بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِاللَّهِ أَثِق وَعَلِيهِ أتوكل
وَالْحَمْد لله حمدا كثيرا دَائِما متواترا متواصلا مترادفا متكاثفا متظاهرا متظافرا حمد من اعْترف ببره وآلائه شاكرا وَسلم لقدره وقضائه صَابِرًا وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ إِلَهًا وَاحِدًا أَولا آخرا صمدا قيوما بَاطِنا ظَاهرا حَيا مرِيدا عَالما قَادِرًا سميعا بَصيرًا ناهيا وآمرا
وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله ابتعثه ليعمر من الدّين دائرا وينعش من الْحق عابرا وَيقطع من الْكفْر دابرا ويغيض من الضَّلَالَة بحرا زاخرا فَلم يزل ﷺ لحسام الْإِسْلَام شاهرا وبإعلان الْحق مجاهرا ولجهاد أهل العناد مصابرا وَعَن عبَادَة الْأَصْنَام والأوثان زاجرا حَتَّى عَاد ربع الدّين عَامِرًا
1 / 71
وأضاء فلك الْيَقِين دائرا وَرجع الْكفْر والضلال إِلَى الثَّبَات والحسار داحرا صلى الله عَلَيْهِ وَآله مَا انهل النوء السماكي ماطرا وحدى العيس حاديها واردا وصادرا وَبعد
فَهَذَا الْكتاب جمعته فِي تَهْذِيب الرياسة وترتيب السياسة وَجَعَلته قسمَيْنِ الْقسم الأول مِنْهُ يشْتَمل على أَنْوَاع أَبْوَاب يحتوي على غرر من كَلَام الْحُكَمَاء ودرر الفصحاء مَا ينسبك فِي قالب الْأَمْثَال الشاردة وينتظم فِي سلك الحكم الْوَارِدَة يتَضَمَّن محَاسِن الْأَوْصَاف المحمودة من ذَوي الْأَمر وذم أضدادها وَمَا يجب اسْتِعْمَاله أَو تَركه من الْأُمُور الَّتِي يحمد متبعها عَاقِبَة إصدارها وإيرادها
وَالْقسم الثَّانِي بحكايات من الْخُلَفَاء ووزرائهم وعمالهم وأمرائهم مِمَّا يدل على نبلهم وغزارة فَضلهمْ وَحسن سيرتهم وَكَمَال مروءتهم وَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ طرائقهم وحوتة خلائفهم من الْعدْل والإنصاف والبذل والإسعاف وَالْعَفو عِنْد الاقتدار وَمَعْرِفَة حُقُوق ذَوي الأقدار وَقبُول النصح
1 / 72
من الناصحين وَسَمَاع الموعظة من الصَّالِحين مَعَ مَا اتصفوا بِهِ من علم وأدب ووقار وحلم وفصاحة وبراعة وسماحة وشجاعة فَمن اتخذ ذَلِك إِمَامًا ارْتَفع وانتفع وَمن عمل بِمَا شاكله رشد وَحمد
وَقد ابتدأت ذَلِك بِذكر وجوب الْإِمَامَة وَعدم الِاسْتِغْنَاء عَن الْوُلَاة وَمَا يجب لَهُم على الكافة من الطَّاعَة والموالاة وَالله تَعَالَى الْمُوفق لانتظامه والتيامه والمعين على إِتْمَامه واختتامه
1 / 73
بَاب فِي ذكر وجوب الْإِمَامَة والاحتياج إِلَى السُّلْطَان وَعدم الِاسْتِغْنَاء عَنهُ فِي جَمِيع الْأَزْمَان
أَجمعت الْأمة قاطبة إِلَّا من لَا يعْتد بِخِلَافِهِ على وجوب نصب الإِمَام على الْإِطْلَاق وَإِن اخْتلفُوا فِي أَوْصَافه وشرائطه
1 / 74
