Tafsir Al-Uthaymeen: Surah Fussilat
تفسير العثيمين: فصلت
خپرندوی
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٣٧ هـ
د خپرونکي ځای
المملكة العربية السعودية
ژانرونه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
* * *
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ بالله مِن شُرور أَنْفُسنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ بالهُدَى ودِين الحقِّ؛ فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في الله حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليَقينُ، فصَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين.
أَمَّا بَعْدُ: فمِنَ الدّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أَثْناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة؛ حَلقاتٌ فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدَايَةُ التَّسْجِيلِ الصَّوتيِّ لَهَا مِن سُورة النّور وَمَا بَعدَها؛ حتَّى بلَغ فَضيلتُه قَولَه تَعالَى في سُورة الزّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَيِ الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ،
1 / 5
المُتوفَّى سنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^٢). تغمَّدهما الله بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا -بإِذْنِ اللهِ تَعالَى- لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَيخِ مُحمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لِإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجَزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعليَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مجُيبٌ.
وَصَلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ
فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيريَّةِ
١٤ مُحَرَّم ١٤٣٧ هـ
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
(^٢) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
سورة فصلت
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلهِ وأصحابهِ ومَن تَبِعَهم بإحْسانٍ إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بَعْدُ؛ فلا رَيْبَ أنَّ القرآنَ الكريمَ نزَلَ ليتَعَبَّد النَّاسُ بتِلاوَته ولِيَتدَبَّرُوا آيَاتِه، وليتذكَّرَ أُولو الألْبابِ؛ قال اللهُ ﵎: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩].
وإذا كان الإنْسانُ لو قرَأَ متْنًا ألَّفَهُ إنسانٌ منَ البَشَرِ، فلا بُدَّ أنْ يَتدبَّر مَعانيَه وَيتفَهَّمَها، فكذَلِك كَلامُ اللهِ ﷿ مِن باب أوْلَى أنْ يَتدبَّر الإنسانُ مَعانيَه وَيتفَهَّمها، لأنَّ قِراءةً بلا معنًى ليستْ قِراءةً، فالقارئُ الذي لا يَفهمُ المعنى؛ بمنزِلةِ الأُمِّيِّ الذي لا يَقرأُ.
ودليلُ ذلك قولُه تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨]، يعني إلَّا قِراءةً، فوصَفَهمُ اللهُ بأنَّهمْ أُمِّيُّون؛ لأنَّهم لا يَعلَمون الكِتابَ إلا قِراءةً فقطْ.
وقد ذَكَر العلماءُ ﵏ لتفسيرِ كلامِ اللهِ ﷿ قواعدَ مهمَّةً، نَذكرُ مِنها ما يَلي:
١ - أَوْلى ما يُفسَّرُ به القرآنُ أنْ يُفَسَّر القُرآنُ بالقُرآنِ؛ لأنَّ الَّذي فسَّر هُو الَّذي أَنزَلَه، وهُو أعلَمُ بمُرادِه، فنُفسِّر القرآنَ بالقرآنِ ما وجَدْنا إلى ذلك سبِيلًا، ولهِذا
1 / 7
أمثلةٌ كثيرةٌ؛ مِثلُ قولِه تَعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الانفطار: ١٧ - ١٨]، فسَّر اللهُ ذلك اليومَ بقولِه: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٩].
فلو سألَنا سائلٌ: ما هو يومُ الدِّينِ؟
نَقولُ: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾، ﴿الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ [القارعة: ١ - ٥]، ولهِذا أمثلةٌ كثيرةٌ.
٢ - ثمَّ نفسِّرُ القُرآنَ بتَفسيرِ أعلَمِ الناسِ به، وهو رسولُ اللهِ ﷺ ولهذا أمثلةٌ:
منها: قولُه تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦]، الزِّيادةُ لمْ يُبيِّنْها الله ﷿ ولكِنْ بيَّنَها الرَّسولُ عليه الصَّلَاةُ وَلسَّلَامُ بقوله: "النَّظَرُ إلى وجْهِ اللهِ" (^١).
وكذَلِك مِثالٌ آخرُ: قولُ اللهِ تَعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠]، فسَّرَها النَّبيُّ ﵊ بقوله: "ألا إنَّ القُوةَ الرَّميُ" (^٢)، وكرَّرَها.
وكَما يكونُ تفسير النَّبيِّ -صلَّى اللهُ علَيهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ- للْقُرآنِ بلفظِه، يَكوُن كذَلِك بفعلِه؛ فقولُه تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: ٤٣]، يُبيِّنِ اللهُ تَعالَى كيفيَّةَ هذه الإقامةِ الَّتي أمَر بها، لكنْ فسَّرها النبيُّ ﷺ بفِعلِه، فَقامَ ورَكعَ وسَجدَ وقَعدَ، وقالَ:
_________
(^١) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم ﷾، رقم (١٨١)، من حديث صهيب ﵁.
(^٢) أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب فضل الرمي، رقم (١٩١٧)، من حديث عقبة بن عامر ﵁.
1 / 8
"صلُّوا كما رأيتُموني أصلِّي" (^١).
إذَن: أوَّلُ ما نُفسِّرُ القرآنَ به هو القرآنُ؛ لأنَّ الَّذي فسَّرَه هو الَّذي تَكلَّم به وهو أعلمُ بمُرادِه، ثمَّ بسُنَّة النبيِّ -صلَّى اللهُ علَيهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ- القوليَّة والفعليَّة؛ لأنّ النَّبِيَّ -صلَّى اللهُ علَيهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ- أعلمُ الناسِ بكلامِ اللهِ؛ لأنَّه رسولُه.
