Tafsir Al-'Uthaymeen: Faatir
تفسير العثيمين: فاطر
خپرندوی
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٣٦ هـ
د خپرونکي ځای
المملكة العربية السعودية
ژانرونه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
* * *
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ بالله مِن شُرور أَنْفُسنا ومِن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ بالهُدَى ودِين الحَقِّ؛ فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في الله حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليَقينُ، فصَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أَثْناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة؛ حَلقاتٌ فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها؛ حتَّى بلَغ قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَيِ الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ، المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 5
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^١). تغمَّدهما الله بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا - بإِذْنِ اللهِ تَعالَى - لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ محُمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لِإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجَزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعْلِيَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مجُيبٌ.
وَصَلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ
فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ
٢٠ جُمَادَى الآخِرَة ١٤٣٦ هـ
* * *
_________
(^١) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
سورَةُ فاطِرٍ
* * *
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمِينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ عَلَى نبيِّنَا محُمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ. وبَعد:
قال المفسِّر (^١) ﵀: [مَكِّيَّة، وآياتُها خَمْسٌ وأَرْبعونَ أو سِتٌّ وأربعون].
قَوْله: [مَكِّيَّة] أصَحُّ الأَقْوَالِ في المكِّيِّ والمَدَنِيِّ أنَّ ما نزل بعد الِهجْرَة فهو مَدَنِيٌّ وإن نزل بمَكَّة، وما نزل قبل الهِجْرة - أي: قبل وصول النَّبِيِّ ﷺ المدينةَ - فإنَّه مَكِّيٌّ ولو نزل في غَيْر مَكَّةَ؛ هذا هو أصحُّ ما قيل في تَعْريفِ المكِّيِّ والمَدَنِيِّ.
والغالبُ في الآياتِ المَكِّيَّة قُوَّةُ العِبارَةِ وشِدَّتُها وقِصَر الآياتِ، ومَوْضوعها غالبًا في أصول الدِّين وتَقْريرِ التَّوْحيدِ.
وأمَّا الآياتُ المَدَنِيَّة فإنَّها بالعَكْسِ؛ تَجِدُ عباراتِها أسهَلَ وأَطْوَلَ، وغالب مَوْضوعها في فروع الدِّينِ؛ لأنَّ النَّاسَ غالبَهُم قد قاموا بالتَّوْحيدِ، ولها ضوابِطُ معروفَةٌ في أُصولِ التَّفْسيرِ وعَلاماتٌ.
وهنا يقول ﵀: إنَّها [مَكِّيَّة]، واعلمْ أنَّ السُّورَة إذا كانت مَكِّيَّة، واسْتُثْنِيَ بعضُ آياتِها - مثلًا يقول: (مَكِّيَّة إلا آيَةَ كذا وكذا) - فإنَّ هذا الإستثناءَ غَيْرُ مَقْبولٍ من قائِلِه إلا بِدَليلٍ؛ لأنَّ الأَصْلَ أنَّ السُّورَة جُزءٌ واحِدٌ؛ بمَعْنى أنَّ الرَّسُولَ ﷺ إذا
_________
(^١) المقصود بـ (المفسر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 7
نزلت آيَةٌ، قال: ضعوها في موضِعِ كذا من سورَةِ كذا (^١).
فالسُّورَة المَكِّيَّة مَكِّيَّةٌ ولا يُسْتَثْنَى منها شَيْءٌ، والسُّورَةُ المَدَنِيَّة مَدَنِيَّة ولا يُسْتَثْنَى منها شَيْء إلا بِدَليل، ولا يَكْفي أن يقولَ العالِمُ: (إلا كذا، إلا كذا)، بل لا بُدَّ فيه من سنَدٍ؛ لأنَّ هذا خَبَرٌ، والأَخْبارُ لا بُدَّ من سَنَدٍ لها حتى تَصِلَ إلى غايَةِ السَّنَد.
وَقَوْل المُفَسِّر ﵀: [إنَّها خَمْسٌ وأربعونَ آيَةً، أو سِتٌّ وأربعونَ آيَةً] هذا لا يَضُرُّ؛ فالإختلافُ في عَدَدِ الآياتِ أَمْرٌ ليس بضارٍّ؛ ولهذا في سورةِ (الفاتحة) اختلف العُلَماءُ ﵀: هل البَسْمَلَة آيَةٌ من آياتِها أو مُسْتَقِلَّة مع الإتِّفاقِ على أنَّ الفاتِحَة سَبْعُ آياتٍ.
* * *
_________
(^١) أخرجه الإمام أحمد (١/ ٥٧)، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب من جهر بها [أي البسملة]، رقم (٧٨٦)، والترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة، رقم (٣٠٨٦)، من حديث عثمان بن عفان ﵁.
1 / 8
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* * *
*قَالَ اللهُ ﷿: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
* * *
البَسْمَلَةُ آيَةٌ من كِتَابِ الله مُسْتَقِلَّة، لا تكون تَبعًا لما قَبْلها ولا مُقَدِّمَة لما بعدها؛ بمَعْنى أنَّها ليست من التي قبلها ولا مِنَ التي بعدها؛ لكنْ يُؤْتى بها في ابتداءِ السُّورَة علامَةً على ابْتِدائِها إلا في سورة (براءة) فإنَّ الله تعالى لم يُنْزِلْ فيها البَسْمَلَة.