فَأَقُول نظام أَمر الدّين وَالدُّنْيَا مَقْصُود وَلَا يحصل ذَلِك إِلَّا بِإِمَام مَوْجُود لَو نقل بِوُجُوب الْإِمَامَة لَأَدَّى ذَلِك إِلَى دوَام الِاخْتِلَاف والهرج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَو لم يكن للنَّاس ق ٢ إِمَام مُطَاع لانثلم شرف الْإِسْلَام وَضاع لَو لم يكن للْأمة إِمَام قاهر لتعطلت المحاريب والمناظر وانقطعت السبل للوارد والصادر لَو خلا عصر من إِمَام لتعطلت فِيهِ
1 / 94
الْأَحْكَام وضاعت الْأَيْتَام وَلم يحجّ الْبَيْت الْحَرَام لَوْلَا الْأَئِمَّة والقضاة والسلاطين والولاة لما نكحت الْأَيَامَى وَلَا كفلت الْيَتَامَى لَوْلَا السُّلْطَان لكَانَتْ النَّاس فوضى ولأكل بَعضهم بَعْضًا وَفِي الحَدِيث السُّلْطَان ظلّ الله فِي الأَرْض يأوي إِلَيْهِ كل مظلوم
وَقَالَ عُثْمَان ﵁ مَا يَزع الله بالسلطان أَكثر مِمَّا يَزع بِالْقُرْآنِ وَمعنى يَزع أَي يمْنَع ويكف ويردع وَقَالَ بعض القدماء الدّين وَالسُّلْطَان توأمان وَقيل الدّين أس وَالسُّلْطَان حارس فَمَا لَا أس لَهُ فمهدوم وَمَا لَا حارس لَهُ فضائع
1 / 95
وَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ إِمَام عَادل خير من مطر وابل وَأسد حطوم خير من سُلْطَان غشوم وسلطان غشوم خير من فتْنَة تدوم
وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار مثل الْإِسْلَام وَالسُّلْطَان مثل عَمُود وفسطاط فالفسطاط الْإِسْلَام والعمود السُّلْطَان والأوتاد النَّاس وَلَا يصلح بَعضهم إِلَّا بِبَعْض
وَقَالَ الأفوه الأودي
1 / 96
(لَا يصلح النَّاس فوضى لَا سراة لَهُم ... وَلَا سراة إِذا جهالهم سادوا)
(كالبيت لَا يبتنى إِلَّا لَهُ عمد ... وَلَا عَمُود إِذا لم ترسى أوتاد)
(فَإِن تجمع أوتاد وأعمدة ... وَسَاكن بلغُوا الْأَمر الَّذِي كَادُوا)
وَقَالَ ابْن المعتز فَسَاد الرّعية بِلَا ملك كفساد الْجِسْم بِلَا روح وَقَالَ بعض البلغاء السُّلْطَان زِمَام الْملَّة ونظام الْجُمْلَة وجلاء الْغُمَّة ورباط الْبَيْضَة وعماد الْحَوْزَة وَقَالَ آخر السُّلْطَان يدافع عَن سَواد الْأمة ببياض الدعْوَة
1 / 97
بَاب فِي ذكر الْوَالِي الْعَادِل وَمَاله من الْأجر والوالي الجائر وَمَا عَلَيْهِ من الْوزر
قَالَ رَسُول الله ﷺ سَبْعَة يظلهم الله ﷿ تَحت ظلّ عَرْشه يَوْم لَا ظلّ إِلَّا ظله إِمَام عَادل وشاب نَشأ فِي عبَادَة ربه وَرجل قلبه مُعَلّق فِي الْمَسَاجِد إِذا خرج مِنْهُ حَتَّى يعود إِلَيْهِ وَرجل ذكر الله خَالِيا فَفَاضَتْ عَيناهُ ورجلان تحابا فِي الله ﷿ اجْتمعَا على ذَلِك ثمَّ تفَرقا وَرجل دَعَتْهُ امْرَأَة ذَات حسن وجمال إِلَى نَفسهَا فَقَالَ إِنِّي أَخَاف الله ﷿ وَرجل تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه فَبَدَأَ رَسُول الله ﷺ بِالْإِمَامِ الْعَادِل وحقيق أَن يبْدَأ بِهِ لِأَنَّهُ من الْعَالم بِمَنْزِلَة السوَاد من الْعين بل بِمَنْزِلَة السويداء من الْقلب بل هُوَ بِمَنْزِلَة الْقلب من الْجَسَد فبصلاحه يصلح الْجَسَد وبفساده يفْسد
1 / 98