٣ - ثُمَّ بعدَ ذلكَ بتفسيرِ الصَّحابَةِ ﵃، وتفسيرُ الصَّحابةِ لا شكَّ أنَّه أَوْلى مِن غيره؛ لأنَّ الصَّحابةَ ﵃ أعلمُ النَّاسِ بِلُغَةِ القرآنِ بلا مُنازِع؛ ولأنَّ القرآنَ نزلَ في عَصرِهم وفي الأحْوالِ الَّتي يعرِفونها.
ولا ريبَ أنَّ المعنَى يُعرَف في الزَّمنِ والحالِ الَّتي نزلَ بها؛ ولهذا يَنقُلون إلَيْنا أسبابَ النُّزولِ في الآياتِ التي نزَلَتْ على سببٍ؛ لأنَّهمْ كانوا يَعلَمون ذلك.
فيُرجَعُ في تفسيرِ القرآنِ -إذا لمْ يُوجَدْ في كتابِ اللهِ أو سنةِ رسولِه- إلى أقوالِ الصَحابةِ.
والصَّحابةُ ﵃ يَختلِفون في فَهْمِ القرآنِ اختِلافًا ظاهرًا، كما يَختَلِفون في مَراتِبهم في الفَضائلِ، كذَلِك أيضًا يَختلِفون في العلمِ وفي تَفسيرِ القرآنِ، ومِنْ أعلَمِهم بالتَّفسيرِ ابنُ عبَّاسٍ ﵄ لأنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ علَيهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ- دعا له، وقال: "اللَّهمَّ فقِّهْهُ في الدِّينِ وعلِّمْهُ التَّأويلَ" (^٢)، يعني: التَّفسيرَ.
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، رقم (٦٣١)، من حديث مالك بن الحويرث ﵁.
(^٢) أخرجه البخاري: كتاب الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء، رقم (١٤٣)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة ﵃، باب من فضائل عبد الله بن عباس ﵄، رقم (٢٤٧٧)، من حديث ابن عباس ﵄. دون قوله: "وعلمه التأويل"، وأخرجه أحمد (١/ ٢٦٦) بلفظه.
1 / 9
٤ - وبعْد هذا في المَرتَبة الرَّابِعة: الرُّجوعُ إلى كلامِ التَّابِعين الَّذين أخَذوا عنِ الصَّحابةِ ﵃ وليسَ كلّ التَّابِعين، بلِ الَّذين اشتُهِرَ عنهمُ الأخْذُ عنِ الصَّحابةِ.
وعلى رأسِهم مجُاهِدُ بنُ جبرٍ ﵀ الذي أخذَ تَفسيرَ القرآنِ عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ ﵄ فكانَ يَقرأُ القرآنَ على ابنِ عبَّاسٍ، ويقِفُ عندَ كلِّ آيةٍ، يَسألُهُ عنْ تفسيرها (^١).
٥ - ثمَّ بعدَ ذلكَ يُؤخَذُ بالأمْثلِ فالأمْثلِ من أقوالِ أئمةِ هذهِ الأمَّةِ وعلمائِها.
ثمَّ اعْلمْ أنَّ تفسيرَ القرآنِ لا يقتَصرُ على تَفسِيرِ الصَّحابةِ والتَّابِعين؛ لأنَّه قدْ يَخرجُ للآياتِ معانٍ لم تكنْ تَطْرَأُ على البالِ فيما سبَقَ، كما تُشيرُ بعضُ الآياتِ إلى المخترَعاتِ الحديثةِ الَّتي وقعَتْ في زمانِنا هذا، وكما تُشيرُ بعضُ الآياتِ إلى ما عُلِم في عِلْمِ الأحياءِ والكائِناتِ؛ وذلك لأنَّ القرآنَ كتابٌ عالَمِيٌّ لا يَزالُ النَّاسُ يَستخْرِجون كُنوزَه وفَوائِدَه إلى يومِ القِيامةِ.
وبِناءً على ذلك: يجبُ علينا أنْ نعتَنيَ بكلامِ اللهِ ﷿ وأنْ نتَدبَّرَه ونتفَهَّمَه؛ حتَّى نلْحقَ بالرَّكْبِ.
_________
(^١) أخرجه الطبري في تفسيره (١/ ٨٥)، والطبراني في المعجم الكبير (١١/ ٧٧، رقم ١١٠٩٧).
1 / 10
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* * *
* قَالَ اللهُ ﷿: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
* * *
البَسمَلةُ تَقدَّمَ الكَلامُ عليها كثيرًا، وبيَّنَّا أنَّها آيةٌ مِنْ كِتابِ الله، ولكِنَّها ليستْ آيةً تابِعةً للسُّورة الَّتي بَعدَها ولا الَّتي قَبلَها، بلْ هيَ آيةٌ يُؤتَى بها لابتِداءِ السُّوَرِ، ما عدا سُورة (بَراءةَ).
أمَّا مَعناها: فإنَّ الإنْسان يَقولُ: أبتَدئُ بكلِّ اسمٍ مِنْ أسماءِ اللهِ، وإنَّما جعَلْنا المَعنَى بكلِّ اسمٍ مِن أسماءِ اللهِ؛ لأنَّ كلمةَ "اسم" مفردٌ مضافٌ، وكلُّ مفردٍ مضافٍ إلى معرفةٍ فإنَّه يُفيدُ العُمومَ؛ ألمْ ترَوْا إلى قولِ اللهِ تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل: ١٨] ﴿نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ لو نَظَرْنا إلى لفْظِها لقُلْنا: إنَّها واحِدةٌ، لكنَّها كثيرةٌ لا تُحصَى؛ فيكونُ هذا المفردُ الَّذي أُضِيفَ: للعُمومِ.