يقول بعضُ العُلَماءِ ﵀: لأنَّها بعْضٌ من سورة (الأنفال).
ويقول آخرون: لأنَّها نَزَلَتْ بالسَّيْفِ والشِّدَّةِ على المُنافِقين والكُفَّارِ، وهذا لا يُناسِبُه البراءةُ بالبَسْمَلَة التي هي (بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم) فإنَ البَسْمَلَة بَرَكَةٌ ورَحْمةٌ لا تتناسَبُ مع الشِّدَّة والغِلْظة والقَتْل والقِتال، ولكن هذا ليس بصحيحٍ، بل أَقْرَبُ شَيْءٍ أنَّ الصَّحابَة ﵃ أُشْكِلَ عليهم: هل هي من (الأنفال) أو مُسْتَقِلَّة؟ فوضعوا فاصلًا ولم يضعوا البَسْمَلَة (^١)، فلم يجزموا لا بهذا ولا بهذا، على أنَّنا نَعْلَمُ بأنَّ الله تعالى لم يُنْزِلْها؛ لأنَّ البَسْمَلَة لو نَزَلَت بين (الأنفال) و(براءة) لكان بقاؤها حتمِيًّا؛ لِقَوْلِه تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] وعلى هذا فيكون اجتهادُ الصَّحابَةِ ﵃ مُوافِقًا تمَامًا لواقِعِ الحالِ.
_________
(^١) أخرجه الإمام أحمد (١/ ٥٧)، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب من جهر بها [أي البسملة]، رقم (٧٨٦)، والترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة، رقم (٣٠٨٦)، من حديث عثمان بن عفان ﵁.
1 / 9
أما إِعْرابُها فقد تقدَّم مِرارًا، وذكرنا أنَّ أحْسَنَ الإِعْراباتِ فيها أنَّ الجارَّ والمَجْرور متعلِّقٌ بمَحْذُوفٍ مُؤخَّرٍ فِعْلِيٍّ مُناسِبٍ، فإذا أردْتَ أن تتوضَّأَ، وقلت: (بسم الله الرَّحْمن الرَّحيم)؛ فالتَّقْديرُ: (بسم الله أَتَوَضَّأُ).
* * *
1 / 10
الآية (١)
* * *
* قَالَ اللهُ ﷿: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فاطر: ١].
* * *
اعلم أنَّ الحَمْد هو وَصْفُ المَحْمودِ بالكَمال مع المَحَبَّةِ والتَّعْظيمِ، وقد حَمِدَ اللهُ ﷾ نَفْسَه في أوَّلِ الأُمُور وآخِرِها.
ففي أوَّلِ الأُمورِ الكَوْنِيَّة قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: ١].
وفي أوَّلِ الأُمورِ الشَّرْعِيَّةِ قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف: ١].
كما حَمِدَ نَفْسَه على مُنْتَهى الأُمُور أيضًا، قال الله تعالى في آخِرِ سورة الزُّمَر: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الزمر: ٧٥].
فحَمِدَ الله ﷾ نَفْسَه في أوَّلِ الأَمْرِ وفي مُنْتَهى الأمر؛ لأنَّ الله تعالى له الأَمْرُ أوَّلًا وآخِرًا، وكُلُّ أَمْرِه فإنَّه مَحْمودٌ عليه؛ لأَنَّه مَبْنِيٌّ على الحِكْمَة والرَّحْمَة.
وهنا يقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ الحَمْد: مُبْتَدَأ، لله: خَبَرُه، واللَّام هنا للإسْتِحْقاق والإخْتِصاص؛ لِلْمَعْنيَيَنِ جميعًا، أمَّا كَوْنُها للإسْتِحْقاقِ؛ فلأنَّه لا أحَدَ أَحَقُّ بالحَمْدِ من الله ﷿؛ فإنَّه مَحْمودٌ على كلِّ حالٍ؛ لأنَّ كلَّ ما يَفْعَلُه وكُلَّ ما يُشَرِّعُه فإنَّه مَحْمودٌ
1 / 11
عليه لكماله، وأمَّا كونُها للإختصاصِ فلأنَّ (أل) في (الحَمْد) هنا للإسْتِغْراقِ؛ أي: كلُّ حَمْدٍ فهو لله، ثابتٌ له، ومَعْلومٌ أنَّه لا أحَدَ يَخْتَصُّ بهذا الوَصْفِ العامِّ الشَّامِلِ إلا اللهُ ﷿؛ لأنَّ من يُحْمَد سوى اللهِ لا يُحْمَد إلا على أشياءَ جُزْئِيَّةٍ غَيْرِ شامِلَةٍ، لكنَّ الذي يُحْمَدُ على كلِّ شَيْءٍ هو الله، وبهذا عَرَفْنا أنَّ اللَّام للإسْتِحْقاقِ والإخْتِصاصِ أيضًا.
قال المُفَسِّر ﵀: [﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ حَمِدَ الله تعالى نَفْسَه بذلك كما بيَّن في أوَّلِ سورَةِ (سبأ)].
ففي أوَّلِ (سبأ) قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ﴾ [سبأ: ١]، لكنْ هناك حَمِدَ نَفْسَه لعُمومِ مُلْكِه الذي له ما في السَّمَواتِ والأَرْض، وهنا حَمِدَ نَفْسَه لابتداءِ خَلْقِه.
قال المُفَسِّر ﵀: [﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: خالِقِهِما على غَيْرِ مثالٍ سَبَقَ].
