241

تفسير الشعراوي

تفسير الشعراوي

ژانرونه

وكأن الصوم يشذب شرة المادية في الجسم الشاب. وإن تقليل الطعام يعني تقليل وقود المادة، فيقل السعار الذي يدفع الإنسان لارتكاب المعاصي.

والصيام في رمضان يعطي الإنسان الاستقامة لمدة شهر، ويلحظ الإنسان حلاوة الاستقامة فيستمر بها بعد رمضان. والحق لا يطلب منك الاستقامة في رمضان فقط، إنما هو سبحانه قد اصطفى رمضان كزمن تتدرب فيه على الاستقامة لتشيع من بعد ذلك في كل حياتك لأن اصطفاء الله لزمان أو اصطفاء الله لمكان أو لإنسان ليس لتدليل الزمان، ولا لتدليل المكان، ولا لتدليل الإنسان، وإنما يريد الله من اصطفائه لرسول أن يشيع أثر اصطفاء الرسول في كل الناس. ولذلك نجد تاريخ الرسل مليئا بالمشقة والتعب، وهذا دليل على أن مشقة الرسالة يتحملها الرسول وتعبها يقع عليه هو. فالله لم يصطفه ليدلله، وإنما اصطفاه ليجعله أسوة. وكذلك يصطفي الله من الزمان أياما لا ليدللها على بقية الأزمنة، ولكن لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يشيع اصطفاء هذا الزمان في كل الأزمنة، كاصطفائه لأيام رمضان، والحق سبحانه وتعالى يصطفي الأمكنة ليشيع اصطفاؤها في كل الأمكنة. وعندما نسمع من يقول: " زرت مكة والمدينة وذقت حلاوة الشفافية والإشراق والتنوير، ونسيت كل شيء ". إن من يقول ذلك يظن أنه يمدح المكان، وينسى أن المكان يفرح عندما يشيع اصطفاؤه في بقية الأمكنة فأنت إذا ذهبت إلى مكة لتزور البيت الحرام، وإذا ذهبت إلى المدينة لتزور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا تتذكر في كل الأمكنة أن الله موجود في كل الوجود، وأن قيامك بأركان الإسلام وسلوك الإسلام هو تقرب من الله ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم. صحيح أن تعبدك وأنت في جوار بيت الله، يتميز بالدقة وحسن النية. كأنك وأنت في جوار بيت الله وفي حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تستحي أن تفعل معصية. وساعة تسمع " الله أكبر " تنهض للصلاة وتخشع، ولا تؤذي أحدا، إذن لماذا لا يشيع هذا السلوك منك في كل وقت وفي كل مكان؟ إنك تستطيع أن تستحضر النية التعبدية في أي مكان، وستجد الصفاء النفسي العالي. إذن فحين يصطفي الله زمانا أو مكانا أو يصطفي إنسانا إنما يشاء الحق سبحانه وتعالى أن يشيع اصطفاء الإنسان في كل الناس، واصطفاء المكان في كل الأمكنة واصطفاء الزمان في كل الأزمنة، ولذلك أتعجب عندما أجد الناس تستقبل رمضان بالتسبيح وبآيات القرآن وبعد أن ينتهي رمضان ينسون ذلك. وأقول هل جاء رمضان ليحرس لنا الدين أم أن رمضان يجيء ليدربنا على أن نعيش بخلق الصفاء في كل الأزمنة؟ وقوله الحق: { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } [البقرة: 183] يدلنا على أن المسلمين ليسوا بدعا في مسألة الصوم، بل سبقهم أناس من قبل إلى الصيام وإن اختلفت شكلية الصوم. وساعة يقول الحق: { كتب عليكم الصيام } [البقرة: 183] فهذا تقرير للمبدأ، مبدأ الصوم، ويفصل الحق سبحانه المبدأ من بعد ذلك فيقول : { أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر... }.

