Tafsir Al-Quran Al-Azim - Juz' Amma
تفسير القرآن العظيم - جزء عم
خپرندوی
دار القاسم للنشر
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٣٠ هـ - ٢٠٠٩ م
د خپرونکي ځای
المملكة العربية السعودية
ژانرونه
تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم
«جُزْء عَم»
تأليف
د. عبد الْملك بن مُحَمَّد الْقَاسِم
دَار الْقَاسِم
ناپیژندل شوی مخ
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا أما بعد فإن من أجلِّ العلوم قدرًا، وأرفعها ذكرًا، العلم المتعلق بأشرف الكلام وأجله وأسماه كلام الله جل في علاه، وهو علم التفسير، إذ أن المشتغل به آخذ بروح التلاوة ولبها، ومقصودها الأعظم ومطلوبها الأهم، الذي تشرح به الصدور، وتستنير بضيائه القلوب، وهو التدبر، كما قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: ٢٩].
كما أن في الاشتغال به تحصيلًا لمنافع الدنيا والآخرة؛ لأنه المصدر الأول لها ولذلك كان الصحابة ﵃ يحرصون كل الحرص على الجمع بين حفظ القرآن وفهمه. روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي ﷺ أنهم كانوا يقترئون من رسول الله ﷺ عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل.
ومن خلال فهم معاني القرآن وتدبره يحصل التلذذ به، وتقوى الرغبة في المداومة مع التعبد لله تعالى بتلاوته، ولذا يقول الطبري في مقدمة تفسيره: «إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يتلذذ بقراءته».
وأحب الخلق إلى الله تعالى أعلمهم بما أنزل كما أورد ذلك القرطبي عن مجاهد رحمه الله تعالى.
1 / 3
ورغبة في تحصيل هذه الفضائل وغيرها مما يطول المقام عن استقصائها ورغبة في إهداء الناس عامة شيئًا من الكنوز العظيمة واللآلئ والدرر التي يحويها كتاب الله؛ كان هذا التفسير المختصر الميسر لآخر جزء في كتاب الله تعالى وهو جزء عم، وذلك لكثرة قراءته وترداده بين الناس في الصلاة وغيرها، وقد جعلته على نسق واحد، وجمعت فيه بين أقوال المفسرين.
وإنا لنأمل أن نكون جميعًا من خلال هذا التفسير كصاحب المصباح الذي يقصي ظلمة الجهل عن قارئ كلام الله جل وعلا: نقل القرطبي في تفسيره عن إياس بن معاوية أنه قال: «مثل الذين يقرؤون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلًا وليس عندهم مصباح فتداخلتهم روعة، ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرؤوا ما في الكتاب».
اسأل الله جل في علاه، أن ينفعنا بما نقرأ، وأن يجعل أعمالنا صوابًا خالصة لوجهه الكريم إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
د. عبد الملك بن محمد عبد الرحمن القاسم
1 / 4
تفسير سورة الفاتحة
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾.
سورة الفاتحة سميت بذلك لأنه افتتح بها القرآن الكريم؛ وهي سورة مكية، وقد قيل: إنها أول سورة نزلت كاملة.
تشتمل هذه السورة العظيمة على مجمل معاني القرآن في التوحيد والأحكام، والجزاء، وطرق بني آدم، وغير ذلك، ولذلك سميت: «آدم القرآن» وسميت «أم الكتاب» «والسبع المثاني» «وسورة الحمد» «وسورة الصلاة» «والواقية».
وهذه السورة لها مميزات تتميز بها عن غيرها؛ منها أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين: فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب؛ قال ﷺ: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» رواه البخاري ومسلم.
ومنها أنها رقية: إذا قرئ بها على المريض شفي بإذن الله؛ لأن النبي ﷺ
قال للذي قرأ على اللديغ، فبرئ: «وما يدريك أنها رقية ..» رواه البخاري.
قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ليست البسملة آية في بداية جميع السور، بل هي آية فاصلة بين كل سورتين، يستحب قراءتها إلا في سورة التوبة فيكره (١).
_________
(١) جعلت الفاتحة في أول هذا التفسير لمكانتها وعظمها، وحاجة الأمة إلى معرفة معانيها وتدبرها.
1 / 5
﴿بِسْمِ﴾ ابدأ باسم الله، استعانة على الأداء والتوفيق.
﴿اللهِ﴾: اسم الله رب العالمين لا يسمى به غيره؛ والله: هو المألوه المعبود، وهو أصل الأسماء؛ ولهذا تأتي الأسماء تابعة له.
