Tafsir al-Uthaymeen: Az-Zukhruf
تفسير العثيمين: الزخرف
خپرندوی
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٣٦ هـ
د خپرونکي ځای
المملكة العربية السعودية
ژانرونه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ بالله مِن شُرور أَنْفُسنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ بالهُدَى ودِين الحَقِّ؛ فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في الله حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليَقينُ، فصَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بن صالع العُثَيمِين -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أثْناءَ الإِجازاتِ الصَّيفيَّة؛ حَلقاتٌ فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها؛ حتَّى بلَغ قَولَه تَعالى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَين يَدَيِ الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالينِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ، المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 5
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^١). تغمَّدهما الله بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا -بإِذْنِ اللهِ تَعالى- لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ محُمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيمِين الخَيريَّةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللهَ تعالى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيرَ الجزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعليَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مجُيبٌ.
وَصَلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ
فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيمِين الخَيريَّةِ
٢٠ جُمَادَى الآخِرَة ١٤٣٦ هـ
_________
(^١) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
سورة الزخرف
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمَينَ وصلَّى اللهُ وسلَّمَ عَلَى نَبيِّنا محُمَّدٍ وَعَلَى آلِه وأصحَابِهِ، ومَنْ تَبِعَهُم بإحسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ فإِنَّ تَفْسِيرَ القُرآنِ العَظِيمِ مِنْ أَهَمِّ وَاجِبَاتِ المُسلمِينَ أَنْ يَعرِفُوا معْنَى كلَامِ اللهِ ﷾؛ لأنَّ الكَلَامَ إِذَا لَمْ يُفهَمْ معْنَاهُ لَا يُنتفَع بِهِ، والَّذِي يَقْرَأُ ولَا يَفْهَمُ بمنْزِلَةِ الأُمِّيِّ الَّذِي لَا يَقْرَأُ، كَمَا قَال اللهُ ﷿: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة: ٧٨] أَي: إلا قِرَاءَةً، فسَمَّاهُم اللهُ أُمِّيِّينَ.
والقُرآنُ يُفَسَّر بالقُرآنِ، فإِنْ لَمْ يَكُنْ فبِالسُّنَّةِ، فإِنْ لَمْ يَكُنْ فبأَقْوَالِ الصَّحابَةِ، ولا سِيَّما المَشهُورُون مِنْهُم بعِلْمِ التَّفسِير، فإِنْ لَمْ يَكُنْ فبِمَا قَالهُ كِبَارُ التَّابعِينَ مِنْ أَهْلِ التَّفسِير، هَذِهِ هِيَ القَاعدَةُ الَّتِي مَشَى عَلَيهَا أَهْلُ السُّنَّة والجَمَاعَةُ.
وأمَّا التَّفسِيرُ بالرَّأْيِ فمِنْهُمُ المُخطِئُ ومنْهُمُ المُصِيبُ، ولكِنْ لَا يَجُوزُ للإنسَانِ أَنْ يُفسِّرَ القُرآنَ برَأْيِهِ، بمَعْنَى: أَنْ يُحوِّلَ القُرآنَ إِلَى رَأْيهِ، فإِنَّ مَنْ قَال فِي القُرآنِ برَأْيهِ فلْيَتَبوَّأْ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ، مِثَال ذَلِكَ: الَّذِين يُفسِّرُونَ قَوْلَ اللهِ ﷿: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤] بأنَّهُما النِّعمَةُ، فهَؤُلاءِ قَالُوا فِي القُرآنِ برَأْيِهِمْ، لأَنَّ هَذَا المَعْنَى غيرُ المُرادِ قَطْعًا، وكذَلِكَ الَّذِين يَقُولُون: ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: ٥٤]، يَعْنِي: استَوْلَى عَلَى العَرشِ، فإنَّ هَذَا مُنكَرٌ مِنَ القَولِ، وتَفْسِيرُ الْآيَة بِهِ مِنَ القَولِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ، ومِنَ الافتِرَاءِ عَلَى اللهِ ﷾.
1 / 7
هؤُلَاءِ نَقُولُ: إنَّهُم قَالُوا فِي القُرَآنِ برَأْيِهِمْ، أَي: حَوَّلوا القُرَآنَ إِلَى رَأْيِهِمْ، وأمَّا مَنْ فسَّر القُرآنَ بمُقتَضى الحقَائِقِ الشَّرعيَّةِ واللُّغَويَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ حقيقَةً شرعيَّةً فإِنَّه لَمْ يَقُلْ فِي القُرآنِ برَأْيهِ.
وقَدْ سبَقَتْ هَذِهِ القَاعدَةُ أوَّلَ مَا بدَأْنا فِي عِلْمِ التَّفسِير، فلْتكُنْ مَرْجِعًا لكُمْ، يُفسَّرُ القُرانُ أوَّلًا بالقُرآنِ، ثُمَّ بالسُّنَّة، ثُمَّ أَقْوالِ الصحَابَةِ، ثُمَّ كِبَارِ التَّابعِينَ الَّذِين اعْتَنَوْا بالتَّفسِير، كمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ ﵀ الَّذِي أخَذَ التَّفسِير عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ﵄.
وأُقدِّم في بِدَاية تَفْسِير سُورة الزُّخْرُف بمُقدِّماتٍ:
١ - القُرآنُ الكَريمُ، مَا عقِيدَةُ أهْلِ السُّنَّة فِيهِ؟
الجَوابُ: عَقيدِةُ أهْلِ السُّنَّة في القُرآنِ الكَريمِ أنَّه كَلامُ اللهِ ﷿ حقيقَةً، تكَلَّم به حَرْفيًّا، وأرَادَ معنَاهُ حسبَ اللُّغةِ العربيَّةِ، كَمَا قَال اللهُ ﷿: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ وهَذَا القُرآنُ يَنزِلُ شَيئًا فشَيئًا، كَمَا قَال تعَالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء: ١٠٦] أَي: شَيئًا فشَيئًا حسبَما يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيهِ في وَقْتِ نُزُولهِ.
٢ - أن القُرآنَ الكَرِيمَ نَزَلَ عَلَى وَجْهَينِ:
الوَجْهِ الأوَّل: مَا لَهُ سَبَبٌ.
والثَّانِي: مَا لَا سَبَبَ لَهُ.
فالأوَّلُ: مَا لَهُ سَبَبٌ؛ أَي: بسَبَبِ حَادِثَةٍ وَقَعَتْ فنزل فِيهَا.
ومِنَ الضَّوابطِ فِي هَذَا: أن كُلَّ آيَةٍ فيها ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ فإنَّهَا لسَبَبٍ، يَسأَلُونكَ عَنْ كَذَا، هَذَا سبَبٌ، فكُلَّما رَأَيتَ في القُرآنِ الكَرِيمِ آيَةً مُصدَّرةً بكَلِمَةِ ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾
1 / 8
فإِنَّها نزَلَتْ لسَبَبٍ، وقَدْ لَا يُذْكَرُ فِيهَا ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾ حسبَما ذُكِرَ فِي كُتُبِ التَّفسِيرِ.
