مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله الذي أكرمنا بكتابه الكريم، ومن علينا بالسبع المثاني (1) والقرآن العظيم، وما ضمنه من الآيات والذكر الحكيم، فهو النور الساطع برهانه، والفرقان الصادع (2) تبيانه، والمعجز الباقي على مر الدهور، والحجة الثابتة سجيس (3) العصور، يهدي إلى صالح القول والعمل، ويثبت من الميل والزلل، لا تمجه (4) الأسماع، ولا تمله الطباع، معدن كل علم ومنبع كل حكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، نزل به الروح الأمين على خاتم النبيين ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
ثم الصلاة والسلام على الرسول الأمين والنبي المكين، محمد خير البشر، وسيد البشر (5)، وأكرم النذر، المنتجب من أشرف المناصب، المنتخب من أعلى
مخ ۴۷
المناسب، الذي سما بسمو انتسابه اسم عدنان (1) ومضر (2)، وبعلو قدره علا كعب كعب وكبر (3)، وبنضرة جاهه وجه النضر نضر (4)، وبرفعة أمره استمر أمر مرة وأمر، فأسرته خير الأسر، وشجرته أكرم الشجر، وعترته أفضل العتر، صلى الله عليه وعلى أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
أما بعد، فإني لما فرغت من كتابي الكبير في التفسير الموسوم ب " مجمع البيان لعلوم القرآن "، ثم عثرت من بعد بالكتاب الكشاف لحقائق التنزيل لجار الله (5)
مخ ۴۸
العلامة، واستخلصت (1) من بدائع معانيه وروائع ألفاظه ومبانيه مالا يلفى مثله في كتاب مجتمع الأطراف، ورأيت أن أسمه وأسميه بالكاف الشاف، فخرج الكتابان إلى الوجود، وقد ملكا أزمة القلوب، إذ أحرزا من فنون العلم غاية المطلوب، وجادت جدواهما، وتراءت ناراهما، وبعد في استجماع جواهر الألفاظ وزواهر المعاني مداهما، فسارا (2) في الأمصار مسير الأمثال، وسريا في الأقطار مسرى الخيال، اقترح علي من حل مني محل السواد من البصر والسويداء من الفؤاد، ولدي أبو نصر الحسن - أحسن الله نصره وأرشد أمري وأمره - أن أجرد من الكتابين كتابا ثالثا يكون مجمع بينهما ومحجر (3) عينهما، يأخذ بأطرافهما ويتصف بأوصافهما، ويزيد بأبكار الطرائف وبواكير (4) اللطائف عليهما، فيتحقق ما قيل: إن الثالث خير، فإن الكتب الكبار قد يشق على الشادي (5) حملها ويثقل على الناقل نقلها، فأكثر أبناء الزمان تقصر هممهم عن احتمال أعباء (6) العلوم الثقيلة والإجراء في حلباته (7) المديدة الطويلة، فاستعفيته من ذلك مرة بعد أخرى لما كنت أجده في نفسي من ضعف المنة (8) ووهن القوة، فلقد ذرفت (9) على السبعين سنيا، وبلغت من الكبر عتيا، وصرت كالحنية حنيا (10)، واشتعل الرأس
مخ ۴۹
شيبا، وقاربت شمس العمر مغيبا، فأبى إلا المراجعة فيه، والعود والاستشفاع بمن لم أستجز (1) له الرد فلم أجد بدا من صرف وجه الهمة إليه والإقبال بكل العزيمة عليه، وهممت أن أضع يدي فيه، ثم استخرت الله تعالى وتقدس في الابتداء منه بمجموع مجمع جامع للكلم الجوامع، أسميه كتاب " جوامع الجامع "، ولا شك أنه اسم وفق للمسمى ولفظ طبق للمعنى، وأرجو أن يكون بتوفيق الله وعونه وفيض فضله ومنه كتابا وسيطا خفيف الحجم، كثير الغنم، لا يصعب حمله، ويسهل حفظه، ويكثر معناه وإن قل لفظه، يروع (2) موضوعه، ويروق مسموعه، ينظم وسائط القلائد، ويحوي بسائط الفوائد، ويستضئ العلماء بغرره ودرره، ويفتقر الفضلاء إلى فقره، فيكتب (3) على وجه الدهر، ويعلق في كعبة المجد والفخر.