﴿الرَّحْمَنِ﴾ اسم دال على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء؛ ولهذا جاء على وزن «فعلان» الذي يدل على السعة.
﴿الرَّحِيمِ﴾ أي: الموصل للرحمة من يشاء من عباده؛ ولهذا جاءت على وزن «فعيل» الدال على وقوع الفعل. فهنا رحمة هي صفته، دل عليها ﴿الرَّحْمَنِ﴾ ورحمة هي فعله، أي إيصال الرحمة إلى المرحوم دل عليها ﴿الرَّحِيمِ﴾.
و﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ اسمان من أسماء الله يدلان على الذات، وعلى صفة الرحمة.
والرحمة التي أثبتها الله لنفسه رحمة حقيقة دل عليها السمع، والعقل؛ أما السمع فهو ما جاء في الكتاب والسنة من إثبات الرحمة لله وهو كثير جدًا، وأما العقل: فكل ما حصل من نعمة، أو اندفع من نقمة فهو من آثار رحمة الله.
والرحمن الرحيم: اسمان كل منهما دال على صفة حقيقة لله على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وهكذا يقال في جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة، والأسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول الأسماء الحسنى، وهي اسم الله والرب والرحمن.
وفي البسملة خلاف بين العلماء، فمنهم من يقول: إنها آية من الفاتحة ويقرأ بها جهرًا في الصلاة الجهرية، ويرى أنها لا تصح إلا بقراءة البسملة،
1 / 6
لأنها من الفاتحة، ومنهم من يقول: إنها ليست من الفاتحة؛ ولكنها آية مستقلة من كتاب الله، وهذا القول هو الحق.
قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
﴿الْحَمْدُ﴾ هو الثناء على الله بصفات الكمال، وهو وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ ولا بد من قيد وهو "المحبة والتعظيم" قال أهل العلم: «لأن مجرد وصفه بالكمال بدون محبة ولا تعظيم، لا يسمى حمدًا، وإنما يسمى مدحًا» والحمد: هو الثناء باللسان، أما الشكر فيكون باللسان والقلب والأعضاء، ولا يكون الشكر إلا مقابل نعمة، أما الحمد فيكون لكمال المحمود ولو في غير مقابلة نعمة، والله تعالى له الحمد والشكر.
﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الرب: اسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره إلا مضافًا، كقولك: هذا الرجل رب المنزل.
والعالمون: جمع العالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى.
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ المالك صفة لفعله ﷻ، ويوم الدين يوم الجزاء والحساب، وهو سبحانه مالك يوم الدين والدنيا، لكن ظهور ملكوته وملكه وسلطانه إنما يكون في ذلك اليوم.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أي: نخصك وحدك بالعبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.
ونخصك أيضًا بالاستعانة، والاستعانة هي الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.
1 / 7
والمعنى: لا نعبد غيرك ولا نستعينه، وذكر سبحانه «الاستعانة» بعد «العبادة» مع دخولها فيها لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي، لأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضاره فلا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله ﷿، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول.
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أي: دلنا وأرشدنا ووفقنا للصراط المستقيم وهو الإسلام، وثبتنا عليه حتى نلقاك.
والهداية على نوعين، هداية طريق وهداية توفيق، وهداية التوفيق خاصة بالله تعالى ومنها قوله ﷿ ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: ٥٦] وهداية الطريق: هداية دلالة وإرشاد، وهي للأنبياء وأتباعهم من العلماء والدعاة ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: ٥٢].
﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، الموصل إلى جنته ورضوانه وهو الإسلام، وسمي صراطًا مستقيمًا لأنه طريق واسع سهل يوصل إلى المقصود.
فنحن ندعو الله ﷿ أن يوفقنا إلى معرفة الطريق المستقيم الموصل إلى جنته، وندعوه أن يوفقنا للاستقامة عليه بعد معرفته، فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته والتوجه إلى الله في هذا الأمر هو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين.
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهؤلاء هم القدوة لنا في حياتنا.
1 / 8
وفي الآية توسل إلى الله بنعمه، وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية؛ أي قد أنعمت بالهداية على من هديت، وكان ذلك نعمة منك. فاجعل لي نصيبًا من هذه النعمة، واجعلني واحدًا من هؤلاء المنعم عليهم، فهو توسل إلى الله بإحسانه.
﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾.
﴿غَيْرِ﴾ أي: غير صراط.
﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ المغضوب عليهم هم اليهود، فهم علموا الحق فتركوه، وحادوا عنه على علم؛ فاستحقوا غضب الله.
﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ هم النصارى، وهم الذين حادوا عن الحق جهلًا فكانوا على ضلال مبين.
ومعنى آمين: اللهم استجب لنا، وليست آية من سورة الفاتحة، وفي الحديث عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ
قال: «إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين فوافقت إحدهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه البخاري.
وهذه السورة العظيمة على إيجازها احتوت على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وتوحيد إلهية، وهو إفراد الله بالعبادة وحده، من قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ وتوحيد الأسماء والصفات، وقد دل عليه لفظ ﴿الْحَمْدُ﴾.
وتضمنت إثبات النبوة في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ وإثبات الجزاء والبعث في قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ وتضمنت إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾.
1 / 9
وأول السورة رحمة، وأوسطها هداية، وآخرها نعمة.
وقد ورد في فضل هذه السورة العظيمة حديث عظيم رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ
قال: «قال الله ﷿ قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل فإذا قال: ﴿الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قال الله: أثنى على عبدي، فإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قال: مجدّني عبدي، وقال مرة: فوّض إلي عبدي فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل: فإذا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».
* * *
1 / 10
تفسير سورة عم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا الليْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَاتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا * إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَاسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ
مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾.
سورة عم سورة مكية، وتسمى سورة النبأ يذكر الله ﷿ فيها البعث والجزاء والحساب، ويعدد فيها بعض نعمه وآلائه، وأنه الخالق المنعم المستحق للعبادة، الذي أوجد من العدم، وخلق الخلق لعبادته وطاعته، وفيها من البيان ما يقول للعباد: استعدوا استيقظوا تفكروا تدبروا ...
1 / 11
هناك بعث ونشور وحساب وأجور، وعقاب، وحسرات قال تعالى:
﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا الليْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾.
﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾ استفهام إنكاري، عن أي شيء يتساءل كفار قريش من أمر القيامة أو البعث، فإنه لما بعث رسول الله ﷺ، وأخبر بتوحيد الله والبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن، تساءل المشركون فأنزل الله، يعني عم يتساءل هؤلاء المكذبون بالقرآن، وغيره، ثم أجاب الله ﷿ عن هذا السؤال فقال: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾.
﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ هذا النبأ هو ما جاء به النبي ﷺ من البينات والهدى، ولا سيما ما جاء به من الأخبار عن اليوم الآخر والبعث والجزاء.
﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ﴾ يعني الناس فيه على قولين: فمنهم مصدق، ومنهم مكذب، وطال نزاعهم فيه.
﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾.
﴿كَلَّا﴾ كلمة ردع وزجر، بمعنى ليس الأمر كما قالوا.
﴿سَيَعْلَمُونَ﴾ بيَّن الله أن هؤلاء الذين كذبوا سيعلمون ما كذبوا به علم اليقين، وذلك إذا رأوا يوم القيامة ونزل بهم العذاب.
1 / 12
﴿ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ للمبالغة في التأكيد والتشديد، وسوف يتأكد لهم صدق ما جاء به محمد ﷺ من القرآن والبعث، وهذا تهديد ووعيد لهم.
ثم بين - تعالى- قدرته العظيمة على خلقه، وذكر بعض نعمه على عباده ليقرر هذه النعم فيلزمهم شكرها، وهي أمور محسوسة ملموسة يتبين فيها قدرة الله ﷿ وعظيم صنعه التي لو فكر فيها الكفار، لما وقع منهم اختلاف في النبأ العظيم الذي جاءهم من عند الله فقال سبحانه:
﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا﴾ أي: جعل الله الأرض ممهدة للخلق معدة للحياة، ليست بالصلبة التي لا يستطيعون حرثها ولا المشي عليها إلا بصعوبة، وليست باللينة الرخوة التي لا ينتفعون بها، ولا يستقرون عليها ولكنها ممهدة لهم على حسب مصالحهم وعلى حسب ما ينتفعون به.
﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ أي: جعلها الله تعالى أوتادًا للأرض بمنزلة الوتد للخيمة حيث يثبتها فتثبت به ولا تضطرب.
﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا﴾ أي: أصنافًا ما بين ذكر وأنثى، وصغير وكبير، وأسود وأحمر، وشقي وسعيد إلى غير ذلك مما يختلف الناس فيه، فهم أزواج مختلفون على حسب ما أراد الله ﷿، واقتضته حكمته ليعتبر الناس بقدرة الله تعالى، وأنه قادر على أن يجعل هذا البشر الذين خلقوا من مادة واحدة ومن أب واحد على هذه الأصناف المتنوعة المتباينة.
﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ أي: جعل الله ﷿، النوم راحة لأبدانكم قاطعًا للتعب والأشغال.
والسبت القطع، فالنوم يقطع ما سبقه من التعب، وهذا من النعمة وهو أيضًا من آيات الله، كما قال تعالى.
1 / 13
﴿وَجَعَلْنَا الليْلَ لِبَاسًا﴾ أي: جعل الله هذا الليل الذي يغشى ظلامه وسواده على الأرض، بمنزلة اللباس، كأن الأرض تلبسه ويكون جلبابًا لها.
﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا﴾ أي: جعلناه مشرقًا نيرًا مضيئًا ليتمكن الناس فيه من طلب الرزق وتحصيل الأقوات.
﴿وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا﴾ وهي السماوات السبع، وصفها الله تعالى بالشداد لأنها محكمة البناء في غاية القوة والصلابة، متينة في إحكامها وإتقانها، لا تتأثر بمرور العصور والأزمان.
﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ يعني بذلك الشمس فهي سراج مضيء، وهي أيضًا ذات حرارة عظيمة.
﴿وَهَّاجًا﴾ أي: وقادة، والوهج يجمع النور والحرارة.
وتستمر الآيات في ذكر نعم الله ﷿، وقدرته على الخلق يشاهدها الناس ويرونها؛ فقال تعالى:
﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ﴾ يعني: من السحاب، ووصف الله السحاب بأنه معصرات كأنما تعصر هذا المطر عند نزوله عصرًا كما يعصر الثوب، فإن هذا الماء يتخلل هذا السحاب ويخرج منه كما يخرج الماء من الثوب المعصور.
وهو سبحانه الذي أنزل بقدرته من السحاب ماءً كثيرًا متتابعًا تنبت به الأرض وتحيا به، فإذا انضاف ماء السماء إلى حرارة الشمس حصل في هذا إنضاج للثمار ونمو لها على أكمل ما يكون.
﴿مَاءً ثَجَّاجًا﴾ أي: مطرًا منصبًا بكثرة؛ كثير الثجَّ: يعني الانهمار والتدفق بهذا الماء الذي أنزل من السماء إلى الأرض.
1 / 14
﴿لِنُخْرِجَ بِهِ﴾ أي لنخرج، وننبت بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارك الذي أنزل من السماء إلى الأرض.
﴿حَبًّا وَنَبَاتًا﴾ فتنبت الأرض، ويخرج الله به من الحب بجميع أصنافه وأنواعه وما أشبه ذلك.
والحب ما يدخر للناس والأنعام كالحنطة والشعير والذرة والأرز.
والنباتات ما تأكله الدواب، أي خضرًا يؤكل رطبًا كالحشيش وغيره.
﴿وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ أي: حدائق وبساتين ملتفًا بعضها إلى بعض، من كثرتها وحسنها وبهائها حتى إنها لتستر من فيها لكثرتها.
وقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة جملة من النعم العظيمة المشاهدة المحسوسة التي امتن بها على عباده ليشكروه ويعبدوه وحده، ويستعينوا بنعمه على طاعته ومرضاته، وليوقنوا أن من أنعم بهذه النعم وهيأ الأسباب بقوته وحوله وطوله، قادر على بعث الناس من قبورهم للحساب والجزاء على أعمالهم، فإنه ﷿ بحكمته وعدله لم يخلقهم عبثًا، ولا تركهم هملًا وجعل لهم أجلًا ومرجعًا.
ثم ذكر سبحانه ما يجري في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام، والجزاء والحساب، ليكون الإنسان على بينة من أمره، وليعرف حاله ومصيره، وفي ذلك بيان وتوضيح لمن سأل عن النبأ العظيم، قال تعالى:
﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَاتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا *
1 / 15
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾.
﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ﴾ وهو يوم القيامة، وسمي يوم فصل لأن الله يفصل فيه بين العباد فيما شجر بينهم، وفيما كانوا يختلفون فيه.
﴿كَانَ مِيقَاتًا﴾ أي: ميقاتًا للخلق وموعدًا للجزاء، وموقوتًا لأجل معدود.
﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَاتُونَ أَفْوَاجًا﴾.
﴿يَوْمَ يُنْفَخُ﴾ أي: يوم القيامة.