وهذه هي القاعِدةُ: كلُّ مُفردٍ مُضافٍ لمَعرفةٍ فإنَّهُ مُفيدٌ للعُمومِ؛ ولهِذا قُلنا: بكلِّ اسْمٍ مِن أسْماءِ اللهِ.
و"الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" صِفتان للفظِ الجَلالةِ، لكنَّ الأُولى رُوعيَ فيها الوَصفُ، والثَّانيةَ رُوعي فيها الفِعلُ، وهو إيصالُ الرَّحمةِ.
أمَّا مُتعلِّق هذا الجارِّ والمَجرورِ فإنَّه محَذوفٌ، ويُقدَّرُ مُؤخَّرًا مُناسِبًا للمَقامِ، فإذا كنتَ تُريدُ أنْ تَقرأَ فقُلتَ: بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ فقَدِّرْ: أقرَأُ، وإنَّما اختِيرَ أنْ
1 / 11
يكونَ فعْلًا لأنَّ الأصْلَ في العمَلِ الأفْعالُ؛ ولهذا يَعملُ الفِعلُ بلا شَرطٍ، والأسْماءُ الَّتي تَعمَلُ عمَلَ الفِعلِ لا بُدَّ لها مِن شُروطٍ - كما هو مَعروفٌ في عِلمِ النَّحوِ.
وإنَّما اخْتَرنا أنْ يَكونَ مُتأخِّرًا لفائِدتيْنِ:
الفائِدةُ الأولى: تيَمُّنًا بذِكْرِ اسمِ اللهِ.
والفائِدةُ الثَّانيةُ: إرادةُ الحصْرِ؛ لأنَّه إذا تأخَّرَ العامِلُ كانَ ذلك حَصْرًا، فإذا قُلتَ: زيدًا أكرِمْ، فالمعنى: لا تُكرِم غيرَه، لكنْ لو قلتَ: أكرِمْ زيدًا، لم يمتنع أنْ تُكرمَ غيرَه.
وقدَّرْناه مُناسِبًا؛ لأنه أَبْيَنُ للمَقصودِ، فلو قال قائل: "بسمِ اللهِ أبتدئُ"، قلنا: صحيح، لكنَّها لا تُبيِّنُ المرادَ كما تُبيِّنُه: "بسمِ اللهِ أقرأُ"؛ وذلك لأنَّ الِابتِداءَ يكونُ للقِراءةِ ولغيرِ القِراءةِ، فلهذا اختِيرَ أنْ يكونَ مناسبًا للمَقامِ.
والخُلاصَةُ: أنَّ مُتعلقَ الجارِّ والمَجْرورِ مَحذوفٌ، وهو فِعلٌ مُتأخّرٌ مُناسبٌ للمَقامِ.
فإنْ قال قائِل: هَلْ صَحِيح ما يَروي بعضُهم عنْ أبي هُريرةَ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ علَيهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ- قال: "إذا قرأتم: الحمدُ للهِ ربِّ العالمَين فاقرؤُوا: "بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ" فإنَّها إحدى آياتِها" (^١)؟
فالجوابُ: هذا الحديثُ ليس بصحيحٍ، ويدُلُّ على ذلك:
أوَّلًا: حديثُ أبي هريرة ﵁ الثَّابتُ في الصَّحيحِ، أنَّ اللهَ تعالى قالَ: "قَسمتُ الصَّلاةَ بيني وبينَ عبدي نِصفَينِ" -يعني الفاتِحةَ- "فإذا قالَ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمَين،
_________
(^١) أخرجه الدارقطني (١/ ٣١٢)، والبيهقي (٢/ ٤٥).
1 / 12
قالَ: حمِدني عبدي ... " إلى آخرِ الحديثِ (^١)؛ فبَدأ بقولِه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. ثانيًا: أنَّ الرَّسول ﷺ كانَ لا يَجهرُ بها في القِراءةِ الجهْريَّةِ على القولِ الرَّاجِحِ، ولو كانتْ منَ الفاتِحةِ لجَهَرَ بها، كما يَجهرُ ببقيةِ الآياتِ.
ثالِثًا: أنَّ بقيَّةَ سوَرِ القرآنِ ليستِ البسْملةُ منها، فنحتاجُ إلى دليلٍ قويٍّ يُبيِّنُ أنَّها منَ الفاتِحةِ.
رابِعًا: أنَّ قولَه تَعالى: "قَسمْتُ الصَّلاةَ بيني وبين عَبْدي نِصفيْن"، هي نِصفٌ في السِّياقِ ونِصفٌ في المعنى، ولا يتمُّ ذلك إذا جعلْنا البسْملةَ منها؛ فقولُه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هذِه للهِ، و﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ ثلاثُ آياتٍ للهِ؛ و﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ للعبدِ ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ للعبدِ ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ للعبدِ؛ إذَن: ثَلاثٌ وثَلاثٌ.
وقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ صارتْ بينهما كما جاء في الحَديثِ: "هَذا بيني وبين عبدي"، فصارتْ ثَلاثَ آياتٍ ونصفًا مِنْها للهِ، وثلاثَ آياتٍ ونصفًا للعبد، ولو قُلنا: إنَّ البَسْمَلةَ مِنْها، ما اسْتَقامَ هذا.
