فأما المحدثون، فاقتصروا على التفسير بالرواية عن السلف من الصحابة والتابعين فساروا وجدوا في السير حيث ما يسير بهم المأثور ووقفوا فيما لم يؤثر فيه شيء ولم يظهر المعنى ظهورا لا يحتاج إلى البحث أخذا بقوله تعالى: "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" الآية: آل عمران - 7 وقد أخطئوا في ذلك فإن الله سبحانه لم يبطل حجة العقل في كتابه، وكيف يعقل ذلك وحجيته إنما تثبت به! ولم يجعل حجية في أقوال الصحابة والتابعين وأنظارهم على اختلافها الفاحش، ولم يدع إلى السفسطة بتسليم المتناقضات والمتنافيات من الأقوال، ولم يندب إلا إلى التدبر في آياته، فرفع به أي اختلاف يتراءى منها، وجعله هدى ونورا وتبيانا لكل شيء، فما بال النور يستنير بنور غيره! وما شأن الهدى يهتدي بهداية سواه! وكيف يتبين ما هو تبيان كل شيء بشيء دون نفسه!.
وأما المتكلمون فقد دعاهم الأقوال المذهبية على اختلافها أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم بأخذ ما وافق وتأويل ما خالف على حسب ما يجوزه قول المذهب.
واختيار المذاهب الخاصة واتخاذ المسالك والآراء المخصوصة وإن كان معلولا لاختلاف الأنظار العلمية أو لشيء آخر كالتقاليد والعصبيات القومية، وليس هاهنا محل الاشتغال بذلك، إلا أن هذا الطريق من البحث أحرى به أن يسمى تطبيقا لا تفسيرا.
ففرق بين أن يقول الباحث عن معنى آية من الآيات: ما ذا يقول القرآن؟ أو يقول: ما ذا يجب أن نحمل عليه الآية؟ فإن القول الأول يوجب أن ينسى كل أمر نظري عند البحث، وأن يتكي على ما ليس بنظري، والثاني يوجب وضع النظريات في المسألة وتسليمها وبناء البحث عليها، ومن المعلوم أن هذا النحو من البحث في الكلام ليس بحثا عن معناه في نفسه.
وأما الفلاسفة، فقد عرض لهم ما عرض للمتكلمين من المفسرين من الوقوع في ورطة التطبيق وتأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلمات في فنون الفلسفة بالمعنى الأعم أعني: الرياضيات والطبيعيات والإلهيات والحكمة العملية، وخاصة المشائين، وقد تأولوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة وآيات الخلقة وحدوث السماوات والأرض وآيات البرزخ وآيات المعاد، حتى أنهم ارتكبوا التأويل في الآيات التي لا تلائم الفرضيات والأصول الموضوعة التي نجدها في العلم الطبيعي: من نظام الأفلاك الكلية والجزئية وترتيب العناصر والأحكام الفلكية والعنصرية إلى غير ذلك، مع أنهم نصوا على أن هذه الأنظار مبتنية على أصول موضوعة لا بينة ولا مبينة.
وأما المتصوفة، فإنهم لاشتغالهم بالسير في باطن الخلقة واعتنائهم بشأن الآيات الأنفسية دون عالم الظاهر وآياته الآفاقية اقتصروا في بحثهم على التأويل، ورفضوا التنزيل، فاستلزم ذلك اجتراء الناس على التأويل، وتلفيق جمل شعرية والاستدلال من كل شيء على كل شيء، حتى آل الأمر إلى تفسير الآيات بحساب الجمل ورد الكلمات إلى الزبر والبينات والحروف النورانية والظلمانية إلى غير ذلك.
ومن الواضح أن القرآن لم ينزل هدى للمتصوفة خاصة، ولا أن المخاطبين به هم أصحاب علم الأعداد والأوفاق والحروف، ولا أن معارفه مبنية على أساس حساب الجمل الذي وضعه أهل التنجيم بعد نقل النجوم من اليونانية وغيرها إلى العربية.
نعم قد وردت روايات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) كقولهم: إن للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن أو إلى سبعين بطنا الحديث.
لكنهم (عليهم السلام) اعتبروا الظهر كما اعتبروا البطن، واعتنوا بأمر التنزيل كما اعتنوا بشأن التأويل، وسنبين في أوائل سورة آل عمران إن شاء الله: أن التأويل الذي يراد به المعنى المقصود الذي يخالف ظاهر الكلام من اللغات المستحدثة في لسان المسلمين بعد نزول القرآن وانتشار الإسلام، وأن الذي يريده القرآن من لفظ التأويل فيما ورد فيه من الآيات ليس من قبيل المعنى والمفهوم.
مخ ۳