Tafsir and Interpretation in the Quran
التفسير والتأويل في القرآن
خپرندوی
دار النفائس
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤١٦ هـ/ ١٩٩٦ م
د خپرونکي ځای
الأردن
ژانرونه
المقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلي آله وصحبه.
أما بعد:
فقد أوجب الله علي المسلمين تدبر آيات القرآن، فقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، ولَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (١).
وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، أَمْ عَلي قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢) وتدبّر القرآن عن طريق إمعان النظر في سوره وآياته، وجمله وكلماته، وتراكيبه ومفرداته، والوقوف أمامها طويلا، ونفاذ النظر إلي مضامينها ومراميها وأغراضها، وملاحظة حقائقها ودقائقها، والأنس والسعادة والاستمتاع بالحياة معها، والاسترواح في ظلالها، وقضاء أسعد الأوقات معها.
والمؤمن يفعل ذلك ليتعرف علي معالم الحياة التي يريد القرآن إيجادها، ومناهج الإصلاح التي يقررها، يفعل ذلك ليعرف ماذا يريد الله منه أن
_________
(١) سورة النساء: ٨٢.
(٢) سورة محمد: ٢٤.
1 / 5
يكون، ليكون، ليعرف الأحكام التي يقررها القرآن، والواجبات التي أوجبها الله عليه في القرآن ليلتزمها، والمنهيات التي نهاه الله عنها في القرآن ليتجنبها.
المؤمن يفعل ذلك ليتعرف علي أسس الدعوة في القرآن، لينطلق من خلال القرآن داعيا إلي الله، ناصحا للمسلمين، ناشرا لهدي القرآن، بشيرا ونذيرا، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، متحديا للباطل، مواجها للكافر، مجاهدا للأعداء، جنديا من جنود القرآن.
وإذا كان هذا المؤمن صاحب علم وفقه، وطالب فائدة وبحث، فإنه في تدبّره للقرآن، ونظره في سوره وآياته، يحقق ما سبق ذكره، ويؤديه ويلتزمه، ويجعل حياته وقفا علي تحقيقه، ثم يضيف إليه أهدافا أخرى سامية، وأغراضا رفيعة عالية.
إنه يتدبر القرآن، ويمعن النظر فيه، ليتعرف علي أسلوبه وبيانه، ويتذوق بلاغته وفصاحته، ويقف علي أسرار ومظاهر إعجازه، وأساليب بيانه، وروعة كلماته وتعبيراته.
إنه يعيش مع بيان القرآن، وأسلوب القرآن، وحديث القرآن، ومفردات القرآن، ومصطلحات القرآن، وموضوعات القرآن، ومعاني القرآن، وحقائق القرآن.
إنه مع القرآن في أوقاته وساعاته، في ليله ونهاره، في مشاعره وتطلعاته، في نظراته وعباراته.
والقرآن الكريم كتاب الله العظيم، وكلامه المعجز، أنفس ما تنفق فيه الأوقات، وتوجّه له النظرات، وتقضي فيه الأعمار، وتدور معه الأفكار.
رحم الله الاستاذ سيد قطب حيث يقول في أول جملة من «الظلال»: «الحياة في ظلال القرآن نعمة، نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، نعمة ترفع
1 / 6
العمر وتباركه وتزكيه، ولقد منّ الله عليّ بالحياة في ظلال القرآن، فذقت منها ما لم أذق قط في حياتي».
وأحمد الله وأشكره علي ما أنعم عليّ من نعمة التوجّه إلي القرآن، والإقبال عليه، والتخصص فيه، لقد يسرني لهذا الميدان المبارك، ميدان القرآن وتأويله وتدبره، و«كلّ ميسّر لما خلق له».
يا لها من نعمة ربانية مباركة، أن أعيش مع القرآن قارئا وتاليا، ومتدبّرا متفكرا، ومفسّرا مؤولا، ومحاضرا متكلما، ومدرسا موجها، وكاتبا مؤلفا، وكم أشعر بالسعادة والانشراح لهذا الخير الجزيل الجميل، الذي ساقه الله إلي، وجعلني مع كتابه الكريم.