خامِسًا: أنك إذا جَعَلْت البَسْمَلة مِنَ الفاتِحةِ صارتِ الآيةُ الأخيرةُ طويلةً لا تتَناسَبُ مَع ما قبلها؛ لأنه ستكونُ الآياتُ الأخيرةُ ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾، وهذه لا تتَناسَبُ مَع قولِه: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أو ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فهو خِلافُ البلاغةِ.
فصارَ عندنا خمسةُ أوجُهٍ كلُّها تدُلُّ على أنَّ البسْملةَ ليستْ منَ الفاتِحةِ.
_________
(^١) أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم (٣٩٥)، من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 13
الآية (١)
* * *
* قالَ اللهُ ﷿: ﴿حم﴾ [فصلت: ١].
* * *
قالَ المُفسِّر ﵀ (^١): [اللهُ أعلمُ بمُرادِه به]، وهذا هوَ الأدبُ مَع كِتابِ اللهِ وسنَّةِ رسُولِه -صلَّى اللهُ علَيهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ- أنَّ الَّذي لا تَعرِفُ معناهُ قلْ: اللهُ أعلمُ بمُرادِه به؛ لقولِ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: ٣٦].
ولكن قد يَقول قائِل: إنَّنا نعلَم أنه لا معنى لهذه الحُروف الِهجائيَّة الَّتي تُوجَد في كثير منَ السُّوَر؛ ونعلمُ ذلك بدَلالَةِ القرآنِ، فقدْ قالَ اللهُ تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٣ - ١٩٥]، واللِّسانُ العرَبيُّ لا يكونُ التَّعبيرُ بمثلِ هذهِ الحُروفِ لهُ معنًى في حدِّ ذاتِهِ لوْ قُلتَ: "أ، ب، ج، ح، خ"؛ فلَيسَت لها معنًى، فإذا لم يكنْ لها معنًى بمُقتضَى اللِّسانِ العَربيِّ، قُلْنا: إنَّ قولَه: ﴿حم﴾ و﴿الم﴾ و﴿الر﴾، وما أشبهَها، ليسَ لها معنًى في حدِّ ذاتِها.
ويَرِدُ على هذا: إذا لم يكُنْ لها معنًى صارتْ لَغوًا، وكلامُ اللهِ تعالى لا لَغوَ فيهِ! !
_________
(^١) المقصود بـ (المُفَسِّر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفى سنة (٨٦٤ هـ) رحمه الله تعالى، ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 14
فيُقالُ: إنَّها ليستْ لَغوًا، وإنَّما المُرادُ إقامةُ الحُجَّةِ على أولئك المُشرِكين؛ حيثُ عجَزوا عنِ الإتْيانِ بمِثلِ القرآنِ، ولا بآيةٍ واحِدةٍ، مَع أنَّ هذا القرآنَ: هل أتى بحُروفٍ لا يَعرِفونها حتَّى يَعتذِروا ويَقولوا: إنَّه جاءَ بحرُوف ليستْ مَعروفةً لنا؟
الجَوابُ: لا؛ فالقرآنُ جاءَ بحُروف يَعرِفونها، قالَ شيخُ الإسلامِ (^١) ﵀: ولذلِك لا تَكادُ تَرى سُورةً مَبدوءةً بهذهِ الحُروفِ إلَّا وبعدَها ذُكِرَ القرآنُ، وابْدأْ مِنْ أوَّلِ البَقرةِ إلى أنْ تأتيَ إلى آخِرِ السُّوَرِ المَبدوءَةِ بهذِه الحروفِ، تَجِدُ أنَّ بعدَها ذِكرَ القُرآنِ؛ وذلكَ إشارةٌ إلى أنَّ هذا القرآنَ الَّذي أَعجزَكم -مَعْشَر العرَبِ- كانَ مِن هذهِ الحُروفِ الَّتي تُكوِّنون مِنها كلامَكم، وهذا الَّذي ذَهبَ إليهِ شيخُ الإسْلامِ ﵀ واضِحٌ جدًّا.
وأمَّا القوُل بأنَّه ليسَ لها معنًى؛ فقدْ قالَه مجُاهِدُ بنُ جبرٍ (^٢) ﵀ أعلمُ التَّابِعين بكِتابِ اللهِ ﷿.
_________
(^١) انظر: تفسير ابن كثير (١/ ٧١).
(^٢) أخرجه الطبري في تفسيره (١/ ٢٠٩)، وانظر: تفسير ابن كثير (١/ ٧٠).
1 / 15
الآيتان (٢، ٣)
* * *
* قال الله ﷿: ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: ٢ - ٣].
* * *
قَولُه تَعالى: ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ قالَ المُفسِّر ﵀: [﴿تَنْزِيلٌ﴾ مُبتدأٌ، و﴿كِتَابٌ﴾ خبرُهُ]، وَلَوْ قِيلَ بِالْعكسِ -في غَير القُرآن- لَكانَ أوضحَ، لو قِيلَ: كِتابٌ فُصِّلتْ آياتُهُ تنْزيلٌ مِنَ الرَّحمنِ الرَّحيمِ؛ لأنهُ يُخبرُ بالمعنى عنِ الذَّاتِ، ولا يُخبِرُ بالذاتِ عنِ المعنَى؛ وهذا هو الأصلُ، فتقولُ: زيدٌ قائمٌ، قائمٌ خبرٌ، ولا تَقُلْ: زيدٌ خبَرٌ، لكنْ ما ذهبَ إلَيهِ المُفسِّر من الإعْراب له وجْهٌ، فليسَ باطِلًا، لكنْ لو قِيلَ: إنَّ ﴿تَنْزِيلٌ﴾ هوَ خبرُ مقدَّمٌ و﴿كِتَابٌ﴾ مُبتَدأٌ مُؤخرٌ لكانَ أوْضحَ وأبْينَ.