كَمَا قَالَ ﷺ إِن فِي الْجَسَد مُضْغَة إِذا صلحت صلح الْجَسَد كُله وَإِذا فَسدتْ فسد الْجَسَد كُله وَهِي الْقلب
وَقد تقدم قَول ابْن المعتز فَسَاد الرّعية بِلَا ملك كفساد الْجَسَد بِلَا روح وَإِنَّمَا كَانَ السُّلْطَان بِهَذِهِ المثابة لِأَنَّهُ فِي نَفسه إِمَام متبوع وَفِي سيرته دين مَشْرُوع فَإِن ظلم لم يعدل ق ٣ أحد فِي حكم وَإِن عدل لم يستجري أحد على ظلم
وَرُوِيَ أَن عمر بن الْخطاب ﵁ لما حمل إِلَيْهِ مَغَانِم الْعرَاق عِنْد افتتاحها وَمَا أصَاب من كنوز كسْرَى وَرَأى مَا فِيهَا من الْجَوَاهِر النفيسة جعل يتعجب مِنْهَا وَيَقُول إِن الَّذِي أدّى هَذَا لأمين فَقَالَ لَهُ
1 / 99
عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَنا أخْبرك بذلك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنْت أَمِين الله وهم أمناؤك فَمَا دمت مُؤديا للأمانة أدوها وَمَتى رتعت رتعوا
وَفِي بعض الْآثَار النَّاس على دين الْملك وَهَذَا معنى قَوْله ﷺ فِي كِتَابه إِلَى هِرقل عَظِيم الرّوم أسلم يؤتك الله أجرك مرَّتَيْنِ وَإِن أَبيت فَإِن عَلَيْك إِثْم الأريسيين والأريسيون الأكاريون قيل مَعْنَاهُ أَن الرّعية أَتبَاع للملوك فِي الْخَيْر وَالشَّر وَالْإِسْلَام وَالْكفْر فَمَتَى أَبيت قبُول الْإِسْلَام وَتَخَلَّفت عَنهُ وأقمت على الْكفْر كَانَ ذَلِك سَبَب تخلف رعيتك عَن الْإِسْلَام وتركهم الدُّخُول فِيهِ فَيكون عَلَيْك مثل إثمهم
وَهَذَا مثل قَوْله ﷺ من سنّ سنة حَسَنَة كَانَ لَهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمن سنّ سنة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ رَسُول الله ﷺ
1 / 100
من دَعَا إِلَى هدى كَانَ لَهُ من مثل أجر من تبعه لَا ينقص ذَلِك من أُجُورهم وَمن دَعَا إِلَى ضَلَالَة كَانَ عَلَيْهِ من الْإِثْم مثل آثام من تبعه لَا ينقص ذَلِك من آثامهم شَيْء
وَقَالَ ﷺ إِن أحب النَّاس إِلَى الله تَعَالَى وأقربهم مِنْهُ إِمَام عَادل وَإِن أبْغض النَّاس إِلَى اله تَعَالَى وأبعدهم مِنْهُ وأشدهم عذَابا إِمَام جَائِر
وَفِي حَدِيث آخر إِن أفضل عباد الله منزلَة يَوْم الْقِيَامَة إِمَام عَادل رَفِيق وَإِن أشر عباد الله منزلَة يَوْم الْقِيَامَة إِمَام جَائِر
وَقَالَ ﷺ الإِمَام جنَّة يُقَاتل من وَرَاءه ويتقى بِهِ فَإِن أَمر بتقوى الله وَعدل كَانَ لَهُ بذلك أجر وَإِن أَمر بِغَيْرِهِ كَانَ عَلَيْهِ وزر
1 / 101
وَقَالَ ﷺ ثَلَاثَة يبغضهم الله الإِمَام الجائر وَالشَّيْخ الزَّانِي وَالْفَقِير المختال وروت عَائِشَة ﵂ قَالَ سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول فِي بَيْتِي هَذَا اللَّهُمَّ من ولي من أَمر أمتِي شَيْئا فشق عَلَيْهِم فأشقق عَلَيْهِ وَمن ولي من أَمر أمتِي شَيْئا فرفق بهم فارفق بِهِ وَهَذَا عَام فِي كل وَال ولَايَته عَمت أَو خصت قلت أَو كثرت عظمت أَو صغرت
