203

تفسير میزان

تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي

ژانرونه

تفسیر

وهناك آيات تكشف عن كيفية هذا التعلق، فقد قال تعالى: "منها خلقناكم": طه - 55، وقال تعالى: "خلق الإنسان من صلصال كالفخار": الرحمن - 14 وقال تعالى "وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين": السجدة - 8، ثم قال: سبحانه وتعالى "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين": المؤمنون - 14، فأفاد أن الإنسان لم يكن إلا جسما طبيعيا يتوارد عليه صور مختلفة متبدلة، ثم أنشأ الله هذا الذي هو جسم جامد خامد خلقا آخر ذا شعور وإرادة، يفعل أفعالا: من الشعور والإرادة والفكر والتصرف في الأكوان، والتدبير في أمور العالم بالنقل والتبديل والتحويل إلى غير ذلك مما لا يصدر عن الأجسام والجسمانيات، فلا هي جسمانية، ولا موضوعها الفاعل لها.

فالنفس بالنسبة إلى الجسم الذي ينتهي أمره إلى إنشائها - وهو البدن الذي تنشأ منه النفس - بمنزلة الثمرة من الشجرة والضوء من الدهن بوجه بعيد، وبهذا يتضح كيفية تعلقها بالبدن ابتداعا، ثم بالموت تنقطع العلقة، وتبطل المسكة، فهي في أول وجودها عين البدن، ثم تمتاز بالإنشاء منه، ثم تستقل عنه بالكلية فهذا ما تفيده الآيات الشريفة المذكورة بظهورها: وهناك آيات كثيرة تفيد هذه الحقيقة بالإيماء والتلويح، يعثر عليها المتدبر البصير، والله الهادي.

قوله تعالى: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، لما أمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلاة، ونهاهم عن القول بموت من يقتل منهم في سبيل الله بل هم أحياء بين لهم السبب الذي من أجله خاطبهم بما خاطب، وهو أنهم سيبتلون بما لا يتمهد لهم المعالي ولا يصفو لهم الأمر في الحياة الشريفة، والدين الحنيف إلا به، وهو الحرب والقتال، لا يدور رحى النصر والظفر على مرادهم إلا أن يتحصنوا بهذين الحصنين ويتأيدوا بهاتين القوتين، وهما الصبر والظفر، ويضيفوا إلى ذلك ثالثا وهو خصلة ما حفظها قوم إلا ظفروا بأقصى مرادهم وحازوا الغاية القصوى من كمالهم، واشتد بأسهم وطابت نفسهم، وهو الإيمان بأن القتيل منهم غير ميت ولا فقيد، وأن سعيهم بالمال والنفس غير ضائع ولا باطل، فإن قتلوا عدوهم فهم على الحياة، وقد أبادوا عدوهم وما كان يريده من حكومة الجور والباطل عليهم - وإن قتلهم عدوهم فهم على الحياة - ولم يتحكم الجور والباطل عليهم، فلهم إحدى الحسنيين على أي حال.

وعامة الشدائد التي يأتي بها هو الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس فذكرها الله تعالى، وأما الثمرات فالظاهر أنها الأولاد، فإن تأثير الحرب في قلة النسل بموت الرجال والشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الأشجار، وربما قيل: إن المراد ثمرات النخيل، وهي التمر والمراد بالأموال غيرها وهي الدواب من الإبل والغنم.

قوله تعالى: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، أعاد ذكر الصابرين ليبشرهم أولا، ويبين كيفية الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل ثانيا، ويظهر به حق الأمر الذي يقضي بوجوب الصبر - وهو ملكه تعالى للإنسان - ثالثا، ويبين جزاءه العام - وهو الصلاة والرحمة والاهتداء - رابعا فأمر تعالى نبيه أولا بتبشيرهم، ولم يذكر متعلق البشارة لتفخيم أمره فإنها من الله سبحانه فلا تكون إلا خيرا وجميلا، وقد ضمنها رب العزة، ثم بين أن الصابرين هم الذين يقولون: كذا وكذا عند إصابة المصيبة، وهي الواقعة التي تصيب الإنسان، ولا يستعمل لفظ المصيبة إلا في النازلة المكروهة، ومن المعلوم أن ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال، ولا مجرد الإخطار من غير تحقق بحقيقة معناها، وهي أن الإنسان مملوك لله بحقيقة الملك، وأن مرجعه إلى الله سبحانه وبه يتحقق أحسن الصبر الذي يقطع منابت الجزع والأسف، ويغسل رين الغفلة.

مخ ۲۰۴