وقوله: ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ يَعني به الرَّبَّ ﷿ أيْ تنزيلٌ منَ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، لكنَّه أَتى بهذَيْنِ الِاسمَينِ الكَريمَينِ إشارةً إلى أنَّ القُرآنَ رحمةٌ؛ لأنَّ إنزالَه منْ مُقتَضى رحمةِ اللهِ ﷿ أليسَ منَ الممكنِ أنْ يُقالَ: تنزيلٌ منَ اللهِ؟ بلَى، كما جاءَ في آياتٍ أخرى، لكنَّه قالَ: ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، إشارةً إلى أنَّ هذا القرآنَ نزلَ بمُقتَضى رَحمةِ اللهِ ﷿ وأنَّ اللهَ رحِمَ بهِ العِبادَ.
والرَّحمنُ الرَّحيمُ: اسمانِ منْ أسْماءِ اللهِ، منْ أشرفِ أسماءِ اللهِ ﷿ ويأتيانِ
1 / 16
مُقتَرِنينِ، ويأتِيانِ مُنفَصلَيْنِ بعضُهما عنْ بعضٍ؛ فإنِ انفَصلَا فكلُّ واحدٍ مُتضمِّنٌ معنَى الآخَرِ.
فقولُه: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]، هذا مُنفَرِدٌ عنِ الرَّحيمِ، فيتَضمَّن الصِّفَةَ والفِعلَ؛ أيْ: أنَّ اللهَ تَعالى مَوصوفٌ بِالرَّحمةِ الواسِعةِ، وهوَ ﷾ يَرحَم -بهذِه الرَّحمةِ- مَنْ شاءَ مِن عِبادِه.
وفي قَولِه: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: ١٠٧]، أيضًا نَقولُ: الرَّحيمُ هُنا تشْملُ الوَصفَ والفِعلَ، لِأنَّها انفردتْ عنِ الرّحمنِ.
أمَّا إذا اجْتَمعَ (الرَّحمنُ والرَّحيمُ) كانتِ الرَّحمنُ للصِّفةِ والرَّحيمُ للفِعلِ، ولهذا جاءتِ الرَّحمُن على وزنِ "فَعلان"، وهذا الوزنُ في اللُّغةِ العَربيَّةِ يَقتَضي الِامتِلاءَ وكَمالَ وتمَامَ الوصفِ الَّذي كانَ مُرادًا؛ فَمثلًا يُقالُ: غضبانُ لمَنِ امْتلَأَ غضَبًا، ويُقالُ: غاضِبٌ لمَنْ كانَ غضَبُه خفِيفًا، وكذَلِك سكْران للمُمتَلِئ سُكْرًا، فكلُّ هذا الوَزنِ يُفيدُ الِامْتِلاءَ والسَّعَةَ.
أمَّا الرَّحيمُ فغُلِّبَ فيها جانبُ الفِعلِ؛ أيْ: إيْصالُ الرَّحمةِ إلى المَرحومِ، ولهذا جاءتْ في القُرآنِ الكَريمِ: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٤٣]؛ أي: قدْ وَصلَت رحْمتُه إلى المؤمِنين على وجْهٍ مُطلقٍ، أمَّا غيرُ المؤمنينَ فإنَّهُ يَرحمُهُم بالمعنَى العامّ.
وقد ذَكَر بعضُ المُفسِّرينَ: أنَّ الرَّحمنَ أعمُّ منَ الرَّحيمِ، فتَشملُ الكُفَّارَ، أمَّا الرَّحيمُ فهيَ خاصَّةٌ بِالمؤمنينَ، لكنَّ ما ذَكَرتُه أحسن، وقدْ نبَّهَ عليهِ ابنُ القيِّمِ (^١) ﵀.
وخُلاصةُ ما قُلنا في "الرَّحمَنِ الرَّحيمِ": إمَّا أنْ يُذكَرَ الرَّحمنُ مَع الرَّحيمِ، أو يُفردُ
_________
(^١) انظر: مدارج السالكين (١/ ٥٦).
1 / 17
أحدُهُما عنِ الآخَرِ، فإنْ أُفرِدَ أحدُهما عنِ الآخَرِ تضمَّنَ الثَّاني، وإنْ ذُكِرَا جميعًا غُلِّبَ في الرَّحمَنِ جانِبِ الصِّفَةِ، وفي الرَّحيمِ جانِبُ الفِعْلِ.
واعلَمْ أنَّ هذَينِ الِاسمَينِ الكَريمَينِ يدلَّانِ على أنَّ اللهَ تعالَى مَوصوفٌ بالرَّحمةِ، كما قالَ تَعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ [الكهف: ٥٨] ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ [الأنعام: ١٣٣]، فالرَّحمةُ صِفتُهُ والرَّحيمُ اسمُهُ، وهل هذا الاسمُ ممَّا يتَعدَّى أو منَ المَصادِرِ اللَّازِمةِ؟
الجَوابُ: يَتعَدَّى؛ لقولِه تَعالى: ﴿وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [العنكبوت: ٢١]، والقاعِدةُ في العَقيدَةِ: أنه إذا كانَ الِاسمُ لازِمًا لا يَتعدَّى، فإنَّهُ يتَضمَّنُ أمرَيْنِ: إثْباتَ الِاسمِ، وإثْباتَ الصِّفَةِ، وإذا كانَ يَتعدَّى فإنَّه يَتضمَّنُ ثلاثةَ أشياءَ: إثْباتَ الِاسمِ، وإثْباتَ الصِّفَةِ، وإثْباتَ الفِعْلِ.
