وما يجب أن يعتمد عليه منها /ص94/ وأما الصحيح الذي يجب أن يعول عليه في هذه المسألة ويقال به: فإن الظاهر من لفظ الحديث من رواية اسرائيل، عن أبي اسحاق، أنه_صلى الله عليه وسلم_ كتب الكتاب (¬1)، إلا أنه حديث آحاد لا يوجب العلم. ومعجزات نبيينا_ عليه السلام_، ثابتة عند من لم يشاهدها، من طريق التواتر الموجب للعلم والقطع، دون أخبار الآحاد. والتواتر في ذلك على ضربين: تواتر من جهة اللفظ، وتواتر من جهة المعنى. فأما التواتر من جهة اللفظ: فمثل نقل القرآن على لفظه، ووجوه اعجازه الذي نقلته الأمة نقلا متواترا يوجب العلم، ويقطع العذر. وهو المعجز الباهر، والدليل الواضح. وأما التواتر من جهة المعنى، فنحو ما روي عنه أنه_ صلى الله عليه وسلم_: (كلمة الذراع) (¬2) /ص95/ وحن إليه الجذع (¬3) ونيع الماء بين أصابعة (¬1) وأطعم أهل الخندق (¬2) وهم عدد كثير من طعام يسير كان لجابر (¬3) بن عبد الله (¬4). /ص96/ وأطعم نحوالثمانين من أقراص أرسلها إليه أبو طلحة (¬5) وحطها اثنين تحت يده (¬1). /ص97/ ووضأ نحو الثمانين من الغمر (¬2) الصغير (¬3)، ووضع سهما من كنانته (¬4) في بئر الحديبية بعد أن نزحت فصدر الناس عنها بالري (¬5). /ص98/ وتوضأ من عيون تبوك، ثم رد فيها فجرت بماء كثير (¬6). واستقى أصحابه وهم عدد كثير من مزادة الهراة ثم صددوا عنها وهي تنض بالملء (¬7). وغير ذلك من معجزاته مما لا يحصى كثرة، مما رويت ونقلت بأخبار الآحاد، فلا يقع لنا العلم بمجموعها، بأنه قد/ عمل عملا خرق به العادة، وأظهر به المعجزة. ولا يتعين لنا ذلك الفعل بنفسه فنعلمه دون غيره. وبهذه الطريقة، عرفنا سخاء (¬8) حاتم (¬1)، وشجاعة علي (¬1) _رضي الله عنه_. /ص99/ لا روي عنه من طريق آحاد، أنه فعل كذا. وروي عنه من طريق أخرى: أنه فعل كذا يوم كذا. ووردت من ذلك أخبار كثيرة من طرق مختلفة، فوقع لنا العلم بمجموعها أنه عمل عملا يقتضي أن يوصف له بالسخاء، وان لم يقع لنا العلم بعين فعل من تلك الأفعال. فاذ قد تقرر هذا، فقد روي من طريق إسرائيل: أن النبي_ صلى الله عليه وسلم_، كتب يوم الحديبية وهو أمي لا يعرف الكتابة. (¬2).الا أنه وارد من جهة إسرائيل انفرد بذلك. وقد تكلم في سوء حفظه، وخالفه شعبه وغيره من الحفاظ. (¬3) فلم يرووا هذه الزيادة وهم أحفظ منه وأولى بالاعتماد عليهم، والأخذ بروايتهم. وقد روي أيضا من غير طريق أبي اسحاق، فلم ينقل أحد هذه الزيادة، كالزهري وغيره من الأئمة. (¬4). فكانت روايتهم أولى من رواية أبي اسحاق. ولو ثبت ذلك عنه، فكيف وقد قدمنا في منع ذلك ما فيه كفاية؟ وعلى كل حال، فهو مروي من طريق الآحاد الذي لا يقع العلم بمتضمنه، ولو لم يعترض عليه مما ذكرنا بوجه، لم يقع لنا العلم به، ولو وقع لنا العلم بما نقل الينا منه، وبما نقل الينا من سائر أخبار الآحاد، منقولة في سائر معجزاته التي ذكرنا بعضها قبل هذا، أنه قد فعل فعلا خرق به العادة وأظهر به المعجزة البينة، لم يقع لنا العلم بعين تلك المعجزة أهي أنه كتب يوم الحديبية أو غير ذلك؟ . (¬5) مما ذكرنا قبل هذا، أو جميعها.؟ /ص100/ وهذا قد اختلف شيوخنا في جنس العلم الواقع به: فمنهم من قال: أنه علم ضروري، ومنهم من قال: أنه علم نظري. فإذ لم يقع لنا العلم بصحة هذه الرواية، فالصواب: الرجوع إلى المعلوم من حاله_ صلى الله عليه وسلم_، والمشهور من صفاته في إمتناع الكتابة عليه.
مخ ۷۰