Tafsir al-Uthaymeen: An-Naml
تفسير العثيمين: النمل
خپرندوی
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٣٦ هـ - ٢٠١٥ م
د خپرونکي ځای
المملكة العربية السعودية
ژانرونه
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ بالله مِن شُرور أنفُسنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ بالهُدَى ودِين الحق؛ فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في الله حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليقينُ، فصَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أَثْناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة؛ حَلقاتٌ فِي تَفْسير القرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها؛ حتَّى بلَغ قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى قي تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَيِ الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ، المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 5
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^١). تغمَّدهما الله بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجزاءِ.
وسَعْيًا -بإِذْنِ اللهِ تَعالَى- لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ محُمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخيرَّيةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لِإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ، نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجَزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعليَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مجُيبٌ.
وَصَلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ
فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ
٢٠ جُمَادَى الآخِرَة ١٤٣٦ هـ
* * *
_________
(^١) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
الآية (١)
* * *
* قَالَ اللهُ ﷿: ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (١)﴾ [النمل: ١].
* * *
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمِينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ عَلَى نبيِّنَا محُمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ. وبَعد:
قال المُفَسِّر (^١) ﵀: [هَذِهِ سُورةُ النَّمل، وسُمِّيَتْ به لِذِكْرِ النملِ فيها]، وتسميةُ السُّورِ يَكُونُ بأدنَى مناسبةٍ؛ ولهذَا البقرة سُمِّيَتْ سُورة البقرة لذِكْرِ البقرة فيها، ولا يَمْتَنِعُ أنْ تُسَمَّى سورةٌ بِعِدَّةِ أسماءَ لِعِدَّةِ مناسباتٍ.
وقوله ﵀: إنَّها مكّيَّة، الصَّواب فِي المكِّيّ والمَدَنِيّ أن الفرق بينهما: ما نزل قبل الهجرةِ فَهُوَ مكّيّ، وما نزلَ بعدها فَهُوَ مدنيّ، وَقِيلَ: المكِّيُّ ما نزل بمكَّة، والمدنيّ ما نزل بالمَدينَةِ، وَقيلَ: المكيُّ ما فِيهِ ذِكر الأصول -أصول الإِسْلام أو الإِيمان- والمدنيّ ما فِيهِ ذِكْر الفُرُوع.
فعلى الأوَّل يَكُون المُعْتَبَر الزمَن، وَعَلَى الثاني المعتبَر المكان، وَعَلَى الثَّالث المعتبَر الموضوع، ولكِن الَّذِي عليه المحقِّقون أن ما كَانَ بَعْد الهِجرةِ فَهُوَ مدنيّ، وما قبلها فَهُوَ مكّيّ، وقد ذَكروا فِي أصولِ التفسيرِ لذلكَ ضوابطَ يُرجَع إليها.
_________
(^١) المقصود بـ (المفسر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفى سنة (٨٦٤ هـ) ﵀، ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 7
أمَّا البَسْمَلَةُ فقد تَقدَّم الكَلامُ عليها عدَّة مراتٍ، وبيَّنَّا أنَّ أحسنَ ما تُقَدَّر به: أنْ يَكُونَ فعلًا مناسبًا متأخِّرًا.
(أن يَكُون فِعلًا) لأنَّهُ الأَصْل فِي العواْملِ، وَهُوَ أيضًا أدلّ عَلَى الحُدُوث.
(متأخِّرًا) لفائدتينِ هما:
الأوَّل: التبرُّك بتقديمِ اسمِ اللهِ.
الثاني: إفادة الحصرِ، يَعْنِي: باسم الله لا باسمِ غيره.
(ومناسبًا) لِأنَّهُ أخصُّ من العامِّ.
فـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) التَّقْدير: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَقْرَأُ، ويجوز أنْ تقدِّر: أقرأُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ويجوزُ أن تقدِّر: قِرَاءتي بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أو بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قِراءتي، لكِنْ ما ذَكَرْنَا أوَّلًا هُوَ الأرجحُ. وأشار شيخ الإِسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّة ﵀ إِلَى رُجحانه بقولِ الرَّسُولِ ﵊: "مَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ" (^١) فذكر فعلًا، ولم يقل: فليكنْ ذَبْحه، بل قَالَ: "فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ" (^٢).
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿طس﴾ اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ بذلك]. هَذَا ما سلَكَه المُفَسِّر وجماعةٌ من أهلِ العلمِ، بأن هَذِهِ الحروفَ الِهجائيَّة الموجودة فِي أوائل بعضِ السُّوَر مَوْقِفنا مِنْهَا أن نَقُولَ: اللهُ أَعْلَمُ بمرادِهِ بذلكَ.
_________
(^١) رواه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب قول النبِي ﷺ: "فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ"، حديث رقم (٥١٨١)؛ ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، حديث رقم (١٩٦٠)، عن جندب بن سفيان البجلي ﵁.
(^٢) انظر: مجموع الفتاوى (١٠/ ٢٣١).