وَقَوْله تعالى: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ لهم عُقُولٌ أخصُّ من عُقولِ البَشَرِ؛ لأنَّ عُقولَ البَشَرِ قد تستولي علمِها الشَّهْوَةُ فيُضَيِّعُ الإِنْسَانُ عَقْلَه. قَوْله تعالى: ﴿رُسُلًا﴾ جَمْع (رسولٍ) يقول: [إلى الأَنْبِياءِ]، والأَصَحُّ إلى الأنبياءِ وغَيْرِهم؛ يقولُ الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: ٦١] رُسُلُ اللهِ تعالى إلى هذا المُحْتَضَر لِيَقْبِضوا رُوحَه، فهم رُسُلٌ إلى الأنبياءِ وإلى غَيْرِهم؛ فتَخْصيصُ الآيَةِ بالأَنْبِياءِ يُعْتبَرُ قُصورًا في التَّفْسيرِ.
قَوْله تعالى: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ﴾: ﴿أُولِي﴾ بمَعْنى أَصْحاب؛ يعني أنَّ المَلائِكَة لهم أَجْنِحَة، وهو جَمْع (جَناحٍ)، هذا الجَناحُ يَطيرونَ به بِسُرْعةٍ فائِقَة أَسْرَع من الجِنِّ؛
1 / 12
بدليلِ أنَّ العِفْريتَ من الجِنِّ قال لسُلَيْمانَ لمَّا قال ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾ [النمل: ٣٨ - ٣٩] وكان له عادة أنَّه يقوم في وقتٍ مُعَيَّنٍ فقال: ﴿قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾ يعني: في الوَقْتِ المُعَيَّنِ وإلَّا لكانَ الأَمْرُ مُبْهَمًا ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: ٤٠].
يعني مثلًا: إن نَظَرْتَ مثلًا أَبْعَد شَيْءٍ - هم قالوا هكذا - قَبْلَ أن يرتَدَّ إليه طَرْفُه، فإنَّه يأتيه به، وفِعْلًا أتاه؛ ولهذا قال: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا﴾ [النمل: ٤٠].
قال العُلَماء ﵏: إنَّ الذي عنده عِلْمٌ من الكِتابِ كان يَعْرِفُ اسْمَ الله الأَعْظَمَ، وأنَّه دعا باسْمِ اللهِ الأَعْظَمِ، فحَمَلَتْه الملائِكَةُ وأَلْقَتْه بين يَدَيْ سُلَيْمانَ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المَلائِكَة أَسْرَعُ من الجِنِّ، ولا شَكَّ في هذا؛ أنَّهم أسْرَعُ وأَقْوى، فهم لَهُم أَجْنِحَةٌ يَطيرون بها بِسُرْعَة فائقة عَظيمَةٍ.
جبريل ﵊ كان له سِتُّ مِئَة جَناحٍ (^١)، كلُّ جناحٍ له قوَّة عظيمَةٌ في الحَمْل والطَّيَران، ماذا تكون سُرْعَتُه؟
لا شكَّ أنَّها سُرْعَةٌ فائِقَة جدًّا؛ لأنَّنا إذا رأينا الآن الطَّيَّاراتِ النَّفَّاثَةَ أَجْنَحِتُها التي تَحْمِلُها وهي المراوِحُ التي تُدْخِلُ الهواءَ ليَحْمِلَ الطَّائِرَةَ لا تَبْلُغُ هذا المبْلَغَ ولا عُشْرَه، ومع ذلك تَنْتَقِل بهذه السُّرْعَة العَظيمَة وهذا الإرتفاعِ العَظيمِ، فجبريلُ ﵊ له سِتُّ مِئَة جَناحٍ قد سَدَّ الأُفُقَ، وهذا يَدُلُّكَ على أنَّ لهم سُرْعَةً فائِقَةً عَظيمَةً.
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين، رقم (٣٢٣٢)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، رقم (١٧٤)، من حديث ابن مسعود ﵁.
1 / 13
وهذه الأَجْنِحَة ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ وأكْثَرُ؛ ولذا قال: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾.
قَوْله تعالى: ﴿مَثْنَى﴾ ظاهِرُها أنَّ ذلك في العَدَدِ لا في الصِّنْفِ؛ لأنَّ هذا هو الأَصْلُ، ويُحْتَمَل أن يكون في الصِّنفِ؛ لأنَّنا نرى الطَّائِر مثلًا له جناحان، لكنْ كُلُّ ريشة مِن هذه الأَجْنِحَة لها عملٌ خاصٌّ في تَكْييفِ الطَّيَرانِ، منها مثلًا ما يَنْصِبُه حتى يرتَفِع، ويَخْفِضُه حتى يَنْزِل، وَيفْرِشُه حتى يَسْتَقِرَّ، هذا شَيْءٌ مُشاهَد؛ ولهذا بعض الأحيان تُنْتَفُ أَشْياءُ مُعَيَّنةٌ من الجناح ثُمَّ لا يَطيرُ، مع أنَّ الباقِيَ في جناحه أكثَرُ مَمَّا نُتِفَ بكثيرٍ، فيُحْتَمَل أنَّ قَوْله تعالى: ﴿مَثْنَى﴾ يعني: باعتبار الصِّنفِ.