ومهما أشكر الله علي هذه النعمة- وعلي غيرها من النعم الغامرة- فلن أو فيه سبحانه حقّه من الشكر، وسأبقي عاجزا مقصرا، وإن من كرم الله العظيم الكريم أنك كلما شكرته أنعم عليك، وكلما ازددت له شكرا- وشكرك قليل عاجز ناقص- تقبّله منك، وزاد عليك إنعاما وعطاء وفضلا- وإنعامه جزيل وفير- هذه هي إرادته الحكيمة، وسنته النافذة المطردة: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (١).
عليّ أن أشكر الله- بوسائلي العاجزة المقصرة- بالإكثار من الإقبال علي كتابه، والزيادة من النظر فيه وتدبره، والتمعن في تفسيره وتأويله، والالتفات إلي لطائفة، ودلالاته، وحقائقه، وموضوعاته، ونشر علومه ومناهجه، وإعداد الأبحاث والدراسات حوله، وعرض بعض ما أجده منه في الدروس والمحاضرات، والأبحاث والمقالات، والكتب والمؤلفات، قياما بالحقّ المطلوب مني، وأداء لبعض الواجب الذي أوجبه الله عليّ، وأداء لبعض الشكر الذي تعيّن عليّ.
_________
(١) سورة إبراهيم: ٧.
1 / 7
وهذا كتاب جديد من المؤلفات والكتب المتعلقة بالقرآن، شاء الله أن أبحث في موضوعاته ومباحثه، وأعانني علي السير فيه وعرض أفكاره، ووفقني لكتابته وصياغته، فله الحمد والشكر.
أقدم هذا الكتاب «التفسير والتأويل في القرآن» ليكون أساس سلسلة جديدة أنوي إصدارها، وتتعلق بالتفسير الموضوعي للقرآن، وتتوجّه نحو لون خاص من ألوان التفسير الموضوعي، وهو «مصطلحات قرآنية»، أخصص كلّ مصطلح أو مصطلحين في كتاب، وأعرض فيه كلام القرآن عنه، وأقدمه للقراء الكرام، راجيا منهم الدعاء لي بظهر الغيب، والنظرة الفاحصة في الكتاب، وإرشادي إلي ما يرونه من ملاحظات أو استدراكات أو مؤاخذات، لأنتفع بها، شاكرا لهم كريم نصحهم.
فصول البحث الأربعة (جاء هذا البحث في أربعة فصول):
الأول: التفسير والتأويل في اللغة والاصطلاح:
سرنا فيه مع معنى «التفسير في اللغة والاصطلاح»، ثم معنى «التأويل في اللغة والاصطلاح».
واستشهدنا علي معناه بكلام علماء اللغة والتفسير.
الثاني: التفسير والتأويل في الأسلوب القرآني:
وقفنا فيه مع التفسير في سورة الفرقان. ثم انتقلنا إلي بحث مصطلح: «التأويل» في السياق القرآني.
وجدنا أن «التأويل» لم يرد في القرآن إلا علي هذه الصيغة المصدرية فقط «تأويل». وأنه ورد في سبع سور.
وقفنا مع كل سورة، ننظر في سياق ورود التأويل فيها: مع التأويل في سورة يوسف، ثم في سورة الكهف، ثم في سورة الأعراف، ثم في سورة يونس، ثم في سورة الإسراء، ثم في سورة
1 / 8
النساء، وأخيرا في سورة آل عمران.
وأطلنا الوقفة مع آية التأويل في سورة آل عمران، لحديثها عن المحكم والمتشابه والتأويل، وإشارتها إلي المذموم من التأويل.
الثالث: التأويل في كلام الرسول ﷺ وأصحابه.
عرضنا فيه أمثلة من الأحاديث النبوية، وكلام الصحابة يظهر منها استعمالهم للتأويل، والمعنى الذي استعملوه فيه. ولاحظنا أنهم استعملوه بمعنى فعل نفس الشيء أو ردّه إلي غايته العملية، وبمعنى الفهم والتفسير والبيان.
