تفسير الشعراوي
تفسير الشعراوي
ژانرونه
أما بالنسبة للجنة. فالاستثناء يكون من البدء، لماذا؟ لأن المؤمن الذي عصى الله لن يدخل الجنة من البداية، وإنما سيقضي فترة في النار ثم يدخل الجنة، إذن فالخلود في الجنة بالنسبة له قد نقص من أوليته. أما الشقي فالخلود في النار نقص من آخريته، إذن " إلا ما شاء ربك " تعني أن المؤمن العاصي لن يدخل الجنة من بدء الآخرة: إذن " إلا " هنا جاء لاستثناء الزمن من أوله بالنسبة للسعداء، أو استثناء الزمن من آخره بالنسبة للعصاة الأشقياء، ولذلك لا تجد تناقضا، ذلك التناقض الذي تصنعه سطحية الفهم. أما قوله الحق: { لا يخفف عنهم العذاب } [البقرة: 162] فهو أن الإنسان عندما يعذب بشيء فإن تكرار العذاب عليه ربما يجعله يألف العذاب، لكن الواقع يقول: إن العذاب يشتد عليه، فالتخفيف لا علاقة له بالزمن، وقوله الحق: { ولا هم ينظرون } [البقرة: 162] نعرف منه أن الإنظار هو الإمهال، والمعنى أنهم لا يؤخرون عن عذابهم أو لا ينظرون بمعنى لا ينظر إليهم. وهناك آية تفيد هذا المعنى في قوله تعالى:
ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم..
[آل عمران: 77]. لأن النظر يعطي شيئا من الحنان، ولماذا قال: لا ينظرون؟. لأنك قد تتجه ناحيته فتنظره دون قصد، بتلقائية، ولكن النظرة لا تتجه عطفا عليه، وهو سبحانه لا ينظر إليهم أساسا، لأن النظرة قد توحي بلون من الشفقة، بذلك تكون لا ينظرون، أي لا ينظر إليهم أبدا، فكأنهم أهملوا إهمالا تاما. ويقول الحق من بعد ذلك: { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو... }.
[2.163]
وتلك هي قضية الحق الأساسية، و { وإلهكم } [البقرة: 163] يعني أن المعبود إله واحد، فالواقع أن الإله الحق موجود قبل أن يوجد الكفر. و { لا إله إلا هو } [البقرة: 163] هذه قضية ثانية، لأن غفلة الناس هي التي جعلت بعضا من نفوس الناس تلتفت إلى آلهة أخرى. وقوله الحق أنه سبحانه: { إله واحد } [البقرة: 163] أي ليس له ثان، والفارق بين " واحد " و " أحد " هو أن " واحد " تعني ليس له ثان، و " أحد " يعني ليس مركبا ولا مكونا من أجزاء، ولذلك فالله لا يمكن أن نصفه بأنه " كل " أو " كلي " لأن " كل " يقابلها " جزء " و " كلي " يقابلها " جزئي " ، و " كل " هو أن يجتمع من أجزاء. والله متفرد بالوحدانية، وسبحانه المنزه عن كل شيء وله المثل الأعلى، وأضرب هذا المثل للتقريب لا للتشبيه، إن الكرسي " كل " مكون من خشب ومسامير وغراء وطلاء، فهل يمكن أن نطلق على الخشب أنه " كرسي " أو على المسامير أو على الغراء أو على الطلاء؟. لا، إذن كل جزء لا يطلق على " الكل " ، بل الكل ينشأ من اجتماع الأجزاء. و " الكلي " يطلق على أشياء كثيرة لكن كل شيء منها يحقق الكلي، فكلمة " إنسان " نقول عنها " كلي " جزئياتها محمد وزيد وبكر وعمر وخالد، فنقول: زيد إنسان، وهو قول صحيح، ونقول عمر إنسان وذلك قول صحيح. والله سبحانه وتعالى لا هو " كلي " لأنه واحد، ولا هو " كل " لأنه أحد. إن القضية الأساسية في الدين هي { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو } [البقرة: 163] والقرآن لا ينفي ويقول: { لا إله إلا هو } [البقرة: 163] إلا حين توجد غفلة تعطي الألوهية لغير الله، أو تعطي الألوهية لله ولشركاء معه، إن القرآن ينفي ذلك ويقول: { لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } وليس هناك شيء غير الله إلا نعمة منه سبحانه أو منعم عليه. إن ما دون الله إما نعمة وإما منعم عليه بالنعمة، وهذه كلها نفح الرحمن، ونفح الرحيم. وما دام كل شيء ما عدا الله إما نعمة وإما منعم عليه فلا توصف النعمة بأنها إله، ولا يقال في المنعم عليه: إنه إله، لأن المنعم عليه معناه أن غيره أفاض عليه نعمه، لأن النعمة موهوبة، والمنعم عليه موهوب إليه، فإذا كانت هبة أو موهوبة إليه فلا يصح أن تكون إلها، لكن الذين يفتنون إنما يفتنون في الأسباب، والحق سبحانه وتعالى هو المسبب لكل الأسباب. وبعد ذلك يلفتنا الحق سبحانه إلى خدمة هذه القضية فيدعونا أن ننظر في الكون ونتأمل في النعمة الموجودة لنا، وبعد ذلك فأنت يا من أنعم الله عليه بهذه النعمة إن وجدت أحدا يدعيها لنفسه فأعطها واتركها له وانسب النعم إلى موجدها وهو الله، وإياك أن تشرك في نعمة الله أحدا غيره، لأن الله يقول: في الحديث القدسي:
" أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه ".
ويلفتنا الحق إلى الكون فيقول: { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار... }.
[2.164]
إن الله سبحانه برحمته خلق الإنسان منعما عليه، وخلق كل ما في الكون نعمة له، ويلفتنا إلى الدليل على هذه القضية بالكون نفسه. ويحدد مظاهر في الكون لم يدع أحد أنه خلقها وأوجدها، فإذا ما جاء الناس الذين لا يؤمنون بالإله الواحد يزحزحون الألوهية إلى سواه نقول لهم: هذا الكون العجيب الذي يتمثل في الأرض ويتمثل في السماء، ويتمثل في اختلاف الليل والنهار، ويتمثل في الفلك التي تجري في البحر، ويتمثل في ما أنزل الله من السماء من ماء، ويتمثل في السحاب المسخر بين السماء والأرض كل هذه الآيات - أي الأمور العجيبة -.. تلفت إلى أن موجدها أعظم منها. إنه سبحانه يريد أن ينبه العقل إلى أن يستقبل نعمة الوجود في ذاته وفي الكون المسخر له ليستنبط من هذه الآيات العجيبة صدق الله في قوله:
.. وإلهكم إله واحد
ناپیژندل شوی مخ