﴿فِي الصُّورِ﴾ وهو البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل، ينفخ فيها نفختين: الأولى: يفزع الناس ثم يصعقون فيموتون، والثانية: يبعثون من قبورهم، وتعود إليهم أرواحهم.
﴿فَتَاتُونَ﴾ أي فتحيون، فتأتون إلى موضع العرض والحساب والجزاء.
﴿أَفْوَاجًا﴾ أي: أمما وجماعات متفرقة.
﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ فتحت: انفرجت، فتكون أبوابًا يشاهدها الناس بعد أن كانت سقفًا محفوظًا.
﴿فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ تكون السماء في ذلك اليوم أبوابًا مفتوحة، وطرقًا ومسالك لنزول الملائكة، وفي هذا دليل على كمال قدرة الله ﷿ أن هذا السبع الشداد يجعلها الله تعالى يوم القيامة كأن لم تكن، تكون أبوابًا.
﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ أي: أن الجبال العظيمة الصماء تدك فتكون كالرمل ثم تكون كالسراب تسير.
1 / 16
﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا﴾ أي: مرصدة ومعدة للطاغين تنتظر وتترقب نزلاءها الكفار، وجهنم اسم من أسماء النار التي لها أسماء كثيرة، وسميت بهذا الاسم، لأنها ذات جهمة وظلمة بسوادها وقعرها.
﴿لِلطَّاغِينَ﴾ أي: للمردة والعصاة المخالفين للرسول.
﴿مَآبًا﴾ مرجعًا ومنقلبًا ومصيرًا.
﴿لَابِثِينَ فِيهَا﴾ أي: باقين في جهنم.
﴿أَحْقَابًا﴾ وهي جمع حقب، وهو المدة من الزمان؛ أي: مددًا طويلة.
ثم ذكر الله ﷿ بعضًا من أحوالهم وشقائهم في هذه النار، وما يجدونه من أنواع العذاب وأصنافه، فقال سبحانه:
﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا﴾ أي: لا يجدون في جهنم بردًا لقلوبهم ولا شرابًا طيبًا يتغذون به.
﴿إِلَّا حَمِيمًا﴾ ليس لهم إلا هذا الحميم، وهو الماء الحار المنتهي في الحرارة الذي يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء.
﴿وَغَسَّاقًا﴾ الغساق هو شراب منتن الرائحة، شديد البرودة، فيُجمع لهم والعياذ بالله، بين الماء الحار الشديد الحرارة، والماء البارد الشديد البرودة ليذوقوا العذاب من الناحيتين.
وقيل: إن المراد بالغساق صديد أهل النار، وما يخرج من أجوافهم من النتن والعرق وغير ذلك.
﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ أي: يجزون بذلك جزاء موافقًا لأعمالهم من غير أن يظلموا فذكر انحرافهم في العقيدة وانحرافهم في القول.
1 / 17
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ أي: لا يؤملون أن يحاسبوا، ولا يخافون يوم الحساب فلم يعملوا له، بل ينكرون البعث والحساب.
﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا﴾ كذبوا بما جاءت به الرسل من البينات والهدى والبعث والنشور.
﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾.
﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ يشمل ما يفعله الله ﷿ من الخلق والتدبير في الكون، ويشمل ما يعلمه العباد من أقوال وأفعال، ويشمل كل صغير وكبير.
﴿أَحْصَيْنَاهُ﴾ أي: ضبطناه بالإحصاء الدقيق الذي لا يختلف.
﴿كِتَابًا﴾ يعني: كتبًا، وقيل: كتبناه في اللوح المحفوظ.
﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾ أي: يقال لأهل النار للإهانة والتوبيخ: ذوقوا ما أنتم فيه، فلن نزيدكم إلا عذابًا من جنسه، وآخر من شكله أزواج، فهم في مزيد من العذاب أبدًا.
وفيما ذكره الله ﷿ عن حال أهل النار من التخويف والتحذير ما يكون رادعًا وحاجزًا عن المعاصي والآثام.
ثم لما ذكر ﷾، ما أعده لأهل النار من العذاب، انتقل من ذكر حال الطغاة إلى حال التقاة، فذكر حال المؤمنين وما هم فيه من النعيم فقال سبحانه:
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَاسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾.
﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ المتقون هم الذين اتقوا عقاب الله، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
1 / 18
﴿مَفَازًا﴾ المفاز هو مكان الفوز وزمان الفوز أيضًا، فهم فائزون في أمكنتهم وفائزون في أيامهم.