الرابع: الفرق بين التفسير والتأويل:
سجّلنا فيه أهمّ ما قاله السابقون من فروق بين التفسير والتأويل، وبالذات ما قاله كلّ من الراغب الأصفهاني، وأبي البقاء الكوفي، والدكتور أحمد حسن فرحات.
ثم عرضنا الراجح في الفرق بين التفسير والتأويل عندنا، حيث لاحظنا أنهما مرحلتان في فهم القرآن وتدبره، مرحلة التفسير أولا، ثم مرحلة التأويل التي تليها وتبني عليها. وأوردنا الأدلة علي هذا الفهم والترجيح، من حديث الرسول ﷺ وكلام أصحابه، وبيّنا أنّ الأصل أن يكون كلّ مؤوّل مفسرا، ولا يشترط أن يكون كلّ مفسّر مؤوّلا.
ثم لاحظنا ورود معنى ثالث للتأويل، استعمله المتأخرون، وهو الصرف والتحويل، وبيّنا أنّ منه ما هو مقبول، ومنه ما هو مردود، ورأينا رفض المردود، وآثرنا عدم استعماله بهذا المعنى أصلا، لأنّ المقبول منه يدخل ضمن المعنى الثاني.
الأول: بيان العاقبة والمآل، وتحديد ما يؤول إليه النص، وملاحظة صورته المادية النهائية، وفعل المأمور به عمليا أو الانتهاء عن المنهيّ عنه فعليا.
وهذا هو معناه في القرآن، ومعظم الأحاديث، وكلام الصحابة.
1 / 9
الثاني: الفهم والتفسير، والاستنباط والاستدلال، وبهذا ورد في بعض الحديث وكلام الصحابة.
ولا مانع أن نستخدمه بالمعنى الثاني، أن بمعنى الفهم والتفسير والبيان، طالما ورد في السنّة وكلام الصحابة، واستعمله بهذا أئمة التفسير ورواد التأويل، وفي طليعتهم الامام محمد بن جرير الطبري.
وأخيرا ها هو البحث بين أيدي القارئين والباحثين، فما فيه من صواب فهو من الله، والحمد لله، وما فيه من خطأ وقصور فهو من النفس ومن الشيطان، ونعوذ بالله ونستغفره ونتوب إليه، ونرجو منه الأجر والثواب والرفعة والجنة.
وصلّى الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم.
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي صويلح
الخميس ٢٥/ ٥/ ١٤١٥ هـ- ٣/ ١١/ ١٩٩٤ م
1 / 10
تمهيد
التفسير الموضوعي ألوانه، وخطوات السّير فيه
1 / 11
التفسير الموضوعي
تفاسير القرآن أربعة أنواع:
الأول: التفسير الإجمالي:
وهو الذي يكتفي المفسّر فيه بعرض المعنى للآية أو الآيات عرضا إجماليا موجزا، دون توسّع أو تفصيل، ويكون التفسير ثلاثة أضعاف القرآن تقريبا.
من التفاسير الإجمالية: تفسير الجلالين، وصفوة البيان لمعاني القرآن لحسنين مخلوف.
الثاني: التفسير التفصيلي:
وهو الذي يسير فيه المفسر مع سور القرآن سورة سورة، ومع آياته آية آية، ويتوسّع في تفسيرها وتأويلها، ويفصّل في كلامه، ويستطرد، ويعرض موضوعات، ومباحث، ومسائل عديدة.
ومعظم التفاسير هي من هذا النوع، مثل: تفسير الطبري، وتفسير الزمخشري، وتفسير الرازي، وتفسير الآلوسي.
وهذه التفاسير المفصلة منها ما هو وجيز، ومنها ما هو وسيط، ومنها ما هو مطوّل، لكنها تبقي تفاسير تفصيلية تحليلية.