وإذَا نزَلَتِ الْآيَةُ لسَبَبٍ: فهَلْ تَخْتَصُّ بذَلِكَ السَّببِ أَوْ تَكُونُ عَامَّةً لَهُ ولمِا يُشارِكُه في العِلَّة؟
الجَوابُ: تكُونُ عَامَّةً لَهُ ولمِا يُشاركُه في العِلَّة؛ ولهَذَا قَال العُلمَاءُ ﵏: العِبرَةُ بعُمُومِ اللَّفظِ لَا بخُصوصِ السَّببِ.
فمَثلًا: أوَّلُ سُورةِ المُجادلَة نزَلَتْ في قِصَّةِ رَجُل مُعيَّن -أَوسِ بْنِ الصَّامِتِ-، فهَلْ نَقُولُ: إنَّ هَذَا الحُكمَ خاصٌّ به. أو نَقُولُ: إنَّه عامٌّ لَهُ ولمِنْ يُشارِكُه في المَعْنَى؟
الجَوابُ الثَّانِي؛ فكُلُّ مَنْ ظَاهَر مِنِ امرَأتِهِ فلَهُ حُكْمُ ظِهَارِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ ﵁، وهذ قاعِدَةٌ تُفيدُك في استِعْمَال الاستِدْلَالِ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ، وأنَّ الأَصْلَ هُوَ العُمُومُ.
٣ - القُرآنُ الكَرِيمُ لَهُ خَصَائِصُ كَثِيرَةٌ:
مِنْهَا: أنَّهُ لَا يَمَسُّه الإنسَانُ إلا عَلَى طَهَارَةٍ؛ يَعْنِي: أن المُحدِثَ لا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمَسَّ المُصحَفَ حتَّى يَتوَضَّأ؛ لقَولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لعَمرِو بْنِ حَزْمٍ: "ألَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلا طَاهِرٌ" (^١) أي: طَاهِرٌ مِنَ الحدَثِ؛ لأَنَّ الطَّهارَةَ مِنَ الحَدَثِ تُسمَّى طهَارَة، كَمَا قَال ﷾ في آيَةِ الوُضوءِ والغُسْلِ والتيمم: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: ٦].
واستَثْنَى بعْضُ العُلماءِ ﵏ الصِّغارَ غَيرَ المُكلَّفِينَ، فقَال: لهمْ أَنْ يَمسُّوا
_________
(^١) أخرجه مالك في الموطأ (١/ ١٩٩)، والدارمي في سننه (٢٣١٢)، والدارقطني (١/ ١٢٢).
1 / 9
المُصْحَفَ بدُونِ وُضوءٍ، لأَنَّهُم غَيرُ مُكلَّفِينَ.
وفي هَذَا الاستِثْنَاء نظَرٌ، لأَنَّنا لَوْ قُلْنا بهَذَا لقُلْنا: يَجُوزُ لهؤُلاءِ الصِّغارِ أَنْ يُصَلُّوا بغَيرِ طهَارَةٍ. ولَا قَائِلَ بِهِ فِيمَا أَعْلَمُ، فعَلَى هَذَا فلَا بُدَّ مِنَ الطَّهارَةِ حتَّى للصِّغارِ، لكِنْ مَا دَعَتِ الحَاجَةُ إِلَى مَسِّه بدُونِ طهَارَةٍ كألواحِ الصِّغار الَّذِين يَتَعلَّمُون بِها في المدارِسِ، فهؤُلاءِ لَا يَحتَاجُون إِلَى وُضُوءٍ؛ لأنَّنَا لَوْ كَلَّفنَاهم بذَلِكَ لشقَّ علَيهِمْ.
ثُم إنَّ هَذَا القُرآنُ الكَرِيمُ لَا يَحِلُّ للجُنُبِ أَنْ يَقْرَأَ مِنْهُ آيَةً فأكْثَرَ حتَّى يَغْتسِلَ، فإذَا كَانَ عَلَى الإنسَانِ جنَابَةٌ فإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ شَيئًا مِنَ القُرآنِ -آيَةً فأكْثَرَ- إلا إِذَا اغتَسَل، لأنَّ النَّبيَّ ﷺ كَانَ يُقرِئ أصحَابَهُ القُرآنَ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا، أوْ قَال: "مَا لَمْ نَكُنْ جُنُبًا" (^١).
فإِنْ قَال قَائِل: هَلْ يجوزُ للجُنُبِ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً لَا لقَصْدِ القُرْآنِ ولكِنْ لأَنَّها آيَةُ دُعاءٍ مَثَلًا، مِثْلَ: "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيتَنَا، وَهَبْ لنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً"؟
فالجَوابُ: نَعَمْ، يَجُوزُ لَهُ هَذَا، لأنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تِلاوَةَ القُرْآنِ.
فإِنْ سَألَ سَائِل: مَا تقُولُونَ في قِرَاءَةِ الحَائِضِ القُرآنَ؟
فالجَوابُ: اخْتَلَفَ العُلمَاءُ ﵏ في هَذ المَسأَلةِ عَلَى قَوْلَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أن الحَائِضَ لَا يجوزُ لَهَا أَنْ تَقْرَأَ القُرآنَ، لأَنَّها كالجُنُبِ.
والقَوُل الثَّانِي: في أَنْ تَقْرَأَ القُرآنَ، لأنَّه ليسَ في السُّنَّة دَلِيلٌ صحِيحٌ صرِيحٌ
_________
(^١) أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب في الجنب يقرأ القرآن، رقم (٢٢٩)، والترمذي: كتاب الطهارة، باب ما جاء في الرجل يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنبًا، رقم (١٤٦)، والإمام أحمد (١/ ٨٤)، من حديث علي ﵁.
1 / 10
يَمْنَعُ الحَائضَ مِنْ قِراءَةِ القُرآنِ، ولَوْ كَانَتْ الحَائِضُ لَا تَقْرَأُ القُرآنَ لبُيِّن ذَلِكَ؛ لكَثْرَةِ وُقُوعِ الحَيضِ واحتِيَاجِ النِّساءِ إِلَى بَيَانِ الحُكْمِ، فلَمّا لَمْ يَرِدْ في ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فالأَصْلُ الجوَازُ؛ لأَنَّ القُرآنَ مِنَ الذِّكْرِ، والحائِضُ لَا تُمْنَعُ مِنْهُ.
وعِنْدِي: أن الحائِضَ تَقْرَأُ القُرآنَ لحَاجَةٍ أو مَصلَحَةٍ:
فالحَاجَةُ كأَنْ تَقْرَأُ ورْدَها مِنَ القُرآنِ؛ مِثْلَ: آيَةِ الكُرسيِّ و﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، و﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾، أَوْ تَقْرَأُ القُرآنَ لِئَلَّا تَنسَاهُ، فهذه حاجَةٌ أيضًا.