1 / 8
وقد سبقَ فِي درسِ التَّفسيرِ أنَّ الراجحَ من ذلك: أن هَذِهِ الحروفَ هِجائيَّة، وَأنَّهُ بِمُقْتَضَى كون الْقُرْآن بلسانٍ عربيٍّ يقتضي أنَّهُ لا مَعنى لها، وذكَرنا أنَّ هَذَا قد رُوِيَ عن مجُاهِدٍ (^١)، وأنها حروفٌ هجائيَّة ابْتَدَأَ اللهُ بها لَيْسَ لها معنًى، وَعَلَى هَذَا نَجْزِم بأنَّه لا مَعْنَى لها ولكِنْ لها مَغْزى، وهوَ: أنَّ هَذَا الْقُرْآن الَّذِي أَعجزَ هَؤُلَاءِ الفُصَحَاءَ البُلَغَاء، إِنَّمَا هُوَ من هَذِهِ الحروف الهجائيَّة الَّتِي يَكُون مِنْهَا كلامهم، يعني ما أتَى بحروفٍ جديدةٍ؛ لِأنَّهُ لو أتى بحروفٍ جديدةٍ ستقُولُونَ: واللهِ هَذه حروفٌ لا نعرِفها، فأَتى بنفس الحروف الَّتِي هم يَتكلَّمون بها.
ويؤيِّد ذلك أَنَّهُ ما من حروفٍ هجائيَّة إِلَّا ويأتي بعدها ذِكْر الْقُرْآن، اللَّهُمَّ إِلَّا فِي سورتينِ أو شِبههما، عَلَى أن هاتينِ السورتينِ مثل: ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢)﴾ [العنكبوت: ١، ٢]، ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ﴾، فيها ما يدلُّ على القرآنِ، كالإخبار في قولِهِ: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم: ٢، ٣]، وهَذَا من خصائصِ الوحيِ، وقوله: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا﴾ [العنكبوت: ٢]، فيها أيضًا إخبار عمَّن مضَى فِي قوله: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٣] ... إِلَى آخرِه.
وأمَّا ما زَعَمَه المتأخِّرُون الخالفونَ من أن هَذِهِ الحروفَ تدلّ عَلَى إعجازٍ من نوعِ العددِ والحُسْبَان، حَيْثُ زَعَمُوا أن هَذِهِ الحروف الهجائيَّة يوجد نظيرُها فِي السُّورَة المُفْتَتَحَةِ بها، ويَكُون مجموع هَذَا مُنْقَسِمًا عَلَى تسعةَ عشَرَ، ويزعُمون أنَّ هَذَا أكبر آية عَلَى أن الْقُرْآن كلام اللهِ. ويَحتجُّون لذلكَ بأنَّ أوَّل آيَة نزلتْ -على زَعْمِهم- هي: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأنها مكوَّنة من تسعةَ عشَرَ حرفًا، وأن هَذَا
_________
(^١) انظر: تفسير الطبري (١/ ٢٠٨).
1 / 9
هُوَ معنى قوله تَعَالَى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠)﴾ [المدثر: ٣٠]، وأن التسعةَ عشرَ هِيَ هَذه الحروف.
كُلّ هَذَا -والعياذُ باللهِ- كذِب، ولا يَنطبِق، وَهُوَ متناقِضٌ أيضًا وغير مُطَّرِد، لكِن همْ فَرِحوا بهَذَا الكمبيوتر الَّذِي أخرجَ لهم عددَ الحروفِ، وأنها بمجموعها تنقسم. ونحن نَقُول: لا يَمتنِع أنَّ الله ﷾ أراد هَذَا، ولَكِننا نَقُول: لا نَجْزِم بأنَّ الله أراد هَذَا؛ أوَّلًا: لِأنَّهُ لَيْسَ فِي ذلكَ إعجازٌ.
والبَشَر قد يَصنَع خطبةً مثلًا أو كلامًا تتكون الحروف الموجودة فِيهِ وتَنقسِم عَلَى هَذَا العدد، أو عَلَى أيّ عددٍ شاء، وَلَيْسَ بِمُعْجِز.
ثُمَّ إن البَسْمَلَة ليستْ أوَّلَ ما نزلَ منَ الْقُرْآن، أوَّل ما نزل ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١)﴾ [العلق: ١]، ثُمَّ إنَّ البَسملةَ أيضًا حروفها ليستْ كما قَالُوا: إِنَّهَا تسعةَ عشَرَ؛ لِأَنَّ الْقُرْآن إِنَّمَا نزلَ مَقروءًا، لا مَكتوبًا، وهي بحروفها باعتبار القراءةِ ليستْ كذلكَ، والكتابة كما هُوَ معلومٌ هِيَ صناعةٌ، وربما يُمْكِن أنَّ الكِتابةَ فِي عهد الرَّسُول ﷺ بل وَفي عهد الخلفاءِ ليستْ عَلَى هَذَا الشكلِ.
فالْآنَ تُوجَد بعضُ اللُّغات يجعلون فيها الحركةَ حرفًا، ويجعلون الحرفَ حرفينِ، أو يَختصرون ويجعلون الحرفينِ حرفًا واحدًا.
فالحاصلُ: أن الْقُرْآن ما نزل مكتوبًا، وإنما نزلَ مقروءًا، ولا حُجَّة فِي ذلك.
إِذَنْ نَقُول: اللهُ أَعْلَمُ بمراده بذلك، هَذَا أحد الأقوالِ فِي المسألةِ.
والقَوْل الثاني: إنَّهَا رموز لأَشْيَاء معيَّنة، مثل ما ذهب إليه هَؤُلَاءِ المتأخِّرون، أو مثل ما يَذْكُر بعضُهم أَنَّهَا إشارة إِلَى حروب وملاحمَ تكون فِي آخِرِ الزمان، وما أَشْبَهَهَا.
1 / 10
والثَّالث أن يُقال: إِنَّهُ لَيْسَ لها معنى.