الثالث: التفسير المقارن:
بحيث يدرس الباحث تفسير السورة أو الموضوع القرآني في أكثر من تفسير، ثم يستخلص منهج وطريقة كلّ مفسّر فيها، وبعد ذلك يعقد مقارنات بين مناهج وطرائق هؤلاء المفسرين، ليري ما في
1 / 13
تفاسيرهم من جدّة وإضافة، وما فيها من تقليد ومتابعة، وما فيها من تكرار أو إبداع، ثم يتعرف علي مالها من إيجابيات، وما عليها من مآخذ وسلبيات، ويفعل ذلك بعد مقارنته بين هذه التفاسير.
الرابع: التفسير الموضوعي:
وهو تفسير هذا العصر، ولم يشتهر هذا النوع عند المفسرين السابقين في القرون الماضية، وإنما اشتهر بين الباحثين والمفكرين والمتدبرين في عصرنا، ونري أنّ المستقبل إنما هو لهذا النوع من التفسير، وله أهمية خاصة، ورسالة عظيمة يؤدّيها.
وليس كلامي هنا عن الدراسة المنهجية للتفسير الموضوعي، فإنّ هذه العجالة لا تكفي له، وأعد بإصدار دراسة منهجية خاصة عن «التفسير الموضوعي: أهميته، ألوانه، مناهجه»، وقد تكون هذه الدراسة قريبة إن شاء الله.
ألوان التفسير الموضوعي الثلاثة:
أريد في هذه الوقفة السريعة أن أشير إلي «ألوان التفسير الموضوعي».
إن ألوان التفسير الموضوعي ثلاثة:
اللون الأول: التفسير الموضوعي للمصطلحات القرآنية:
بحيث يختار الباحث مصطلحا من مصطلحات القرآن، ويفرد له دراسة خاصة، يتابع فيها هذا المصطلح في القرآن، في اشتقاقاته وتصريفاته وحالاته العديدة، ثم يتدبر الآيات التي ورد فيها هذا المصطلح، ويستخلص منها اللطائف والمعاني، والدلالات والإشارات.
من أجود الأمثلة علي هذا اللون من التفسير الموضوعي للمصطلح القرآني: رسالة «الأمة في دلالتها العربية والقرآنية» لأستاذنا الدكتور أحمد حسن فرحات، و«العهد والميثاق في القرآن» لزميلنا- في الدراسة- الأستاذ الدكتور ناصر العمر.
1 / 14
ومنها- بشيء من التساهل- كتاب «الضالون كما يصورهم القرآن» لعبد المتعال الجبري، و«الصبر في القرآن» للدكتور يوسف القرضاوي.
وقد صحّ عزمي- بعون الله- علي اصدار سلسلة لهذا اللون من التفسير الموضوعي، وهي «التفسير الموضوعي للمصطلحات القرآنية» وهذه الرسالة: «التفسير والتأويل في القرآن» هي باكورة هذه السلسلة إن شاء الله.
اللون الثاني: التفسير الموضوعي للموضوعات القرآنية:
بحيث يبقي الباحث مع موضوع من موضوعات القرآن، يجمع الآيات حوله، بمختلف صيغها ومفرداتها، وكلماتها ومصطلحاتها.
وهذا الموضوع أشمل من المصطلحات القرآنية، لأنّ القرآن يتحدث عن الموضوع الواحد بمفردات ومصطلحات مختلفة، وعلي الباحث أن يجمعها وأن ينظر فيها، وأن يستخرج دلالاتها وحقائقها.
مثل: الصلاة في القرآن. الجهاد في القرآن. العقيدة في القرآن. الرسول في القرآن. المنافقون في القرآن.
وقد حاولت في بعض ما كتبت أن أسلك هذا الميدان، وأن تكون تلك الدراسة قريبة من هذا اللون من التفسير الموضوعي بكتاب «مع قصص السابقين في القرآن» بحلقاته الثلاث، الذي خصصته للحديث عن قصص غير الأنبياء في القرآن.
كما أمثل له بكتاب «الشخصية اليهودية من خلال القرآن: تاريخ وسمات ومصير»، وبالكتاب الآخر المتفرع منه وهو: «حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية».