﴿وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ ويُحْتَمَل أنَّه باعتبارِ العَدَدِ وأنَّ المَلائِكَةَ بَعْضُهم له جناحان، وبَعْضُهم له ثلاثة، وبَعْضُهم له أربعَةٌ، ولا ينافي ذلك أنَّ جبريل ﵊ له سِتُّ مِئَة جناح؛ لأنَّ الله ﷾ يقول: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾ ويكون مِمَّا زاده أنْ جَعَلَ لجِبْريلَ سِتَّ مِئَةِ جناحٍ.
فإذا قُلْتَ: هل نعرف كيَفِيَّة هذه الأَجْنِحَة؟
فالجواب: لا؛ كَيْفِيَّة هذه الأَجْنِحَة لا نعلمها، وهذا نَظيرُه تمامًا ما جاء في صِفاتِ الله ﷿؛ فإنَّنا نَعْلَمُ مَعْنى الصِّفَة، ولكِنَّنا نَجْهَل كَيْفِيَّة الصِّفَة، للهِ ﷿ وَجْهٌ، نعلم مَعْنى الوَجْه، لكن هل نَعْلَمُ كَيْفِيَّته؟
الجوابُ: لا؛ لأنَّ ما غاب عنك لا يخاطِبُك الله به إلا بِبَيانِ معناه فقط، وأمَّا كَيْفِيَّته فلا يُمْكِنُك إدراكُها؛ لأنَّه غائِبٌ ولا نَظيرَ له، والشَّيءُ لا يُعْرَفُ إلا بِمُشاهَدَتِه أو مُشاهَدَة نَظيرِهِ أو الخَبَرِ الصَّادِقِ عنه.
ونُعْرِبُ: ﴿مَثْنَى﴾ بدلًا أو صفةً لـ ﴿أَجْنِحَةٍ﴾ وبدَلُ المَجْرورِ مَجْرورٌ، وعلامة جَرِّهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَة على الأَلِف نيابَةً عن الكَسْرَة، والمانِعُ من الصَّرْف الوَصْفِيَّةُ والعَدْلُ.
1 / 14
وكذلك نقولُ في ﴿وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ ولذلك قال: (ثُلَاثَ) ولَمْ يَقُلْ: (ثُلَاثٍ)، وقال: ﴿وَرُبَاعَ﴾ ولم يَقُلْ: (وُرَباعٍ).
قَوْله تعالى: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾؛ أي: يزيدُ في الخَلْقِ سواء كان في المَلائِكَة أو غَيْرِهم، يزيدُ ما يشاءُ مِمَّا تَقْتَضيه حِكْمَتُه ﷾؛ ولذلك تَجِدُ المَخْلوقاتِ لَها أَيْدٍ وأَرْجُلٌ بِحَسَب حاجَتِها إلى هذه الأَيْدي والأَرْجُل، فبنو آدم لهم أَرْجُلٌ يَمْشون بها، ولهم أيدٍ يَبْطِشونَ بها ولا يَمْشون بها؛ لأنَّ هذه الأَيْديَ مَحَلُّ الأَخْذِ والعطاء، فَأُكْرِمَ الإِنْسَانُ بأن تكونَ يداه غيرَ مُسْتَعْمَلةٍ في المَشْي، بخلاف الحيوانِ؛ فالحيوانُ يداه مُسْتَعْمَلةٌ في المَشْيِ؛ لأنَّه يأخُذُ بِفَمِه، ويُعْطي بفَمِه، وَينْقل بفَمِه، حتى الهِرَّة إذا أرادَتْ أن تنقل أولادَها تَنْقِلُهم بفَمِها، لكنَّ الآدَمِيَّ مُكَرَّمٌ، فجعل الله تعالى يَدَيهِ غيرَ مُسْتَعْمَلَتينِ في المَشْيِ، فهو يَزيدُ في الخَلْقِ ما يشاءُ على حَسَب ما تَقْتَضيهِ الحِكْمَةُ وحاجَةُ ذلك المَخْلوقِ، وكلُّ ما ذكره الله ﷿ مِمَّا هو مُعَلَّقٌ بِمَشيئَتِه فقد تقدَّم أنَّه مَقْرونٌ بالحِكْمَة.
قَوْله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هذا تَعْليلٌ لِقَوْله تعالى: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾ يعني: كأنَّ سائلًا يسأل: وهل ذلك صعبٌ عليه؟
فكان الجوابُ من هذه الجُمْلَة أنَّه سَهْلٌ؛ لأنَّ الله على كُلِّ شَيْء قديرٌ، فكلُّ شَيْءٍ مَوْجودٍ قادِرٌ على إعْدامَهِ، وكُلُّ مَعْدومٍ قادِرٌ على إيجادِهِ.