وإذا أُورد علينا: كيف نَجزِم بذلك؟
فالجوابُ: أنَّ هَذَا الْقُرْآن نزل بلغةِ العربِ، ولغةُ العربِ لا تجعل لهَذَه الحروفِ معنًى، لكِن إذا قُلْنَا بأنه لَيْسَ لها معنى فَإِنَّمَا لها مَغزى، يَظهرُ -واللهُ أَعْلَمُ- أن اللهَ أراد بها ذلك.
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿تِلْكَ﴾ هَذه الآيات ﴿آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ آياتٌ منه ﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ مُظْهِر لِلْحَقِّ مِنَ الباطِل، عَطْف بزيادةِ صِفة، هُوَ ﴿هُدًى﴾ هادٍ مِنَ الضَّلَالةِ].
قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ المشارُ إليه لاحِق وَلَيْسَ بسابقٍ، وهَذَا ممَّا تعود فِيهِ الإشارةُ عَلَى متأخِّرٍ لفظًا ورُتْبَةً، وَهُوَ جائز إذا دلَّ الدَّلِيل عليه.
وقوله: ﴿آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ يَقُول ﵀: [آياتٌ منه]، وإنما لَجَأَ المُفَسِّر إِلَى قوله: [آياتٌ منه]؛ لأنَّنا لو أخذنا بظاهرِ الآيَةِ: ﴿آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ لكان فِي ذلك حَصرٌ للقرآنِ بهَذه الآيَات، ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ يَعْنِي: هَذَا الَّذِي نشير إليه، ومعلومٌ أنَّ هَذَا لَيْسَ آياتِ الْقُرْآن كلَّها، ولكِنَّه بعض منها.
ويجوز أيضًا أن نجعلَ الآيةَ عَلَى ظاهِرِها ولا حاجة إِلَى التأويلِ، ونَقُول: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ يشار إِلَى بعض الجنسِ بإشارة الجنسِ كلِّه، كما تقول مثلًا: هَذَا البشر، وتشير إِلَى رجل واحدٍ، أو هَذَا الْإِنْسَان وتشير إِلَى رجلٍ واحدٍ.
فالمَعْنى أنَّ الإشارة إِلَى بعضِ الجنسِ بالجنسِ كلّه هَذَا سائغٌ، ولا يحتاج إِلَى تأويلٍ كما قَالَ المُفَسِّر ﵀.
وقوله: ﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ يَقُول ﵀: [عطف بزيادة صِفَة، هُوَ ﴿هُدًى﴾]، عطف عَلَى (الْقُرْآن).
1 / 11
قال: ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ وإنَّما وَصَفَ هَذَا الْقُرْآن بالْقُرْآنِ والكتاب؛ لِأنَّهُ مقروءٌ ومَكْتوبٌ. فَهُوَ مكتوبٌ فِي اللَّوْح المحفوظ، وَهُوَ مقروء بالأَلْسُن، وَهُوَ مكتوبٌ فِي المصاحِفِ أيضًا، فكتابته سابقةٌ ولاحقةٌ، وقراءته لاحقةٌ؛ لِأَنَّهَا بَعْد أنْ تَكَلَّمَ الله به ونزل به جِبريلُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٧، ١٨].
قوله: ﴿آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ الْقُرْآن هل هُوَ مصدر أو مُشْتَقّ؟
مصدر؛ لِأنَّهُ مثل: الغُفران والشُّكران، فَهُوَ مَصْدَر: قرأ يقرأ، بمعنى: تلا. وَقِيلَ: إِنَّهُ بمعنى جَمَعَ؛ لِأَنَّ القافَ والراءَ تدلّ عَلَى الجمع، ومنه القَرْيَة؛ لِأَنَّهَا مجُتمَع النَاس.
وفي الحقيقة أن الْقُرْآن جامع للوصفينِ، فَهُوَ مَتْلوٌّ وَهُوَ مجموع أيضًا.
وأما قوله: ﴿كِتَابٍ﴾ فهي فِعَال بمعنى مَفْعُول، أي: مَكْتوب. وفِعَال بمعنى مَفْعُول تأتي كثيرًا فِي اللُّغة العربيَّة مثل: بِنَاء بمعنى: مَبْنِيّ، وغِرَاس بمعنى: مَغْرُوس، وفِراش بمعنى: مَفْرُوش، وأمثلتها كثيرة. وسُمِّي كتابًا لمِا أَشرنا إليه قبلُ.
وقول المُفَسِّر ﵀: [﴿مُبِينٍ﴾ مُظْهِر للحقِّ مِنَ الباطِلِ]، كلمة ﴿مُبِينٍ﴾ فِعْلُها: (أبانَ)، وأبانَ يأتي لازمًا ويأتي متعدِّيًا، أي: يأتي بمعنى أظهرَ، ويأتي بمعنى بانَ، ولهذَا تجد المفسِّر ﵀ أحيانًا يفسِّر مُبِين بمعنى: بَيِّن، وَعَلَى هَذَا التفسير تكون من اللازِمِ. ويُفَسِّرُهَا أحيانًا بمعنى: مُظهِر، فتكون من المتعدِّي.
كما فِي قوله تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، معنى (مبين) أي: بَيِّن، أي: فِي ضلالٍ بيّن، فهي من (أبان) اللازِم. وَأَمَّا مثل هذه الآية أن الْقُرْآن مُبين فَهُوَ بمعنى: مظهِر.