اللون الثالث: التفسير الموضوعي للسور القرآنية:
يفرد الباحث فيه السورة القرآنية بدراسة خاصة، ويمعن النظر فيها، ويبين الوحدة الموضوعية للسورة، ويلحظ أهدافها ومقاصدها، ويقف علي وحداتها ودروسها، ثم
1 / 15
يحللها تحليلا موضوعيا، ويقدمها للقارئين وحدة موضوعية متكاملة.
من أجود الدراسات القرآنية التي تمثل هذا اللون من التفسير الموضوعي، كتاب «سورة الحجرات: دراسة تحليلية موضوعية» للأستاذ الدكتور ناصر العمر.
ومنها كتاب «تدبّر سورة الفرقان» لعبد الرحمن حبنكة الميداني.
ومنها- مع التساهل- دراسات الدكتور علي عبد الحليم محمود التربوية لبعض سور القرآن. مثل: تفسير سورة النور. وتفسير سورة المائدة.
ومنها- مع التساهل أيضا- سلسلة الأستاذ عبد الحميد طهماز. «من موضوعات سور القرآن». والتي أصدر منها حوالي عشرين رسالة.
وفي النية إصدار بعض الدراسات لهذا اللون من التفسير الموضوعي، أفرد فيه كلّ سورة برسالة خاصة، وأرجو من الله التوفيق والعون.
ولا يفوتني التذكير بالبداية الناجحة، التي بدأها سيد قطب- وهي بداية- في تعريفه بالسور القرآنية، في الطبعة المنقحة من الظلال، من سورة الفاتحة حتى سورة الحجر، وكلامه في ذلك التعريف والتقديم يصلح أن يكون «نواة» لمن بعده في هذا اللون من التفسير الموضوعي.
خطوات السير في التفسير الموضوعي:
كيف نبحث في المصطلح القرآني الواحد؟ وكيف نفسر هذا المصطلح تفسيرا موضوعيا، وما هي الخطوات التي نتبعها في ذلك؟
فيما يلي عجالة سريعة لهذه الخطوات، ونرجئ التفاصيل فيها إلي دراسة منهجية قادمة عن التفسير الموضوعي إن شاء الله.
نريد أن نفسّر «الجهاد في القرآن» تفسيرا موضوعيا- علي سبيل المثال- فما هي الخطوات التي نسلكها في ذلك؟
1 / 16
١ - نعيد الكلمة إلي جذرها الثلاثي. فالجذر الثلاثي لمصطلح الجهاد هو «جهد».
٢ - نبحث عن المعنى اللغويّ الاشتقاقيّ لهذا الجذر الثلاثي في أمهات كتب اللغة، ومن أهمّ المعاجم في ذلك «معجم مقاييس اللغة» لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا. ونراجع في هذا كتب المعاجم الموسعة، ومن أفضلها «لسان العرب» لابن منظور الأفريقي.
٣ - ننظر في معنى الكلمة- جهد- في الكتب التي تبين معاني ألفاظ وكلمات القرآن. وفي مقدمتها كتاب «مفردات ألفاظ القرآن» للامام الراغب الأصفهاني. ومنها كتاب «التصاريف» ليحيي بن سلام البصري، وكتاب «عمدة الحافظ في تفسير أشرف الألفاظ» للسمين الحلبي.
ويجب أن لا يفوتنا الاطلاع علي الكلمة في معجم «الكليات» لأبي البقاء أيوب الحسيني الكفوي.
٤ - ننظر في اشتقاقات وتصريفات الكلمة- جهد- في القرآن الكريم، ونطلع علي هذه التصريفات والحالات في الكتاب القيم النافع: «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن» لمحمد فؤاد عبد الباقي ﵀. ونعدّ قائمة بهذه الاشتقاقات والصيغ.
٥ - نتابع كلّ صيغة أو تصريف منها في آيات القرآن، ونسجل هذه الآيات، ونرتبها، وننظر في بعض دلالاتها وإيحاءاتها.