[2.184-185]

{ أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون } [البقرة: 184]. وكلمة " أياما " تدل على الزمن وتأتي مجملة، وقوله الحق عن تلك الأيام: إنها " معدودات " يعني أنها أيام قليلة ومعروفة. ومن بعد ذلك يوضح الحق لنا مدة الصيام فيقول: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } [البقرة: 185]. إذن، فمدة الصيام هي شهر رمضان، ولأنه سبحانه العليم بالضرورات التي تطرأ على هذا التكليف فهو يشرع لهذه الضرورات، وتشريع الله لرخص الضرورة إعلام لنا بأنه لا يصح مطلقا لأي إنسان أن يخرج عن إطار الضرورة التي شرعها الله، فبعض من الذين يتفلسفون من السطحيين يحبون أن يزينوا لأنفسهم الضرورات التي تبيح لهم الخروج عن شرع الله، ويقول الواحد منهم:

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها..

[البقرة: 286]. ونقول: إنك تفهم وتحدد الوسع على قدر عقلك ثم تقيس التكليف عليه، برغم أن الذي خلقك هو الذي يكلف ويعلم أنك تسع التكليف، وهو سبحانه لا يكلف إلا بما في وسعك بدليل أن المشرع سبحانه يعطي الرخصة عندما يكون التكليف ليس في الوسع. ولنر رحمة الحق وهو يقول: { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } [البقرة: 185]، وكلمة " مريضا " كلمة عامة، وأنت فيها حجة على نفسك وبأمر طبيب مسلم حاذق يقول لك: " إن صمت فأنت تتعب " والمرض مشقته مزمنة في بعض الأحيان، ولذلك تلزم الفدية بإطعام مسكين. وكذلك يرخص الله لك عندما تكون " على سفر ". وكلمة " سفر " هذه مأخوذة من المادة التي تفيد الظهور والانكشاف، ومثل ذلك قولنا: " أسفر الصبح ". وكلمة " سفر " تفيد الانتقال من مكان تقيم فيه إلى مكان جديد، وكأنك كلما مشيت خطوة تنكشف لك أشياء جديدة، والمكان الذي تنتقل إليه هو جديد بالنسبة لك، حتى ولو كنت قد اعتدت أن تسافر إليه لأنه يصير في كل مرة جديدا لما ينشأ عنه من ظروف عدم استقرار في الزمن، صحيح أن شيئا من المباني والشوارع لم يتغير، ولكن الذي يتغير هو الظروف التي تقابلها، وصحيح أن ظروف السفر في زماننا قد اختلفت عن السفر من قديم الزمان.

إن المشقة في الانتقال قديما كانت عالية، ولكن لنقارن سفر الأمس مع سفر اليوم من ناحية الإقامة. وستجد أن سفر الآن بإقامة الآن فيه مشقة، ومن العجب أن الذين يناقشون هذه الرخصة يناقشونها ليمنعوا الرخصة، ونقول لهم: اعلموا أن تشريع الله للرخص ينقلها إلى حكم شرعي مطلوب وفي ذلك يروي لنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:

" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال: " ما هذا " فقالوا: صائم فقال: " ليس من البر الصوم في السفر ".

وعندما تقرأ النص القرآني تجده يقول: { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } [البقرة: 185] أي أن مجرد وجود في السفر يقتضي الفطر والقضاء في أيام أخر، ومعنى ذلك أن الله لا يقبل منك الصيام، صحيح أنه سبحانه لم يقل لك: " افطر " ولكن مجرد أن تكون مريضا مرضا مؤقتا أو مسافرا فعليك الصوم في عدة أيام أخر وأنت لن تشرع لنفسك. ولنا في رسول الله أسوة حسنة فقد نهى عن صوم يوم عيد الفطر، لأن عيد الفطر سمي كذلك، لأنه يحقق بهجة المشاركة بنهاية الصوم واجتياز الاختبار، فلا يصح فيه الصوم، والصوم في أول أيام العيد إثم، لكن الصوم في ثاني أيام العيد جائز، لحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

" نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى ".

ناپیژندل شوی مخ