1 / 12
وهل يَستلزِم كونه مُظْهِرًا أن يَكُون هُوَ بيِّنًا؟
نعم يَستلزِم، أو نَقُول: إنَّهُ من باب استعمالِ المشترَك فِي مَعْنيَيْه، والصَّحيح جوازه. وقد سبق هَذَا، فيجوز استعمال المشترك فِي معنييه، والمشترك هُوَ ما اتَّحَدَ لفظُه وتَعَدَّدَ معناه، وسُمِّي بذلك لِأَنَّ المعانيَ مُشْتَرِكة فِي لفظٍ واحدٍ.
والمشترَك الصَّحيحُ أنَّهُ يجوز استعماله فِي معنييه بشرطينِ، وهما: ألَّا يَقَعَ بينهما تعارُض وأن يَكُون محُتمِلًا لهما.
فإن كَانَ لا يَحتملهما فلا يمكن أن يُحمَلَ عليهما، وإن وقعَ بينهما تعارُضٌ فلا يُمْكِن، لَا بُدَّ أن يَكُون أحدُهما هُوَ المقصودَ.
في هذه الآيَة إذا قُلْنَا: إن مُبين من أبانَ اللازِم، ومن أبان المتعدِّي هل يجوز أو لا يجوز؟
يجوز، وإن كَانَ هَذَا مُشْتَرَكًا لَكِنَّهُ إذا استُعمل فِي مَعْنَييه فَإِنَّهُ مستعمَل عَلَى وجهٍ لا تعارُضَ فيه، فالْقُرْآنُ بَيِّن والْقُرْآن أيضًا مُظْهِر. وَعَلَى هَذَا التفسيرِ تكون دلالة (مُبين) علَى أن الْقُرْآن بَيِّن دلالةَ مطابَقَةٍ، يَعْنِي: إذا جَعَلْنَا (مبين) مستعملةً فِي المعنيين فالدلالة مطابقة، لكِن لو قُلْنَا: إن (مبين) بمعنى: مُظهِر فدلالته عَلَى كونِه بَيِّنًا من بابِ دلالةِ الالتزامِ.
قوله ﵀: [﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ مُظْهِر للحقِّ منَ الباطِل]، هل هُوَ عَلَى عُمُومه أو خَاصّ بما نزلَ به الْقُرْآن؟
يَقُول الله تَعَالَى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩]، وَهُوَ عامٌّ فِي كُلّ شيءٍ، لكِن البَيَان قد يَكُونُ بَيَانًا للشيءِ عَلَى وجهِ التفصيلِ، وقد يَكُون
1 / 13
بَيَانا لأَسْبابِهِ وطُرُقِهِ وأنت امشِ فيها، فالْقُرْآن فِي الحقيقةِ تِبَيَان لكلِّ شيءٍ، حَتَّى فِي غيرِ الأُمُورِ الشَّرْعِيَّة يُبَيِّنها، لكِن ما يُبيِّن تفصيلَها؛ لِأَنَّ غير الأُمُور الشَّرْعِيَّة خاضع للزمانِ والمكانِ وأفهامِ النَّاسِ وقوَّتهم، لَكِنَّهُ يذكر الأَسْبَاب والطرقَ، وأنت استعمِلْها فِي نفسِكَ.
ولهِذَا إِذَا قَالَ قَائِلٌ: كيف يَصِحُّ هَذَا القَوْلُ منكم ونحن لا نرَى فِي الْقُرْآن عدد ركعاتِ الصَّلَاة، ولا نرى فيها أَنَّهَا خمسُ صلواتٍ، ولا نرى أنصباءَ الزكاةِ، ولا مقاديرَ الواجبِ فيها، فما هُوَ الجواب؟
فالجواب أن نَقُول: يَكُون الْقُرْآن دالًّا عَلَى هَذَا ببَيَان سببِه وطريقِه، فعندنا الْآنَ طريق العلمِ بهَذَا الشَّيْءِ هُوَ ما فسَّره الرَّسُول ﷺ وهَذَا بيَّنه الْقُرْآن، ولا يلزم أن يَكُون هَذَا الْقُرْآن لَا بُدَّ أن يذكر كُلّ التفاصيلِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠]، وقال تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤].
وابنُ مَسْعُودٍ ﵁ فِي قِصَّة لعنِ النامصةِ والمتنَمِّصَةِ حَيْثُ جاءتْ إليه امرأةٌ فقالت: إنَّا لا نجد هَذَا فِي كتاب الله. فقال: بلى هُوَ فِي كتاب اللهِ. ثُمَّ تلا عليها قوله تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧] (^١).
فالحاصل: أن الْقُرْآنَ مُبِينٌ لكلِّ شيءٍ، لكِن البَيَان قد يَكُون تفصيليًّا، وهَذَا فِي بعض الأُمُور موجود، كما فِي المواريثِ مثلًا، وَفِي المطلَّقات، فتجد ما يَشِذُّ عن هَذَا إِلَّا مسائل قليلة جدًّا، ومع ذلك بَيَانها موجودٌ عند التأمُّل.
_________
(^١) انظر: صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب المتنمصات، حديث رقم (٥٥٩٥)؛ صحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله، حديث رقم (٢١٢٥).
1 / 14
فتَفْصيل الفرائضِ تفصيلٌ ما شذَّ عنه شَيْء إِلَّا مسألةٌ واحدَةٌ، وهي الجدَّة، فهَذه ليستْ مذكورةً فِي الْقُرْآن، لكِن جاءت بها السُّنَّة، وَأَمَّا ما عدا ذلك -حَتَّى المسائل الخلافيَّة، المُشَرَّكَة مثلًا، وكالعُمريتينِ- نجد أَنَّهَا موجودةٌ فِي الْقُرْآن، وكالجدِّ والإخوة نجد أَنَّها موجود بَيَانها فِي الْقُرْآن، لَكِنَّهُ يحتاج إِلَى تأمُّل.