ولمصلحَةٍ مِثْلَ: أَنْ تُقْرِئَ ابنَتَها أَوْ طِفلَها القُرآنَ؛ أَي: تُعلِّمَه القُرْآنَ؛ لأنَّهُ إذَا لَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي المَنْعِ، وكَانَتِ المَسْأَلةُ فِيهَا احْتِمَالٌ؛ فالاحتِيَاطُ أَوْلَى.
إذَن: فالحُكْمُ الْآنَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ: أن لَهَا أَنْ تَقرَأَ القُرآنَ لحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ؛ لعَدَمِ الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ عَلَى مَنْعِهَا.
فإِنْ قَال قَائِلٌ: الحائِضُ تَقْرَأُ القُرآنَ لمصلَحَةٍ أَوْ حَاجةٍ، هَلْ نَمسُّ القُرآنَ؟
فالجَوابُ: لَا، القُرآنُ لَا يَمَسُّه إلَّا طَاهِرٌ، ولكِنَّه لَيسَ فِيهِ مَنع مِنْ قِرَاءَةِ القُرآنِ، مُمكِنٌ أنْ تمُسِكَ المُصحفَ بقُفَّازَينِ أَوْ مَنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ.
٤ - القُرآنُ الكَرِيمُ يَختَصُّ بأَنَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهُ حَسَنهٌ، والحسَنهُ بعَشْرِ أمْثَالهَا:
ولَيسَ ذَلِكَ مَوْجُودًا في السُّنَّة، حتَّى الأحادِيثُ القُدسيَّة لَا يَثْبُت لَهَا ذَلِكَ، وإنَّما هَذَا خَاصٌّ بالقُرآنِ الكَرِيمِ.
فإِنْ قَال قَائِلٌ: هُناكَ أَوْرَاق فِيهَا عدَدُ حُرُوفِ المُصحَفِ كَذَا وكَذَا فإِذَا قرَأْتَ المُصحَفَ كَامِلًا اضْرِبْها فِي عشَرَةٍ، فيَكُونُ لَكَ عَدَدُ الحسَنَاتِ كَذَا. فَمَا رَأيُكُم؟
1 / 11
فالجَوابُ: هَذَا كَذِبٌ، مرَّ ابْنُ مسعُودٍ ﵁ بقَوْمٍ يُسبِّحُون ويَعُدُّون بالحَصَى، فقَال لهمْ: إنَّكُم لَنْ تُحصُوا أعمَالكُمْ، أعمَالُكُم الصَّالحَةُ مُحصَاةٌ لكُمْ: مَكتُوبَةٌ، لكِنْ أَحْصُوا أعمَالكُمْ السَّيِّئةَ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَتُوبُوا إِلَى اللهِ مِنْهَا (^١). وهَذَا حَقٌّ، فكُلُّ هَذه الأشيَاءِ مُحدَثَةٌ، واللهِ ﷿ لَنْ يُضِيعَ أجْرَ أحَدٍ يَعْلَمُ عدَدَ حُرُوفِ القُرآنِ، وَيعْلَمُ مَا يَترتَّبُ عَلَيهِ مِنَ الثَّوابِ، ولَنْ يَضِيعَ.
٥ - القُرآنُ الكَرِيمُ يَختَصُّ بالإِعْجَازِ:
أَي: بأَنَّ الخَلْقَ لَا يَستَطِيعُون أَنْ يَأْتُوا بمِثْلِهِ؛ قَال اللهُ ﷾: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨] أَي: مُعِينًا.
وليسَ ذَلِكَ مَوجُودًا فِي أَيِّ كَلَامٍ مِنْ كَلَامِ البَشَرِ، وإنَّما هُوَ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ، فلَا يَستَطِيعُ أحَدٌ أَنْ يَأتِيَ بمِثْلِهِ، بَلْ وَلَا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ، بَلْ ولَا بِسُورَةٍ مِنْهُ، بَلْ وَلَا بِآيَةٍ منه:
فالقُرآنُ كَامِلًا كَمَا فِي قَولِهِ تعَالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨].
وعَشْرُ سُوَرٍ كما فِي قَولِهِ تَعَالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ [هود: ١٣].
وسُورَةٌ كما فِي قَولِهِ ﷾: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ [يونس: ٣٨].
_________
(^١) أخرجه الدارمي في سننه رقم (٢١٠).
1 / 12
وآيةٌ كما فِي قَوْلِ اللهِ ﵎: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ﴾ [الطور: ٣٣ - ٣٤] أَي: أَيِّ حَدِيثٍ.
وقَد عجَزَ العَرَبُ عَنْ ذَلِكَ، أَي: عَنْ أَنْ يَأتُوا بشَيءٍ مِثْل القُرآنِ، مَعَ أنَّهُم قَدْ تَوفَّرتْ لهُمْ أسَاليبُ البلَاغةِ والفَصاحَةِ، وصَارَ الدَّاعي لمُعارَضةِ القُرآنِ عندَهُم قَويًّا، فَلمَّا كَانَ الدَّاعي قَويًّا ولم يُوجَدْ مَانِع عُلِمَ أنَّهُم لَا يَستَطِيعُون أَنْ يَأَتُوا بمِثْلِهِ.
ولذَلِكَ تَجِدُ القُرآنَ الكرِيمَ لَا يَمَلُّ الإِنْسانُ مِنْ قِراءَتِه، ولَا مِنْ تَكرارِهِ، وغيرُهُ يُمَلُّ مِنْ تَكرارِهِ، وَيمجُّهُ السَّمْعُ، ويَثْقُلُ عَلَى اللِّسانِ، لكِنَّ القُرآنَ الكَرِيمَ لا يَخْلَقُ مَعَ التَّردَادِ أبدًا، تَجِدُه طَرِيًّا كُلَّما قرَأْتَهُ.
ثُمَّ إِذَا كَانَ اللهُ ﷾ قَدْ فتَحَ علَيكَ، وكَانَ عنْدَك نِيَّةٌ وقصْدٌ صَحِيحٌ في معرِفَةِ المَعْنَى، فكُلّ قِراءَةٍ تَقرَؤُها يَتَّضِحُ لَكَ بهَا معْنًى غَيرُ الأوَّل، وجرِّبْ تَجِدْ، فهَذَا الشَّيءُ معلُومٌ، لكِنَّ هَذَا لِمَنْ عَلِمَ اللهُ منْهُ صِدْقَ الطَّلَبِ في مَعرِفَةِ المَعْنَى، أمَّا مَنْ أَعْرَض عَنْ ذَلِكَ فإِنَّه لَا يَستَفِيدُ، لكِنْ مَن عَلِمَ اللهُ منْهُ صِدْقَ الطَّلَبِ فإِنَّ اللهَ يَفْتَحُ علَيهِ كُلَّما قرَأَ القُرآنَ مِنَ المَعانِي مَا لَمْ يَكُنْ سَابِقًا.
