا عنه ولم يجزموا فيه بشيء حتى يعرفوا حقيقته.
فنقل البرزاطي (¬1) عن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن رجل يزعم أنه يعالج المجنون -يعني المصروع- بالرقى والعزائم، ويزعم أنه يخاطب الجن ويكلمهم وفيهم من يخدمه، فترى أن يدفع إليه المجنون فيعالجه؟ فقال: ما أدري ما هذا! ما سمعت في هذا شيئا، ولا أحب لأحد أن يفعله.
مخ ۲۵
فهذا الذي سألوا عنه أحمد ليس فيه من الظاهر ما هو محرم، فإن نفع المسلم وإزالة الضرر عنه حسن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل» (¬2). وقال سعيد بن المسيب في الرجل يؤخذ عن المرأة فيلتمس من يداويه، فقال: إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع. (¬1) وقال أيضا: إن استطعت أن تنفع أخاك فافعل. (¬2)
لكن لما ذكروا قالوا له: إنه يزعم أنه يخاطب الجن ومنهم من يخدمه. كان هذا محتملا أن يكون مشروعا في دين الإسلام، واحتمل أن يكون فيه ما هو شرك وفساد، فقال أحمد: ما أدري ما هذا، وقال: لا أحب لأحد أن يفعله. فإنه من الشبهات التي من تركها فقد استبرأ لدينه وعرضه، وإن كان فيه منفعة، لكن قد تكون المضرة أكثر من نفعه.
وقال أبو محمد (¬3): أما من يحل السحر؛ فإن كان بشيء من القرآن، أو بشيء من الذكر والأقسام والكلام الذي لا بأس به، وإن كان بشيء من السحر فقد توقف أحمد عنه.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل يزعم أنه يحل السحر، فقال: قد رخص فيه بعض الناس. قيل لأبي عبد الله: إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه، ويعمل كذا؟ فنفض يده كالمنكر، وقال: ما أدري ما هذا! قيل له: فترى أن يؤتى مثل هذا لحل السحر، فقال: ما أدري ما هذا!
مخ ۲۶
وقد جعل بعضهم هذا رواية عن أحمد في «المقنع» (¬1) من حل السحر. قالوا: ونقل عنه /188أ/ مهنا صريحا أنه لا بأس بحل السحر عن المسحور، واختاره أبو بكر الخلال. ذكرها القاضي أبو يعلى في «كتاب الطب».
ولقائل أن يقول: ما كان من السحر فإنه لا يرخص فيه، وأما حله بما ليس بسحر ولا محرم فلا بأس به.
ونظير جواب أحمد: جواب ابن سيرين؛ فإنه سئل عن امرأة تعذبها السحرة، فقال رجل: خط خطا عليها، واغرز السكين عند (¬2) مجمع الخط، واقرأ القرآن، فقال محمد بن سيرين: ما أعلم بقراءة القرآن بأسا على حال من الأحوال، ولا (¬3) أدري ما الخط ولا السكين.
قلت: معالجة المصروع والمسحور ونحو ذلك يشبه الرقى ونحوها، وهذا الباب قد يرخص منها في الرقى الجائزة، وأما المجهولة أو التي فيها شرك فلا.
وكذلك ما فيه عدوان وظلم لإنسي أو جني؛ كقتل من لا يجوز قتله من إنسي أو جني، وإزالة عقله، ونحو ذلك، فإن هذا محرم الجنس.
وما ذكر في السؤال من أنه يتلو على الجن العزائم والأقسام، فما كان منها مجهول المعنى أو متضمنا للشرك أو غيره من المحرمات فإنه لا يجوز.
مخ ۲۷
وأما التبخير، فإنه هو في شريعة الإسلام من جنس الطيب، فيشرع حيث يشرع الطيب، لا يشرع للتقرب به إلى الكواكب، والجن، والتبخير للكواكب السبعة أو غيرها، أو الأرواح - التي يقال: إنها موكلة بها أو بآياتها!
ونقش الخواتيم لها، والنقش على الآنية، والمرايا، والخيوط، والمجهولين، والصور، ونحو ذلك، ما يسمى طلاسم، وجعل هذه الطلاسم تحت السماء والكواكب -وهو الذي يسمونه: التنجيم-، واستدعاء المطلوب من الملائكة أو الجن أو الكواكب= فهذا ونحوه حرام باتفاق المسلمين، بل هو من جنس الشرك بالله الذي بعث الله الأنبياء بالنهي عنه، بل هذا من أعظم أصول الشرك بالله وعبادة ما سواه.
فإن المشركين إنما كانوا يطلبون مما يشركون به جلب منفعة ودفع مضرة بمثل هذه الأمور، ومثل هذا لا يشتبه أمره على أحد من علماء المسلمين، ولهذا لم يختلف في ذلك أحد من العلماء. وإنما الذي اشتبه على بعضهم: التعزيم، الذي لم يظهر فيه منكر، وقد جعله من جعله من أكابر العلماء من السحر الذي يكفر صاحبه، ومن رخص في شيء من ذلك فإنما رخص فيما ينفع ولا يضر؛ كما صرح بذلك أبو محمد، فيقول: أما إذا قرئ على المصروع شيء من القرآن أو الذكر أو الدعاء المشروع حتى يبرأ، فهذا لا بأس به (¬1).
مخ ۲۸