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ مظهِر للحقِّ من الباطل، عطف بزيادة صفةٍ، هُوَ ﴿هُدًى﴾]، الصِّفة هي ﴿مُبِينٍ﴾.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَةُ الْأُوْلَى: أنَّ الْقُرْآنَ آية لمِا تَضَمَّنَهُ من الأخبارِ الصادقةِ والأحكامِ العادلةِ ... إلخ.
الْفَائِدَةُ الْثَّانِيَةُ: أن الْقُرْآن مكتوبٌ سابقًا ولاحقًا، لِقَوْلِهِ: ﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
الْفَائِدَةُ الْثَّالِثَةُ: أن الْقُرْآن مُبينٌ لكلِّ شيءٍ، وتوجد آية صريحةٌ فِي هَذَا الموضوع، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩].
الْفَائِدَةُ الْرَّابِعَةُ: يُستفاد من هذه الآيةِ -وإن كانتْ بعيدةً، ولكِنّي سأبيِّنها- أن الْقُرْآن لا يخرج عن كونِهِ قرآنًا، وإن كُتِبَ، لِقَوْلِهِ: ﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾، فَهُوَ كلام الله، سواء قُرِئَ أو كُتِب، وذلك مفهومٌ من قولِهِ: ﴿آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾، ولا يَكُون آية إِلَّا إذا كَانَ من كلامِ اللهِ ﷿.
* * *
1 / 15
الآية (٢)
* * *
* قَالَ اللهُ ﷿: ﴿هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: ٢].
* * *
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [هو ﴿هُدًى﴾]، قدَّرَ المُفَسِّر (هو) ليُبين لنا إعرابَ (هدى) فعلى تقديرِه يَكُون (هدى) خبرًا لمبتدأٍ محذوفٍ، التَّقْدير: (هو هُدًى).
ثم قَالَ المُفَسِّر ﵀: [هادٍ مِنَ الضَّلالةِ]. ومعلوم أن هُدى مَصْدَر، وأن هادٍ اسمُ فاعل، فيَكُون المُفَسِّر هنا فسَّر المصدرَ باسمِ الفاعلِ، وَفِي تفسير نظرٌ؛ لِأَنَّ الأَولى أن يُجْعَل المصدر عَلَى بابه؛ لسببينِ:
السَّبَب الأول: أن تحويل اسْم الفاعل إِلَى المصدر أبلغُ، فإنَّك إذا قلتَ: فلان عَدْلٌ، وفلان عادلٌ، أيُّهما أبلغ؟ عَدْلٌ أبلغُ، يَعْنِي كأنه مصدر العَدْل، لكِن (عادل) متَّصِف بالعدلِ الموجودِ فِي غيرِه، فلَا شَكَّ أن المصدر أبلغُ.
السَّبَب الثاني: أن جعله هدًى معناه: أن الْقُرْآن نفسه هُدًى يَهتدِي به الْإِنْسَان، لَيْسَ هاديًا، بل هُوَ هُدًى يَهتدي به، فَهُوَ كالعَلَمِ الَّذِي يسير الْإِنْسَان وراءهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى غايته، مثلما سمَّاه الله تَعَالَى نُورًا، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء: ١٧٤].
قوله: ﴿هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ بُشرى أيضًا بمعنى: بِشارة، وقَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ المصدِّقين به بالجنَّة].
1 / 16
قوله ﵀: [بالجنة]، سَيَأْتي.
قولُه ﵀: [﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ المصدِّقين به]، لا يكفي هنا أن الإِيمان مجرَّد التَّصْديق، بل الإِيمان الموجود فِي الْقُرْآن لَا بُدَّ فِيهِ من قَبول وإذعانٍ مَعَ التَّصْديقِ، أَمَّا مجرَّد التَّصْديق فلا يَكفي، والدَّلِيل عَلَى أن مجرَّد التَّصْديق لا يكفي: أنَّ أبا طالبٍ كَانَ مصدِّقًا لمِا جاء به الرَّسُول ﷺ ويقول (^١):
لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٌ ... لَدَيْنَا وَلَا يُعْنَى بِقَوْلِ الْأباطِلِ
ويقول (^٢):
وَلَقَدْ عَلِمْت بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبِرَّيةِ دِينَا
لَوْلَا المَلَامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنى سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا
فإِذَنْ: هُوَ ما قَبِلَ ولا أذعنَ فليس بمؤمنٍ.
فكلَّما وجدتَ الإِيمانَ فِي كتابِ اللهِ فالمُراد به التَّصْديقُ المستلزِمُ للقبولِ والإذعانِ، فليس مجرَّد تصديق.
فإِذَنْ نَقُول: ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ المصدِّقين به القَابِلِين له المُذْعِنين لأحكامِه، لَا بُدَّ من هَذَا.
وقوله: ﴿هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ يُستفاد من ذلك: أنَّهُ كلَّما كَمُلَ الإِيمان فِي العبدِ كمُل اهتداؤُه بالْقُرْآن؛ لِأَنَّ الشَّيْء إذا عُلِّقَ بوصفٍ زاد بزيادة ذلك الوصف ونَقَصَ بنقصِه. فالحُكْم إذا عُلِّق بوصفٍ فإن هَذَا الوصفَ يَزيدُ الحكمُ بزيادتِه وَينْقُص
_________
(^١) سيرة ابن هشام (١/ ٢٨٠).
(^٢) دلائل النبوة للبيهقي (٢/ ١٨٨).