ومما حداني إليه وحثني وبعثني عليه، أن خطر ببالي وهجس بضميري، بل ألقي في روعي (4) محبة الاستمداد من كلام جار الله العلامة ولطائفه، فإن لألفاظه لذة الجدة ورونق الحداثة، مقتصرا فيه على إيراد المعنى البحت، والإشارة إلى مواضع النكت، بالعبارات الموجزة والإيماءات المعجزة، مما يناسب الحق والحقيقة ويطابق الطريقة المستقيمة.
وإذا ورد في أثناء الآيات شئ قد تقدم الكلام في نظيره، أعول في أكثره على المذكور قبل، إيثارا للإيجاز والاختصار.
وأنا أسأل الله الكريم المنان مستشفعا إليه بمحمد المصطفى وآله مصابيح الإيمان ومفاتيح الجنان، عليه وعليهم الصلاة والسلام ما اختلف الضياء والظلام، أن يجعل وكدي (5) وكدي في تأليفه مع تخاذل الأعضاء وتواكل الأجزاء موجبا لغفرانه، ومؤديا إلى رضوانه، ويمن بالتسهيل والتيسير، فإن تيسير العسير عليه جلت قدرته يسير، وهو على ما يشاء قدير، نعم المولى ونعم النصير.
مخ ۵۰
سورة الفاتحة / 2 سورة الفاتحة مكية سبع آيات بلا خلاف، إلا أن أهل مكة والكوفة عدوا * (بسم الله الرحمن الرحيم) * آية من الفاتحة، وغيرهم عدوا * (أنعمت عليهم) * آية.
وروي عن ابن عباس (1) أنه قال: من ترك * (بسم الله الرحمن الرحيم) * فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله تعالى (2).
وعن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن قوله تعالى: * (سبعا من المثاني) * (3)، فقال (عليه السلام): " هي سورة الحمد، وهي سبع آيات منها بسم الله الرحمن الرحيم " (4).
مخ ۵۱
وعن أبي بن كعب (1) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أيما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كأنما قرأ ثلثي القرآن، وأعطي من الأجر كأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة " (2).
وعن جابر بن عبد الله (3) عنه (عليه السلام) قال: " هي شفاء من كل داء إلا السام، والسام الموت " (4).
* (بسم الله الرحمن الرحيم) * (1) (5) أصل الاسم: سمو، لأن جمعه أسماء وتصغيره سمي * (الله) * أصله: إله، فحذفت الهمزة وعوض عنها حرف التعريف، ولذلك قيل في النداء: " يا الله " بقطع الهمزة، كما يقال: " يا إله ". ومعناه: أنه الذي يحق له العبادة، وإنما حقت له العبادة لقدرته على أصول النعم، فهذا الاسم مختص بالمعبود بالحق لا يطلق على غيره، وهو اسم غير صفة لأنك تصفه فتقول: " إله واحد " ولا تصف به، فلا تقول: شئ
مخ ۵۲
إله، و * (الرحمن) * فعلان من رحم كغضبان، و * (الرحيم) * فعيل منه كعليم، وفي * (الرحمن) * من المبالغة ما ليس في * (الرحيم) *، ولذلك قيل: الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين خاصة (1).
ورووا عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة " (2).
وتعلقت الباء في * (بسم الله) * بمحذوف تقديره: بسم الله أقرأ، ليختص اسم الله بالابتداء به (3)، كما يقال للمعرس: " باليمن والبركة " بمعنى: أعرست، وإنما قدر المحذوف متأخرا لأنهم يبتدئون بالأهم عندهم، ويدل على ذلك قوله: * (بسم الله مجريها ومرساها) * (4).
* (الحمد لله رب العلمين) * (2) * (الحمد) * والمدح أخوان، وهو الثناء على الجميل من نعمة وغيرها، وأما الشكر فعلى النعمة خاصة، والحمد باللسان وحده، والشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، ومنه قوله (عليه السلام): " الحمد رأس الشكر " (5)، والمعنى في كونه رأس الشكر: أن الذكر باللسان أجلى وأوضح وأدل على مكان النعمة وأشيع للثناء على موليها من الاعتقاد وعمل الجوارح، ونقيض الحمد الذم، ونقيض الشكر الكفران.