٦ - القُرْآنُ الكَرِيمُ أنزَلَهُ اللهُ ﷿ وجعَلَهُ مُبَارَكًا:
مُبَارَكًا في تَأثيرِهِ؛ مُبَارَكًا في ثَوابِهِ، مُبارَكًا في آثَارِهِ:
مُبَارَكًا في تَأثيرِهِ، يَعنِي: أنَّهُ يُؤثِّرُ عَلَى القَلْبِ، ويُليِّنُ القَلْبَ، ويُكسِبُه خَشْيةَ اللهِ ﷾؛ لأَنَّ اللهَ ﷾ قَال: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: ٢١] سُبْحانَ اللهِ! فهذا وهُوَ جبَلُ حَصىً يَكُون خَاشِعًا ذَلِيلًا وَيتَصَدَّع مِنْ خَشيَةِ اللهِ ﷿، فمَا بالُكُم بالقَلْبِ؟ ! لَوْ كَانَ القَلْبُ حَيًّا
1 / 13
يَكُونُ مِنْ بَابِ أَوْلَى؛ ولهَذَا قَال ابْنُ عبْدِ القَويِّ ﵀:
وحَافِظْ عَلَى دَرْسِ الْقُرَانِ فَإِنَّهُ ... يُلَيِّنُ قَلْبًا قَاسِيًا مِثْلَ جَلْمَدِ (^١)
ومَا أكثَرَ الَّذِين يَشْكُونَ قَسوَةَ قُلُوبهِمُ اليَومَ؛ لأَسْبَابِ لَيسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا، ولكِنْ إِذَا أَحَسُّوا بقَسْوَةِ القَلْبِ فعَلَيهِمْ بالقُرآنِ، نَسأل اللَّهَ أَنْ يُليِّن قُلوبَنا.
ومنْ جهَةِ التَّأثيرِ أيضًا: فالقُرآنُ الكَرِيمُ رُقيَةٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ وكُلُّ مرَضٍ، فالقُرآنُ الكَرِيمُ دوَاءٌ لَهُ مِنْ كُلِّ مَرَضٍ:
المرَضُ القَلبيُّ؛ وهُوَ الشُّبْهةُ الَّتِي تَرِدُ عَلَى القُلُوبِ، أَوْ إرَادَةُ السُّوء، شِفَاؤُها القُرْآنُ.
المرَضُ الجِسْميُّ العُضْويُّ شِفَاؤُه القُرْآنُ، وقَد نزَلَ قَومٌ مِنَ الصَّحابَةِ ﵃ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأَعْرَابِ، نزَلُوا ضُيُوفًا، ولكِنَّ هؤُلاءِ العَربَ لم يُضيِّفُوا الصَّحابَةَ، أَبَوْا أَنْ يُضيِّفُوهم، فتَنَحَّى الصَّحابةُ إِلَى جَانِبٍ، ونَزَلُوا، فسَلَّطَ اللهُ عَلَى سَيِّدِ العَرَبِ عَقْربًا فلدَغَتْهُ والمَتْهُ، فقَال بعضُهُم لبعضٍ: ألَا تَنظُرون إِلَى هَؤُلاء القَومِ لعَلَّ فيهِمْ مَنْ يَقْرأُ؟ ! فأَتَوْا إِلَى الصَّحابَةِ فقَالُوا: إنَّ سيِّدَهُم لُدِغَ، فهَلْ فيكُمْ مِنْ قَارِئٍ؟ قَالُوا: نعَمْ، فِينَا قَارِئٌ، ولكنَّنا لَنْ نَقْرَأَ عَلَيهِ -عَلَى هَذَا المَرِيضِ- إلا بقَطِيعٍ مِنَ الغنَمِ -لأَنَّ هَؤُلاءِ العَربَ لَمْ يُكرِمُوهُم، فأَرَادُوا أَنْ يَأخُذُوا حقَّهُم منْهُمْ- قَالُوا: ولكُمْ ذَلِكَ. فقَامَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحابةِ عَلَى هَذَا اللَّدِيغِ، وجعَلَ يَقْرَأُ عَلَيهِ الفَاتِحَةَ حتَّى قَامَ كأنَّهُ نُشِطَ مِنْ عِقَال (^٢) والسَّمُّ قَدْ سَرَى فِي جِسْمِهِ، لكِنْ زَال هَذَا وَطَابَ؛
_________
(^١) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (٣/ ٥٩٠).
(^٢) أخرجه البخاري: كتاب الإجارة، باب ما يعطى في الرقية، رقم (٢٢٧٦)، ومسلم: كتاب السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية، رقم (٢٢٠١)، من حديث أبي سعيد الخدري ﵁.
1 / 14
فهَذَا تَأثِيرٌ عَجِيبٌ.
ومَا أكْثَرَ مَا نَقرَأُ الفاتحَةَ وغَيرَ الفَاتحَةِ والمرِيضُ كَمَا هُو في مرَضِهِ، فلمَاذَا والْآيَةُ واحِدَةٌ؟
الجواب: لأنَّه كَمَا يُقالُ: السَّيفُ بضَارِبِهِ، فالسَّيفُ حَدِيدٌ قَاطِعٌ، لكِنْ إِذَا كَانَ مَعَ الجبَانِ لا يَنْفَعُه، رُبَّما إِذَا رَأَى العَدوَّ مُقبِلًا عَلَيهِ ألقَى بالسَّيفِ وهَرَبَ، لكِنْ إِذَا كَانَ بيَدِ الشُّجاعِ فإنَّه يَنفَعُ ويُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهِ ويَقْتُل عَدُوَّه.
ولهَذَا يُذكَرُ عَنْ رَجُلٍ كَانَ الإمَامُ أحمَدُ بْنُ حنْبَلٍ ﵀ يَقْرَأُ عَلَيه، وكَانَ بِهِ صَرَع مِنَ الجِنِّ، فيَخرُجُ الجِنُّ، ولمَّا مَاتَ الإمَامُ أحمَدُ عَادَ الجِنِّيُّ، فقَامَ رَجُلٌ يَقْرَأُ عَلَى هَذَا المَصرُوعِ بِمَا كَانَ الإمَامُ أحمَدُ يَقرَأُ بِهِ، ولكِنَّ الصَّارعَ أَبَى أَنْ يَخرُجَ، وأَجَابَ بأَنَّ الْآيَةَ هِيَ الْآيَةُ والقَارِئُ غيرُ القَارِئِ. فلَا تَظُنَّ إِذَا لم تَجِدْ تَأثيرَ القُرآنِ مُباشرَةً أن القُرانَ غَيرُ مُؤثِّرٍ، ولكِنَّ القَارِئَ غَيرُ مُؤثِّرٍ.