1 / 17
بِنُقْصَانِه، وهَذَا معلومٌ حَتَّى فِي المحسوسِ، تجد أن الشَّيْء المعلَّق بشيء يزيد بزيادتِه، ويَنْقُص بنُقصانِه، فنَقُول: كلَّما ازداد الْإِنْسَان إيمانًا ازداد اهتداءً بالْقُرْآن، ويدلك عَلَى هَذَا قول الله تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤)﴾ [التوبة: ١٢٤]، ويدل أيضًا عَلَى هَذَا قولُه تَعَالَى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [المائدة: ١٣].
وأيضًا ﴿وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ البِشَارَة هِيَ الإخبارُ بما يَسُرُّ، وقد تُطْلَق عَلَى الإخبارِ بما يَسُوء، لكِن بقرينةٍ.
وهنا يَقُول ﵀: بُشرى بالجنَّة، ولكِن الصَّحيح أَنَّهَا بُشرى بما هُوَ أعمُّ؛ بالجنَّة وبالعزَّة والكرامة وبالنصرِ، والدَّلِيل قوله تَعَالَى فِي سورة الصفِّ بعدما ذكر الجنة لِلْمُؤْمِنيِنَ: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ﴾ [الصف: ١١، ١٢]، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ [الصف: ١٣] ثُمَّ قَالَ: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصف: ١٣]، يَعْنِي: بَشِّرهم بما لهم فِي الجنَّة، وبَشِّرْهُم بما لهم فِي الدُّنْيا مِنَ النصرِ، وكلُّ إِنْسَانٍ بطبيعتِه البَشَرِيَّة يحبّ أنْ يَنتصِرَ عَلَى عدوِّه، ويحب أن يَكُون له العزُّ والكرامة، هَذَا لا يمكِن أن يَكُون إِلَّا بالإِيمانِ، وكلَّما ازددنا إيمانًا ازددنا انتصارًا عَلَى عدوِّنا، وكلَّما تَخاذَلْنَا فِي الإِيمانِ خُذِلنا، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١].
وإذا أردنا دليلًا عَلَى هَذَا فلننظُرْ إلَى الَّذِينَ يُطَنْطِنُونَ بالقوميَّة العربيَّة، منذُ مَتَى وهم يطنطنون بها؟
أظنُّه من أوَّل القرن، ومع ذلك لا يزدادونَ إِلَّا تأخُّرًا وضعفًا؛ لِأَنَّهَا ليست
1 / 18
عَلَى إيمانٍ، ولمّا ظهرتْ بادرة الدَّعْوَة إلَى الإسْلام والتضامُن الإسْلامىّ ماذا حصل؟
حاولوا بكلِّ ما يَستطيعون أنْ يَقْضُوا عَلَى هَذَا، لَيْسَ من الدولِ الكافرةِ، بل حَتَّى من الدولِ المسلِمة العربيَّة، وصاروا يَقُولُونَ: إن هذه دعوة رجعيَّة .. إلَى آخره.
فالحاصل: أننا الْآنَ إذا أردنا أن نرجعَ إلَى العزَّة والكرامة والنصر فلا يَكُون ذلك إلَّا بالإيمانِ.
وقد يَقُول قائلٌ: كيف نَنتصر بالإيمانِ وحدهُ على من لديهم أسلحة فتّاكة متطورة لم نَصل بعدُ إلى امتلاكِ أمثالها؟
نقولُ إنَّ أسبابَ النَّصر هِى:
أولًا: إخلاصُ النية لله، بأنْ ننْوي بجهادِنا إعلاءَ كلِمَةِ اللهِ، وتثبيتَ شريعَتِه، وتحكيمَ كِتابه وسُنَّةِ رسولِ اللهِ ﷺ.
ثانِيًا: أن نلْتَزم بالصَّبر والتَّقوى، فإنَّ اللهَ مَع الصَّابرين، وإنَّ اللهَ مع المتَّقينَ، عليْنا أنْ نصبر عَلى الجهادِ، وأنْ نتقِىَ اللهَ تَعالى بامتِثَال أوامِره واجْتناب نواهِيه، فإنَّ مخالَفة أمْر اللهِ ورسولِه مِن أسْباب الخِذْلانِ، فهؤُلاءِ صَحابَةُ محمَّدٍ ﷺ مَع رسُولِ اللهِ ﷺ خالَف بعْضُهم في أمْر واحِدٍ مِن أوامِر رسُولِ اللهِ ﷺ فِي غزْوَة أُحُدٍ فكانَتِ الهزيمَةُ علَيْهم بعْدَ أنْ كانَ النَّصرُ لهم فِي أوَّل الأمْر، ولكِن بعْد ذَلك تدارَكَهُم عفْوُ اللهِ فعَفا اللهُ عنْهُم.
ثالِثًا: أنْ نعرف قدْرَ أنفُسِنا وأنَّ لا حوْلَ لَنا ولا قُوَّة إلَّا باللهِ، فلا يأخُذْنا العجبُ بقوَّتِنا وكثْرَتِنا فإنَّ الإعْجابَ بالنَّفْس والاعتِزاز بها مِن دُون اللهِ سبَبٌ للخِذْلان، ولقَد أُعْجِب الصَّحابَة بكَثْرتهم في يَوْم حُنَيْنٍ فلَمْ تُغْن عنْهُم شيْئًا ثُمَّ ولَّوْا مُدبِرينَ،
1 / 19
ولكِنَّ اللهَ أنْزَل سَكِينتَه عَلى رسُولِه وعَلى المؤْمِنينَ وأنْزَل جُنودًا مِن الملائِكَة فكانَتِ العاقِبَةُ للمُؤمِنين.