مخ ۵۳
وإنما عدل بالحمد عن النصب الذي هو الأصل في كلامهم على أنه من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة، كقولهم: شكرا وعجبا... ونحو ذلك إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى واستقراره، دون تجدده وحدوثه في نحو قولك: أحمد الله حمدا. ومعناه: الثناء الحسن الجميل والمدح (1) الكامل الجزيل للمعبود المنعم بجلائل النعم، المنشئ للخلائق والأمم (2).
سورة الفاتحة / 3 - 5 والرب: السيد المالك، ومنه قول صفوان لأبي سفيان (3): لان يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن (4). يقال: ربه يربه فهو رب، ولم يطلقوا الرب إلا في الله وحده، ويقيد في غيره فيقال: رب الدار، ورب الضيعة.
والعالم: اسم لأولي العلم من الملائكة والثقلين، وقيل: هو اسم لما يعلم به الصانع من الجواهر والأجسام والأعراض، وجمع بالواو والنون وإن كان اسما غير صفة لدلالته على معنى العلم، وليشمل كل جنس مما سمي به (5).
مخ ۵۴
* (الرحمن الرحيم) * (3) مر معناهما (1).
* (ملك يوم الدين) * (4) من قرأ: " ملك " (2) فلأن الملك يعم والملك يخص، ولقوله سبحانه: * (ملك الناس) * (3)، ومن قرأ: * (ملك) * بالألف فهو إضافة اسم الفاعل إلى الظرف على طريق الاتساع، أجري الظرف مجرى المفعول به والمعنى على الظرفية، والمراد:
مالك الأمر كله في يوم الدين، وهو يوم الجزاء من قولهم: كما تدين تدان. وهذه الأوصاف التي هي كونه سبحانه ربا مالكا للعالمين لا يخرج منهم شئ من ملكوته وربوبيته، وكونه منعما بالنعم المتوافرة (4) الباطنة والظاهرة، وكونه مالكا للأمر كله في الدار الآخرة بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله: * (الحمد لله) * فيها دلالة باهرة على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء.
* (إياك نعبد وإياك نستعين) * (5) " إيا " ضمير منفصل للمنصوب، والكاف والهاء والياء اللاحقة به في " إياك وإياه وإياي " لبيان (5) الخطاب والغيبة والتكلم، ولا محل لها من الإعراب، إذ هي حروف عند المحققين وليست بأسماء مضمرة كما قال بعضهم (6). وتقديم المفعول
مخ ۵۵
إنما هو لقصد الاختصاص، والمعنى: نخصك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة.
والعبادة ضرب من الشكر وغاية فيه وكيفيته، وهي أقصى غاية الخضوع والتذلل، ولذلك لا تحسن إلا لله سبحانه الذي هو مولى أعظم النعم، فهو حقيق بغاية الشكر. وإنما عدل فيه عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب على عادة العرب في تفننهم في محاوراتهم، ويسمى هذا التفاتا، وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم كقوله سبحانه: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) * (1)، وقوله: * (والله الذي أرسل الريح فتثير سحابا فسقناه) * (2).
وأما الفائدة المختصة به في هذا الموضع فهو أن المعبود الحقيق بالحمد والثناء لما أجري عليه صفاته العلى تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالعبادة والاستعانة به في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات، وقيل:
إياك - يامن هذه صفاته - نخص بالعبادة والاستعانة، ولا نعبد غيرك ولا نستعينه، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك المتميز (3) الذي لا تحق العبادة إلا له (4).
سورة الفاتحة / 6 و 7 وقرنت الاستعانة بالعبادة ليجمع بين ما يتقرب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته، وقدمت العبادة على الاستعانة لأن تقديم الوسيلة يكون قبل طلب الحاجة ليستوجبوا الإجابة إليها، وأطلقت الاستعانة ليتناول كل مستعان فيه. والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، فيكون قوله: * (اهدنا) * بيانا للمطلوب من المعونة، كأنه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا:
مخ ۵۶
* (اهدنا الصراط المستقيم) * (6) أصل " هدى " أن يتعدى باللام أو ب " إلى "، كقوله تعالى: * (يهدى للتي هي أقوم) * (1)، و * (إنك لتهدى إلى صرا ط مستقيم) * (2)، فعومل معاملة " اختار " في قوله تعالى: * (واختار موسى قومه) * (3). و " السراط " بالسين الجادة، من سرط الشئ إذا ابتلعه، لأنه يسرط المارة إذا سلكوه كما سمي لقما (4) لأنه يلتقم السابلة، وبالصاد من قلب السين صادا لأجل الطاء، وهي اللغة الفصحى (5) (6)، و * (الصراط المستقيم) * هو الدين الحق الذي لا يقبل الله من العباد غيره، وإنما سمي الدين صراطا لأنه يؤدي بمن يسلكه إلى الجنة كما أن الصراط يؤدي بمن يسلكه إلى مقصده، وعلى هذا فمعنى قوله: * (اهدنا) * زدنا هدى بمنح الألطاف، كقوله سبحانه: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (7)، ورووا عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أن معناه: ثبتنا (8).