ومُبارَكٌ في آثَارِهِ، فقَدْ فتَحَ المُسلمُونَ مشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَها بالقُرآنِ، أَي: بالعَمَلِ بالقُرآنِ؛ ولهَذَا قَال اللهُ سُيحَانَهُ وَتَعَالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ﴾ جَاهِدْهُم بالقُرآنِ ﴿جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٢]، فتَحُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ ومغَارِبَها بالقُرآنِ حِينَ كَانَ القُرآنُ باليَدِ اليُمنَى والسَّيفُ باليَدِ اليُسرَى.
والْآنَ كَثِيرٌ مِنَ المَمَالِكِ الإسلَاميَّةِ بيَدِهَا القَانُونُ الوَضعيُّ بدَلًا عَنِ القُرآنِ الكَرِيمِ؛ ولذَلِكَ كَانَ التَّأخُّرُ؛ فالتَّأخُّرُ والذُّلُّ فِي الأُمَّةِ الإسلَامِيَّةِ بسَببِ عمَلِ مَنْ ينتَسِبُون إِلَيهَا، فالذَّنْبُ -إِذَنْ- في تَأخُّرِ المُسلِمِينَ اليَوْمَ لَيسَ ذَنْبَ الإسلَامِ، ولكِنْ ذَنْبُ المُسلمِين.
1 / 15
فمِنْ آثَارِ القُرآنِ الكَرِيمِ إذَن: أن مَنْ تَمسَّكَ بِهِ فهُوَ مَنْصُورٌ، والشَّاهِدُ ما سبَقَ لسلَفِنا الصَّالحِ.
وهُوَ أيضًا مُبارَكٌ في ثوابِهِ: فالحَرْفُ الوَاحِدُ فِيه حسَنَةٌ، والحسَنَةُ بعَشْرِ أمثَالِهَا، ومَا أكْثَرَ حُروفَ القُرآنِ!
وبهَذه المُناسبَةِ عَرَضَ عَليَّ فِي الرِّياضِ فِي الأُسْبُوعِ المَاضِي إنسَانٌ ورقَةً مَكتُوبٌ فِيهَا: الإعجَازُ العدَديُّ في القُرآنِ، جدْولٌ ذُكِرَ فِيهِ أن جَمِيعَ حُرُوفِ القُرآنِ كُلُّها تَقبَلُ القِسْمَةَ عَلَى تِسعَةَ عَشَرَ إذَا جُمِعتْ، ولكِن هَذَا افتِرَاءٌ عَلَى اللهِ ﷿، ومُنَاقِضٌ للوَاقِعِ، ولَا يَجُوزُ تَداوُل هذ البطَاقَةِ؛ لأنَّهُ لا يُمكِنُ لإنسَانٍ أَنْ يَشْهَدَ أن اللهَ تعَالى تَكلَّمَ بالقُرآنِ بحَيثُ تكُونُ حُرُوفُه مُنقسِمَةً عَلَى تِسعَةَ عَشَرَ، مَنْ يَقُول هَذَا؟ ! لكنَّهُ افتِرَاءٌ عَلَى اللهِ ﷿.
ثُمَّ إنَّ حُروفَ القُرآن الكرِيم لَا يُمكِنُ أَنْ يُقَال: إنَّها تَنقَسِمُ عَلَى تِسعَةَ عَشَرَ مَعَ اخْتلَافِ القِرَاءَاتِ؛ فمَثَلًا ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: ٦]، والقِراءَةُ الثَّانيَةُ "فتَثبَّتُوا" إذَنِ اختَلَّتْ؛ أَتَتِ الثَّاءُ بدَلًا عَنِ البَاءِ "فتَثَبَّتُوا" وبدَلًا عَنِ النُّون، فاخْتَلَّتِ القِسْمَةُ.
كذَلِكَ في القُرآنِ الكَريمِ: "مَلِكِ يَومَ الدِّينِ" ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] اختَلَّتْ؛ زَادَ حَرْفٌ. لكِنْ هَؤُلاءِ المَشغُوفُون بِمَا يَدَّعُون أنَّهُ ذكَاءٌ، وأنَّهُم اطَّلَعُوا عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيهِ أحَدٌ يَأتُون بمِثْلِ هَذه الخُرافَاتِ؛ ليَصُدُّوا النَّاسَ عَنِ المَعْنَى الحَقِيقِيِّ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَجْلِهِ القُرآنُ، فهَلِ القُرآنُ جَاءَ ليُحصِيَ النَّاسُ العَددَ ويُقسِّمُونه عَلَى تِسعَةَ عشَرَ؟ لَا، واللهِ! ولَا يُمكِنُ أَنْ يَنزِلَ القُرآنُ الكَرِيمُ مِنْ أَجْلِ هَذه المُعجزَةِ كَمَا يَقُولُون، مَعَ أنَّهَا ليسَتْ مُعجِزَةً، فهَي فَاشِلَةٌ باطِلَةٌ.
1 / 16
وقَد أَحبَبْتُ أَنْ أُنبِّهَ عَلَى هَذَا لأنَّهُ رُبَّما تَشِيعُ؛ لأنَّ الَّذِي سأَلَنِي عنْهَا يُريدُ أن يَطْبعَ منهَا الملَايينَ ويوزِّعها عَلَى النَّاسِ، وَيقُولُ: انْظُروا إلى القُرآنِ الكَريمِ. فنَقُولُ: هَذَا غلَطٌ، فالقُرآنُ مَا نَزَلَ لهَذَا المَعْنَى، ولَا يُمكِنُ أَنْ يُرادَ بِهِ هَذَا المَعْنَى، فانْتَبِهُوا لمِثْلِ هَذه الأُمُورِ الَّتِي تُنشَرُ، فقَدْ تَكُونُ مِنْ مُلحِدٍ كَافِرٍ أَوْ فَاسقٍ فَاجِرٍ يُرِيدُ بِهَا صَدَّ النَّاسِ عَنِ المَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَزَلَ القُرآنُ.
فإِنْ قَال قَائِلٌ: هَلْ يجوزُ تَفسِيرُ القُرآنِ بِمَا يُعرَفُ بالإعْجَازِ العِلميِّ مِنَ القُرآنِ والسُّنَّةِ؟
فالجَوابُ: الإعجَازُ العِلمِيُّ نوعَانِ: نَوْعٌ دَلَّ عَلَيهِ القُرآنُ وأَشَارَ إِلَيهِ، هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، وهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ القُرآنِ، ونَوْعٌ لَا يَدُلُّ عَلَيهِ القُرَآنُ، وإِنَّما يُؤخَذُ مِنْهُ بتكلُّف، ورُبَّما لَا يَدُلُّ علَيهِ أَصْلًا، فهَذَا لَا يجوزُ تفسِيرُ القُرآنُ بِهِ، مِثَالُ الثَّانِي قَال اللهُ ﷾: ﴿يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إلا بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن: ٣٣] فسَّرهُ بعضُهُم بالعِلْمِ، وطبَّق هَذَا عَلَى الوُصُولِ إِلَى القَمَرِ فهَذَا لَا يَحِلُّ؛ لأَنَّ الْآيَة لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، الْآيَةُ فِيهَا بيَانُ الحالِ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ ولهَذَا قَال ﴿مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ومَعْلُومٌ أن هؤُلاءِ لَمْ يَنفُذُوا مِنْ أقْطَارِ السَّمواتِ، فالإعْجَازُ العِلميُّ الَّذِي ليسَ فِيهِ تَكلُّف لَا بَأْسَ بِهِ؛ لأَنَّ القُرآنَ وَاسِعٌ.