رابعًا: أن نُعِدَّ العُدَّة للأعْدَاء مستعمِلِين في كُلِّ وقتٍ وحالٍ ما يُناسِب مِن الأسلِحَة والقُوَّة لنرُدَّ على سِلاح العدُوِّ بالمثْل، فإذا تحقَّقتْ هَذه الأمورُ الأَرْبعَةُ فإنَّ اللهَ تَعَالَى يقُول: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٧)﴾ [محمد: ٧].
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَةُ الْأُوْلَى: أن القرآن هدًى للناس، والمُراد بالهداية هنا هدايةُ الإرشادِ، كُلّ النَّاس يَسْتَرْشدُون به لو شاءوا، يعني أن القرآن لا نَقْصَ فِي دلالته، لكِن هداية التَّوفيق خاصَّة بالمُؤْمِنيِنَ.
الْفَائِدَةُ الْثَّانِيَةُ: أن القرآن بُشرى للمُؤْمِنيِنَ، بشرى فِي الدُّنْيا بالنصرِ وَفِي الآخِرَة بالجنةِ وبما أُعِدَّ لهم منَ الثواب بالجنَّة، وبالعِزَّة وبالكَرامَةِ وبالنَّصْر.
* * *
1 / 20
الآية (٣)
* * *
* قَالَ اللهُ ﷿: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣)﴾ [النمل: ٣].
* * *
قَالَ المُفَسِّر ﵀: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ يأتون بها عَلَى وَجْهِها]، أقام الشَّيْءَ: أتى به مُستقيمًا، ولا تكون الصَّلَاة مستقيمةً إِلَّا إذا أتى بها عَلَى وَجهها.
وإقامة الصَّلَاة نوعانِ: نوع لَا بُدَّ منه، وَهُوَ الإتيان بالأركانِ والواجباتِ والشروطِ، ونوع يَكُون عَلَى وجهِ الكمالِ، وَهُوَ الإتيان بالمُكَمِّلات من السُّنن وغيرها.
قوله ﵀: [﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ يأتون بها عَلَى وَجهها ﴿وَيُؤْتُونَ﴾ يعطون ﴿الزَّكَاةَ﴾ ...]، إِلَى آخِره.
قوله: ﴿يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ هل المُراد الفريضة أو النافلةُ؟
نَقُول: عامٌّ؛ لِأنهُ لا يجوز للإِنْسَانِ أن يأتيَ بالسنَّة مثلًا عَلَى وجهٍ يُنافي الكمالَ الواجبَ، لو قَالَ واحد: أنا سأتطوَّع، لكِن لن أقرأ الفاتحةَ، أليستْ سُنَّة. يجوز أو لا يجوز؟ لا يجوز، نَقُول: الْآنَ يَجِب عليك أن تقرأَ الفاتحة، لو قَالَ: لن أركعَ، لن أسجُدَ لا يمكِن هَذَا، فإذن فِي الآية الصَّلَاة إقامتها عامَّة فِي الواجب وِفي التطوُّع.
وقوله: ﴿يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ لم يبيِّن المَفْعُول الثانيَ لـ (يؤتون)، لَكِنَّهُ معلومٌ،
1 / 21
والتَّقْدير: (يؤتون الزكاة مُسْتَحِقَّها) وقد بيَّن الله ﵎ مستحِقَّ الزكاة فِي سورة بَرَاءَة ببَيَان واضحٍ مفصَّلٍ.
وقوله: ﴿الزَّكَاةَ﴾ لا حاجة إِلَى تعريفها عندكم لِأَنَّهَا معروفةٌ، وسُمِّيَتْ زكاةً لِأَنَّهَا تُزَكِّي الْإِنْسَان، قَالَ ﵎: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: ١٠٣].
قوله: ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ هَذَا ثناء عَلَى المُؤتِينَ للزكاة، والسُّورَة كما تقدَّم مكّيّة، فهل معنى ذلك أن الزكاة فُرضت بمَكَّة أو فِي المَدينَة؟
المعروف عند أهلِ العلمِ أَنَّهَا فُرضت فِي المَدينَة، ولكِن الصحيح أَنَّهَا فُرضت بمكَّة، ولكِنَّ تقديرَ أنصبائها وبَيَان الأموال عَلَى وجه التفصيلِ كَانَ ذلك فِي المَدينَةِ، هَذَا هُوَ الصَّحيح، وَهُوَ الَّذِي به تَجتمع الأدلَّة.
فَإِنْ قَالَ قَائِل: تأخّر بَيَان أنصِبَة الزكاة إِلَى ما بعدَ الهجرةِ ألَا يَكُونُ من بابِ تأخيرِ البَيَان عن وقتِ الحاجةِ؟
فالجواب: لا، هَذَا من باب التطوُّر فِي التشريع، فبيَّن الزكاة وتركها موكولةً للإِنْسَان يختار ما يُخْرِج، فيُخْرِج ما شاءَ؛ لأجلِ أن تتعوَّد النفوس، ثُمَّ بَعْد ذلك يَفْرِض عليها الشَّيْءَ الَّذِي أراد اللهُ ﷾. وهَذَا مِثْلُ غيره منَ الأَشْيَاء الَّتِي تطوَّرت: الصَّلَاة فُرِضَتْ ركعتينِ، ثُمَّ أُقِرَّت صلاةُ السفرِ وزِيد فِي صلاة الحَضَر (^١).