وروي في بعض الأخبار: أن الصادق (عليه السلام) قرأ: " اهدنا صراط المستقيم " بإضافة " صراط " إلى " المستقيم " (9).
* (صرا ط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * (7) هو بدل من * (الصراط المستقيم) *، وهو في حكم تكرير العامل، فكأنه قال:
مخ ۵۷
اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم، وفائدة البدل التوكيد، والإشعار بأن الطريق المستقيم بيانه وتفسيره: صراط من خصهم الله تعالى بعصمته، وأمدهم (1) بخواص نعمته، واحتج بهم على بريته، وفضلهم على كثير من خليقته، فيكون ذلك شهادة لصراطهم بالاستقامة على آكد الوجوه، كما تقول: هل أدلك على أكرم الناس فلان؟ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم من قولك: هل أدلك على فلان الأكرم؟
لأنك بينت كرمه مجملا أولا ومفصلا ثانيا، وأوقعت فلانا تفسيرا للأكرم، فجعلته علما في الكرم، فكأنك قلت: من أراد رجلا جامعا للكرم فعليه بفلان، فهو المعين لذلك غير مدافع فيه، وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام.
وروي عن أهل البيت (عليهم السلام): " صراط من أنعمت عليهم " وعن عمر بن الخطاب وعمرو بن الزبير (2) (3)، والصحيح هو المشهور.
* (غير المغضوب عليهم) * بدل من * (الذين أنعمت عليهم) * على معنى: أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال، أو صفة على معنى: أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة العصمة وبين السلامة من غضب الله والضلالة.
ويجوز أن يكون * (غير) * هاهنا صفة وإن كان " غير " لا يقع صفة للمعرفة ولا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة، لأن * (الذين أنعمت عليهم) * لا توقيت فيه، فهو كقوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني * فمضيت ثمة قلت لا يعنيني (4)
مخ ۵۸
ولأن * (المغضوب عليهم) * و * (الضالين) * خلاف المنعم عليهم، فليس في * (غير) * إذا الإبهام الذي يأبى له أن يتعرف، وقيل: إن المغضوب عليهم هم اليهود، لقوله تعالى: * (من لعنه الله وغضب عليه) * (1) والضالين هم النصارى، لقوله تعالى :
* (قد ضلوا من قبل) * (2) (3). ومعنى غضب الله إرادة الانتقام منهم وإنزال العقاب (4) بهم، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده، ومحل * (عليهم) * الأولى نصب على المفعولية، ومحل * (عليهم) * الثانية رفع على الفاعلية (5). وأصل الضلال الهلاك، ومنه قوله: * (وأضل أعملهم) * (6) أي:
أهلكها (7)، والضلال في الدين هو الذهاب عن الحق.
مخ ۵۹
سورة البقرة / 1 سورة البقرة مدنية (1) (2)، وهي مائتان وست وثمانون آية كوفي، وسبع بصري * (ألم) * و * (تتفكرون) * (3) كوفي، * (إلا خائفين) * (4) و * (قولا معروفا) * (5) و * (الحي القيوم) * (6) بصري.
عن أبي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " من قرأ سورة البقرة فصلوات الله عليه ورحمته،
مخ ۶۰
وأعطي من الأجر كالمرابط في سبيل الله سنة لا تسكن روعته "، وقال لي: " يا أبي، مر المسلمين أن يتعلموا سورة البقرة فإن تعلمها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة "، قلت: يا رسول الله من البطلة؟ قال: " السحرة " (1).
وعن الصادق (عليه السلام): " من قرأ البقرة وآل عمران جاء يوم القيامة يظلان (2) على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيايتين " (3) (4).
* (بسم الله الرحمن الرحيم ألم) * (1) اختلف في هذه الفواتح المفتتح بها السور، فورد عن أئمتنا (عليهم السلام): أنها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها، ولا يعلم تأويلها غيره (5).