وممَّا يُنكَرُ أيضًا ممَّا يُقَالُ: الإعجَازُ العِلميُّ؛ مَا يُسمُّونَه بالإعجَازِ العدَديِّ المَبنيِّ عَلَى العدَدِ: تِسعَةَ عَشَرَ، هَذَا أيضًا بَاطِلٌ، ولَا يجوزُ أَنْ يقَال: إنَّ القُرآنَ مُعجِزٌ مِنْ هَذه النَّاحيَةِ.
أوَّلًا: لأَنَّ القِراءَةَ مُخْتَلِفَةٌ، وهُمْ يَقُوُلونَ مَثَلَّا: التَّاءُ تَكرَّرْت كَذَا وكَذَا مَرَّةً إِذًا
1 / 17
قسَمْتَها عَلَى تِسعَةَ عَشَرَ انْقَسَمَت، اللَّامُ تَكرَّرت كَذَا وَكَذَا مَرَّةً إذَا قسَمْتَها عَلَى تِسْعَةَ عشَرَ انْقَسَمَتْ بِلَا كَسْرٍ، هَكَذَا يَزْعُمُونَ وهَذَا لا شَكَّ أنَّهُ بَاطِلٌ.
حتَّى قَال لِي بعضُهُم: إنَّ اللهَ تعَالى قَال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٦]، وقَال فِي سُورَةِ الفَتْحِ: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ [الفتح: ٢٤] قَال: إنَّ اللهَ ذَكَرَ (بَكَّةَ) مِنْ أَجْلِ أَنْ تُتِمَّ البَاءُ العدَدَ الَّذِي يَنْقَسِمُ عَلَى تِسعَةَ عَشَرَ، وهَذَا لا شَكَّ أنَّهُ كَذِبٌ.
والدَّليلُ: مَثَلًا فِي القُرآنِ كَلِمَاتٌ فِيهَا قِرَاءَاتٌ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ [النساء: ٩٤] فِيهَا قِرَاءَةُ "فتَثبَّتُوا" إذَنِ: اختَلَّ العَدَدُ، صَارَ بَدَلَ النُّونِ (ثَاءٌ)، وبَدَلَ اليَاءِ بَاءٌ.
كذَلِكَ ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٤] وفِي قِرَاءَة: "مَلِكِ يَوْمَ الدِّينِ" بحَذْفِ الأَلِفِ، فنقَصَتِ الألِفُ، فالقَصْدُ أن هَذَا لَا شَكَّ أنَّهُ كَذِبٌ، ولَا يجوزُ أنْ يُفسَّر القُرآنُ بالإعجَازِ العدَدِيِّ؛ لأنه أوَّلًا: لَيسَ فِيهِ إعْجَازٌ كَمَا قَالُوا.
وثَانيًا: القُرانُ مَا نَزَلَ عَلَى أنَّه تمرِينٌ حِسَابِيٌّ، بَلْ نزَلَ عَلَى أنَّهُ مَوعِظَةٌ وشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدورِ.
ويُقَالُ: إنَّ الَّذِي أَطْلَقَ هَذه البِدْعَةَ رَجُل كَانَ يُنكِرُ القِسْمَ الثَّانِيَ مِنَ الشَّهادَةِ، ويقُولُ: إنَّ الشَّهادَةَ فقَطْ تَقْتَصِرُ عَلَى: لَا إِلَهَ إلا اللهُ.
وهُوَ رَجُلُ يُسمَّى رَشَادًا، ونشَرَهَا فِيمَا سَبَقَ قَبْلَ سنَوَاتٍ، ولكِنَّهُ قُتِل، قتَلَهُ بعْضُ النَّاسِ؛ لأنَّهُ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللهِ مَا لَيسَ مِنْهُ.
ولكِن هَذه الأيَّامَ الأخيرَةَ وجَدْتُ إنسَانًا معَهُ ورَقَةٌ مِنْ هَذَا النَّوعِ يُرِيدُ أَنْ
1 / 18
يَطبَعَها عَلَى حِسَابِهِ الخَاصِّ ويوزِّعَها بَينَ النَّاسِ، فقُلْتُ لَهُ: هَذَا لَا يجُوزُ، ومَزَّقْتُ الورَقَةَ الَّتِي أَعطَانِي، وقُلْتُ: يَجِبُ أَنْ تعْلَمَ أن القُرآنَ إنَّما نَزَلَ لإصْلَاحِ الخَلْقِ، لَا لامتِحَانِ عُقُولهِمْ بالعَدَدِ ومَا أشْبَهَ ذَلِكَ، ثُمَّ كَمَا تَقدَّم: تُوجَدُ آيَاتٌ مُخْتلِفَةٌ تَمْنَعُ هَذَا التَّركيبَ الَّذِي ذَكَر.
قَال اللهُ ﷾: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: ٢٩] أَي: يَتفَكَّرُوا فِيهَا، ويُردِّدُوها بأفكَارِهِمْ؛ حتَّى يَتبيَّنَ لهم المَعْنَى، فالقُرآنُ الكَرِيمُ لَمْ يَنزِلْ لتِلاوتِهِ لفْظًا فقَطْ، بَلْ ولتَدبُّرِ معْنَاهُ، ولا يُمكِنُ العَمَلُ بِهِ إلا بمَعرِفَةِ مَعْنَاهُ، ولَا يُمكِنُ معرِفَةُ معنَاهُ إلا بتَدبُّرهِ.
إذَنِ: فالتَّفكِيرُ فِي معْنَاهُ أمْرٌ وَاجِبٌ، فيَجِبُ أَنْ تَتعَلَّمَ مَعْنَى القُرآنِ كَمَا تَتعَلَّمُ مَعْنَى الآجُرُّوميَّة، وهِيَ كِتَابٌ صَغِيرٌ فِي النَّحْو، لَا يُمكِنُ أَنْ يَستَفِيدَ مِنْهُ الإنسَان حتَّى يَعرِفَ معْنَاهُ، كذَلِكَ أيضًا القُرآنُ الكَرِيمُ، لَا يُمكِنُ أَنْ يَستَفِيدَ الإنسَانُ مِنْهُ حتَّى يَعرِفَ مَعْنَاهُ، ولَوْ أن هُناكَ كِتَابًا في الطِّبِّ مِنْ أَفْصَحِ الكُتُبِ وأنْتَ لَا تَعرِفُ المَعْنَى فَلَا يُمكِنُ أنْ تَستَفِيدَ مِنْهُ.
