تفسير میزان
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
ژانرونه
ثم البحث البالغ يوصلنا أيضا إلى هذه النتيجة، فإن إدراكاتنا التصديقية تحلل إلى قضية أول الأوائل وهي أن الإيجاب والسلب لا يجتمعان معا ولا يرتفعان معا فما من قضية بديهية أو نظرية إلا وهي محتاجة في تمام تصديقها إلى هذه القضية البديهية الأولية، حتى إنا لو فرضنا من أنفسنا الشك فيها وجدنا الشك المفروض لا يجامع بطلان نفسه وهو مفروض، وإذا ثبتت هذه القضية على بداهتها ثبت جم غفير من التصديقات العلمية على حسب مساس الحاجة إلى إثباتها، وعليها معول الإنسان في أنظاره وأعماله.
فما من موقف علمي ولا واقعة عملية إلا ومعول الإنسان فيه على العلم، حتى أنه إنما يشخص شكه بعلمه أنه شك، وكذا ظنه أو وهمه أو جهله بما يعلم أنه ظن أو وهم أو جهل هذا.
ولقد نشأ في عصر اليونانيين جماعة كانوا يسمون بالسوفسطائيين نفوا وجود العلم، وكانوا يبدون في كل شيء الشك حتى في أنفسهم وفي شكهم، وتبعهم آخرون يسمون بالشكاكين قريبو المسلك منهم نفوا وجود العلم عن الخارج عن أنفسهم وأفكارهم إدراكاتهم وربما لفقوا لذلك وجوها من الاستدلال.
منها: أن أقوى العلوم والإدراكات وهي الحاصلة لنا من طرق الحواس مملوءة خطأ وغلطا فكيف بغيرها؟ ومع هذا الوصف كيف يمكن الاعتماد على شيء من العلوم والتصديقات المتعلقة بالخارج منا؟ ومنها: أنا كلما قصدنا نيل شيء من الأشياء الخارجية لم ننل عند ذلك إلا العلم به دون نفسه فكيف يمكن النيل لشيء من الأشياء؟ إلى غير ذلك من الوجوه.
والجواب عن الأول: أن هذا الاستدلال يبطل نفسه، فلو لم يجز الاعتماد على شيء من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدمات المأخوذة في نفس الاستدلال، مضافا إلى أن الاعتراف بوجود الخطإ وكثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو يزيد عليه، مضافا إلى أن القائل بوجود العلم لا يدعي صحة كل تصديق بل إنما يدعيه في الجملة، وبعبارة أخرى يدعي الإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي والحجة لا تفي بنفي ذلك.
والجواب عن الثاني: أن محل النزاع وهو العلم حقيقته الكشف عن ما وراءه فإذا فرضنا أنا كلما قصدنا شيئا من الأشياء الخارجية وجدنا العلم بذلك اعترفنا بأنا كشفنا عنه حينئذ، ونحن إنما ندعي وجود هذا الكشف في الجملة ، ولم يدع أحد في باب وجود العلم: أنا نجد نفس الواقع وننال عين الخارج دون كشفه، وهؤلاء محجوجون بما تعترف به نفوسهم اعترافا اضطراريا في أفعال الحياة الاختيارية وغيرها، فإنهم يتحركون إلى الغذاء والماء عند إحساس ألم الجوع والعطش، وكذا إلى كل مطلوب عند طلبه لا عند تصوره الخالي، ويهربون عن كل محذور مهروب عنه عند العلم بوجوده لا عند مجرد تصوره، وبالجملة كل حاجة نفسانية ألهمتها إليهم إحساساتهم أوجدوا حركة خارجية لرفعها ولكنهم عند تصور تلك الحاجة من غير حاجة الطبيعة إليها لا يتحركون نحو رفعها، وبين التصورين فرق لا محالة، وهو أن أحد العلمين يوجده الإنسان باختياره ومن عند نفسه والآخر إنما يوجد في الإنسان بإيجاد أمر خارج عنه مؤثر فيه، وهو الذي يكشف عنه العلم، فإذن العلم موجود وذلك ما أردناه.
واعلم: أن في وجود العلم شكا قويا من وجه آخر وهو الذي وضع عليه أساس العلوم المادية اليوم من نفي العلم الثابت وكل علم ثابت، بيانه: أن البحث العلمي يثبت في عالم الطبيعة نظام التحول والتكامل، فكل جزء من أجزاء عالم الطبيعة واقع في مسير الحركة ومتوجه إلى الكمال، فما من شيء إلا وهو في الآن الثاني من وجوده غيره وهو في الآن الأول من وجوده، ولا شك أن الفكر والإدراك من خواص الدماغ فهي خاصة مادية لمركب مادي، فهي لا محالة واقعة تحت قانون التحول والتكامل، فهذه الإدراكات ومنها الإدراك المسمى بالعلم واقعة في التغير والتحول فلا معنى لوجود علم ثابت باق وإنما هو نسبي، فبعض التصديقات أدوم بقاء وأطول عمرا أو أخفى نقيضا ونقضا من بعض آخر وهو المسمى بالعلم فيما وجد.
والجواب عنه: أن الحجة مبنية على كون العلم ماديا غير مجرد في وجوده وليس ذلك بينا ولا مبينا بل الحق أن العلم ليس بمادي البتة، وذلك لعدم انطباق صفات المادة وخواصها عليه.
1 فإن الماديات مشتركة في قبول الانقسام وليس يقبل العلم بما أنه علم الانقسام البتة.
مخ ۲۵