٦ - نربط بين الأصل الاشتقاقي اللغوي للكلمة، الذي أخذناه من مقاييس اللغة ولسان العرب والمفردات والكليات، وبين الاستعمال القرآني، ونري توفّر المعنى اللغوي، والأصل الاشتقاقي في الآيات القرآنية، وننزل ذلك الأصل اللغوي علي التصريفات القرآنية.
1 / 17
٧ - نطلع علي تفسير الآيات التي استخدمت ذلك المصطلح القرآني في أمهات كتب التفسير، لنعرف ماذا قال المفسرون في تفسيرها، وحتى لا نخطئ في نظراتنا وتحليلاتنا.
ونري أنّ من أمهات كتب التفسير القديمة والحديثة: جامع البيان للطبري، والكشاف للزمخشري، والتفسير الكبير للرازي، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، والمحرر الوجيز لابن عطية، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، ونظم الدرر للبقاعي، وفي ظلال القرآن لسيد قطب، والتحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور.
٨ - نسجل ما نلحظه في الآيات من دلالات ولطائف، وإشارات وحقائق، وننقل ما نراه مناسبا من أمهات التفاسير، ونركز علي الدلالات التي فيها جدة وإضافة، أو فيها ارتباط واتصال مع واقع وحياة وحاضر الناس، ونحرص علي أن تكون هذه اللطائف منوعة مختلفة.
٩ - نذهب إلي أحاديث رسول الله ﷺ، وكلام الصحابة والتابعين، لنطلع علي ما في هذه المصادر من كلام يتعلق بالمصطلح الذي نبحثه، فإن الأحاديث الصحيحة التي استخدمته، تضفي عليه مزيدا من الإشارات والفوائد والحقائق.
١٠ - نستخلص بعض ما وجدناه في رحلتنا مع هذا المصطلح القرآني، ونختم البحث بخاتمة نسجل فيها خلاصة نافعة في ذلك.
هذه عشر خطوات مرحلية متدرجة نراها ضرورية لمتابعة أيّ مصطلح قرآني، ليكون البحث علميا موضوعيا، وليكون النظر سليما صائبا، وليكون الاستنتاج صحيحا مقبولا.
1 / 18
البدء بالتفسير والتأويل في القرآن:
وعلي هدي هذا المنهج بحثنا في «التفسير والتأويل في القرآن» في هذا البحث.
لقد أردنا أن يكون أول مصطلح نتابعه في القرآن، ونفسره تفسيرا موضوعيا هو «التأويل» لأنّ عملنا وجهدنا ما هو إلا نوع من أنواع تفسير القرآن، ولون من ألوان تأويله.
لقد اختلف العلماء قديما وحديثا في معنى «التأويل» وفي بيان أنواعه، ونشأت عن ذلك مدارس، ومذاهب، وتيارات فكرية مختلفة. وأدخل بعضهم موضوع التأويل في العقيدة، وفي مباحثها الغيبية، وبالذات في صفات الله.
كما اختلف العلماء كثيرا في نظرهم في آية المحكم والمتشابه والتأويل في سورة آل عمران، هل يمكن تأويل المتشابه أو لا يمكن؟ وما هو المتشابه الذي يمكن تأويله، والذي لا يمكن؟ وما هو المراد بالتأويل إن كان ممكنا؟ وما هي ضوابط هذا التأويل الممكن ليكون صوابا؟ وما هو المراد بالتأويل غير الممكن الذي اختصّ الله به؟
كما اختلفوا كثيرا في بيان الفروق بين التفسير والتأويل، وأوردوا في هذا أقوالا عديدة.
هذا كله دفعنا إلي أن نبحث في مصطلح «التأويل» في القرآن، لنحاول معرفة إجابات عن هذه التساؤلات، ولنقدم للقارئ خلاصة وصورة عن هذا الموضوع، ولنعالجه معالجة قرآنية حديثية.
وبما أنّ «التفسير» ملازم للتأويل، ومقترن به، فقد بحثنا فيه أيضا، لا سيما أنّ «التفسير» لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة، في سورة الفرقان.