فكلِمةُ العَظيمِ اسمٌ منْ أسْماءِ اللهِ لازِمٌ؛ ولهذا يُقالُ: عَظُمَ؛ أي: صارَ عَظيمًا؛ والإيمانُ بهِ يَتَضمَّنُ الإيمانَ بالعَظيمِ، على أنه اسمٌ منْ أسْماءِ اللهِ، ويتَضمَّنُ أيضًا ثُبوتَ العظَمةِ للهِ ﷿.
وكلِمة الرَّحمنِ تَتضمَّنُ ثلاثةَ أشياءَ: تَتضمَّنُ "الرَّحمنَ"، اسمٌ من أسماءِ اللهِ، والثاني: الرَّحْمةُ؛ صِفةٌ مِن صِفاتِهِ، والثالثَ: الفِعلُ؛ أيْ: أنهُ يَرحمُ مَن يَشاءُ، وعلى هذا فَقِسْ.
فالإيْمانُ بالأسْماءِ: إنْ كانتْ مُتعدِّيةً لزِمَ أنْ تُؤمِنَ بالاسمِ والصِّفةِ والفِعلِ، وإنْ كانتْ لازِمةً وجَبَ أنْ تُؤمنَ بالِاسمِ والصِّفَةِ.
وقولُه: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ كِتابٌ فِعالٌ بمعْنَى مَفعُولٍ؛ أي: مَكتوبٌ،
1 / 18
وهو مَكتوب في اللَّوْحِ المَحفوظِ، ومَكتوب بالصُّحُفِ الَّتي بأيدِي الملائكَةِ، ومَكتوب بِالصُّحُفِ الَّتي بأيْدِينا.
أمَّا الأوَّلُ فدَليلُه قولُه تَعالَى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: ٢١ - ٢٢] وأمَّا الثانى دَليلُه قولُه تَعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ [عبس: ١٢ - ١٦].
وأمَّا الثَّالثُ فواضِح، فكلُّ ما جاءَ من كِتابٍ فهوَ يتَضمَّنُ هذه المعاني الثَّلاثةِ.
قَولُهُ ﵀: [﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾ بُيِّنت بالأحْكامِ والقصَصِ والمَواعِظِ] التَّفْصيلُ ضدُّ الإجْمالِ، يَعنِي: أنَّ آياتِ القُرآنِ مُفصَّلة، لكِنَّها تأتي أحْيانًا مجُملةً، وتأتي أحْيانًا مُفصَّلةً، وإذا فُصِّلَ المُجملُ صارَ الجَميعُ مُفصَّلًا.
وقولُه: ﴿آيَاتُهُ﴾ جَمعُ آيةٍ، والآيةُ في القرآنِ هي كلُّ ما فُصِلَ بينها وبين ما سبَقها ولحِقَها بفاصلٍ؛ ولهذا تَسمَعون في كلامِ العُلَماءِ: "فَواصِلُ الآياتِ"، يعنِي الأماكنَ الَّتي تُفصَلُ فيها الآيةُ عمَّا قبلَها وعمَّا بعدَها.
والآياتُ الكَريمةُ مِنها ما هو طَويل، ومنها ما هو قَصير، ومنها ما هو مُتوسِّط؛ فأطوَلُ آيةٍ في كِتابِ اللهِ آيةُ الدَّينِ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وأقْصَرُ آيةٍ: ﴿طه﴾ [طه: ١]، لكنَّ هذه منَ الحُروفِ الَّتي ليسَ لها معنًى، كما قرَّرْنا.
فقولُه: ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ [المدثر: ٢١] أقصرُ آيةٍ في كِتابِ اللهِ، والباقي مُتوسِّطٌ منهُ ما يَميلُ إلى الطُّولِ، ومنهُ ما يَميلُ إلى القِصَرِ.
والسُّنّة في الآياتِ: أنْ تَقرَأها حسْبَ ما فُصِّلَتْ؛ فتُقرَأ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)
1 / 19
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)﴾ [الفاتحة: ١ - ٧].
فهذه سبعُ آياتٍ، تَقرَؤها هَكَذا مُفصَّلَةً، وإنْ أُدرِجَتْ فلا بأسَ؛ لأنَّه لم يرِدِ النَّهْيُ عن ذلك، إلَّا أنه لا يَنْبغِي للإنسانِ أنْ يَهُذَّ القُرآنَ هَذًّا، تخْفَى معه الحُروفُ، بل قد يَحرُمُ عليهِ إذا لَزِمَ أن تَخفى بعضُ الحُروفِ. أمَّا الهذُّ الذي يَستكمِلُ فيهِ الإنسانُ الحُروفَ فلا بأسَ، لكنَّ الأفْضلَ الوقوفُ على كلِّ آيةٍ.
فإنْ قالَ قائل: هل تقِف على قولِه تَعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾ [الماعون: ٤]؟
فالجَوابُ: يقفُ؛ لأنَّها آيةٌ؛ لأنَّ اللهَ ﷿ هو الَّذي أنزَلَها، وجعَلَ هذه آيةً مُنفصِلةً عنِ الأُخرى، وربَّما يَكونُ في الوُقوفِ على الآية هكذا حتَّى يَندهِشَ القلبُ، فيترَقَّبَ بشغَفٍ المعنى المُبيِّنَ لهذا، فتَقولُ: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: ٥]، فكَأنَّها مطَرٌ على أرْضٍ قاحِلةٍ، إذَنْ: نقِفُ على هذا ولا مانِعَ.
أمَّا قولُه: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾ فهذِهِ لا نقِفُ عليها، لأنَّها ليستْ رأسَ آيةٍ بَلْ نَقولُ: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ [النساء: ٤٣].
