98

Tafsir al-Quran al-Thari al-Jami'

تفسير القرآن الثري الجامع

ژانرونه

سورة البقرة [٢: ٨٧]
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾:
﴿وَلَقَدْ﴾: الواو استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، قد: للتحقيق؛ أي: ثبت وتحقق.
﴿آتَيْنَا مُوسَى﴾: الإيتاء: هو العطاء الذي لا يعني التملك؛ أي: يمكن نزع الشيء المعطى؛ كقوله: ﴿تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾.
والإيتاء أوسع من العطاء، ويشمل: الأمور المادية والمعنوية.
أما العطاء؛ ففيه تملك، وليس فيه نزع، كقوله: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ ارجع إلى الآية (٢٥١) لمزيد من البيان.
﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: التّوراة آتاه إياها جملة واحدة.
﴿آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾: أي: أعطيناه التّوراة، وقد ننزع التّوراة منه.
﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾: ولكي نفهم معنى ﴿وَقَفَّيْنَا﴾؛ لا بدَّ من معرفة معنى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ﴾.
﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾: أي: أتبعنا بعضهم بعضًا، مشتقة من قفا، وتقول: قفوت فلانًا؛ أي: سرت خلفه، والقفا؛ قد تعني مؤخر العنق؛ أي: وقفينا من بعده؛ (بعد موسى) بالرسل، أتبعنا بعضهم بعضًا؛ أي: أرسلنا من بعد موسى يوشع، وأشمويل، وشمعون، وداود، وسليمان، وشعيبًا، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى، وعيسى ابن مريم ﵈، وهناك رسل أو أنبياء أرسلوا إلى بني إسرائيل، لا نعرفهم، كما قال -جل وعلا- في سورة النّساء الآية (١٦٤): ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ﴾.
وهناك فرق بين قفينا، ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ﴾.
﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ﴾: تعني: أنّ الزمن بين إنسان، يمشي في الصحراء، وإنسان آخر يمشي خلفه قصير جدًا؛ إذ إن آثار قدَمي الماشي أولًا، لا يزال يُرى آثارهما في الرمل، وذلك يعني أنّ الزمن بين الرسولين قصير جدًّا.
وحين يقول: ﴿وَقَفَّيْنَا﴾: من دون على آثارهم؛ يعني: أنّ الزمن بين الرسولين أطول.
﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾:
﴿وَآتَيْنَا﴾: ارجع إلى مطلع الآية لمعرفة معنى ﴿وَآتَيْنَا﴾.
﴿عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾: عيسى رسول الله أُرسل إلى بني إسرائيل، ابن مريم ابنة عمران، الّتي أحصنت فرجها ﵍.
﴿الْبَيِّنَاتِ﴾: هي المعجزات، الواضحة، الدالة على صدق نبوته، مثل: إحياء الموتى؛ بإذن الله، وإبراء الأكمه، والأبرص؛ بإذن الله، وخلقه من الطين؛ كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيرًا، وإخبار عيسى النّاس بما يأكلون، وما يدَّخرون في بيوتهم، وغير ذلك من المعجزات.
﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾: أيَّدناه؛ قويناه، والأيد تعني: القوة.
أيدناه؛ مأخوذة من اليد، واليد هي آلة القوة، والدفاع عن النفس، أو الآخرين.
﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾: الباء؛ للإلصاق، وتعني: الملازمة، روح القدس هو جبريل ﵇، والقدس: المطهر.
أي: أيّدناه بالروح المطهرة المقدسة من كل شائبة؛ أي: جبريل ﵇ .
والروح: في الأصل اسم؛ لما به حياة النفوس، وسمي روحًا.
و﴿بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾: هو جبريل ﵇، وإضافة القدس للروح؛ للتشريف، لا غير.
ويطلق عليه الروح الأمين، الأمين على وحي الله تعالى ورسالاته.
وصَفه الله -جل وعلا-: ﴿مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾ [التكوير: ٢١]؛ مطاع في السموات والأرض؛ تطيعه الملائكة.
﴿ذِى قُوَّةٍ عِنْدَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ﴾ [التكوير: ٢٠]؛ أي: ذو مكانة رفيعة، ومنزلة عظيمة عند الله تعالى، ولمزيد من البيان عن جبريل ﵇؛ ارجع إلى الآية (٩٧) من سورة البقرة.
وقد ذكر عيسى ﵇، في كثير من الآيات، بأنه مؤيد بروح القدس؛ أي: جبريل ﵇، ولم يذكر غيره بهذه الصفة، مع العلم أنّ باقي الرسل والأنبياء كان جبريل ﵇ ينزل عليهم.
وقد يكون السبب - والله أعلم - أنّ جبريل ﵇ كان لا يفارق عيسى ﵇ كثيرًا، في تلك الفترة الّتي عاشها عيسى على الأرض، قبل رفعه إلى السموات.
﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾:
﴿أَفَكُلَّمَا﴾: الهمزة؛ همزة استفهام إنكاري توبيخي، وللتعجب، الفاء؛ للتوكيد. كلما: ظرفية، حينية، (ظرف زمان)، يفيد التكرار، ويقتضي الجواب، وجوابه هنا: ﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾.
﴿جَاءَكُمْ رَسُولٌ﴾: ﴿جَاءَكُمْ﴾: فيها؛ معنى المشقة، والصعوبة، (أي: المجيء كان بمشقة وصعوبة)، بينما قوله: أتى؛ تحمل معنى السهولة، واليسر، والمجيء يكون بالحق، ولذلك يكون أصعب، والخطاب موجَّه إلى بني إسرائيل.
﴿بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ﴾: أي: بما يخالف أهوائكم، مثل مجيء عيسى ﵇، أو محمّد ﷺ، وغيرهم من الرسل ﵈.
﴿بِمَا﴾: الباء للإلصاق، ما: اسم موصول، أو حرف مصدري.
﴿تَهْوَى﴾: تحب، وتشتهي أنفسكم، ويجب الانتباه إلى كلمة هَوَى؛ بالفتحة على الواو، بمعنى سقط إلى أسفل، وهوِي بالكسرة على الواو؛ بمعنى أحب واشتهى، وجمع هوى أهواء، والهوى غالبًا ما يكون مذمومًا؛ أي: ما تريده النفس، وغالبًا ما يكون بعيدًا عن الحق.
ولا بد أن نفرِّق بين الهوى، وهو يختص بالأداء؛ أي: بالأفعال، والاعتقادات، وأما الشهوة، فتختص بنيل المستلذات، وهوِي بالكسرة (وهو حب الشهوات) قد يهوي بصاحبه إلى الأسفل، والانحدار أي النار.
﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾: عن الإيمان بذلك الرسول، أو النبي، أو بما جاء به من الحق، وأردتم أن تكونوا أنتم المشرعين، من دون الله سبحانه.
﴿اسْتَكْبَرْتُمْ﴾: أي: أعطيتم لأنفسكم كبرًا لستم أهلًا له، والكبر هو الشعور بالعظمة. ورفع النفس فوق ما تستحق، أو إظهار عظم الشأن، والكبر أو التكبر أنواع منها:
أولًا: الكبر على الله سبحانه، أو آياته، وهو أعظم وأبشع أنواع الكفر.
ثانيًا: الكبر على الرسل والأنبياء كقول قوم ثمود لنبيهم صالح: ﴿بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ﴾ [القمر: ٢٥]، أو قول فرعون وملئه: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ [المؤمنون: ٤٧].
ثالثًا: الكبر على الناس، والكبر أو التبكر صفة ذميمة، والمتكبر مذموم في الأرض والسماء، ومعظم الآيات جاءت بصيغة استكبروا، استكبر، استكبرتم، تستكبرون، يستكبرون، استكبارًا، والقليل بصيغة يتكبرون، متكبرين، متكبر.
والفرق بين المستكبر، والمتكبر: الألف والسين والثاء: تفيد الطلب؛ أي: المستكبر لا يملك وليس عنده مؤهلات الكبر مثل السلطان، والغني، والجاه، والعلم، والقوة، والحكم؛ أي: هو يظهر من نفسه ما ليس فيه بأن يرفض عبادة الله وطاعته، أو لا يقبل الحق من أحد مثلًا، والاستكبار والتكبر غالبًا يكون بغير الحق، وقليلًا ما يكون بالحق مثل التكبر على العدو، أو لنصرة المظلوم، وأما المتكبر: فهو من حاز على بعض الصفات مثل الغنى، والسلطان، والحكم، والجاه؛ فهو في حال الكبر مثل فرعون وقارون، أو غيرهم الذين طغوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد وظلموا وبطشوا وتجبروا.
﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ﴾: مثل عيسى ﵇، ومحمد ﷺ.
﴿وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾: أمثال زكريا ويحيى ﵉، وغيرهم.
﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾: في هذا الجزء من الآية، يجب الانتباه إلى ثلاثة أمور في البلاغة:
الأول: تقديم المفعول على الفعل، فريقًا وهو المفعول على الفعل كذبتم للاهتمام، والتشويق، تشويق السامع، بما بعده.
الثّاني: ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾: فلم يقل: فريقًا كذبتم وفريقًا قتلتم، وإنما جاء بفعل ﴿تَقْتُلُونَ﴾: بصيغة المضارع؛ لاستحضار فعل القتل في نفوس السامعين، وتصويره أمام أعينهم بصورته البشعة، وهذا ما يسمى حكاية الحالة، وهي أن يعبَّر عن الحدث في الماضي بفعل مضارع، أو أن ينقل المخاطب إلى الماضي، فيجعله كأنه يعاصر الحدث، ولأنّ القتل أعظم من التكذيب جاء بصيغة الماضي لفعل التكذيب، وبصيغة الفعل المضارع للقتل.
ثالثًا: وتكرار فريقًا مرتين؛ للتوكيد، وفصل كلًا من الفعلين، عن بعضهما؛ أي: فعلتم كلا الأمرين: القتل، والتكذيب، كلًا على حدة، أو التكذيب والقتل معًا، فالتكذيب أمر مهم، ولكن القتل أعظم وأشد.

1 / 94