وعن الشعبي (6) قال: لله تعالى في كل كتاب سر، وسره في القرآن حروف التهجي في أوائل السور (7).
وقال الأكثرون في ذلك وجوها: منها: أنها أسماء للسور، تعرف كل سورة بما افتتحت به. ومنها: أنها أقسام أقسم الله تعالى بها لكونها مباني كتبه، ومعاني أسمائه وصفاته، وأصول كلام الأمم كلها. ومنها: أنها مأخوذة من صفات الله
مخ ۶۱
عز وجل، كقول ابن عباس في * (كهيعص) *: إن الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، و * (ألم) * معناه: أنا الله أعلم (1). ومنها: أن كل حرف منها يدل على مدة قوم وآجال آخرين، إلى غير ذلك من الوجوه (2).
على أن هذه الفواتح وغيرها من الألفاظ التي يتهجى بها عند المحققين أسماء مسمياتها حروف الهجاء (3) التي ركبت منها الكلم، وحكمها أن تكون موقوفة كأسماء الأعداد، تقول: ألف، لام، ميم، كما تقول: واحد، اثنان، ثلاثة، فإذا وليتها العوامل أعربت، فقيل: هذه الف، وكتبت لاما، ونظرت إلى ميم. قال الشاعر:
إذا اجتمعوا على ألف وياء * وواو هاج بينهم جدال (4) * (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) * (2) سورة البقرة / 2 إن جعلت * (ألم) * اسما للسورة، ففيه وجوه: أحدها: أن يكون * (ألم) * مبتدأ، و * (ذلك) * مبتدأ ثانيا، و * (الكتاب) * خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول، فيكون المعنى: إن ذلك هو الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كأن ما سواه من الكتب ناقص بالإضافة إليه، كما تقول: هو الرجل، أي: الكامل في الرجولية. والثاني: أن يكون الكتاب صفة، فيكون المعنى: هو * (ذلك الكتاب) *
مخ ۶۲
الموعود. والثالث: أن يكون التقدير: " هذه ألم " فتكون جملة، و * (ذلك الكتاب) * جملة أخرى. وإن جعلت * (ألم) * بمنزلة الصوت كان * (ذلك) * مبتدأ و * (الكتاب) * خبره، أي: ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو الكتاب صفة والخبر ما بعده، أو قدر مبتدأ محذوف، أي: هو - يعني المؤلف من هذه الحروف - ذلك الكتاب.
والريب: مصدر رابه يريبه إذا حصل فيه الريبة، وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها، وفي الحديث: " دع ما يريبك إلى مالا يريبك " (1) والمعنى أنه من وضوح دلالته بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه، إذ لا مجال للريبة فيه. والمشهور الوقف على * (فيه) *، وبعض القراء يقف على * (لا ريب) *، ولابد لمن يقف عليه أن ينوي خبرا، ونظيره قوله: لا ضير، والتقدير: " لا ريب فيه، فيه هدى "، والهدى:
مصدر على فعل كالسرى، وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، وقد وضع المصدر الذي هو * (هدى) * موضع الوصف الذي هو " هاد "، والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقاب من فعل أو ترك، وسماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين، كقول النبي (صلى الله عليه وآله): " من قتل قتيلا فله سلبه " (2) وقوله تعالى: * (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) * (3) أي: صائرا إلى الفجور والكفر، فكأنه قال: هدى للصائرين إلى التقى، ولم يقل: " هدى للضالين " لأن الضالين فريقان:
فريق علم بقاؤهم على الضلالة وفريق علم مصيرهم إلى الهدى، فلا يكون هدى
مخ ۶۳
لجميعهم، وأيضا: فقد صدرت السورة التي هي أولى الزهراوين (1) وسنام القرآن وأول المثاني بذكر المرتضين من عباد الله وهم المتقون.
* (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) * الموصول: إما أن يكون مجرورا بأنه صفة للمتقين أو منصوبا أو مرفوعا على المدح على تقدير: أعني الذين يؤمنون، أو هم الذين يؤمنون. وإما أن يكون منقطعا عما قبله مرفوعا على الابتداء وخبره * (أولئك على هدى) *، والإيمان إفعال من الأمن يقال: أمنت شيئا وآمنت غيري، ثم يقال: آمنه إذا صدقه، وحقيقته آمنه التكذيب والمخالفة، وعدي بالباء فقيل: آمن به، لأنه ضمن معنى: أقر واعترف، ويجوز أن يكون على قياس فعلته فأفعل، فيكون " آمن " بمعنى صار ذا أمن في نفسه بإظهار التصديق.
