تفسير میزان
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
ژانرونه
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصابرين الآية، قد تقدم جملة من الكلام في الصبر والصلاة في تفسير قوله: "واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين": البقرة - 45 والصبر من أعظم الملكات والأحوال التي يمدحها القرآن، ويكرر الأمر به حتى بلغ قريبا من سبعين موضعا من القرآن حتى قيل فيه: "إن ذلك من عزم الأمور": لقمان - 17، وقيل: "وما يلقيها إلا الذين صبروا وما يلقيها إلا ذو حظ عظيم": فصلت - 35، وقيل: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب": الزمر - 10.
والصلاة: من أعظم العبادات التي يحث عليها في القرآن حتى قيل فيها: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر": العنكبوت - 45، وما أوصى الله في كتابه بوصايا إلا كانت الصلاة رأسها وأولها.
ثم وصف سبحانه الصبر بأن الله مع الصابرين المتصفين بالصبر، وإنما لم يصف الصلاة، كما في قوله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة الآية، لأن المقام في هذه الآيات، مقام ملاقات الأهوال، ومقارعة الأبطال، فالاهتمام بأمر الصبر أنسب بخلاف الآية السابقة، فلذلك قيل: إن الله مع الصابرين، وهذه المعية غير المعية التي يدل عليه قوله تعالى: "وهو معكم أينما كنتم": الحديد - 4، فإنها معية الإحاطة والقيمومة، بخلاف المعية مع الصابرين، فإنها معية إعانة فالصبر مفتاح الفرج.
قوله تعالى: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون الآية، ربما يقال: إن الخطاب مع المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر وأذعنوا بالحياة الآخرة، ولا يتصور منهم القول ببطلان الإنسان بالموت، بعد ما أجابوا دعوة الحق وسمعوا شيئا كثيرا من الآيات الناطقة بالمعاد، مضافا إلى أن الآية إنما تثبت الحياة بعد الموت في جماعة مخصوصين، وهم الشهداء المقتولون في سبيل الله، في مقابل غيرهم من المؤمنين، وجميع الكفار، مع أن حكم الحياة بعد الموت عام شامل للجميع فالمراد بالحياة بقاء الاسم، والذكر الجميل على مر الدهور، وبذلك فسره جمع من المفسرين.
ويرده أولا: أن كون هذه حياة إنما هو في الوهم فقط دون الخارج، فهي حياة تخيلية ليس لها في الحقيقة إلا الاسم، ومثل هذا الموضوع الوهمي لا يليق بكلامه، وهو تعالى يدعو إلى، الحق ويقول: "فما ذا بعد الحق إلا الضلال": يونس - 32، وأما الذي سأله إبراهيم في قوله "واجعل لي لسان صدق في الآخرين": الشعراء - 84، فإنما يريد به بقاء دعوته الحقة، ولسانه الصادق بعده، لا حسن ثنائه وجميل ذكره بعده فحسب.
نعم هذا القول الباطل، والوهم الكاذب إنما يليق بحال الماديين، وأصحاب الطبيعة، فإنهم اعتقدوا: مادية النفوس وبطلانها بالموت ونفوا الحياة الآخرة ثم أحسوا باحتياج الإنسان بالفطرة إلى القول ببقاء النفوس وتأثرها بالسعادة والشقاء، بعد موتها في معالي أمور، لا تخلو في الارتقاء إليها من التفدية والتضحية، لا سيما في عظائم العزائم التي يموت ويقتل فيها أقوام ليحيا ويعيش آخرون، ولو كان كل من مات فقد فات لم يكن داع للإنسان وخاصة إذا اعتقد بالموت والفوت أن يبطل ذاته ليبقى ذات آخرين، ولا باعث له أن يحرم على نفسه لذة الاستمتاع من جميع ما يقدر عليه بالجور ليتمتع آخرون بالعدل، فالعاقل لا يعطي شيئا إلا ويأخذ بدله وأما الإعطاء من غير بدل، والترك من غير أخذ، كالموت في سبيل حياة الغير، والحرمان في طريق تمتع الغير فالفطرة الإنسانية تأباه، فلما استشعروا بذلك دعاهم جبر هذا النقص إلى وضع هذه الأوهام الكاذبة، التي ليس لها موطن إلا عرصة الخيال وحظيرة الوهم، قالوا إن الإنسان الحر من رق الأوهام والخرافات يجب عليه أن يفدي بنفسه وطنه، أو كل ما فيه شرفه، لينال الحياة الدائمة بحسن الذكر وجميل الثناء، ويجب عليه أن يحرم على نفسه بعض تمتعاته في الاجتماع ليناله الآخرون، ليستقيم أمر الاجتماع والحضارة، ويتم العدل الاجتماعي فينال بذلك حياة الشرف والعلاء.
وليت شعري إذا لم يكن إنسان، وبطل هذا التركيب المادي، وبطل بذلك جميع خواصه، ومن جملتها الحياة والشعور، فمن هو الذي ينال هذه الحياة وهذا الشرف؟ ومن الذي يدركه ويلتذ به؟ فهل هذا إلا خرافة؟.
مخ ۲۰۰