ثم بيَّن تعالى شيئًا من هذا الفوز وهذا النعيم، فقال:
﴿حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا﴾.
﴿حَدَائِقَ﴾ جمع حديقة أي: بساتين أشجارها عظيمة وكثيرة ومنوعة من النخيل وغيرها.
﴿وَأَعْنَابًا﴾ الأعناب جمع عنب، وهي من جملة الحدائق، لكنه خصها بالذكر لشرفها.
﴿وَكَوَاعِبَ﴾ الكواعب جمع كاعب وهي الفتاة التي تبين وبرز ثديها، ولم يتدل، بل برز وظهر كالكعب، وهذا أكمل ما يكون في جمال الصدر.
﴿أَتْرَابًا﴾ أي: على سن واحدة لا تختلف إحداهن عن الأخرى كبرًا كما في نساء الدنيا.
﴿وَكَاسًا دِهَاقًا﴾ أي: كأسًا ممتلئة، والمراد بالكأس هنا كأس الخمر، وخمر الآخرة غير خمر الدنيا.
﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا﴾ لا يسمعون في الجنة لغوًا أي كلامًا باطلًا لا خير فيه، بل يقال لهم: سلامًا سلامًا.
﴿وَلَا كِذَّابًا﴾ أي: ولا كذبًا، فلا يكذبون، ولا يكذب بعضهم بعضًا، لأنهم على سرر متقابلين قد نزع الله ما في صدورهم من غل وجعلهم أخوانًا.
وكل ما نالهم من النعيم والخير المقيم إنما هو تفضل من ربهم، ﷿ وثوابًا على أعمالهم الصالحة فإن ما هم فيه إنما هو:
1 / 19
﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: أنهم يجزون بهذا جزاء من الله ﷾ على أعمالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا واتقوا بها محارم الله.
﴿عَطَاءً حِسَابًا﴾ أي: كافيًا وافيًا شاملًا كثيرًا بسبب أعمالهم التي وفقهم الله لها، وجعلت ثمنًا لجنته ونعيمها.
﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾.
﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يخبر سبحانه عن عظمته وجلاله وأنه هو رب كل شيء، فهو رب السماوات السبع الطباق الذي خلقها ودبرها وأحكم صنعها، ورب الأرض، وهي سبع كما ثبت ذلك في السنة، وهو الذي أنعم على عباده بالنعم العظيمة، وأنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء.
﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي: ما بين السماوات والأرض من المخلوقات العظيمة، كالغيوم والسحب والأفلاك وغيرها مما نعلمه، ومما لا يعلمه إلا الله ﷾.
﴿الرَّحْمَنِ﴾ عطف بيان، وهو ذو الرحمة الواسعة الشاملة.
﴿لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا﴾ يعني: أن الناس لا يملكون الخطاب من الله، ولا يستطيع أحد أن يتكلم إلا بإذن الله، وذلك.
﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ﴾ وهو جبريل.
﴿وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾ أي: صفوفًا، صفًا بعد صف.
1 / 20
﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ﴾ أي: لا يتكلمون ملائكة ولا غيرهم.
﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ بالكلام، فإنه يتكلم كما أذن له.
﴿وَقَالَ صَوَابًا﴾ أي: قال قولًا صوابًا، موافقًا لمرضاة الله ﷾ وذلك بالشفاعة، إذا أذن الله لأحد أن يشفع، شفع فيما أذن له فيه على حسب ما أذن له، فلا يتكلم أحد في ذلك الموقف العظيم إلا بهذين الشرطين: أن يأذن الله له في الكلام، وأن يكون ما تكلم به صوابًا.
﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ﴾ أي: ذلك الذي أخبرناكم عنه، هو اليوم الحق الذي لا يروج فيه الباطل ولا ينفع فيه الكذب.
ثم لما رغب ﷿ ورهب وبشر وأنذر قال سبحانه:
﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا﴾ أي: من شاء عمل عملًا يؤوب به إلى الله، ويرجع به إليه.
﴿إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ أي: خوفناكم وحذرناكم من عذاب قريب، وهو يوم القيامة.
﴿يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ أي: كل امرئ ينظر ما قدمت يداه، أي عمل في الدنيا.
﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي﴾ أي: ليتني لم أخلق، أو ليتني لم أبعث، وذلك تحسرًا وندامة.
﴿كُنْتُ تُرَابًا﴾ أي: يود الكافر أنه كان في الدنيا ترابًا فلم يخلق ولم يبعث ويحاسب ويعاقب.
1 / 21