232

تفسير میزان

تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي

ژانرونه

تفسیر

ثم إن البراهين العقلية التي أقامها الإلهيون من الحكماء الباحثين أقاموها بعد إثبات عموم العلية وبنوا فيها على وجوب انتهاء العلل الممكنة إلى علة واجبة الوجود، واستمروا على هذا المسلك من البحث منذ ألوف من السنين من أقدم عهود الفلسفة إلى يومنا هذا، ولم يرتابوا في استناد المعلولات التي معها عللها الطبيعية الممكنة إلى علة واجبة، فليس استنادهم إلى العلة الواجبة لأجل الجهل بالعلة الطبيعية، وفي المعلولات المجهولة العلل كما يتوهمه هؤلاء، وهذا ثانيا.

ثم إن القرآن المثبت لتوحيد الإله إنما يثبته مع تقرير جريان قانون العلية العام بين أجزاء العالم، وتسليم استناد كل حادث إلى علة خاصة به، وتصديق ما يحكم به العقل السليم في ذلك، فإنه يسند الأفعال الطبيعية إلى موضوعاتها وفواعلها الطبيعية وينسب إلى الإنسان أفعاله الاختيارية في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها، ثم ينسب الجميع إلى الله سبحانه من غير استثناء، قال تعالى: "الله خالق كل شيء": الزمر - 62، وقال تعالى: "ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو": المؤمن - 62، وقال تعالى: "ألا له الخلق والأمر": الأعراف - 54، وقال تعالى: "له ما في السموات وما في الأرض": طه - 5، فكل ما صدق عليه اسم شيء فهو مخلوق لله منسوب إليه على ما يليق بساحة قدسه وكماله، وقد جمع في آيات أخر بين الإثباتين جميعا فنسب الفعل إلى فاعله وإلى الله سبحانه معا كقوله تعالى: "والله خلقكم وما تعملون": الصافات - 96، فنسب أعمال الناس إليهم ونسب خلق أنفسهم وأعمالهم إليه تعالى، وقال تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى": الأنفال - 17، فنسب الرمي إلى رسول الله ونفاه عنه ونسبه إلى الله تعالى إلى غير ذلك.

ومن هذا الباب آيات أخر تجمع بين الإثباتين بطريق عام كقوله تعالى: "وخلق كل شيء فقدره تقديرا": الفرقان - 2، وقال تعالى: "إنا كل شيء خلقناه بقدر - إلى أن قال - وكل صغير وكبير مستطر": القمر - 53، وقال تعالى: "قد جعل الله لكل شيء قدرا": الطلاق - 3، وقال تعالى: "وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر - 21، فإن تقدير كل شيء هو جعله محدودا بحدود العلل المادية والشرائط الزمانية والمكانية.

وبالجملة فكون إثبات وجود الإله الواحد في القرآن على أساس إثبات العلية والمعلولية بين جميع أجزاء العالم، ثم استناد الجميع إلى الإله الفاطر الصانع للكل مما لا يعتريه شك ولا ريب لا كما يزعمه هؤلاء من إسناد البعض إلى الله وإسناد الآخر إلى علله المادية المعلومة، وهذا ثالثا.

نعم حملهم على هذا الزعم ما تلقوه: من جمع من أرباب النحل الباحثين عن هذه المسألة وأمثالها في فلسفة عامية كانت تنشرها الكنيسة في القرون الوسطى.

أو يعتمد عليها الضعفاء من متكلمي الأديان الأخرى وكانت مؤلفه من مسائل محرفة ما هي بالمسائل، واحتجاجات واستدلالات واهية فاقدة لاستقامة النظر، فهؤلاء لما أرادوا بيان دعواهم الحق الذي يقضي بصحته إجمالا عقولهم ونقله من الإجمال إلى التفصيل دفعهم ضعف التعقل والفكر إلى غير الطريق فعمموا الدعوى، وتوسعوا في الدليل، فحكموا باستناد كل معلول مجهول العلة إلى الله سبحانه من غير واسطة، ونفوا حاجة الأفعال الاختيارية إلى علة موجبة، أو احتياج الإنسان في صدور فعله الاختياري إلى الإله تعالى، واستقلاله في فعله، وقد مر البحث عن قولهم في الكلام على قوله تعالى: "وما يضل به إلا الفاسقين": البقرة - 26، ونورد هاهنا بعض ما فيه من الكلام.

وطائفة منهم - وهم بعض المحدثين والمتكلمين من ظاهريي المسلمين وجمع من غيرهم - لم يقدروا أن يتعقلوا معنى صحيحا لإسناد أفعال الإنسان الاختيارية إلى الله سبحانه على ما يليق بالمقام الربوبي فنفوا استناد مصنوعات الإنسان إليه سبحانه، وبالخصوص فيما وضعه للمعصية خاصة كالخمر وآلات اللهو والقمار وغير ذلك، وقد قال تعالى: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه": المائدة - 90.

ومعلوم أن ما عده الله سبحانه عملا للشيطان لا يجوز أن ينسب إليه.

مخ ۲۳۳