إذَنْ: لَا يُمكِنُ أَنْ تَستَفِيدَ مِنَ القُرآنِ حتَّى تَعرِفَ مَعنَاهُ.
ولقَدْ قَال النَّبيُّ ﷺ: "خَيرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" (^١) وهَذَا يَشْمَلُ التَّعلُّمَ اللَّفظيَّ والتَّعلُّمَ المَعنَويَّ؛ ولهَذَا قَال: ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: ٢٩].
وإِذَا شِئْتَ أَنْ تَعرِفَ هَذَا فاقْرَأْ آيَةً مِنَ القُرآنِ مَعَ التَّدبُّرِ، واقْرَأْها مَعَ الغَفْلَةِ، تَجِدْ الفَرْقَ العَظِيمَ بَينَ هَذَا وهَذَا.
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، رقم (٥٠٢٧)، من حديث عثمان بن عفان ﵁.
1 / 19
لذَلِكَ أَحُثُّكُم -أيُّها الإِخْوةُ- عَلَى تَعلُّمِ مَعْنَى القُرآنِ الكَرِيمِ، فاقْرَؤُوا كُتُبَ التَّفسِيرِ المَوثُوقَةِ، واحْذَرُوا الكُتُبَ الَّتِي لا يُعرَفُ مَنْ أَلفَها أَو الَّتِي عُرِفَ مَنْ أَلفَهَا بأنَّهُ مُنحرِفٌ، أَوْ مَا أشْبَهَ ذَلِكَ؛ لأَنَّ مِنَ المُفسِّرينَ مَنْ حرَّف القُرْآنَ ونَقَلَهُ إِلَى مَا يَعتَقِدُهُ هُوَ، لَا إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَيهِ القُرآنُ، فاحْذَرُوها، وإِذَا لَمْ تَتَمَكَّنُوا مِنْ هَذَا فاسْألوا أهْلَ العِلْمِ حتَّى تَستَفِيدُوا مِنَ القُرآنِ الكَريمِ.
ثانيًا: قَال ﷾: ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩] ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ﴾ أَي: يَتَّعِظَ أصحَابُ العُقولِ. وانْظُر الفَرقَ بينَ قَولِهِ: ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ حَيثُ عمَّم فِيهَا، وقَولِهِ: ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ حَيثُ خَصَّ؛ لأنَّهُ لَا يَتَذكَّرُ بالقُرآنِ ولا يَتَّعِظُ بِهِ إلَّا أصْحَابُ العُقُولِ، كَمَا قَال اللهُ ﷾: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: ٣٧].
فإِذَا قَال قَائِلٌ: إِلَى مَنْ نَرجِعُ في تَفسِيرِ القُرْآنِ؟
فالجَوابُ: نَرجِعُ إِلَى القُرآنِ، نُفسِّرُ القُرآنَ بالقُرآنِ، فإِنْ لَمْ نجِدْ فبالسُّنَّةِ، فإِنْ لَمْ نَجِدْ فبأَقْوَالِ الصَّحابةِ، ولا سِيَّمَا المُفسِّرُونَ مِنْهُمْ، فإِنْ لَمْ نَجِدْ رَجَعْنا إِلَى أقْوَالِ التَّابعِينَ -المُفسِّرين منْهُم- كمُجاهِدِ بن جَبْرٍ وغَيرِهِ ﵏.
مثَالُ تَفسيرِ القُرآنِ بالقُرآنِ: قولُهُ تعَالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٧ - ١٩]، ﴿الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ [القارعة: ١ - ٤]، والأمثلَةُ كَثيرَةٌ.
مثَالُهُ مِنَ السُّنَّة: قَولُهُ ﷾: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦] ﴿الْحُسْنَى﴾ يَعْنِي: الجَنَّة. ﴿وَزِيَادَةٌ﴾ هِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ ﷾، فَسَّر ذَلِكَ
1 / 20
النَّبيُّ ﷺ (^١)، وهُوَ أَعْلَمُ الخَلْقِ بكِتَابِ اللهِ تَعالى.
ومنْ ذَلِكَ قَولُ اللهِ تعَالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيلِ﴾ [الأنفال: ٦٠] قَال النَّبيُّ ﷺ: "أَلا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ" مَرَّتينِ أَوْ ثَلاثًا (^٢). ففَسَّر القُوَّة بالرَّميِ، لأَنَّ الرَّميَ أشَدُّ مَا يكُونُ فَتْكًا بالنِّسبَةِ للأَسْلِحَةِ، وإِلَى يَومِنَا هَذَا الرَّميُ هُوَ القُوَّةُ، وقَد كَانَ النَّاسُ في الأَوَّلِ يَرمُونَ بالسِّهامِ بالقَوْسِ، والْآنَ يَرمُونَ بالصَّوارِيخِ والقَنَابِلِ.
فلَا تَظُنَّ أن قولَهُ ﷺ: "أَلا إِنَّ القُوَّةَ الرَّميُ" خَاصٌّ بِمَا كَانَ فِي عهْدِهِ، بَلْ هِيَ عَامَّةٌ بِمَا يُحْدَثُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
عَلَى كُلِّ حَالٍ: نَرجِعُ في تَفْسِيرِ القُرآنِ إِلَى تَفْسِيرِ القُرآنِ بالقُرآنِ، ثُمَّ بالسُّنَّةِ، ثُمَّ بأقْوَالِ الصَّحابَةِ ﵃، ولا نَعدِلُ عَنْ أقْوَالِ الصَّحابَةِ إِلَى تَفْسِيرِ المُتأخِّرينَ أبَدًا، خُصُوصًا فِي العِبَادَاتِ، أمَّا فِي الأُمُورِ الَّتِي تَحْدُثُ وَيكُونُ فِي القُرآنِ إشَارَةٌ لهَا فهَذهِ قَدْ لَا يَرِدُ عَنِ السَّلفِ فيهَا تَفْسِيرٌ، ولكِنْ تُفسَّر حسبَ الوَقْتِ، لأَنَّ هُناكَ أشيَاءَ مِنَ الأُمُورِ الكَونيَّةِ الفضَائيَّةِ والأرضِيَّةِ لَمْ يَتكلَّمْ فِيهَا السَّلفُ ﵏، ولكِنْ تَكلَّم فِيهَا المُتأخِّرُونَ، فنَقُولُ: يُرجَعُ إِلَى قَولِ المُتأخِّرينَ فِي هَذَا، لأَنَّ السَّلفَ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُون ذَلِكَ.
أمَّا مَسَائِلُ العِبَادَةِ والمُعَاملَاتِ ومَا أَشْبَهَهَا، فإِنَّهُ يُرجَعُ في ذَلِكَ إِلَى تَفسِيرِ الصَّحابةِ ﵃ عَلَى كُلِّ حَالٍ، ثُمَّ بعْدَ ذَلِكَ المَرتبَةُ الرَّابِعَةُ: كِبَارُ المُفسِّرينَ مِنَ التَّابعِينَ ﵏، ومَرتبتُهُمْ أدْنَى بكَثِيرٍ مِنْ مَرتبَةِ الصَّحابَةِ ﵃.