والزكاة هَكَذَا فُرِضَت أوَّلًا عَلَى اختيار الْإِنْسَان، ثُمَّ حُددت، والصِّيَام فُرض عَلَى سبيل التخيير ثُمَّ عُيِّن، والحجُّ هُوَ الَّذِي ما أعلمُ فِيهِ إِلَّا اَنهُ فُرض مرَّةً واحدةً،
_________
(^١) رواه البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، رقم (٣٥٠)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، رقم (٦٨٥).
1 / 22
ولكِن السَّبَب فِي ذلك أنهُ أتى فِي السنة التَّاسعةِ أو العاشرةِ بعدَ أنِ استقرَّ الإِيمان فِي القلوبِ، فلا حاجة إِلَى أن تُدَرَّج النفوس من مرحلة إِلَى مرحلة.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: كيف نَجْمَعُ بينَ حديثِ ابنِ عبَّاس: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ الصَّلَاةَ عَلَى نَبِيَكُمْ فِي الحَضرِ أَرْبَعًا وِفي السَّفَرِ رَكعَتَيْنِ" (^١)، وبينَ حديثِ عائشةَ؟
قُلْنَا: أنا لا أَدري صِحَّة هَذَا الحديثِ، وَعَلَى فَرض صِحَّته وقد قالَه ابنُ عبَّاس، فحديثُ عائشةَ أصحُّ، فحديثُ عائشةَ: "أَوَّل مَا فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ" (^٢) صَريح صحيح، وَعَلَى هَذَا فالجمعُ أنْ يُقالَ: فُرِضَتْ أربعًا ثُمَّ فُرضتْ ركعتينِ ثُمَّ قُسم إِلَى حَضَر وسفرٍ.
مسألة: هل يجوز التدريجُ فِي الأحكامِ لمِن يُسْلم؟
الظَّاهر لي أنهُ يجوزُ، وأن نأمرَه بالأهمّ فالأهم، مثلما أمر الرَّسُول ﷺ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ، مَعَ أنَّ الأحكام مستقرَّة. قَالَ: "أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ إِقَامُ الصَّلَاةِ، ثُمَّ إِيتَاءُ الزَّكَاةِ" (^٣) مَعَ أنَّ كُلّ هذه كانتْ
_________
(^١) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم (٦٨٧).
(^٢) رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب التاريخ من أين أرخوا التاريخ، حديث رقم (٣٧٢٠)؛ ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم (٦٨٥).
(^٣) رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النَّبِيّ ﷺ أمته إلى توحيد الله ﵎، حديث رقم (٦٩٣٧)؛ ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث رقم (١٩)، عن ابن عباس ﵄، ولفظ مسلم: لما بعث النَّبِيّ ﷺ معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن قال له: "إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس".
1 / 23
مفروضةً، وحتى الصوم والحجُّ أيضًا مفروض.
قَالَ المُفَسِّر ﵀: [﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ يَعْلَمُونها بالاستدلالِ، وأُعيدَ (هم) لما فُصِلَ بينه وبين الخبر].
قوله: ﴿وَهُمْ﴾ مُبتدَأ و﴿يُوقِنُونَ﴾ خَبَره، و﴿بِالْآخِرَةِ﴾ متعلِّق بـ (يُوقِنون)، ولكِن كلمة ﴿هُمْ﴾ أُعيدتْ مرَّة ثانيةً، فهل هَذَا من بابِ التَّوْكيدِ ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ يعني ﴿وَهُمْ﴾ همُ الَّذِينَ يوقنون دونَ غيرِهم، أو أنَّهُ كما قَالَ المُفَسِّر: للفصلِ بينه وبين الخبرِ، والفاصلُ قوله: ﴿بِالْآخِرَةِ﴾؟
يَحتمل هَذَا وهَذَا، وقد يجوز أن يَكُونَ المُراد الجميع، فبيَّن الله ﷾ أَنَّهُم هم أهلُ الإيقانِ، حَيْثُ كرَّر الضَّمير مرتينِ، وكُرِّرَ أيضًا مرتينِ لِطُول الفصلِ بين الخبرِ وبين المبتدأِ بالفاصلِ.
ولكِن الإيقان يَقُول المُفَسِّر: [يعلمونها بالاستدلالِ]، إِنَّمَا قَالَ ﵀: بالاستدلال؛ لِأَنَّ الْتقين أخصُّ منَ العلمِ؛ إذ إن الْيقين معناه: العِلم الَّذِي لا يَتَطرّق إليه الاحتمالُ، فَهُوَ أعلى درجاتِ العلمِ، وهَذَا إِنَّمَا يَكُون بالاستدلالِ، يعني بالأدلَّة المُبيِّنَةِ المقنِعة، فلهَذَا فسَّر المُفَسِّر الْيقينَ بأنه: العِلم بالأَشْيَاء عن طريق الاستدلالِ.
وقوله: ﴿بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ هل المُرادُ بالآخِرَة أنَّهُ يُبعث النَّاس فقطْ؟
نَقُول: لا، فكُلّ ما أخبرَ الله تَعَالَى به ممَّا يَكُون فِي هَذَا اليوم أو أخبر به رسولُه فَإِنَّهُ داخل فِي الآخِرَةِ، بل إن شيخ الإِسْلام ﵀ يَقُول: إِنَّهُ يدخل فِي الإيمان باليوم الآخِر كُلّ ما أخبر به النَّبِيّ ﷺ مما يَكُون بَعْد الموت (^١).
_________
(^١) انظر: العقيدة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (٣/ ١٤٥).
1 / 24