لكنْ لو قال لك قائِلٌ: هل يَقْدِرُ على أن يَجْعَلَ الشَّيْءَ المُتَحَرِّك ساكِنًا في آنٍ واحِدٍ؟
نقولُ: كَلِمَة (مُتَحَرِّك) نَقيضُ (ساكِن) إذا وَصَفْتَه بالمُتَحَرِّك فيقينًا ليس بساكنٍ، وإذا وَصَفْتَه بأنَّه ساكِنٌ، فيَقينًا ليس بِمُتَحَرِّك؛ فلذلك قال العُلَماءُ ﵏:
1 / 15
إنَّ المستحيلَ غَيْرُ وارِدٍ؛ لأنَّ المُسْتَحيلَ لا يمكنُ وُجودُهُ، ليس المَعْنى أنَّه لا يُمْكِنُ باعتبارِ قُدْرَة الله، لكنَّ الله ﷾ إذا أراد أن يَجْعَلَ هذا المُتَحَرِّكَ مُتَحَرِّكًا صار مُتَحَرِّكًا لا ساكِنًا، أمَّا أن يكونَ مُتَحَرِّكًا ساكنًا في آنٍ واحدٍ، كيف ذلك والمُتَحَرِّكُ غَيْرُ ساكِنٍ؟
يقال (^١): إنَّ الشَّيطانَ كان يَفْرَحُ بِمَوْتِ العالِم، إذا قيل: (مات فلان العالِمُ) فرح واسْتَأْنَسَ، لكن إذا قيل: (مات عابِدٌ) يقولُ: هذا هَيِّنٌ، فقال له جنوده: لماذا تَفْرَحُ بِمَوْت العالِم هذا الفَرَحَ العَظيمَ، ومَوْتُ العابِد لا يُهِمُّك مع أنَّ العابِدَ مُنْقَطِعٌ عن الدُّنْيا، وزاهِدٌ في الدُّنْيا، ويُكْثِرُ الذِّكْر والصَّلاة وغيرها؟
قال: لأنَّ العالِمَ أشَدُّ عليَّ من العابِد، قالوا: كيف؟ قال: سأُثْبِتُ لكم الآن، اذهبوا إلى العابِدِ وَقولوا له: هل يَقْدِرُ الله ﷿ على أن يَجْعَلَ السَّمَواتِ والأَرْضَ في جَوْفِ بَيْضَة أو لا؟ فذهبوا إلى العابِدِ، قالوا له: هل يَقْدِرُ الله على أن يَجْعَلَ السَّمَواتِ والأَرْضَ في جَوْفِ بَيْضَة؟ قال: هذا مُسْتَحيلٌ، ولا يَقْدِرُ الله على هذا، ثم قال لهم قولوا له: هل يَقْدِرُ الله أن يَخْلُق مِثْلَه؛ أي: أنْ يَخْلُقَ مِثْلَ الله؟ فذهبوا له، وقالوا له: ما تقولُ: هل يَقْدِرُ الله أن يَخْلُقَ مِثْلَ الله؟ قال: نَعَمْ، إنَّ الله على كلِّ شَيْءٍ قَديرٌ، يَقْدِرُ الله على أن يَخْلُقَ ربًّا مِثْلَه.
إِذَن: كَفَرَ هذا العابِدُ سلبًا وإيجابًا؛ نَفْيُه القُدْرَةَ في الأَوَّلِ كُفْر، وإثباتُهُ القُدْرَةَ في الثاني كُفْر.
ثم قال لهم: اذهبوا إلى العالِمِ، واسْأَلوهُ عن هَذَيْنِ السُّؤالَيْنِ، فذهبوا إلى العالم
_________
(^١) ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (١/ ١٢٩)، وابن القيم في مفتاح دار السعادة (١/ ٦٩)، عن ابن عباس ﵄.
1 / 16
قالوا له هَلْ يَقْدِرُ الله ﷿ على أن يَجْعَلَ السَّمَواتِ والأَرْضَ في جَوْفِ بَيْضَة؟ قال: نعم، يقولُ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧] إمَّا أن تَصْغُرَ السَّمَواتُ والأَرْض، أو تَكْبَر البَيْضَة، المهمُّ إذا أراد قال فكانَ، قالوا: فهل يَقْدِرُ الله أن يَخْلُقَ مِثْلَه؟
قال: هذا أمرٌ مُسْتَحيلٌ، والمِثْلِيَّةُ لا يُمْكِنُ أن تتطابَقَ أبدًا؛ لو لم يكن من الفارِقِ العَظيمِ إلا أنَّ هذا حادِثٌ وذاك واجِبُ الوجودِ، هذا مُسْتَحيلٌ.
المهمُّ: أنَّ الله ﷿ على كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ، لكنَّ الشَّيْءَ المُسْتَحيلَ الذي لا يُتَصَوَّر لا يُتَصَوَّر، وليس المُرادُ هنا المُسْتَحيلَ عادةً؛ فالمُسْتَحيلُ عادةً يُخْلِفُه الله ﷿؛ لأنَّ الله هو خالقُ العادَةِ وقادرٌ على تَغْييرِها، وهذه النَّارُ التي تَحْرِق كانت بَرْدًا وسَلامًا على إبراهيمَ، وهذا الماءُ السَّيَّال صار جامِدًا كالطَّوْدِ العَظيمِ، والعادَةُ يُمْكِنُ أن يُغَيِّرَها الله ﷿ بكُلِّ سهولَةٍ، لكنَّ الكَلامَ على الأَمْرِ المُمْتَنِع المُسْتَحيلِ.
يقولُ العُلَماءُ ﵏: إنَّه لا تتعلَّقُ به القُدْرَة؛ لأنَّه مُسْتَحيلٌ؛ ولهذا قال السَّفاريني في العقيدة (^١):
" ................... ... .................... وَاقْتَدَرْ
بِقُدْرَةٍ تَعَلَّقَتْ بِمُمْكِن ... .......................... "
وهذا أمرٌ مُتَّفَقٌ عليه عند العُقَلاءِ.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ هذا ليسَ فيه اسْتِثْناءٌ، كتب الجلال ﵀ وهو السيوطي - على هذه الآيَة في سورة (المائِدَة) قال: "وَخَصَّ العَقْلُ ذَاتَهُ فليس عليها بقادرٍ"؛ يعني: على كلِّ شَيْء قديرٌ إلَّا على ذاتِه فليس عليها بقادِرٍ.
