بين الخطابين المختصين بالرسول ﷺ لتأييد ما في مضمون الكلامِ من التشريف وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ جعلناكم لا إلى جعل آخرَ مفهوم مما سبق كما قيل وتوحيدُ الكاف مع القصد إلى المؤمنين لِما أن المرادَ مجردُ الفَرْق بين الحاضرِ والمنقضِي دون تعيين المخاطبين وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الفضل وكمال تميزه وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهَدة والكافُ لتأكيدِ ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُها في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير جعلناكم أمة وسَطًا جَعْلًا كائنًا مثل ذلك الجعلِ فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصار نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتًا له أي ذلك الجعلَ البديعَ جعلناكم
﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ لا جعلًا آخرَ أدنى منه والوسَطُ في الأصل اسمٌ لما يستوي نِسبةُ الجوانبِ إليه كمركز الدائرة ثم استُعير للخصال المحمودةِ البشرية لكن لا لأن الأطرافَ يتسارع إليها الخللُ والإعوازُ والأوساطُ محميّةٌ مَحوطَةٌ كما قيل واستُشهد عليه بقول ابن أوسٍ الطائي ... كانت هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَت ... بها الحوادثُ حتى أصبحت طَرَفا ...
فإن تلك العلاقةَ بمعزل من الاعتبار في هذا المقام إذ لا ملابَسةَ بينها وبين أهليةِ الشهادة التي جُعلت غايةً للجعل المذكور بل لكون تلك الخصالِ أوساطًا للخصال الذميمةِ المكتنفة بها من طرفي الإفراطِ والتفريطِ كالعِفة التي طرفاها الفجورُ والخمودُ وكالشجاعة التي طرفاها الظهور والجُبن وكالحِكمة التي طرفاها الجربزة والبَلادةُ وكالعدالة التي هي كيفية متشابهةٌ حاصلةٌ من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها ثم أطلقَ على المتصِّف بها مبالغةً كأنه نفسُها وسُوّي فيه بين المفرد والجمعِ والمذكرِ والمؤنث رعايةً لجانب الأصلِ كدأب سائر الأسماءِ التي يوصف بها وقد روُعيت ههنا نُكتةٌ رائقةٌ هي أن الجعلَ المشارَ إليه عبارةٌ عما تقدم ذكرُه من هدايته تعالى إلى الحق الذي عبَّر عنه بالصراط المستقيم الذي هو الطريقُ السويُ الواقعُ في وسط الطرُق الجائرةِ عن القصد الى الجوانب فإنا إذا فرضنا خطوطًا كثيرةً واصلةً بين نُقطتين متقابلتين فالخطُ المستقيم إنما هو الخطُ الواقعُ في وسط تلك الخطوطِ المنحنية ومن ضرورة كونِه وسطًا بين الطرُق الجائرةِ كونُ الأمةِ المَهْديّة إليه أمةً وسطًا بين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة أي متصفةً بالخصال الحميدةِ خيارًا وعدُولًا مُزَكَّيْنَ بالعلم والعمل
﴿لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس﴾ بان الله ﷿ قد أوضح السبُل وأرسل الرُسل فبلّغوا ونصَحوا وذكّروا فهل من مُدَكِّرٍ وهي غاية للجعل المذكور مترتبةٌ عليه فإن العدالة كما أشير إليه حيث كانت هي الكيفيةُ المتشابهةُ المتألّفةُ من العفة التي هي فضيلةُ القوة الشَّهْوية البهيمية والشجاعة التي هي فضيلةُ القوةِ الغضبيةِ السَّبُعية والحكمة التي هي فضيلةُ القوةِ العقلية المَلَكية المشارِ إلى رتبتها بقوله عز وعلا وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا كان المتّصِفُ بها واقفًا على الحقائقِ المودَعةِ في الكتاب المبين المنطوي على أحكام الدين وأحوالِ الأممِ أجمعين حاويا لشرائط الشهادةَ عليهم رُوي أن الأممَ يوم القيامة يجحدون تبليغَ الأنبياءِ ﵈ فيطالبهم الله تعالى بالبينة وهو أعلم إقامةً للحجة على المنكرين وزيادةً لخِزْيهم بأن كذَّبهم مَنْ بعدهم من الأمم فيؤتى بأمةِ محمدٍ ﷺ فيشهدون فيقول الأممُ من أين عرفتم فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالَى في كتابِه الناطقِ على لسان نبيِّه الصادقِ فيؤتى عند ذلك بالنبي ﷺ ويُسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قولُه عز قائلًا
﴿وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ وكلمةُ
1 / 172