_________
(^١) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم ﷾، رقم (١٨١).
(^٢) أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب فضل الرمي، رقم (١٩١٧)، من حديث عقبة بن عامر ﵁.
1 / 21
أَسأل اللهَ تعَالى أن يَجعَلَنا وإيَّاكُم ممَّنْ يَتلُونَ كتَابَ اللهِ حقَّ تِلاوَتهِ، وأَنْ يَرزُقَنا تَعلُّمَه لفْظًا ومَعْنًى، والعمَلَ بِهِ، إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ.
فإِنْ قَال قَائِلٌ: إِذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ عَلَى كتَابِ اللهِ يَستَمِعُون القُرآنَ ويُنصِتُون لَهُ فهَلْ لهمْ أجْرُ القَارِئِ؟
الجَوابُ: نعَمْ، لهُمْ أجْرُ القَارِئِ، قَال اللهُ ﷾: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٤]؛ ولذَلِكَ يُشرَع لهُمْ إذَا سجَدَ القَارِئُ سُجودَ التِّلاوَةِ أَنْ يَسْجُدُوا مَعَهُ، فحُكمُهُمْ حُكمُهُ.
فإِنْ قَال قَائِلٌ: هَلْ للمُستَمِعِينَ إِلَى التَّسجِيلِ أجْرُ القِرَاءَةِ؟
الجَوابُ: لَا، لَيسَ لهمْ أجْرُ القِرَاءَةِ؛ لأَنَّ هَذَا حِكَايةُ صَوْتِ قَارئٍ قَدْ يَكُونُ مَيِّتًا وليسَ قرَاءَةً، وهَذَا لا يَحِلُّ أَنْ يُؤدَّى الأذَانُ مِنْ مُسجِّلٍ كَما يَفْعَلُ بعْضُ النَّاسِ فِي بَعْض الأمكِنَةِ، عندَهُمْ مُسجِّلٌ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الأذَانِ فتَحُوا المُسجِّل بالمُؤذِّن، هَذَا غلَطٌ عظِيمٌ، ولَا يَنْفَعُ.
* * *
1 / 22
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* قال الله ﷿: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
البسمَلَةُ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ، يَعْنِي: أن اللهَ ﷿ أَنْزَلَها كَمَا أَنْزَلَ بَاقِيَ القُرآن، فهِيَ كلَامُ اللهِ ﷿ تُفتتَحُ بِهَا كُلُّ سُورَةٍ مِنَ الفَاتِحَةِ إِلَى ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ إلا ﴿بَرَاءَةٌ﴾ فإِنَّها لم تَنْزِلْ لافتِتَاحِهَا.
وليسَتِ البَسملَةُ مِنَ السُّورةِ الَّتِي قَبلَهَا، ولَا مِنَ السُّورةِ الَّتِي بعْدَهَا، وعَلَى هَذَا فلا تُحسَبُ مِنْ آيَاتِهَا، فالفَاتحَةُ مثَلًا افتُتِحَتْ بالبَسمَلَةِ، والبَسمَلَةُ ليسَتْ منْهَا، بَلْ هِيَ آيَةٌ مُستقِلَّةٌ، وأوَّلُ الفَاتحَةِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢]، والدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا جَاءَ فِي الحدِيثِ الصَّحيحِ مِنَ اللهِ، قَال فِي الحدِيثِ القُدسيِّ: "قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيني وَبَينَ عَبْدِي نِصْفَينِ: فَإِذَا قَال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾ قَال اللهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قَال: أثنَى عَليّ عَبْدِي. وَإِذَا قَال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قَال: مَجَّدَنِي عَبْدِي. وَإِذَا قَال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قَال اللهُ: هَذَا بَيني وَبَينَ عَبْدِي نِصْفَينِ وَلعَبْدِي مَا سَأَلَ. وَإِذَا قَال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قَال اللهُ: هَذَا لِعَبْدِي وَلعَبْدِي مَا سَأَلَ" (^١) فبَدَأ بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾.
_________
(^١) أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، رقم (٣٩٥)، من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 23
وَيدُلُّ عَلَى هَذَا أيضًا: أن النَّبيَّ ﷺ كَانَ لَا يَجْهَرُ بِهَا -أَي: بالبَسْمَلَةِ- فِي القِراءَةِ الجهْريَّةِ، ولَوْ كانَتْ مِنَ الفاتِحَةِ لجَهَرَ بهَا كسَائِرِ آيَاتِهَا.
ويَدُلُّ عَلَى هَذَا أن اللهَ تعَالى قسَمَهَا بينَهُ وبَينَ عبْدِهِ نِصْفَينِ، فثَلاثُ آيَاتٍ للهِ، وثلَاثَ آيَاتٍ للعَبْدِ، ووَاحِدَةٌ بينَهُما، فالثَّلاثُ الآيَاتِ للهِ هِيَ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: ٢ - ٤] والثَّلاثُ الَّتِي للعَبْدِ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: ٦ - ٧]، والمُشتَرَكَةُ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]، فتَجِدُ هَذِهِ المُشترَكَةَ هِيَ النِّصفُ، وهِيَ بَينَ العَبْدِ وبَينَ اللهِ نِصفَينِ، هِيَ النِّصْفُ مِنْ بَينِ سَبْعِ آيَاتٍ.
فإِذَا قَال قَائِلٌ: نحْنُ نجِدُ في المُصحفِ أن البَسْملَةَ قَدْ رُقِّمَتْ عَلَى أنَّها مِنْ آيَاتِها، وأنَّ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قَدْ جُعلِتْ آيَةً واحدَةً.
فالجَوابُ: أن هَذَا عَلَى رَأْيِ بَعْضِ العُلمَاءِ، وكَأَنَّ الَّذِين طَبَعُوا المُصحَفَ أوَّلَ مَا طَبَعُوهُ، طَبَعُوه عَلَى هَذَا الرَّأيِ، واستمَرَّ النَّاسُ عَلَيهِ، عَلَى أَنِّي وَجَدْتُ مُصحَفًا مَطبُوعًا فِيهِ أوَّلُ آيَةٍ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾، والْآيَةُ السَّابِعَةُ ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾، والبسمَلَةُ لَمْ تُرقَّمْ، وهَذَا هُوَ المُطابِقُ للصَّوابِ.
مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أيضًا أن الآيَاتِ لَا تَكُونُ مُتناسِبَةً فِي الطُّولِ والقِصَرِ إلا إِذَا قسَمْنا الْآيَةَ الأخيرَةَ قِسمَينِ؛ لأنَّكَ إِذَا قُلْتَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ غَيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ صَارَتِ الْآيَةُ هَذِهِ طَويلَةً بالنِّسبَةِ
1 / 24