_________
(^١) العقيدة السفارينية (ص ٥٢).
1 / 17
نقول: هذا الإسْتِثْناءُ لا شَكَّ أنَّه باطِلٌ؛ لأنَّ الآيَةَ ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فقال: ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ وَقَوْله: "إنَّ العَقْلَ خَصَّ ذاتَه فليس عَلْيها بقادِرٍ" نقولُ: إنَّ العَقْلَ لا يُمْكِنُه أن يُخَصِّصَ هذا الخَبْر بدون دليلٍ، ولو ذَهَبْنا نخصِّص مثل هذه العُموماتِ بالعُقولِ لَأَبْطَلْنا كثيرًا من دَلالاتِ الكِتَابِ والسُّنَّة.
وماذا تريد بِقَوْلك: "خَصَّ العَقْلُ ذاتَهُ فليس عَلَيْها بقادِرٍ؟ " إن أردْتَ أنَّه ﷾ لم يكُنْ قادرًا على ذاتِهِ؛ بمَعْنى أنَّه لا يَقْدِر مثلًا أن يُمْرِضَ نفسه أو أن يُعْدِمَ نَفْسَه ﷾ فهذا أَصْلٌ لم تتعَلَّقْ به القُدْرَة؛ لأنَّ هذا من الأُمورِ المُسْتَحيلَة، وإن أردتَ أنَّه ليس قادِرًا على أن يفعل، فلَعَلَّ هذا مُرَادُه - لأنَّ الأشاعِرَة ومن شابَهَهُم يُنْكِرون الأَفْعالَ الإخْتِيارِيَّةَ - فهذا كَذِبٌ؛ بل العَقْلُ يدلُّ على أنَّه ﷾ لم يَزَلْ ولا يزال فعَّالًا لمِا يُريدُ.
وتُوجَدُ عِبارَةٌ تقع كثيرًا بين النَّاس تقول: (إنَّ الله على ما يشاءُ قَديرٌ) نقولُ: هذه عِبارَة خَطَأٌ؛ لأنَّ هذا يُوهِمُ أنَّ ما لا يَشاؤُهُ فليس قادِرًا عليه، هذا أوَّلًا.
وأمَّا قَوْله تعالى: ﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ [الشورى: ٢٩]، فالمشيئة هنا ليست عائِدةً على القُدْرَة بل عائِدَةٌ على الجَمْع؛ يعني: إذا شاء جَمْعَهُم فإنَّه قديرٌ عليه ردًّا على من أنكروا البَعْثَ، وقالوا: كيف يَجْمَعُ الله النَّاسَ وَيبْعَثُهم بعد أن ماتوا؟
ثانيًا: أنَّكَ إذا قُلْتَ: (إنَّه على ما يشاءُ قَديرٌ) فقد خالَفْتَ التَّعْبيرَ القُرْآنِيَّ الذي أطلق الله فيه وعَمَّمَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
ثالثًا: أنَّ هذا مَأْخوذٌ مِن مَذْهَبِ القَدَرِيَّةِ؛ لأنَّ القَدَرِيَّةَ يقولون: (إنَّ الله لا يَقْدِرُ على عَمَلِ العَبْدِ) فهو غَيْرُ داخِلٍ في قُدْرَة الله، وإذا لم يَقْدِر عليه فإنَّه لا يَشاؤُه، وكذلك
1 / 18
يقولون: إنَّه ﷾ إذا كان فِعْلُ العبد في غَيْر مَشيئَتِه فإنَّه غَيْر قادرٍ عليه؛ لأنَّ اللهَ قادرٌ على ما يشاء فقط.
فلأَجْلِ هذا نقول: إنَّ هذه العِبارَة لا تَنْبَغي، وإن كان صاحِبُها يريد بها معنًى صحيحًا، فقد يُريدُ بها معنًى صحيحًا كما هو ظاهِرُ عبارَةِ كَثيرٍ من المُسْلمينَ الذين يَنْطِقونَ بهذا الشَّيْءِ، ونقول: إنَّ الأكْمَل أن تقول: "إنَّ الله على كُلِّ شَيْء قديرٌ".
فإن قلت: إنَّه ورد في قِصَّةِ آخِرِ من يُدْخِلُه اللهُ الجَنَّة فيقول اللهُ له: لمَّا قال هذا لكَ وعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، قال الله له: "إِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ" (^١) هذا حديثٌ قدسيٌّ؟
فالجواب: أنَّ هذا في قَضِيَّة مُعَيَّنَة؛ يعني: لو وَقَعَ شَيْء يَسْتَغْرِب الإِنْسَانُ وُقوعَهُ وَيسْتَبْعِدُه، فلنا أن نقول: إنَّ الله تعالى إذا شاء شيئًا فهو قادرٌ عليه؛ بمَعْنى أنَّه فاعِلُه كقَوْله تعالى: ﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: ٢٧] بخلاف القُدْرَة المُجَرَّدَة عن الفِعْل، فإنَّ هذه لا تُقَيَّد بالمَشيئَة.