إذَنْ: فقَوله تَعالى: ﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾، يَشْملُ التَّفصيلَ اللَّفْظِيَّ والمعنَوِيَّ؛ فالتَّفْصيلُ اللَّفْظيُّ: أنَّ اللهَ جعلَ كلَّ آيةٍ مُستقلِّةً عنِ الأُخرَى، مَفصولًا بعضُها عن بعضٍ، والمَعنَوِيُّ: التَّبْيينُ والإيضاحُ لِما كانَ مُجْملًا، ولهذا أَشارَ المُفسِّر ﵀ إلى التَّفْصِيلِ المْعنَوِيِّ فقطْ؛ فقالَ: [بُيِّنَتْ بالأحْكامِ والقَصَصِ والمَواعِظِ]، ولكنْ ينْبَغِي أنْ يُقالَ: إنَّها فُصِّلَتْ مِن وَجْهَينِ: لفظِيٍّ ومَعنوِىٍّ. فاللَّفظِيُّ: أنَّ كلَّ آيةٍ فُصِلَتْ عنِ الأُخرَى، والمعنَوِيّ: أنَّها بُيِّنَتْ وبُيِّنَ ما أُجمِلَ منها، سَواءٌ مِنَ الأحكامِ أو غيرِها.
1 / 20
فقوله تَعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الانفطار: ١٧ - ١٨]، هذا مجُمَلٌ فصَّلَهُ بِقَولِه: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٩].
وقَوله تَعالى: ﴿الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ [القارعة: ١ - ٣] مجُمَلٌ فصَّلَه بِقولِه: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾. فالتَّفْصيلُ هُنا -أي: التَّفْصيلُ المعنويُّ -يعني بيانَ القرآنِ أنَّه بيَّنَ ووضَّحَ، حتَّى لو جاءَ مُجملًا فلا بدَّ أنْ يُبيَّن.
فإذا قالَ قائلٌ: قالَ اللهُ تَعالى: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾، وفي آية أُخرى قالَ: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ [الزمر: ٢٣]، فأين الجَمعُ بينَ هذِه الآياتِ؟
الجَوابُ: لا تَعارُضَ؛ لأنَّ قولَه: "مَثانيَ" بمعنى "فُصِّلَتْ"، حيثُ إنَّ معناها تُثنَّى فيه المَعاني، فيَذكُرُ الخَيرَ ثمَّ الشَّرَّ، يَذكُرُ أهلَ الخيرِ وأهلَ الشَّرِّ، والجنّةَ والنَّارَ وما أشبَهَ ذلِكَ؛ هذا هوَ المُرادُ بِقولِه: "مَثانيَ".
أمَّا قوله: "مُتَشابِهًا"، فمَعناه: أنَّه يُشبِهُ بعضُهُ بعضًا في الكَمالِ والحُسْنِ والجَودَةِ.
فإنْ قِيلَ: ما الجَمعُ بينَ ثَناءِ اللهِ على القُرآنِ بأنَّه مُتَشابِهٌ وبيْنَ قولِه تَعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٧]؟
قُلْنا: الجَمعُ بينهما أنَّه مُتشابِهٌ في الحُسْنِ، يُشبهُ بَعضُه بَعضًا، وأمَّا محُكَماتٌ ومُتَشابهاتٌ، فالمُحكَماتُ هي: ما اتَّضحَ مَعناها، والمتشَابهاتُ هي: ما خفِيَ مَعناها.
وقولُه ﵀: [﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ حالٌ مِنْ "كتابٌ" بصفَتِه].
مفسِّرُ الجلالَيْنِ ﵀ جيد جدًّا، حيث قالَ: إنَّ ﴿قُرْآنًا﴾ [حالٌ]، فكأنَّ
1 / 21
إنسانًا أورَدَ عليهِ كيفَ تَقولُ: إنَّه قُرآنٌ، والحالُ وصفٌ، والقرآنُ ليسَ وصفًا، فقالَ: بصِفتِه، وصفْتُه: ﴿عَرَبِيًّا﴾؛ يَعني: لو كانتْ في الآيةِ الكريمةِ قُرآنًا فقطْ، لمَا صحَّ أنْ تَكونَ حالًا؛ لأنَّ الحالَ لا بُدَّ أنْ تَكونَ مُشتقَّةً: اسمَ فاعلٍ، أوِ اسمَ مَفعولٍ، أو ما أشبهَ ذلكَ، وقرآنٌ غيرُ مشتقٍّ؛ فلهذا قالَ: إنَّها [حالٌ مِن "كتابٌ" بصِفتِه].
إذَن: [بصِفَته] عائِدٌ على "قرآنٍ"، كأنه قالَ: صحَّ أن يَكونَ حالًا لأنه مَوصوف.
فإذا قالَ قائِلٌ: كيفَ تجعَلونَهُ حالًا مِنْ كتابٍ وكتابٌ نكرةٌ وصاحبُ الحال لا بُدَّ أنْ يكونَ مَعرِفةً؟
قُلنا: إنَّ هذهِ النَّكرةَ خُصِّصَتْ في قولِه: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾، خُصِّصتْ بالصِّفةِ، والنَّكرَةُ إذا خُصِّصتْ صارتْ قريبةً منَ المَعرِفةِ؛ فلِذلك جازَ وقوعُ الحالِ منها.
