[2.125]
وضحت لنا الآية التي سبقت أن اليهود قد انتفت صلتهم بإبراهيم عليه السلام.. بعد أن تركوا القيم والدين واتجهوا إلى ماديات الحياة.. أنتم تدعون أنكم أفضل شعوب الأرض لأنكم من ذرية إسحاق بن إبراهيم والعرب لهم هذه الأفضلية والشرف لأنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم.. إذن فأنتم غير مفضلين عليهم.. فإذا انتقلنا إلى قصة بيت المقدس وتحول القبلة إلى الكعبة.. نقول إن ذلك مكتوب منذ بداية الخلق أن تكون الكعبة قبلة كل من يعبد الله. الحق سبحانه وتعالى يقول: { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا } [البقرة: 125].. تأمل كلمة البيت وكلمة مثابة.. بيت مأخوذ من البيتوته وهو المأوى الذي تأوى إليه وتسكن فيه وتستريح وتكون فيه زوجتك وأولادك.. ولذلك سميت الكعبة بيتا لأنها هي المكان الذي يستريح إليه كل خلق الله.. ومثابة يعني مرجعا تذهب إليه وتعود.. ولذلك فإن الذي يذهب إلى بيت الله الحرام مرة يحب أن يرجع مرات ومرات.. إذن فهو مثابة له لأنه ذاق حلاوة وجوده في بيت ربه.. وأتحدى أن يوجد شخص في بيت الله الحرام يشغل ذهنه غير ذكر الله وكلامه وقرآنه وصلاته.. تنظر إلى الكعبة فيذهب كل ما في صدرك من ضيق وهم وحزن ولا تتذكر أولادك ولا شئون دنياك ولو ظلت جاذبية بيت الله في قلوب الناس مستمرة لتركوا كل شئون دنياهم ليبقوا بجوار البيت.. ولذلك كان عمر بن الخطاب حريصا على أن يعود الناس إلى أوطانهم وأولادهم بعد انتهاء مناسك الحج مباشرة.. ومن رحمة الحق سبحانه أن الدنيا تختفي من عقل الحاج وقلبه.. لأن الحجيج في بيت ربهم.. وكلما كربهم شيء أو همهم شيء توجهوا إلى ربهم وهم في بيته فيذهب عنهم الهم والكرب.. ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول:
فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم..
[إبراهيم: 37]. أفئدة وليست أجساما وتهوى أي يلقون أنفسهم إلى البيت.. والحج هو الركن الوحيد الذي يحتال الناس ليؤدوه.. حتى غير المستطيع يشق على نفسه ليؤدي الفريضة .. والذي يؤديه مرة ويسقط عنه التكليف يريد أن يؤديه مرة أخرى ومرات. إن من الخير أن تترك الناس يثوبون إلى بيت الله.. ليمحو الله سبحانه ما في صدورهم من ضيق وهموم مشكلات الحياة. وقوله تعالى: { مثابة للناس وأمنا } [البقرة: 125].. أمنا يعني يؤمن الناس فيه.. العرب حتى بعد أن تحللوا من دين إسماعيل وعبدوا الأصنام كانوا يؤمنون حجاج بيت الله الحرام.. يلقي أحدهم قاتل أبيه في بيت الله فلا يتعرض له إلا عندما يخرج.
والله سبحانه وتعالى يضع من التشريعات ما يريح الناس من تقاتلهم ويحفظ لهم كبرياءهم فيأتي إلى مكان ويجعله آمنا.. ويأتي إلى شهر ويجعله آمنا لا قتال فيه لعلهم حين يذوقون السلام والصفاء يمتنعون عن القتال. والكلام عن هذه الآية يسوقنا إلى توضيح الفرق بين أن يخبرنا الله أن البيت آمن وأن يطلب منا جعله آمنا.. إنه سبحانه لا يخبرنا بأن البيت آمن ولكن يطلب منا أن نؤمن من فيه.. الذي يطيع ربه يؤمن من في البيت والذي لا يطيعه لا يؤمنه.. عندما يحدث هياج من جماعة في الحرم اتخذته ستارا لتحقيق أهدافها.. هل يتعارض هذا مع قوله تعالى: { مثابة للناس وأمنا } [البقرة: 125].. نقول لا.. إن الله لم يعط لنا هذا كخبر ولكن كتشريع.. إن أطعنا الله نفذنا هذا التشريع وإن لم نطعه لا ننفذه. وقوله تعالى: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.. } [البقرة: 125].. وهنا نقف قليلا فهناك مقام بفتح الميم ومقام بضم الميم.. قوله تعالى:
يأهل يثرب لا مقام لكم..
[الأحزاب: 13]. مقام بفتح الميم اسم لمكان من قام.. ومقام بضم الميم اسم لمكان من أقام.. فإذا نظرت إلى الإقامة فقل مقام بضم الميم.. وإذا نظرت إلى مكان القيام فقل مقام بفتح الميم.. إذن فقوله تعالى: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.. } [البقرة: 125] بفتح الميم اسم المكان الذي قام إبراهيم فيه ليرفع القواعد من البيت ويوجد فيه الحجر الذي وقف إبراهيم عليه وهو يرفع القواعد. ولكن لماذا أمرنا الله بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ لأنهم كانوا يتحرجون عن الصلاة فيه.. فالذي يصلي خلف المقام يكون الحجر بينه وبين الكعبة.. وكان المسلمون يتحرجون أن يكون بينهم وبين الكعبة شيء فيخلون من الصلاة ذلك المكان الذي فيه مقام إبراهيم.. ولذلك قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا نتخذ من مقام إبراهيم مصلى؟ وسؤال عمر ينبع من الحرص على عدم الصلاة وبينه وبين الكعبة عائق وهم لا يريدون ذلك.. ولما رأى عمر مكانا في البيت ليس فيه صلاة يصنع فجوة بين المصلين أراد أن تعم الصلاة كل البيت.. فنزلت الآية الكريمة: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [البقرة: 125]. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى.. فكأنه جل جلاله أقر وجود مكان إبراهيم في مكانه فاصلا بين المصلين خلفه وبين الكعبة.. وذلك لأن مقام إبراهيم له قصة تتصل بالعبادة وإتمامها على الوجه الأكمل، والمقام سيعطينا حيثية الإتمام لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
فيه آيات بينات مقام إبراهيم..
[آل عمران: 97]. إذن هناك آيات واضحة يريدنا الله سبحانه أن نراها ونتفهمها.. فمقام إبراهيم هو مكان قيامه عندما أمره الله برفع القواعد من البيت.. والترتيب الزمني للأحداث هو أن البيت وجد أولا.. ثم بعد ذلك رفعت القواعد ووضع الحجر الأسود في موقعه وقد وضعه إبراهيم عليه السلام. إن الله سبحانه وتعالى لا يريد أن يعطينا التاريخ بقدر ما يريد أن يعطينا العبرة فقصة بناء البيت وقع فيها خلاف بين العلماء.. متى بني البيت؟ بعض العلماء جعلوا بداية البناء أيام إبراهيم وبعضهم يرى أنه من عهد آدم وفريق ثالث يقول إنه من قبل آدم.. وإذا حكمنا المنطق والعقل وقرأنا قول الحق تبارك وتعالى:
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منآ إنك أنت السميع العليم
ناپیژندل شوی مخ