وظاهِرُ الآيَةِ الكَريمَةِ أنَّ جميعَ المَلائِكَة رسلٌ، فهل هذا الظَّاهِرُ مُرادٌ؟
الجواب: غَيْرُ مُرَادٍ بدليلِ قَوْله تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: ٧٥].
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: بَيانُ كَمالِ الله ﷿؛ حيْثُ أَثْنى على نَفْسِه بالحَمْدِ، وقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾.
_________
(^١) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجًا، رقم (١٨٦)، من حديث ابن مسعود ﵁.
1 / 19
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ الله ﷿ رحيمٌ بعبادِهِ يُعَلِّمُهم كيف يَحْمَدونَه؛ لأنَّ قَوْله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ خَبَرٌ، لكن معناها الإرشادُ والتَّوجيه؛ كما قال الله تعالى في آيَة أخرى: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ [الإسراء: ١١١].
ولهذا ذَهَبَ بعضُ العُلَماء ﵏ إلى أنَّه كلَّما جاءت ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ فهي على تَقْدير: (قل) حتى قالوا في قَوْله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] المَعْنى: (قل: الحَمْدُ لله).
ولكنَّ الصَّوابَ خلافُ ذلك، وأنَّ هذا خَبَرٌ من الله ونَحْنُ نَتْلوه نُثْنِي به على الله، ولا حاجَةَ إلى أنْ يَأْمُرَنا الله بذلك.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: إِثْباتُ اسْمِ (الله) للرَّبِّ ﷿، وهذا الإسْمُ خاصٌّ به، لا يقال لغيره، وهو أَصْلُ الأَسْماءِ؛ ولذلك تأتي الأَسْماء بعده في الغالِبِ صِفَةً له، ولا تأتي سابِقَةً عليه إلا نادِرًا كما في قَوْلِه تعالى: ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [إبراهيم: ١ - ٢] وإلا فإنَّ الغالِبَ أنَّ الأَسْماء تأتي تابِعَةً له، فهو أصل الأَسْماءِ؛ ولهذا لا يُسَمَّى به غَيْره أبدًا لا عَلَمًا ولا صِفَةً بأيِّ حالٍ مِنَ الأَحْوالِ.
وهل هو مُشْتَقٌّ أو اسمٌ جامِدٌ؟
الصَّحِيح بلا شَكٍّ: أنَّه مُشْتَقٌّ؛ لأنَّ جَميعَ أَسْماء الله تعالى مُشْتَقَّة؛ بمَعْنى أنَّها دالَّةٌ على المعاني التي أُخِذَتْ منها؛ فهو مُشْتَقٌّ من الأُلُوهِيَّةِ؛ لأنَّ الإشتقاقاتِ تكونُ من المَصْدَرِ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ الله ﷿ هو فاطِرُ السَّمَواتِ والأَرْضِ لم يُشارِكْه أحدٌ في ذلك لِقَوْله تعالى: ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
1 / 20
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: كَمالُ قُدْرَته وحِكْمَتِه؛ حيث ابتدأ خَلْقَ هذه السَّمَواتِ العَظيمَةِ وهذه الأَرْضِ على هذا النِّظامِ البَديعِ من غَيْر أن يَسْبِقَ مثالٌ يَحْتذيهُ وَيقْتَدي به، ومعلومٌ أنَّ مُبْدِعَ الصَّنْعَة يُشْهَدُ له بالخِبْرَة والقُدْرَة؛ لأنَّه أَنْشَأَ شيئًا جديدًا وصارَ هذا الشَّيْءُ الجَديدُ مُنْتَظِمًا على تمَامِ الإنْتِظامِ وغايَةِ الإِحْكامِ فإنَّه يُشْهَد له بالكمالِ والخِبْرَة، ففي كَوْنِه فاطِرَ السَّمَواتِ والأَرْضِ دليلٌ على القُدْرَةِ وعلى الحِكْمَةِ؛ لأنَّه خَلَقَهُما على غَيْر مثالٍ سَبَقَ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ السَّمَواتِ مُتَعَدِّدةٌ، وقد بيَّنها الله تعالى في آيَةٍ أخرى أنَّها سَبْعٌ، وقال: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [المُؤْمِنون: ٨٦]، وأمَّا الأَرْض فذُكِرَت مفْرَدَةً باعتبارِ الجِنْسِ، وهي سَبْعُ أَرَضينَ، والدليلُ من القُرْآنِ قَوْله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ١٢]، ومن السُّنَّة: "مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللهُ إيَّاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ" (^١).
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: إثبات المَلائِكَةِ؛ لِقَوْله تعالى: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ﴾.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أنَّ من المَلائِكَة مَنِ اصْطَفاهُم الله تعالى رُسُلًا إلى الخَلْقِ بالوَحْيِ وغَيْرِ الوَحْيِ؛ لِقَوْله تعالى: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أنَّ هؤلاء الرُّسُلَ لهم أجْنِحَة مُتَعَدِّدَةُ الأَصْنافِ ومُتَعَدِّدَةُ الأَعْيان، يعني أنَّها مُتَعَدِّدَةٌ كمِّيَّةً وكَيْفِيَّةً؛ لِقَوْله تعالى: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أنَّ فيها إِشَارَةً إلى سُرْعَةِ تَنَقُّلِ المَلائِكَةِ لِقُوَّةِ أجْنِحَتِهم؛ لِقَوْله
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، رقم (٢٤٥٢)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم (١٦١٠)، من حديث سعيد ابن زيد ﵁.