وَقَالَ ﷺ إِن المقسطين عِنْد الله على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الْعَرْش الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهليهم وَمَا ولوا
1 / 102
وَقَالَ ﷺ مَا من أَمِير عشره إِلَّا جِيءَ بِهِ يَوْم الْقِيَامَة مغلولة يَدَاهُ إِلَى عُنُقه حَتَّى يكون عمله هُوَ الَّذِي يُطلقهُ أَو يوبقه أَي يهلكه وَقَالَ ﵇ عدل سَاعَة فِي حُكُومَة خير من عبَادَة سنة وَقَالَ ﷺ الْعَامِل على الصَّدَقَة بِالْحَقِّ كالغازي فِي سَبِيل الله حَتَّى يرجع إِلَى بَيته وَعَن أبي ذَر رَحمَه الله تَعَالَى يَا رَسُول الله أَلا تَسْتَعْمِلنِي قَالَ فَضرب يَده على مَنْكِبي ثمَّ قَالَ يَا أَبَا ذَر إِنَّك ضَعِيف وَإِنَّهَا أَمَانَة وَإِنَّهَا يَوْم الْقِيَامَة حسرة وندامة وندامة إِلَّا من أَخذهَا بِحَقِّهَا وَأدّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَن النَّبِي ﷺ
1 / 103
قَالَ لَهُ يَا أَبَا ذَر إِنِّي أَرَاك ق ٤ ضَعِيفا وَإِنِّي أحب لَك مَا أحب لنَفْسي لَا تأمرن على اثْنَيْنِ وَلَا تولين على مَال يَتِيم
وَعَن الْمِقْدَام بن معدي كرب أَن رَسُول الله ﷺ ضرب على مَنْكِبه ثمَّ قَالَ أفلحت يَا مِقْدَام إِن لم تكن أَمِيرا وَلَا كَاتبا وَلَا عريفا
وَرُوِيَ أَن رجلا قَالَ لسول الله ﷺ إِن أبي شيخ كَبِير وَهُوَ عريف المَاء وَهُوَ يَسْأَلك أَن تجْعَل العرافة لي بعده قَالَ ﷺ إِن العرافة حق وَلَا بُد للنَّاس من العرفاء وَلَكِن العرفاء فِي النَّار
1 / 104
وَقَالَ ﷺ لَا يدْخل الْجنَّة صَاحب مكس
وَسَنذكر إِن شَاءَ الله فِيمَا بعد مَا ورد من أَلْفَاظ الْحُكَمَاء والبلغاء فِي مدح الْعدْل وذم الْجور فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله تَعَالَى
1 / 105
بَاب فِي ذكر مَا يجب على الرّعية للولاة من الطَّاعَة وَمَا يكره لَهُم من الْمعْصِيَة وَالْخُرُوج عَلَيْهِم ومفارقة الْجَمَاعَة
قَالَ الله تَعَالَى ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم﴾
1 / 106
وقرنها بِطَاعَتِهِ وَطَاعَة رَسُوله وَقد فسر ذَلِك أَكثر أهل الْعلم بِأَن
1 / 107
المُرَاد بأولي الْأَمر أُمَرَاء الْمُسلمين وروى ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس ﵄ وَزيد بن أسلم ﵁ وَهُوَ اخْتِيَار أَكثر الْعلمَاء
وَقَالَ ﷺ وَمن أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله وَمن عَصَانِي فقد عصى الله وَمن أطَاع الْأَمِير فقد أَطَاعَنِي وَمن عصى الْأَمِير فقد عَصَانِي
1 / 108
وَقَالَ ﷺ لَو اسْتعْمل عَلَيْكُم عبد حبشِي مجدع الْأَطْرَاف ويقودكم بِكِتَاب الله فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطيعُوا
وَعَن عبَادَة بن الصَّامِت قَالَ بَايعنَا رَسُول الله ﷺ على السّمع وَالطَّاعَة فِي منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة
1 / 109