1 / 19
الفصل الأول
التفسير والتأويل في اللغة والاصطلاح
1 / 21
المبحث الأول: التفسير في اللغة والاصطلاح
التفسير في اللغة:
التفسير مصدر، علي وزن «تفعيل».
وفعله الثلاثي «فسر». يقال: فسر الشيء فسرا.
والفعل الماضي من التفسير، هو الرباعي «فسّر»، يقال: فسّر الشيء تفسيرا.
والجذر الثلاثي للكلمة هو الفسر.
قال الإمام أحمد بن فارس عن الفسر: الفسر كلمة تدلّ علي بيان الشيء وإيضاحه.
تقول: فسرت الشيء، وفسّرته (١).
وقال الإمام الراغب الأصفهاني في المفردات: الفسر: إظهار المعنى المعقول. ومنه قيل لما ينبئ عنه البول: تفسرة. [أي أنّ البول ينبئ ويكشف ويظهر المرض الموجود في الجسم، فالبول تفسرة وإظهار للمرض].
والتفسير في المبالغة كالفسر (٢).
أي أنّ الراغب يري اتفاق التفسير والفسر في أصل المعني، فهما يدلان
_________
(١) معجم مقاييس اللغة لابن فارس: ٤/ ٥٠٤.
(٢) مفردات ألفاظ القرآن: ٦٣٦.
1 / 23
علي إظهار المعني. لكن في التفسير مبالغة أكثر من الفسر.
ويلتقي كلام ابن فارس مع كلام الراغب علي أنّ معنى التفسير يقوم علي: بيان الشيء وإظهاره وإيضاحه.
وقال ابن منظور في «لسان العرب» عن الفسر:
الفسر: البيان. يقال فسر الشيء وفسّره، أي: أبانه.
والفسر: كشف المغطي. والتفسرة: البول الذي يستدلّ به علي المرض، حيث ينظر فيه الأطباء، فيستدلون به علي علة المريض.
وكلّ شيء يعرف به تفسير الشيء، ومعناه، فهو تفسرته.
والتفسير: البيان. وهو: كشف المراد عن اللفظ المشكل (١).
إنّ كلّ اشتقاقات وتصريفات مادة «فسر» تدلّ علي معناها الأصلي، الذي لا يخرج عن: البيان والكشف والتوضيح والإظهار.
فتفسير الكلام هو: بيان معناه. وإظهاره وتوضيحه، وإزالة إشكاله، والكشف عن المراد منه.
قال الإمام أبو البقاء الكوفي في «الكليات» عن هذا المعنى الجامع للتفسير:
«التفسير: الاستبانة والكشف، والعبارة عن الشيء بلفظ أيسر وأسهل من لفظ الأصل.
قال أهل البيان: التفسير هو أن يكون في الكلام لبس وخفاء، فيؤتي بما يزيله ويفسّره» (٢).
_________
(١) لسان العرب لابن منظور ٥/ ٥٥.
(٢) الكليات لأبي البقاء الكفوي: ٢٦٠.
1 / 24
بين الفسر والسّفر:
لاحظنا أن التفسير مشتق من الفسر.
والاشتقاق الأصغر من هذه المادة «الفسر» يدلّ علي معناها الأصلي، وهو البيان والتوضيح، والكشف والإظهار.
والاشتقاق الأصغر هو: كلّ التصريفات من هذا الجذر الثلاثي «فسر» مثل فسر، يفسر، فسرا، وفسر، يفسّر، تفسيرا.
كذلك الاشتقاق الأكبر لهذه المادة يدلّ علي هذا المعني.
والاشتقاق الأكبر هنا مشاركة مادة أخرى لمادة «فسر» في الحروف الثلاثية لها، لكن مع تقديم وتأخير.
من الاشتقاق الأكبر لهذه المادة كلمة «سفر»، فكلمتا «سفر» و«فسر» متقاربتان في اللفظ والمعني، ومشتقّتان من الحروف الثلاثة: الفاء والسين والراء، اشتقاقا أكبر.
إنّ أساس معنى «سفر» قريب من معنى «فسر».
قال أحمد بن فارس عن «سفر»: هو يدلّ علي الانكشاف والجلاء.