وحقيقة الإيمان في الشرع هو المعرفة بالله وصفاته وبرسله وبجميع ما جاءت به رسله، وكل عارف بشئ فهو مصدق به.
سورة البقرة / 3 و 4 ولما ذكر سبحانه الإيمان علقه بالغيب ليعلم أنه التصديق لله تعالى فيما أخبر به رسوله مما غاب عن العباد علمه: من ذكر القيامة والجنة والنار وغير ذلك، ويجوز أن يكون * (بالغيب) * في موضع الحال، ولا يكون صلة ل * (يؤمنون) *، أي:
يؤمنون غائبين عن مرأى الناس، وحقيقته متلبسين (2) بالغيب، كقوله: * (يخشون ربهم بالغيب) * (3) فيكون الغيب بمعنى: الغيبة والخفاء، وعلى المعنى الأول يكون الغيب بمعنى: الغائب، من قولك: غاب الشئ غيبا، فيكون مصدرا سمي به.
مخ ۶۴
ثم عطف - سبحانه - على الإيمان بذكر الصلاة التي هي رأس العبادات البدنية، فقال: * (ويقيمون الصلاة) * أي: يحافظون عليها ويتشمرون لأدائها، من قولهم: قام بالأمر، أو (1) يؤدونها، فعبر عن الأداء بالإقامة، أو يعدلون أركانها، من قولهم: أقام العود إذا قومه.
* (ومما رزقناهم ينفقون) * (3) ثم عطف على ذلك بالعبادة المالية التي هي الإنفاق، فقال: * (ومما رزقناهم) * أسند الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم * (ينفقون) * الحلال الطلق الذي يستأهل أن يسمى رزقا من الله، و " من " للتبعيض، فكأنه يقول: ويخصون بعض المال الحلال بالتصدق به . وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة لاقترانه بالصلاة، وأن تراد هي وغيرها من الصدقات والنفقات في وجوه البر لمجيئه مطلقا، وعن الصادق (عليه السلام): " ومما علمناهم يبثون " (2).
* (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) * (4) يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام (3) وغيره، فيكون
مخ ۶۵
المعطوف غير المعطوف عليه، ويحتمل أن يراد وصف الأولين، فيكون المعنى:
أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه. وقوله: * (هم يوقنون) * تعريض بأهل الكتاب، وأنهم يثبتون أمر الآخرة على خلاف حقيقته، ولا يصدر قولهم عن إيقان، و " الآخرة " تأنيث الآخر وهي صفة الدار، بدليل قوله تعالى: * (تلك الدار الآخرة) * (1) وهي من الصفات الغالبة وكذلك الدنيا. والإيقان واليقين: هو العلم الحاصل بعد استدلال ونظر، ولذلك لا يطلق " الموقن " على الله تعالى لاستواء الأشياء في الجلاء عنده.
* (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * (5) الجملة في محل (2) الرفع إن كان * (الذين يؤمنون بالغيب) * مبتدأ وإلا فلا محل لها، وفي اسم الإشارة الذي هو * (أولئك) * إيذان بأن ما يرد عقيبه، فالمذكورون قبله أهل له من أجل الخصال التي عددت لهم، ومعنى الاستعلاء في قوله: * (على هدى) * مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه، شبهت حالهم بحال من اعتلى شيئا وركبه، ومعنى * (من ربهم) *: منحوه وأعطوه من عنده، وهو اللطف والتوفيق على أعمال البر.
ونكر * (هدى) * ليفيد ضربا مبهما لا يبلغ كنهه، كأنه قيل: على أي هدى، وفي تكرير * (أولئك) * تنبيه على أنهم تميزوا بكل واحدة من الأثرتين اللتين هما الهدى والفلاح عن غيرهم.
سورة البقرة / 5 و * (هم) * سماه البصريون فصلا، والكوفيون عمادا، وفائدته الدلالة على أن المذكور بعده خبر لا صفة وتوكيد، وإيجاب أن فائدة الخبر ثابتة للمخبر عنه دون
مخ ۶۶