1 / 21
تعالى: ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ﴾ وإنَّما قُلْتُ: (لِقُوَّةِ أَجْنِحَتِهم)؛ لأنَّه لولا أنَّ لهذه الأجنحة مَزِيَّة عظيمَةً اسْتَحَقَّتْ أن يُنَصَّ عليها لذُكِرَ غَيْرُ الأَجْنِحَة كالرُّؤوسِ مثلًا، ولكنْ ذَكَرَ الأجنِحَةَ لما فيها من القُوَّة لحَمْلِها هؤلاء المَلائِكَةَ؛ ولأنَّها تكون عند الإرْسالِ أَسْرَعَ، وقد ذكرنا مثالًا لذلك يدُلُّ على أنَّ المَلائِكَة أسْرَعُ من غَيْرها في الطَّيَران في قِصَّة عَرْشِ بِلْقِيسَ.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ الله ﷿ يزيدُ على الإثنين والثَّلاثة والأَرْبَعة بما شاء؛ لِقَوْله تعالى: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ الله تعالى فضَّلَ المخلوقاتِ بَعْضَها على بعضٍ؛ لِقَوْله تعالى: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ﴾ والزِّيادَةُ مُقابِلُها نَقْصٌ.
إذن: فهناك مُفاضَلَةٌ بين المَخْلوقاتِ بعضِها مع بعضٍ، ولكن هل المُرَادُ القُوَّةُ أو كِبَرُ الجِسْمِ أو العقل أو العِلْم أو غَيْر ذلك؟
الجوابُ: العُمومٌ؛ لأنَّه قال: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾ فهذا يزيدُهُ قوةً في الجِسْم، وهذا يزيدُهُ قوَّةً في العَقْلِ، وهذا يَزيدُهُ قُوَّةً في الطُّولِ، وهذا يزيده قوةً في العِلْم ... إلخ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أنَّك إذا وَجَدْتَ من نَفْسِك نَقْصًا في خَلْقِكَ فاطْلُبْ إِكمالَهُ من الله؛ لأنَّ قَوْله تعالى: ﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾ معناه: لا تَسْأَلِ الزِّيادَةَ في خَلْقٍ ولا خُلُقٍ إلا من الله ﷿؛ لأنَّه هو المانُّ بما يزيد به ﷾.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إِثْباتُ المَشيئَةِ؛ لِقَوْله تعالى: ﴿مَا يَشَاءُ﴾ وقد تَقَدَّمَ أنَّ المَشيئَةَ كلَّما ورَدَتْ وَرَدَتْ معلَّقَةً بالحِكْمَةِ، واسْتَدْلَلْنا لذلك بِقَوْله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإِنْسَان: ٣٠].
1 / 22
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: إِثْباتُ القُدْرَةِ العامَّةِ؛ لِقَوْله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو قادِرٌ على أن يَزيدَ في الخَلْقِ ما يشاء وقادِرٌ على الإيجادِ والإِعْدامِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الرَّدُّ على القَدَرِيَّة الذين يزعمون أنَّ أفعالَ العَبْدِ غَيْرُ مَخْلوقةٍ ولا مقدورَةٍ لله؛ لِعُمومِ قَوْلِه تعالى: ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وأَفْعالُ العَبْدِ من الأَشياءِ.
* * *
1 / 23
الآية (٢)
* * *
* قَالَ اللهُ ﷿: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: ٢].
* * *
﴿مَّا﴾ شَرْطِيَّةٌ تَجْزِمُ بدليلِ الفِعْلِ بعدها، ولكنَّ الفِعْلَ بعدها أمامنا مكسورٌ ﴿يَفْتَحِ﴾ فنقول: إنَّ هذه الكَسْرَة عارِضَةٌ من أجل تَوَقِّي الْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، وإلا فإنَّها مَجْزومةٌ، وهذا كقَوْله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ البَيِّنَة: ١] وأَصْلُها: (لم يَكونْ).
قَوْله تعالى: ﴿يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ﴾ فَتْحُ الشَّيْءِ: إزالَةُ الحَواجِزِ دونه؛ يعني: متى فتحْتَ البَيْتَ؛ يعني: أزَلْتَ الحاجِزَ المانِعَ مِن دُخُولِهِ وهو البابُ، والرَّحْمَة إذا فُتِحَتْ فإنَّ الإِنْسَانَ يَدْخُل إليها ويَلِجُ فيها.
وَقَوْله تعالى: ﴿مِنْ رَحْمَةٍ﴾: ﴿مِن﴾ بيانٌ لـ ﴿مَّا﴾، و﴿مَّا﴾ شَرْطِيَّةٌ مُفيدَةٌ للْعُمومِ، وعلى هذا فيكونُ في الآيَةِ عُمومٌ؛ أي: أيُّ رَحْمةٍ يَفْتَحْها الله ﷿ للنَّاسِ فلا أَحَدَ يَسْتَطيعُ إِمْساكَهَا.
وَقَوْله تعالى: ﴿مِنْ رَحْمَةٍ﴾ قال المُفَسِّر ﵀: [كَرِزْقٍ ومَطَرٍ]، وهذا على سبيلِ التَّمْثيلِ لا الحَصْر؛ لأنَّ رَحْمَة الله أكْثَرُ من ذلك، قال الله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: ٥٣]، ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١٨] فرَحْمَة الله ﷿ لا تُحْصَى في أَنْواعِها فضلًا عن أَفْرادِها.
1 / 24