وكلّ المشتقات اشتقاقا أصغر من هذه المادة، تدل علي هذه المعني.
فالسّفر سمي بذلك، لأنّ الناس عند ما يسافرون ينكشفون عن أماكنهم، ويظهرون للآخرين.
ويقال: سفرت المرأة عن وجهها: إذا كشفته وأظهرته.
ويقال: أسفر الصبح: إذا انكشف الظلام وظهر الضياء.
ويقال: وجه مسفر: إذا كان مشرقا مسرورا.
وسميت الكتابة «سفرا»، وسمي الكتاب «سفرة»: لأن الكتابة
1 / 25
تسفر عن ما يحتاج إليه صاحبها، وتكشف مراده، وتظهره (١).
وقال الراغب في المفردات: السّفر كشف الغطاء.
ويختصّ ذلك بالأعيان. يقال: سفر العمامة عن الرأس. وسفر الخمار عن الوجه. أي: كشفه.
والإسفار يختص باللون. يقال: أسفر الصبح: إذا أشرق لونه.
وسافر الرجل: لأنه ينكشف عن المكان. وألف المفاعلة في «سافر» لأنّه هو قد سفر عن المكان، والمكان أيضا سفر عنه (٢).
فبين الفسر والسّفر تقارب في اللفظ، لأنهما مشتقّان اشتقاقا أكبر.
وبينهما تقارب في المعني- ولا أقول: ترادف-: لأنّ أساس معنى الفسر هو: البيان والتوضيح. وأساس معنى السّفر هو: الانكشاف والظهور.
تعريف «تفسير القرآن»
بعد أن عرفنا معنى «التفسير» في اللغة، واشتقاقه من «الفسر»، والصلة بين الفسر والسّفر، ننتقل الآن إلي تعريف هذا المصطلح «التفسير»، بعد أن صار علما يطلق علي بيان معاني القرآن.
للعلماء المفسّرين عدة أقوال في تعريف «تفسير القرآن»، أوردها الإمام السيوطي في «الاتقان»، نختار منها ما يلي:
١ - قال بعضهم: التفسير في الاصطلاح: هو علم نزول الآيات، وشئونها وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ومكيها ومدنيّها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصّها وعامّها، ومطلقها ومقيّدها، ومجملها ومفسّرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها،
_________
(١) معجم مقاييس اللغة: ٣/ ٨٢.
(٢) المفردات: ٤١٢.
1 / 26
وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها.
٢ - وقال أبو حيان: التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب، وتتمات ذلك.
٣ - وقال الزركشي: التفسير: علم يفهم به كتاب الله، المنزّل علي نبيه محمد ﷺ، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه. واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف، وعلم البيان، وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ (١).
ونلاحظ أنّ هذه التعاريف تتحدث عن تفصيلات ومباحث علم التفسير، وعن موارده ومصادره، أكثر مما تتحدث عن تعريفه تعريفا موجزا، يدلّ علي طبيعته.
وقد مال أبو البقاء الكفوي في الكليّات إلي تعريف أبي حيان للتفسير، فقال في تعريفه: هو علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية، ومعانيها التركيبية (٢).
أما الدكتور محمد حسين الذهبي، فقد أورد في «التفسير والمفسرون» التعاريف الثلاثة للتفسير، التي نقلناها من كتاب «الاتقان».
ثم أضاف لها تعريفا رابعا، هو تعريف الشيخ محمد أبو سلامة في كتابه «منهج الفرقان»، فقال:
٤ - «وعرّفه بعضهم: بأنه علم يبحث فيه عن أحوال القرآن المجيد، من حيث دلالته علي مراد الله، بقدر الطاقة البشرية».
وعلق الشيخ الذهبي علي هذه التعاريف بقوله: «وهذه التعاريف الأربعة
_________
(١) الاتقان في علوم القرآن للسيوطي: بتحقيق الدكتور مصطفي البغا: ٢/ ١١٩١.
(٢) الكليات: ٢٦٠.
1 / 27