فلدَينا الآنَ إشْكالانِ:
الإشْكالُ الأوَّلُ: كيفَ جاءتِ الحالُ مِن كِتابٍ وهوَ نكِرةٌ؟
وجَوابُه: أنَّ كِتابًا الَّذي هو النَّكِرةُ وُصِفَ بقولِه: ﴿فُصِّلَتْ آيَاتُهُ﴾، وإذا وُصِفتِ النَّكرة جازتِ الحالُ منها.
الإشْكالُ الثَّاني: الحالُ ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ إذا أعرَبْنا قُرآنا حالًا، فكيفَ صحَّ أنْ يكونَ حالًا وليسَ بمُشْتقٍّ؟
فالجوابُ: أنه مَوصوفٌ مُشتقٌّ فلذلكَ جازتِ الحالُ منه.
وقولُه: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ معنَى كونِه عرَبيًّا: أوَّلًا: كلِمةُ "قُرآن" على وزنِ فُعْلانٍ،
1 / 22
كشُكرانٍ وغُفرانٍ وما أشبهَ ذلكَ. فهلْ هو بمعنى قارئٍ أو بمعنى مَقروءٍ؟ قِيلَ: إنَّه بمعنى مَقروءٍ، ومَقروءٌ هلْ هو منَ الجَمْع أو منَ التِّلاوَةِ؟ قِيلَ: إنَّه مِنْ قَرى يَقري بمعنى جمَع، ومنه اسمُ القريةِ؛ لأنَّها جامعةٌ للناسِ، وقِيل: مِن قرَأ بمعنى تَلا.
والصَّوابُ: أنه جائزٌ أنْ يَكونَ مِنْ هذا ومن هذا؛ لأنه ما دامَ اللَّفظُ صالحًا للمعنيِّينَ ولا مُنافاةَ بينَهما، فإنَّه يُحمَلُ عليهما جَميعًا؛ وهذا إذا قُلنا: إنَّ ﴿قُرْآنًا﴾ بمعنَى مَقرُوءٍ.
ويَجوزُ أنْ تكونَ بمعنى اسمِ الفاعِلِ "قارِئ"؛ فَقُرآنُ بمَعنى قارِئ؛ أي: جامِعٌ، جامِع للأحكام والتَّوْحيد وغير ذلك.
أمَّا "عرَبِيًّا" فهو نِسبة للعَرَب؛ لأنَّه جاءَ بلُغَتِهم.
وقولُه تعالى: [﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ يَفهَمون ذلك، وهم العرَب]، يعنِي: أنَّ الله جعلَه قرآنا عرَبيًّا لقَوْم يعلَمونَه ويفهَمُونه، ولا حُجَّة لهم في مُعارَضَته والكُفرِ به، لأنَّهم يَعلَمُونه، كما قالَ تعالى في آية أُخْرى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: ٣]؛ أي: تَفهَمون معناه، حيثُ جاء بلِسان العَرَب.
فائِدة: ورَدت في القرآنِ آيات تَجرِي على سبيل المَثَل، مِثل: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١٤٠] فهل صحيحٌ أنَّه وردَ النَّهي عن استِعمالها في غير مَكانها؟
الجَواب: للاستِشهاد بها لا بأسَ به؛ أمَّا أنْ تَجعَل القرآنَ بدلًا عن الكلامِ فهذا حرام.
وقد ذَكَر صاحبُ (جواهِرِ الأدَب) قِصَّة عَنوَنها بقولِه: "المُتكلِّمةُ بالقرآنِ
1 / 23
الكريمِ بدَلًا عن الكَلام" (^١)، وجاءَ بقِصَّة امْرأةٍ تُخاطِب أولادَها بالقُرآن، إذا قالَت: تَغدُّوا، قالَت: ﴿آتِنَا غَدَاءَنَا﴾ ولو أمَرْتَهم يَشتَرون حاجَة منَ السُّوق قالَت: ﴿فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ﴾ [الكهف: ١٩]، وما أشْبه ذلك.
ثُمَّ قالَ في آخر القِصَّة: هذه امْرَأة لها كذا من السِّنين تَتكلَّم بالقرآن مخَافَة أنْ تَزِلَّ، فيغضَب عليها الرَّحمَن. والواقِع أنَّها زَلَّت تمَامًا، فقد جعَلَت تُنزِّل آيات القرآن الكريمِ على أغراضِها الخاصَّة، وهذا لا يَجوز.
أمَّا الاسْتِشهاد بالقُرآن مِثلَ أنْ تَرى رَجُلًا مَفْتُونًا بالدُّنيا، تَقُول: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ [الكهف: ٤٦] هَذا لا بأْس به، وقَد جاء في الحديثِ أنَّ الرَّسُول ﵊ لمَّا رَأى الحسنَ والحُسَينَ وهُما يَعثُران بثَوبٍ جديدٍ نَزَل وأخذَهُما وقالَ: صدَق اللهُ: " ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: ١٥] " (^٢).
مِن فَوائدِ الآيتَين الكَرِيمَتيْن:
الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّ نُزول القرآنِ من عندِ اللهِ؛ لِقولِه: ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ إنزالَ القُرآنِ من آثارِ رحمةِ الله؛ حيثُ قالَ: ﴿مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
_________
(^١) جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب لأحمد الهاشمي (١/ ٤٠٤).
(^٢) أخرجه الإمام أحمد (٥/ ٣٥٤)، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث، رقم (١١٠٩)، والترمذي: كتاب المناقب، باب مناقب الحسن والحسين ﵄، رقم (٣٧٧٤)، والنسائي: كتاب صلاة العيدين، باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة، رقم (١٥٨٥)، وابن ماجه: كتاب اللباس، باب لبس الأحمر للرجال، رقم (٣٦٠٠)، من حديث بريدة ﵁.
1 / 24