186

تفسير میزان

تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي

ژانرونه

تفسیر

على أن هذه الشهادة المذكورة في الآية، حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه، واللائح من موارد ذكرها معنى غير هذا المعنى، قال تعالى "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا": النساء - 41، وقال تعالى "ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون": النحل - 84 "وقال تعالى ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء": الزمر - 69، والشهادة فيها مطلقة، وظاهر الجميع على إطلاقها هو الشهادة على أعمال الأمم، وعلى تبليغ الرسل أيضا، كما يومىء إليه قوله تعالى "ولنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين": الأعراف - 6، وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة يوم القيامة لكن تحملها في الدنيا على ما يعطيه قوله تعالى - حكاية عن عيسى (عليه السلام) - "وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد": المائدة - 117 وقوله تعالى "ويوم القيمة يكون عليهم شهيدا": النساء - 159، ومن الواضح أن هذه الحواس العادية التي فينا، والقوى المتعلقة بها منا لا تتحمل إلا صور الأفعال والأعمال فقط، وذلك التحمل أيضا إنما يكون في شيء يكون موجودا حاضرا عند الحس لا معدوما ولا غائبا عنه وأما حقائق الأعمال والمعاني النفسانية من الكفر والإيمان والفوز والخسران، وبالجملة كل خفي عن الحس ومستبطن عند الإنسان - وهي التي تكسب القلوب، وعليه يدور حساب رب العالمين يوم تبلى السرائر كما قال تعالى "ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم": البقرة - 225 فهي مما ليس في وسع الإنسان إحصاؤها والإحاطة بها وتشخيصها من الحاضرين فضلا عن الغائبين إلا رجل يتولى الله أمره ويكشف ذلك له بيده، ويمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى "ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون": الزخرف - 86، فإن عيسى داخل في المستثنى في هذه الآية قطعا - وقد شهد الله تعالى في حقه بأنه من الشهداء - كما مر في الآيتين السابقتين، فهو شهيد بالحق وعالم بالحقيقة.

والحاصل أن هذه الشهادة ليست هي كون الأمة على دين جامع للكمال الجسماني والروحاني فإن ذلك على أنه ليس معنى الشهادة خلاف ظاهر الآيات الشريفة.

بل هي تحمل حقائق أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء ورد وقبول، وانقياد وتمرد، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد الله من كل شيء، حتى من أعضاء الإنسان، يوم يقول الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.

ومن المعلوم أن هذه الكرامة ليست تنالها جميع الأمة، إذ ليست إلا كرامة خاصة للأولياء الطاهرين منهم، وأما من دونهم من المتوسطين في السعادة، والعدول من أهل الإيمان فليس لهم ذلك، فضلا عن الأجلاف الجافية، والفراعنة الطاغية من الأمة، وستعرف في قوله تعالى "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا": النساء - 69، إن أقل ما يتصف به الشهداء - وهم شهداء الأعمال - أنهم تحت ولاية الله ونعمته وأصحاب الصراط المستقيم، وقد مر إجمالا في قوله تعالى "صراط الذين أنعمت عليهم": فاتحة الكتاب - 7.

فالمراد بكون الأمة شهيدة أن هذه الشهادة فيهم، كما أن المراد بكون بني إسرائيل فضلوا على العالمين، أن هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف به كل واحد منهم، بل نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه ومنه، فكون الأمة شهيدة هو أن فيهم من يشهد على الناس ويشهد الرسول عليهم.

فإن قلت: قوله تعالى "والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم": الحديد - 19، يدل على كون عامة المؤمنين شهداء.

قلت: قوله عند ربهم، يدل على أنه تعالى سيلحقهم بالشهداء يوم القيامة، ولم ينالوه في الدنيا، نظير ذلك قوله تعالى "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم": الطور - 21، على أن الآية مطلقة تدل على كون جميع المؤمنين من جميع الأمم شهداء عند الله من غير اختصاص بهذه الأمة فلا ينفع المستدل شيئا.

مخ ۱۸۷